ان في تراث المسلمين علوماً لم يولها الباحثون اهتماماً كافياً, إما لندرة مصادرها, أو لتفرق موضوعاتها في مراجع تراثية شتى يتعذر الحصول على أغلبها, أو لصعوبة مصطلحاتها التي تبدو لغير المتخصصين غريبة عما هو شائع في لغة العلوم العاصرة, أو لغياب المنهجية السليمة في التعامل مع التراث بصورة عامة, أو لكل هذه الأسباب مجتمعة وربما لأسباب أخرى غيرها.
وسوف نعرض للتعريف ببعض هذه العلوم المنسية, ونشير إلى أهم مصادرها التراثية, عسي ان تجد من بين أهل الاختصاص من يتناولها بمزيد من التحليل المنهجي الدقيق والدراسة العلمية المتانية.
(أ) علم الوراثة:
يبدو للكثير ان علم الوراثة Genetics ماهو إلا علم حديث النشأة, ولد بين علوم الحياة الأساسية الكبري: كالفسيولوجيا Physiology, وعلم الخلايا Cytology, وبيولوجيا التناسل Re-productive Biology , والهندسة الوراثية Genetic Engineering وعلم التحسين الوراثي Eugenics, وغيرها.
ويعزى المؤرخون نشأة علم الوراثة إلى الراهب النمساوي «مندل» الذي ابتكر أسسه وقوانينه, وينسبون تطوره إلى كوكبة من علماء البيولوجيا أمثال «دى فريز» و«باتيسون» و «مورجان» وغيرهم.
كان التاريخ الحقيقي لعلم الوراثة يشهد بما لا يدع مجالا للشك بان علماء الحضارة الإسلامية هم أول من استخدم مصطلح «القيافة», وتحدثوا عن تحسين النسل والولد, وأشاروا في مؤلفاتهم إلى دور الفرسان العرب في مجال الانتقاء الوراثي Heredity Selection الذي مارسوه على الخيول العربي, وعنوا بدراسة ظاهرة «التهجين» Crossing في الانسان والحيوان والطيور, وفطنوا إلى حكمة التشريع الإسلامي في تحريم زواج الأقارب.
والأدلة الدامغة على هذه الحقيقة الناصعة عن دور علماء المسلمين في تأسيس علم الوراثة يمكن استخلاصها من أمهات الكتب التراثية للقزونى والجاحظ وشريف الدين الدمياطى وابن قيم الجوزية وابن الجزار القيروانى وغيرهم.
1- القيافة أساس علم الوراثة:
ورد مصطلح «قيافة البشر» في كتب التراث الإسلامي لتفسيرالتشابه بين الخلف والسلف, فقد جاء في كتاب «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني ما نصه: «القيافة على ضربين: قيلفة البشر, وقيافة الأثر فالاستدلال بهيئات الأعضاء على الانسان, وأما قيافة الأثر فالاستدلال بآثار الأقدام والخفاف والحوافر».
وقد اشتهر بقيافة البشر قوم من العرب يقال لهم «بنو مدلج» يعرض على أحدهم مولود في عشرين امرأة فيهن أمه يلحقه بها. وحكى بعض التجار قال: ورثت من أبي مملوكاً أسود شيخاً, فكنت في بعض أسفاري راكباً على بعير والمملوك يقوده, فاجتاز علينا رجل من بني مدلج أمعن فينا نظره, وقال: ما أشبه الراكب بالراجل, فوقع من قلبي من قوله ما وقع, حتى رجعت
إلى أي وأخبرتها بما قال المدلجي, فقالت: صدق والله المدلجي, إعلم يابنى انه كان زوجي شيخاً كبيراً ذا مال لم يولد له ولد, فخشيت ان يفوت مله عنا بموته, فمكنت نفسي من هذا المملوك الأسود فحملت بك, ولولا ان هذا شئ ستعمه في الآخرة ما أخبرتك به في الدنيا.
2- علم الأجنة:
تعرض ابن قيم الجوزية لقضية خلق الأجنة, حيث قرر في كتابه «تحفة المورود بأحكام المولود» ان أصل التشكيل الصحيح للكائن الحي ما هو إلا اتحاد نظف الذكر ببيضة الانثى, واستشهد بقوله تعإلى في كتابه العزيز: (بديع السموات والأرض انى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) (سورة الانعام:101). فالولد إذن لا يتكون إلا من الذكر وصاحبته. والحق ان الخالق العظيم العليم قد أخبر بهذه الحقيقة الهامة في مواضع كيرة من القران الكريم, وذكر «النطفة الأمشاج» كأساس لخلق الجنين, وكعامل وراثي ف عملية التكاثر البشري, فقال تعإلى: (انا خلقنا الانساس من نظفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) (سورة الانسان:2).
والنطفة الأمشاج تتألف من اندماج بويضة الانثي وخلية الرجل (الحيوان المنوي), ويسميها العلم الحديث «الزيجوت» Zygote, ويكون مقرها رحم المرأة, مصداقاً لقوله تعإلى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) (سورة المؤمنون:12) وقوله جل شانه: (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) (سورة الحج: 5).
وتظهر أهمية هذا التأصيل الإسلامي واضحة جلية إذا علمنا ان البشرة لم تعلم شيئاً عن النطفة الأمشاج (أو الزيجوت) المكونة من أخلاط الرجل والمرأة إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, بعد ان توارت طرق التشخيص وتقنية المجاهر (الميكروسكوبات).
فقد تخب الغرب قروناً طويلة حيل موضوع تكوين الجنين, واعتقد البعض بان المولود الجديد ولد من بيضة الانثي فقط, بينما اعتقد آخرون بان الكائن الحي ينشأ ويتطور من الحيوان لمنوي فقط, بل ان أحدهم وهو «هارتسوكر» Hartsoeker عندما كان ينظر عبر المجهر إلى السائل المنوى للرجل تخيل انه يرى في رأس الحيوان المنوى كائناً صغيراً Homancules يذكر بالمظهر الخارجي للرجل وهذا الكائن الصغير الملتف ذو أعضاء قادرة على النمو في وجود الظروف الملائمة, و دور المرأة في تكوينه لا يعدو كونها حاضنة فقط .
