تهدف هذه القراءة المعرفية في مصادر تقعيد النحو من وجهة نظر أصولية إلى مراجعة التصنيف التقليدي لمصادر اللغة والاحتجاج لدى رواد المدارس النحوية التقليدية ، قصد تجاوز بعض الأخلال المنهجية الخطيرة التي لعبت ولا تزال تلعب دوراً في تعسير تعلم قواعد النحو ، وفي صيرورة القواعد النحوية مجرد نظريات وأمثلة خيالية.
وتهدف هذه القراءة قبل ذلك إلى تقديم تصنيف منهجي عملي لمصادر تقعيد النحو بغية تيسير تعلمه ، وبغية ربط متعلم القواعد بالقيم والأخلاق الواردة في الكتاب والسنة بدلاً من الأمثلة الافتراضية غير الواقعية ولا العملية.
وتهدف هذه القراءة أيضاً إلى دعوة النحاة المعاصرين إلى إيلاء الجانب المقاصدي شيئاً من الاهتمام في الدراسات النحوية الحديثة؛ إذ أن هذا الجانب لم يحظ – حسب علمنا – بالاهتمام اللائق به على الرغم مما له من أهمية قصوى.
وقد انطلقت هذه القراءة من مبدأ مفاده أن مصدرية نص للتقعيد النحوي تتوقف على ما يتمتع به ذلك النص من فصاحة عالية ، وقوة بليغة ، فمقتضى ذلك أن يتم تصنيف النصوص التي تعتبر مصادر للغة حسب قوتها ودرجة فصاحتها. وإن ذلك كذلك ، فإنه قد ترجحت لهذه القراءة غياب هذا الجانب المنطقي في حركة التقعيد النحوي؛ مما جعل تصنيف المدارس النحوية التقليدية لمصادر اللغة تصنيفاً معكوساً غير منضبط ، فلغة القرآن التي تعتبر اللغة العربية النموذجية الفصحى لم يتم استقراؤها استقراء تامّاً ، وقدمت عليها لغة قبائل البدو (أكلة اليرابيع) ، وأما لغة الحديث النبوي ، فقد أُبْعِدَتْ من دائرة الاحتجاج والاستشهاد لأعذار غير علمية ولا منهجية ، على الرغم من كون المصطفى – عليه الصلاة والسلام – أفصح من نطق بالضاد ، وعلى الرغم من غلبة الفصاحة وقوة البيان على جل الصحب الكرام – عليهم رضوان الله – ولهذا ، فقد عنيت هذه القراءة بتقديم تصنيف منهجي آخر لمصادر التقعيد النحوي أملاً في أن يتم به تجاوز وتصحيح الأخلال المنهجية التي وقعت فيها المدارس النحوية التقليدية عند تصنيفها مصادر التقعيد.
والله من وراء القصد.
1) نظرة في جدلية العلاقة بين لغة القرآن الكريم واللغة العربية
يذهب علماء اللغويات إلى تعريف اللغة بأنها ((مجموعة اللهجات التي تنتمي إلى بيئة معينة))[1] وبتعبير آخر عند ابن جني هي عبارة عن ((أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم))[2].
وأما اللهجة ، فيعرفونها بأنها ((مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة ، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة))[3].
وبالنظر في تعريف كل من اللغة واللهجة نجد أن اللغة أعم من اللهجة ، وأن بينهما – كما يقولون – عموماً وخصوصاً من كل وجه ، كما نستطيع أن نلحظ أن أية لغة لابد لها من أن تكون مشتملة على جملة من اللهجات لقبائل شتى ومختلفة ، ولئن أطلق على لهجة قبيلة واحدة من القبائل وصف ((اللغة)) ، فلا يعدو ذلك أن يكون مجازاً في واقع الأمر. ويمكننا أيضاً أن نلحظ وجود مرونة وسعة في اللغة لا نجد شبيهاً لها في اللهجة؛ إذ بينما تتسع اللغة لتستوعب جملة من اللهجات وطرائق التعبير لمختلف القبائل نجد أن اللهجة لا تعترف إلا بطريقة واحدة في التعبير ، وأية طريقة تحيد عنها سواء في التعبير أو في التركيب أو في التأليف ، فإنها تعتبر خروجاً عن المألوف ، وابتعاداً عن الجادة ، مما يعني تميز اللهجات بالمحافظة وعدم الانفتاح؛ وما ذلك إلا لأنها تتميز بكونها أسلوباً لأداء الكلمة وتوصيل المعنى إلى السامع؛ ولهذا فلا غرو أن يسهل على أصحاب اللهجات معرفة الغرباء والدخلاء على ساحتهم ، وليس كذلك الحال في اللغات التي يتميز العقلاء من أربابها بالانفتاح على سائر اللهجات ، وبتقبل شتى القبائل بلهجاتهم إضافة إلى ابتعادهم عن التفاضل بين اللهجات.