3- الوحدات الوراثية:
ذكر ابن قيم الجوزية في كتابه «تحفة المورود بأحكام المولود» ان في نطفة الرجل «عناصر» مختلفة صغيرة جداً من أجزاء الجسم كله, وان في بذرة الانثى مثل ذلك . وإذا علمنا ان ابن قيم الجزية عاش بين 691-751هـ أو 1291-1350م, فان كلامه هذا يعد أساساً لنشأة نظرية المورثات (أو الجينات Genes) التي قال بها علماء الوراثة حديثاً.
ففي عام 1860م تقريباً توصل «مندل», من خلال أبحاثه على نبتة البازلاء, إلى نظرية تفسر الصفات الظاهرة في الكائنات الحية على أساس وجود «وحدات غامضة» تنتقل بين أجيال النوع الواحد, وتسبب الفروق الحادة في امتلاك صفات معينة. ذلك ان كون البازلاء طويلة أو قصيرة يتوقف على هذه الواحدات. فإذا خلطنا بين هاتين الصفتين من خلال تزاوج البازلاء, فان ظهور إحدى الصفتين بصورة غالبة يتوقف على دى سيادة إحدى الوحدتين, ويطلق على الصفة الغالبة باسم «الصفة السائدة» Dominant, أما الصفة غير الظاهرة فتسمى «الصفة المتنحية» Recessive. وهذا يعنى ان الجيل الجديد من البازلاء لا يزال يحمل إحدى صفتى الأبوين أو كليهما على أساس ان هناك صفة ظاهرة وأخرى متنحية, ومن ثم فان الجيل الجديد يكون خليطاً من الأثنين.
وقد أطلق العلم المعاصر على هذه «العناصر» التي قال بها ابن قيم الجوزية, أو «الوحدات الغامضة» التي ذكرها مندل, اسم المورثات (أو الجينات Genes), وأثبتت أجهزة الفحص الدقيقة ان هذه الموروثات تحملها أجسام برتينية دقيقة جداً (حوالي جزء من الملين من الملليمتر) تسمى الصبغيات (أو الكروموسومات Chromosomes) وقد تأكد مؤخراً ان هذه الكروموسومات والموروثات هي المسئولة عن الصفات والملامح التي تعطى الانسان صفته وشكله واستعداده كثير من الصفات البدنية النفسية والخلقية. فقد تبين ان صفات الرجل تتضامن عن طريق الصبغيات والموروثات الخاصة بها مع صفات الانثى لتنتج جنيناً يجمع بين صفاتهما, وقد تتغلب صفة سائدة عند الأب فتظهر في الطفل, وأما الصفات المتنحية فتظهر حسب قوانين علمة معروفة تم اكتشافها في علم الوراثة الحديث, ويترتب عليها في بعض الأحيان ان يكون الشبه بين المولود ووالديه غر طاهر, بل ربما كون الشبه معدوماً بين الطفل ووالديه.
ومن المصطلحات العلمية الحديثة في هذا الشان صطلح «النزوع إلى الأصل في الصفات الوراثية» Atavism, ويمكن التدليل بما رواه الطبري في متابه «فردوس الحكمة» من ان امرأة ولدت بنتاً بيضاء من رجل حبشي, وأدركت ابنتها تلك وتزوجت من رجل أبيض فولدت ولداً أسود, لان الولد – كما يقول الطبري ـ نزع إلى لون الجد (أبي الأم).
بل ان الرسول الأمي العربي محمداً صلي الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى, قال في الحديث الشريف: «تخيروا لنطفكم فان العرق دساس» (أخرجه ابن ماجه والحاكم), وخير دليل نسوقه من قصة الرجل الذي جاء إلى الرسول صلي الله عليه وسلم شاكياً من ان امرأته ولدت غلاماً أسود, فقال له الرسول صل الله عليه سلم: هل لك إبل ؟ قال: نعم, قال: فما لونها ؟ قال: أسود, قال: هل منها من أورق ؟, قال: نعم, قال: فانى له ذلك ؟ قال: عسى ان يكون نزعه عرق. قال: وهذا (يعنى ولده) عسي ان يكون نزعه عرق. قال الرجل: فتقدم عجائز من بني عجل أخبرته انه كان لامرأة جدة سوداء. فسر ابن قيم الجوزية هذا الحديث تفسيراً علمياً على أساس انتقال ما أسماه «الأجزاء» من السلف البعيد إلى الخلف, وذلك قبل ان يأتي العلم بمصطلحات «الموروثات» و «النزوع إلى الأصل»,و«الصفات السائدة », و«الصفات المتنحية» بزمن طويل.
4- التهجين وتحسين النسل:
يزخر التراث العلمي الإسلامي بالعديد من الأمثلة على انماط التهجين المختلفة, فنجد الفزويني ـ على سبيل المثال ـ يشرح خصائص الحيوانات الهجينة بقوله:«ان الحيوانات المركبة تتولد بين حيوانين مختلفين في النوع ويكون شكلها عجيباً بين هذا وذاك.
فاعتبر حال البغل, فان ما من عضو منه إلا وهو دائر بين الحمار والفرس»
ويعلق الجاحظ على ظاهرة التهجين تعليقاً علمياً صحيحاً فيقول:«اننا وجدنا بعض النتاج المركب وبعض الفروع المستخرجة منه أعظم من الأصل»
ويعترف العالم بإسهامات علماء المسلمين في مجال تحسين النسل عن طريق انتقاء صفات وراثية معينة, وهو ما يندرج اليوم تحت علم التحسين الوراثي (الأيوجينيا Eugenics). فقد كانوا يحرصون على انساب الخيول العربية بحصر التزاوج فيما بينهما وبين أفراس أصيلة ذات صفات وراثية محددة, وتابعوا اصطفاء الصفات على الانسال القادمة, ومنعوا أي تزاوجات عشوائية مع أفراد مغمورة أو وضيعة النسب. وكانهم بهذا التحديد يحصرون حدود الصفات الوراثية الممتازة كالرشاقة والجمال وضمور البطن والعدو السريع والحس المرهف, والذكاء المفرط والعرف الغزير المتدلي وصغر الآذان, وغيرها من الصفات المرغوبة في مجموعة معينة من الأفراس ما لبثت ان كبرت وزادت أعدادها مع مرور الزمن, بحيث شكلت نواة ممتازة لنشوء سلالة الخيول العربية التي عمت شهرتها العالم كله وكان لهذا التكوين الوراثي Genotype أكبر الأثر في لفت الانظار بعد ذلك إلى استيراد الخيول العربية ودخولها في التهجين مع سلالات أخرى لرفد مورثاتها بخصائصها الفذة.
من ناحية أخرى, كان الزواج بالأقارب شائعاً عند كثير من الأقوام والشعوب, ولما جاء الإسلام حرم زواج الأقارب الملتصقين لحكم نفسية واجتماعية وطبية ووراثية أوضح العلم الحديث جوانب كثيرة منها. قال تعإلى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم اللاتي وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ان الله كان غفوراً رحيماً) (سورة النساء: 23).
وحبب الإسلام إلى المسلمين الزواج بالأباعد في النسب , فرغبوا فيه, لانه انجب للولد وأبهى للخلقة, واتضح ذلك من أقوالهم المأثورة وأشعارهم المنظومة, منها قول شاعرهم:
تجاوزت بنت العم وهي حبيبة مخافة ان يضوي على سليلي
ويتفق هذا المطلب الإسلامي في الحث على الزواج بالأباعد مع معطيات على الوراثة والتحسين الوراثي اتفاقاً كاملاً. وذلك ان استمرار تزاوج الذرية بالأقارب يفضي إلى إقلال درجة التناسل حتى قد تصل أخيراً إلى العقم, كما يؤدي إلى إضعاف السلالة, ويزيد من احتمال ظهور الصفات والأمراض الوراثية المتنحية التي يُحصي منها المتخصصون ما يزيد عن مائة مرض معروف, مثل: البرص الوراثي, والبول الأسود, وبعض الأمراض الشبكية, ومرض السكر, وارتفاع ضغط الدم, وغير ذلك من أمراض الجهاز العصبي وأمراض التخلف العقلي وكثير من العيوب الخلقية والخلقية.
وهكذا يتضح ان عدداً من المفاهيم الأساسية السليمة لمباحث الوراثة الحديثة يمكن التأصيل لها بالرجوع إلى التراث الإسلامي, حيث نجد الكثير مما يدحض زعم القائلين بان علم الوراثة بمباحثة المختلفة على غربي حديث النشأة وليست له أرومة تاريخية عند العرب أو غيرهم من الأمم.
(ب) علم المراعي:
كان الانسان منذ القدم يهاجر من أرض إلى أرض بحثاً عن انسب الأماكن التي تصلح للرعي والزراعة والتجارة واستيفاء ما ينقصه من وسائل العيش وتهيئة ظروف الأمن والاستقرار.
ويسود الان اعتقاد خاطئ بان علم المراعي من العلوم الحديثة, ويعود المؤرخون بنشأته الأولى إلى أوائل القرن العشرين, حيث انشئت أول محطة لأبحاث المراعي في «سانتاريتا Santa Rita بالولايات المتحدة الأمريكية نحو عام1903 م في ولاية أريزونا, وينسبون الفضل في تأسيس هذا العلم إلى الأمريكى «آرثر سامبسون» A.W.Sampson الذي صنف كتاباً عام 1923 م عن «إدارة المراعى الطبيعية والأصطناعية» Range and Pasture Manage ثم أعاد كتابته من جديد في عام 1952م تحت عنوان «إدارة المراعى, أسس وتطبيقات» Range Management, Principles and Practice وفي عام 1947 تم تأسيس أول جمعية لإدارة المراعي الطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية, وظهرت أول مجلة لإدارة المراعى باسم Journal Of Range Management: وتوإلى بعد ذلك ظهور الكثير من الأبحاث والنشرات والكتب العلمية التي تبحث في المجالات المتعددة لعلم المراعي الطبيعية وإدارتها, وزاد التوجه العالمي نحو الاهتمام بدراسة المناطق الرعوية والمحافظة عليها وإدارتها وتطويرها بعد تشكيل الهيئة الاستشارية الخاصة بأبحاث المناطق الجافة التابعة لمنظمة اليونسكو.
لكن الباحث المدقق في تراث المسلمين لا يجد صعوبة في تصحيح هذا الاعتقاد الخاطئ بان علم المراعي حديث النشأة, وذلك بإظهار حقيقة علمية تاريخية مؤداها ان أبا حنيفة الدينوري المتوفى عام 282هـ إلى 895 م قد سبق الأمريكي سامبسون بكتابه المعروف عن «النبات» باباً بعنوان «الرعي والمراعي» يقول في آخره, ملخصاً لما ورد فيه:«قد أتيت بما حضرني ذكره في وصف الرعي والمراعي وما يعرض لها من الآفات وحال السائمة فيها وما يعتريها من الأمراض على ما استحسنت وضعه في هذا الكتاب» .
وقد أوضح الدينوري بعض المصطلحات الرعوية البيئية الهامة مثل: الأرض الحمضية, أي كثيرة الحمض, و«الخلة» أي الأرض التي ليس فيها حمض وان لم يكن بها من شئ, و «السهب» أى الأرض الواسعة البعيدة التي لا نبات فيها, و«الصمان» أى الصحراء الحجرية الكلسية ذات القبعان, و «الحزن», وهي الأرض البعيدة عن المياه ولا ترعاها الشاة ولا الحمر, فليس فيها دمن ولا أرواث.