وبناء على هذا ، فإنه يمكننا أن نقرر القول بأن للقرآن الكريم لغة وليست لهجة ، ويمكن تعريف تلك اللغة بأنها: مجموع لهجات القبائل التي اشتهرت بالفصاحة والبيان قبل نزول القرآن ، واستخدام القرآن أساليبها وقوانينها تبييناً وتفصيلاً وتأسيساً وتأكيداً؛ وتنتمي هذه اللهجات – جغرافيّاً – إلى كبرى قبائل الجزيرة العربية. وهذه اللهجات التي تتكون منها لغة القرآن الكريم لابد لها من أن تكون سائدة في ذلك الحين ، مما يعني أن اللهجات الأخرى التي تولدت بعد اكتمال نزوله لا يمكن إدراجها ضمن لهجات القرآن ، كما هو الحال في جل اللهجات العربية الحديثة التي ينطق بها اليوم السواد الأعظم في الدول العربية ، فلئن كانت لهجات تلك الدول تنتمي في أصولها إلى بعض اللهجات التي كانت سائدة كالآرامية[4] في الشام وغربي بلاد الرافدين ، والقبطية[5] بمصر ، والفارسية في عراق العجم ، والبربرية في المغرب العربي إلخ.. وأما اللغة العربية ، فبراد بها: مجموع لهجات القبائل العربية العاربة والمستعربة سواء منها تلكم التي اشتملتها لغة القرآن ، أم تجاوزها القرآن إن استغناءً أو لأي سبب آخر. وتنتمي تلكم جغرافيّاً إلى الجزيرة العربية وشبهها ولواحقها. وبناء على هذا ، فإنه يمكن القول بأن ثمة فرقاً بين ما يصطلح عليه بلغة القرآن واللغة العربية ، فلغة القرآن أخص من اللغة العربية؛ وذلك لأن لغة القرآن تنحصر في لهجات القبائل التي اشتملتها لغة القرآن ، وهي قبائل معدودة ومعروفة من حيث الإجمال ، وأما اللغة العربية ، فتشتمل تلك اللهجات – بوصفها أمهات اللهجات العربية العاربة – واللهجات التي لم ترد في القرآن إما بسبب نشوئها المتأخر كاللهجات التي نشأت بعد اكتمال نزول القرآن ، كلهجات العرب المستعربة.. أو بسبب تجاوز القرآن تلك اللهجات وقت نزوله كاللهجات الحبشية ، والفارسية ، والرومية.. وعليه ، فإننا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن العلاقة الجدلية بين لغة القرآن الكريم واللغة العربية هي علاقة عام بخاص ، فلغة القرآن أخص من اللغة العربية؛ وذلك لأن لغة القرآن لم تشتمل على جميع لهجات العرب العاربة ناهيك عن لهجات العرب المستعربة ، كما أن لغة القرآن تتميز بكونها فصحى لهجات كبرى القبائل وأجزلها معنى ، وأوقعها في النفس جرساً ، بل أخفها نطقاً على اللسان ، وأعلاها شأناً ومنزلة.