وصنف الدينوري نباتات المراعي, استناداً إلى خبرة العرب الواسعة, على أساس الصفات المتعلقة بالطعم واللون والملمس والشكل الظاهر وموسم النمو, وغير ذلك من الصفات, فتحدث عن «مجموعة الحمض» التي تتميز بالطعم الحامض أو المالح, وهي التابعة «للفصيلة الرمرامية» Chenopodiaceae , حسب التقسيم النباتي المعروف حالياً, ومن أمثلتها نباتات الرمث والغضي والحاذ. وتحدث عن «مجموعة الخلة» التي لا ملوحة فيها, مثل السبط, «ومجموعة العضاة» التي تضم الأشجار الشائكة, مثل الطلح والعرفط, و «مجموعة العض» التي تضم ما صغر من شجر الشوك, مثل القتاد,«مجموعة المرار» ومجموعة البقول ومجموعة الحرف, وأخيراً مجموعة الأرواث والدمن التي تضم النباتات السيئة في المرعى والمحبة للنتروجين, وهي من دلائل الرعي الجائر.
وعلى هذا الأساس قدم الدينوري تعريفاً محدداً للمرعى بقوله:«وقد بينت فيما مضي ان المرعي كله خلة وحمض, فالحمض ما كانت فيه ملوحة, والخلة ما لا ملوحة فيه, حلواً كان أو مراً, والعرب تسمى الأرض إذا لم يكن بها حمض خلة وان لم يكن بها حمض خلة وان لم يكن بها من النبات شئ».
وبذلك يكون المرعى عبارة عن مجموع النباتات التي تنمو طبيعية في منطقة معينة ولا تستخدم لأغراض أخرى غير الرعي.
كذلك أوضح الدينوري معرفة العرب لانواع المراعي المختلفة وتحديد درجة جودتها, وتأثير ذلك على الحيوانات الرعوية, فذكر «المرعى المرئي الناجع» أى الجيد, و«المرعى الخصبة», أى متوسط الجودة, ليس بالخصب ولا بالجدب, و «المرعى الوبيل الموخم » ؟, أي المتدهور الخرب الذي تعرض عنه السائمة. وفطن العرب إلى العلاقة بين جودة المرعى وقربه من مصادر الماء أو بعده عنها, وطوروا اصطلاحات خاصة بذلك. فقد روى الدينوري عن ابن الأعرابي انه قال:«إذا ما كان حول الماء مكلئا قيل ماء قاصر, فان كان ما حوله قد أكل قيل ماء مدرع, لانه أبيض ما حوله بمنزلة الشاة الدرعاء, قال: وإذا بعد كلؤه بقدر ميلين أو ثلاثة فهو ماء مطل, فان كان مسيرة يوم أو يومين فهو مطلب إبل» .
ولم يفت الدينوري ان يدون في كتابه «النبات» ما يعكس إدراك الرعاة الواعي لقيمة النباتات الرعوية الغذائية واستجابة الحيوانات لها, فذكر ما قاله الأصمعي من ان الخلة هي خبز الإبل, والحمض أدمها, وأطيب الإبل لبناً ما أكل السعدان وروى عن أبي النصر قوله:«إذا أكلت الإبل الخلة صلُب لحمها واشتد طرفها.. وإذا أكلت الحمض اندلقت بطونها وكثرت أوبارها..» وقالوا عن السعدان: انه ناجع في المال, يطيب لحومه ويعزر ألبانه ويخثرها, وبه ضرب المثل فقيل: مرعى ولا كالسعدان.
ولفت الدينوري الانظار إلى أهمية مواسم الرعي وخصائص الدورات الرعوية, فقال:«إذا كان الربيع أحلت الغنم, وإحلالها ان تنزل ألبانها من غير ولاد بعد ان كانت انقطعت ويبست» وبين كيف كان الرعاة يلجأون إلى الانتقال من مكان لآخر طلباً للكلأ في الفصول المختلفة من العام.
أما عن إدارة المراعي وانشاء محميات بيئية كوسيلة من وسائل تطوير المناطق الرعوية, فنذكر المراجع ان الرسول صلي الله عليه وسلم كان أول من أصدر تشريعاً لحماية البيئة حين أمر بحماية النقيع وعضاة الدينة, كما منع الصيد عبر الحمى, وحدد مناطق محمية أخرى من الرعي فيها وحملت بحمولات حيوانية معتدلة من خيول الجهاد أو انعام الزكاة, جاعلاً الحمى بصفة عامة لله ورسوله, وقد حمى الخليفة عمر بن الخطاب الربذة وضربة اللتين قال فيهما أبو النصر: «حمى الربذة غليظ الموطئ كثير الخلة, وحمى ضربة سهل الموطئ كثير الحمض, تطول عنه الأوبار وتتفتق الخواصرويرهل الحم» .
ان مثل هذه الأفكار والمفاهيم لا ينبغى إغفالها عند التأصيل لعلم الرعي والمراعي, لما لها من فيمة علمية وتطبيقية كبيرة.
(جـ) علم الشفرة:
يعنى علم الشفرة Cryptology بتحويل نص واضح إلى نص آخر غير مفهوم باستعمال طريقة معينة يستطيع من يعرفها ان يفهم النص والعملية العكسية التي يتم بها تحويل النص المكتوب بالشفرة إلى نص واضح مفهوم تعرف باس «تحليل الشفرة».Cryptanalysis
ويحظى هذا العلم باهتمام كبير في عصرنا الحاضر بالنسبة لحكومات والمؤسسات والأفراد على حد سواء, نظراً للحاجة إليه في الحفاظ على المعلومات في المجالات العسكرية, وفي الميادين الصناعية والتجارية والسياسية والاقتصادية, وفي أغراض الاتصالات, وغير ذلك. وتستخدم الدول المتقدمة أحدث التقنيات والحاسبات العملاقة لتطوير قدراتها وتحقيق تميزها في هذا العمل .
وقد عرف علم الشفرة وتحليلها عند العرب باسم «التعمية واستخراج المعمى» , وكان لهم دور رائد في تأسيسه وتطويره والتاليف فيه من زوايا مختلفة, فصنفوا عدداً لا بأس به من المخطوطات, منها:« رسالة الكندي في علم التعمية واستخراج المعمى» وهي أول رسالة عربية يعود تاليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي), وكتاب «المؤلف للملك الأشرف في حل المترجم» (ت 666هـ إلى 1268م), وكتاب «حل الرموز ومفاتيح الكنوز» لجابر بن حيان الكيميائي (ت 200هـ إلى 815 م) وكتاب «حل الرموز وبرء الأسقام في كشف أصول اللغات والأقلام» لذي النون المصري ثوبان بن إبراهيم (ت 245هـ إلى 859 م), وكتاب «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» لأحمد بن علي بن وحشية (ت بعد 291 هـ إلى 914 م), وكتاب «خصائص المعرفة في المعميات» لأسعد بن مهدى بن مماتي (ت 606 هـ إلى 1209 م), وكتاب «مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة» لإبراهيم بن محمدين (ت 627 هـ إلى 1228 م), وغير ذلك كثير. هناك من اشتهر بخبرته وكثرة مؤلفاته في هذا العلم, مثل علي بن محمد الدريهم (ت 762 هـ إلى 1361م) صاحب كتب «مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز» و «إيضاح المبهم في حل المترجم», و «مختصر المبهم في حل المترجم» و «نظم القواعد في المترجم وضوابطه».
وقد اعترف كبير مؤرخي علم الشفرة المعاصرين «دافيد كان» D. Kahn في كتابه The Code Breakers بان هذا العلم ولد بشقيه بين العرب, ونسب اليهم الفضل الأول في اكتشاف طرق حل الشفرة وتدرينها قبل الغرب بمدة طويلة, وأقر بان هذه الحقيقة التي توصل إليها عن ريادة العرب في علم الشفرة تعتبر أهم انجاز تاريخي في كل ما احتواه كتابه .
It showed that the Arab had practiced cryptanalysis long before the west, and provided me with the most important historical break through in my whole book.
والباحث عن مؤلفات المسلمين الأوائل في علم الشفرة (أو التعمية) يجد انهم استحدثوا عدة طرائق , لعل أبسطها طريقة القلب أو البعثرة, وتكون بتغيير مواقع حروف الرسالة وفق قاعدة معينة, كان تبدل الأول من الكلمة بالآخر منها, مثل: (رضوان ـ نضوار), أو تقدم الحرف الأخير, نحو: (قاسم ـ مقاس), أو تقلب حروف كل كلمة ضمنها, أى تكتبها معكوسة, مثل: (أحمد أخو علي ـ دمحا وخا يلع).
وهناك أيضاً طريقة التعمية بالاستبدال أو التعويض, وتقوم على ان يبدل كل حرف بحرف أخر, أو رمز من خارج النص وفق قاعدة محددة كان يبدل الحرف بما قبله على ترتيب حروف المعجم, مثل: (محمد ـ لجلخ), أو يبدل كل حرف بما بعد, مثل: (محمد ـ نخنذ). وقد يكون التبديل بوضع الحروف على أسماء الأعلام, فيجعل لكل حرف اسم رجل أو غيره, أو على أسماء النجوم, أو الشهور, أو البلدان, أو الأذهان, أو العقاقير, أو الأشجار. ويمكن ان يكون التبديل على أسماء الأجناس, فيجعل لكل حرف اسم جنس مثل: الانام, والبشر, و البقول, والتراب والتوابل, والثياب, والجلود, والحديد, أو الحبوب, والخشب… إلى آخره.
وأشهرانواع التعمية بالتبديل استعمال أشكال مبتكرة للحروف يخترعها المترجم أبجدية جديدة له على ترتيب حروف المعجم, وطريق ذلك كما يقول ابن الدريهم: ان «يثبت حروف المعجم, ثم يرتب تحت كل واحد شكلاً لا يماثل الآخر, فكلما جاء في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع له غلط, ثم يفصل بين الكلمات إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك» .
وعرف المسلمون طرائق أخرى مركبة أكثر تعقيداً تشمل تعمية المعانى بالتورية, واستعمال الصفات الكمية أو الكيفية للحروف, واستعمال الكلمات المحتملة, وغيرها ولعل الكندي كان أول من قام بإحصاء الحروف في الكلام المزيد لاستعمالها في حل الشفرة, وذلك اعتماداً على ما ورد في نص معين, فيكون الأول لأكثرها عداً, والثاني للذى يليه, وهكذا تتوإلى مراتب الحروف في الاستعمال لتقابل بمراتب الرموز المستخدمة في الرسالة المعماة.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان مراتب الحروف تختلف باختلاف المادة اللغوية المحصاة, فمراتبها في إحصاء حروف القران ـ وهو أسبق من إحصاء أهل التعمية, لانه يعود إلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم ـ تختلف قليلاً عن مراتبها في إحصاء الكلام العادى لنصوص فيها المزيد والمجرد, ومراتبها في كلا الإحصائين تختلف عما هي عليه في إحصاء الحروفذ إذا كانت مادة الإحصاء هي الجذور العربية لاشتمالها على الأصلي من الحروف دون الزائد.
وقد توفر المسلمون على العناية بحل الشفرة على أساس علمى تلبية لضرورات حضارية إبان استقرار الدولة الإسلامية واستحبار العمران ونشاط حركة الترجمة, بغية كشف ما رمزه الأقدمون من علومهم وكنوزهم في آثارهم التي ترجمت انذاك. وتشهد كنوز التراث الإسلامي ان الكندى سبق الإيطالي «ألبرتو» بسبعة قرون إلى وضع أول مخطوط في استخراج المعمى, وهو أيضاً أول من عرف مبدأ استعمال الكلمة المحتملة, وأول من فرق بين طريقتي التعمية بالبعثرة والاستبدال قبل «بورتا» في القرن السادس عشر الميلادي. كذلك كان ابن الدريهم أول من عرض طريقة التعمية باستعمال شبكة بسيطة, سابقاً بذلك «كاردانو» بقرنين من الزمان.
انها صفحات منسية من تراث المسلمين تنتظر من بعيد قراءتها بلغة عصرية, ليؤكد قيمتها التاريخي في سيرة علم الشفرة الذي بلغت أهميته الذروة في عصرنا الحاضر, عصر الحاسبات الإلكترونية وما تحويه نظم المعلومات من قواعد بيانات تحتاج إلى الحفظ من العبث أو السرقة عن طريق تعميتها, سواء أثناء تخزينها أو عند نقلها عبر خطوط شبكات الحاسبات .
(د) علم البيزرة:
تتفق المصادر على ان ـ كلمة البيزرة مأخوذة من اسم «الباز» أو «البازي» وهو نوع من الصقور, ولعل الاقتصار في إطلاق اسمه على هذا العلم دون غيره, يرجع إلى كونه أشهر طيور الصيد وأمهرها في الإمساك بالفريسة. وقد وصفه أبو عبد الله القزويني في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» بانه أشد الجوارح تكبراً وأضيقها خلقاً (مزاجاً), ويوجد بأرض الترك, والغالب عليه بياض اللون.
و «البيزرة» هي حرفة «البيزار» الذي يدرب جوارح الطير على الصيد, وهي كلمة فارسية الأصل, أخذت من كلمة «البازيار», أو «البازدار», وهما تعنيان: القائم بأمر «البازى» أو الحامل له في الصيد, ثم عربت الكلمة إلى «البيزار» ويري الدميري في كتابه >. حياة الحيوان الكبرى» ان كلمة «البيزرة» عربية الأصل.
و«علم البيزرة <, هو الذي يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث أصنافها, وتربيتها, وحفظ صحتها ومداوتها من الأسقام والأمراض التي تعرض لها, ومن حيث صفاتها وعلاماتها الدالة على قوتها في الصيد أو ضعفها فيه, وقد ألحق البعض هذا العلم بطب الحيوان (البيطرة). وقالوا: هو فرع منه, داخل فيه, ومن جملته.
ولا يعرف على وجه الدقة أول واضع لقواعد علم البيزرة وفنونه, فقيل: انه علم هندي المنشأ, وقيل: ان «بطليموس» الذي خلف «الإسكندر» هو أول من اقتنى البزاة, ولعب بها وضراها على الصيد, ثم لعب بها الملوك بعده.
وكان الصيد عند العرب حرفة وهواية مشهورة وقد أشار القران الكريم إلى تدريب الجوارح, فقال تعإلى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) (المائدة: 4).
وقد عنى الأمويون والعباسيون بتربية الجوارح, وجعلوا لها أعطيات من بين المال, وكان يطلق على «البازيار» في عهد الدولة الأموية «صاحب الصيد», كما عرفت في الدولة العباسية وظيفة «أمير الصيد» الذي يدبر أمر الصيد ويقوم عليه, واقتدت الدولة الفاطمية بالدولة العباسية في باب العناية بالطيور وصيدها بالجوارح وما يصلحها. ثم ثار للصيد بالطير أهمية كبري في عصر المماليك, وكانت وظيفة «صاحب الصيد» أو «أمير الصيد» من الوظائف التي يشغلها العسكريون, وكان القائم بها يضطلع بالإشراف على الجوارح من الطيور وغيرها وسائر انواع الصيد السلطانية, وكما كان يقوم بتنظيم جميع أمور الصيد, ويعاونه غلمان يكلفون بتزويد بيوت الطيور بالحمام وغيره من طيور الصيد لتغذية الصقور والجوارح وتدريبها ولم تكن وظيفة «أمير الصيد» تقتصر على رسوم السلطانية وحدها دون غيرها, بل كان عند بعض الأمراء في العصر المملوكي من يشغل تلك الوظيفة.
وقد تنوعت مساهمات العلماء المسلمين في علم البيزرة وتوسعوا في مباحثه التي اتصلت بعلوم أخرى, كالطب, والصيدلة, ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) واللغة, والفقه, ومن ثم نشأ عن ذلك تراث ثري في مجال البيزرة, فمنه ما عنى بالجانب اللغوى, مثل: كتاب «الطير» للسجستانى, وكتاب «الوحوش» للأصمعى, وكتاب «البازى» وكتاب «الحمام», وكتاب «العقاب» لأبي عبيدة ومنه ماعنى بالناحية الفقهية وحكم الشرع في اصيد بالجوارح, مثل: كتاب «الصيد والذبائح» للإمام الشافعى, وكتاب «الصيد والذبائح» لمحمد بن الحاسب صاحب «أبي حنيفة». ومنه ما تناول علم البيزرة العام, مثل كتاب «الكافي في البيزرة» لعبد الرحمن بن محمد البلدى, وكتاب «الجمهرة في البيزرة» لعيسي الأزدي, وكتاب «المصايد والمطارد» لكشاجم, وكتب «البيزرة» لبازيار العزيز بالله الفاطمى, وكتاب «نزهة الملوك والسادات بالطيور والجوارح والجياد الصافنات» لمؤلف مجهول (وهو مطبوع) وكتأبي «البيزرة» و «ضوارى الطير» «للغطريف بن قدامة الغساني» . ونجد «البلدي» على سبيل المثال في كتابه «الكافي في البيزرة» قد أوضح الأسس المنهجية لهذا العلم, فذكر ان البيزرة صناعة تنقسم إلى أربعة أقسام يقع كل منها في أربعة أبواب:
أما القسم الأول فيتناول معرفة أجناس الجوارح, ويبحث الباب الأول منه في عدد أصناف الجوارح, والباب الثاني في الفرق بين كل جنس منها والآخر, والباب الثالث في ذكر النافع من أصنافها, والباب الرابع في عدد ألوانها.
ويعنى القسم الثاني بمعرفة النوع الفاضل المختار من الجنس النافع من الجوارح, ومعرفة الردئ منها. وبتناول الباب الأول من هذا القسم معرفة الجيد والردئ من قبل معدنه. والثاني معرفة الجيد والردئ من قبل صورته وهيئته, والثالث معرفة الجيد والردئ من قبل لونه, والرابع عرفة الجيد والردئ من قبل أخلاقه وأفعاله.
ويعنى القسم الثالث بمعالجة «تدبير الجوارح النافعة ورياضنتها» ويبحث الباب الأول منه في ذكر أول من لعب بالضوارى وتصيد بها, والثاني في وصية المتعلم لهذه الصناعة والمتعرض لها, والثالث في نعت الإجابة والتعلم لكل نوع, والرابع في تقدير طعم الضواري على طبيعة كل واحد منها.
ويتناول القسم الرابع «مداواة أمراض الجوارح» وفيه أربعة أبواب: الأول: في صفة طبائع الجوارح الضواري وأمزجتها وامتحانها عند ابتياعها, والثاني: في ذكر أسباب أمراضها وعلامات كل مرض, والثالث: في صفة مداواتها وعلاج أمراضها وتدبير أدويتها, والرابع: في تدبير قرنصتها وعلامات موتها وهلاكها.
ويتضح من هذا العرض المنهجي لموضوعات علم البيزرة انه متصل بعلوم أخرى أهمها علم البيطرة, وقد عنى «البلدي» بالبحث في طب الطيور الجارحة, وسجل ملاحظات قيمة عن انواع الطفيليات التي تصيبها, منها قوله عن الديدان في دبر الطائر:«علامة الدود إذا كان في دبر الجارح, ان تراه يحك دبره دائماً وذرقه متصل على حاله لا خضرة فيه بل متغير الشكل الطبيعى, وربما خرج الكبار يأكل القمل الصغار. والقمل ينشف رطوبة الطير حتى يتركه جلداً وعظماً ان لم يعالج».
كذلك عنى الغطريف الغسائي في كتابه «ضواري الطير» بطب الطيور الجارحة, وسجل ملاحظات دقيقة, منها قوله عن ديدان الحوصلة:«إذا رأيت الطائر قد ألقي ريمحه فكان له الدود, فاعلم ان في حوصلته دوداً». وقوله عن الديدان المعوية:« إذا رأيت الطير قد ورم ما فوق كتفيه, فاعلم ان في بطنه ديداناً عراضاً مثل حب القرع (الديدان الشريطية) التي تكون في الصبيان» وقوله أيضاً: «ان ترى الطير ينتف ريش مراقه, أو ينتف ريش فخذيه, فذلك يدل على العراض, أمثال دود الخل يعرض للصبيان في بطنه» .
إلى جانب المؤلفات التراثية التي استقلت بموضوعات علم «البيزرة» من جوانبه المختلفة, هناك من عرض فصولاً مطولة عنه, كالجاحظ ي كتابه «الحيوان», والقزويني في كتابه «عجائب المخلوقات» والدميرى في كتابه «حياة الحيوان الكبرى».
وقد صيغ علم «البيزرة» شعراً, فوضع «ابن نباتة» أرجوزته «فرائد السلوك في مصايد الملوك», وألف الفحيمي قصيدة في البيزرة.
ومن الجدير بالذكر ان عدداً من الكتب التراثية المعنية بعلم البيزرة قد ترجم في عصر النهضة الأوربية الحديثة إلى اللغة اللاتينية, ثم انتشرت هذه الترجمات بعد ذلك في مختلف بلدان أوروبا, وانتشرت معها رياضة الصيد بواسطة الصقور.
ولا يزال للعرب المعاصرين اهتمام بعلم البيزرة, فقد ظهر حديثاً كتاب بعنوان «رياضة الصيد بالصقور» «للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان» رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
هـ – علم الطفيليات:
هناك من بين المعنيين بدراسة إسهامات المسلمين في الحضارة الانسانية من أعطى اهتماماً كبيراً لعلوم الطب والصيدلة والأحياء في التراث الإسلامي بصورة عامة, ولا شك في ان الأبحاث والدراسات المعاصرة في كشفت عن الكثير من انجازات علماء الحضارة العربية الإسلامية في هذه الميادين التي أصبحت في عصرنا تتألف من فروع عديدة يشكل كل منها علماً مستقلاً. وهنا نجد ان مبحثاً حديثاً مثل «علم الطفيليات» Parasitology يكاد يكون منسياً أو مغموراً في المؤلفات التراثية, اللهم إلا من بعض الدراسات المحدودة التي تحتاج إلى مزيد من التطوير والتعميق .
ومن يتناول مؤلفات علماء الحضارة الإسلامية باحثاً عن أصول علم الطفيليات, سوف يجد الكثير من الحقائق العلمية والمنهجية التي تنسب زوراً وبهتاناً لعلماء الغرب دون أدنى إشارة إلى مكتشفيها الأصليين في العصر الإسلامي, فقد عرضت مراجع التراث الطبي للمسلمين ملاحظات دقيقة عن انواع الطفيليات التي تعيش داخل الجسم والتي تعرف اليوم «بالطفيليات الباطنية» Endoparasites التي تعيش على ظاهر الجسم, ولا يقلل من أهمية هذه الملاحظات الدقيقة انها كانت تعتمد في اكتشافها على ملاحظة الديدان الطفيلية بالعين المجردة, أو على الأعراض المرضية الدالة على وجودها. من ذلك ما جاء في المراجع التراثية عن أوصاف بعض «الطفيليات الأولية» Protozoa, مثل انواع الأميبا التي تعيش في جدار وتجويف الأمعاء الغليظة وتسبب مرض الدوسنتاريا Dysentry , وما جاء عن أعراض بعض الأمراض, مثل حمى الملاريا التي كشف العلم الحديث عن طفيليانها التي تصيب الانسان من جنس «البلازموديوم» Plasmodium.
وتوافق المراجع الحديثة ما جاء في كتاب «الحاوي» لأبي بكر الرازى عندما ربط في ملاحظاته السريرية للإصابة بالملاريا بين نوبات الحمى وبين حالة تضخم الطحال المعروفة علمياً باسم Splenomegaly , حيث قال:«…. الحميات التي تبتدئ بنافض أعلم انها من التي تنوب بأدوار, وذلك ان الغب والربع في الأكثر تحدث مع نافض شديد, ولكن يعقب حميات مختلفة, أما النائبة كل يوم فلا تكاد تحدث إلا مع علة في فم المعدة, على ان (حمى) الربع لا تكاد تحدث إلا مع علة الطحال» .
أما الديدان الطفيلية المعوية فقد تحدث عنها الرازي في كتابه «القانون مراجع التراث الطبي الإسلامي بين أربعة من هذه الديدان. هي الديدان العراض (المعترضة). أو الشريطية Taenia والديدان العظام (الكبار), المعروفة حالياً «الإسكارس» Ascaris والديدان الصغار التي تشبه الدود المتولد في الخل وتسبب داء «الدبوسيات» Enterobiasis والديدان المستديرة, أو الشصية Hook Warm , لاسيما الانكلستوما. وقد أشارت المراجع الحديثة إلى انواع الديدان الشصية التي تعيش في الأمعاء الدقيقة وتتغذى على الدم والانسجة مسببة داء الانسيلوستوما (الشصيات) Ancylostomiasis .
وتجدر الإشارة في هذا الشان إلى ما اكتشف حديثاً من ان الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» هي ما نسميه الان «الانكلستوما» وقد أعاد دوبيني اكتشافها بإيطاليا عام 1838 م, أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بأكثر من ثمانية قرون, ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة, كما أخذت به مؤسسة «روكفلر» الأمريكية التي تعنى بجمع كل ما يكتب عن هذا المرض .
وتطرقت المراجع التراثية أيضاً إلى بعض انواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيداً عن القناة الهضمية, مثل ديدان العين التي تفضل منطقة العين, و«ديدان الفلاريا» المسببة لداء الفيل الذي وصفه الرازي في كتابه «المنصورى» بقوله:«ان هذا الداء إذا استحكم لم يبرأ, أما إذا لوحق في ابتدائه وعولج بما ينبغي برأ ووقف ولم يتزايد», وقال عنه يعقوب الكشكرى في كتابه «كناش في الطب» الذي وصفه في القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي): «إذا امتلأت عروق الدوإلى بالدم العكر في الساقين وورمتا ورماً عظيماً حتى صارتا أشبه برجل الفيل, ولا يتهيأ للمريض ان ينهض بهما من عظمتهما, فان هذه العلة تسمى داء الفيل» .
أما بالنسبة لانواع الطفيليات الخارجية التي تصيب جسم الانسان, فقد كثر الحديث عنها في مؤلفات الأطباء والعشابين, خاصة الصئبان والقمل الذي يتولد في الرأس وسائر الجسد.
من ناحية أخرى, لم يقتصر علم الطفيليات في التراث الإسلامي على تناول الطفيليات التي تصيب الانسان, بل انه امتد ليشمل بعض انواع الطفيليات التي تصيب الحيوان والطيور .
وليشمل أيضاً طرق المكافحة والعلاج وتحضير الأدوية من الأعشاب والنباتات الطبية التي ورد ذكرها للإفادة, بعد إجراء الاختبارات اللازمة على ما فيها من مواد فعالة باستخدام تقنيات العصر المتطورة.
وإذا كانت كل هذه المعلومات تؤكد دور علماء المسلمين الرائد في تأسيس علم الطفيليات استناداً إلى منهج تجريبي رائد, فان هذا لا يعنى بأي حال من الأحوال اننا نعمد إلى مقارنته بالحالة المتقدمة التي وصل إليها في عصرنا الراهن, وان كنا ندعو أهل الاختصاص إلى بذل المزيد من الجهد لاستيفاء المعلومات التراثية الناقصة في هذا المجال, وذلك بالقراءة المتانية لمؤلفات الرازي وابن سينا والبغدادي والقيرواني والجاحظ, والبلدي والغطريف الغساني وابن زهر وغيرهم.
المراجع :
1- زكريا بن محمد بن محمود القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، شركة الحلبي بمصر، الطبعة الخامسة، 1401 هـ – 198 م، ص 204.
2- محمد مروان السبع، أعمال ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، 1990 م.
3- ناهد البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق، عالم المعرفة، الكويت 1413 هـ – 1993 م.
4- عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ، الحيوان، بيروت، 1978 م.
5- Sampson, A. W., Range Management, Practices, John Wiley & Sons. New York, 1952.
6- محيي الدين قواس، أعمال الندوة “التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية” – طرابلس -ليبيا، 1990 م.
7- علي علي السكري، البيئة من منظور إسلامي، منشأت المعارف – الإسكندرية : 1995.
8- Ali, S. I, Hima – The Protected – area Concept in Islam, Journal of Islamic Thought and Scientific Creativity, OIC, vol. 7, No 1, 1996.
9- David Kahn, The Code Breakers, New Yourk, 1976.
10- J. H. Finch & E. G. Daugall, Computer Security: A Global Challenge, North Holland, 1984.
11- بازيار العزيز بالله الفاطمي، البيزرة، تحقيق : محمد كرد علي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1409 هـ – 1988م.
12 – أحمد فؤاد باشا، “مدخل البيزرة” دائرة سفير للمعارف الإسلامية، الجزءان 39 – 40، القاهرة، 1990.
13- عبد الرحمن محمد البلدي، “الكافي في البيزرة” ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983.
14- الغطريف بن قدامة الغساني، كتاب ضواري الطير، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 1984.
15- إسماعيل الحديثي وآخرون، علم الطفيليات، مديرية دار الكتب، جامعة الموصل، 1984.
16- محمد حسن الحمود، علم الطفيليات في التراث العربي، ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، ديسمبر 1990.
17- أحمد فؤاد باشا، التراث العلمي للحضارة ال؟إسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة، القاهرة، ط 2، 1984.
18- يعقوب الكشكري، كناش في الطب، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1985.
19- أحمد فؤاد باشا، “علوم منسية في تراث المسامين” (1)، مجلة المسلم المعاصر، ع 81 بيروت : 1996.