1:1 اشتمال القرآن على ألفاظ أعجمية وعلاقة ذلك بموضوع لهجات القرآن:
ثمة اختلاف بين العلماء – أصوليين ومفسرين ولغويين – قديماً وحديثاً حول اشتمال لغة القرآن الكريم على ألفاظ أعجمية غير غربية في أصلها ، وغير منتمية إلى لهجات القبائل العربية عموماً ، ويمكننا حصر أهم الآراء الواردة في ثلاثة آراء رئيسية هي:
1) رأي يرى أنه ليست في القرآن ألفاظ أعجمية، وكل لفظ فيه عربي أصلاً وفصلاً واستعمالاً ، ويتزعم الشافعي – رحمه الله – هذا الرأي ، وشد نكيره على المخالفين له في هذا عندما قال:
((.. وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن القرآن عربياً وأعجمياَ. والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شئ إلا بلسان العرب. ووجد قائل هذا القول من قَبِلَ ذلك منه ، تقليداً له ، وتركاً للمسألة له عن حجته ، ومسألة غيره ممن خالفه. وبالتقليد أغفل من أغفل منهم ، والله يغفر لنا ولهم…))[6]
وأسهب الإمام الشافعي – عليه رحمة لله – في الرد على مخالفيه ، وتبعه عدد لا يستهان بهم من فطاحلة علماء الأصول من بعده كالباقلاني ، الذي لم يقلّ عن الشافعي تحمساً في رده على المخالفين لهم في هذا الرأي[7].
2) وأما الرأي الآخر ، فيرى أن في القرآن الكريم ألفاظاً أعجمية غير عربية الأصل ، وردوا على جميع ما أورده أصحاب القول الأول من أدلة.
ومن أقوى ردهم ما قاله الإمام الغزالي:
((إن اشتمال القرآن على كلمتين ، أو ثلاث كلمات ، أصلها أعجمي وقد استعملتها العرب ، ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيّاً ، وعن إطلاق هذا الإسم عليه ، فوجود مثل هذه الألفاظ فيه لا يتمهد للعرب حجة؛ ذلك أن الشعر الفارسي يسمى فارسيّاً ، وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس…))[8].
3) ثمة رأي ثالث ينحو أصحابه منحىً توفيقياً بين الرأيين السابقين؛ إذ ينتهي القول بأنه لا خلاف حقيقيّاً بين الرأيين السالفين؛ إذ إن الألفاظ التي اعتبرها أصحاب الرأي الثاني ألفاظاً أعجمية ، إنما ذلك بالنظر إلى أصول تلك الألفاظ ، فقد كانت أعجمية ، ولكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها إلى ألفاظها ، عندئذ صارت عربية ، ثم نزل القرآن والحالة هذه؛ ولذلك ، فمن قال: إن هذه الألفاظ عربية فهو صادق بالنظر إلى ما صارت عليه.. ومن قال: إنها أعجمية ، فهو الآخر صادق بالنظر إلى ما كانت عليه قبل[9]..
هذا ملخص الآراء التي قيلت في هذه المسألة ، وقد أوسع كل طائفة رأي الأخرى جانب النقد والإبطال للاستزادة إلى تفاصيل ذلك في مظانها.
وأيًّ ما كان الأمر ، فإن الباحث ليرى في رأي الطائفة الثانية سداداً ووجاهة وقوة لما يتميز به من تفصيل دقيق ، ونظرة عميقة ، ولكن وجود تلك الألفاظ أو الكلمات في القرآن الكريم لا ينبغي اتخاذها أساساً للقول باشتمال القرآن الكريم على لهجات الأمم ولغاتها؛ وذلك لأنه لا علاقة – في نظر الباحث – بين ورود كلمة أو لفظة أو بضع كلمات وألفاظ في القرآن مجردة غير مصاغة في قالب لهجة وبين اشتمال القرآن أسلوباً واستعمالاً على لهجة من لهجات القبائل ، فاللهجة ليست عبارة عن كلمة وكلمتين أو لفظة ولفظتين ، أو بضع كلمات وبضعة ألفاظ ، ولكنها – كما أسلفنا – عبارة عن أسلوب خاص في أداء الكلمة إلى السامع وفي تركيب الجمل وترتيب المفردات وأدائها وفق قانون يتفق عليه أبناء قبيلة من القبائل ، بحيث يغدو ذلك الأسلوب بعد ذلك صفة لغوية وعادة كلامية لتلك القبيلة ، ومن مجموع لهجات القبائل المختلفة تتألف اللغات ، كما هو الحال في لغة القرآن الكريم التي تألفت من لهجات فصحى القبائل العربية في الجزيرة العربية وشبهها.
وعليه فاشتمال لغة القرآن على كلمة أو لفظة أو بضع كلمات وألفاظ أصولها أعجمية لا علاقة له باشتماله على لهجات القبائل العربية الفصحى التي أشرنا إليها من ذي قبل. فاللهجة – كما أسلفنا – أسلوب مقنن في أداء الكلام وفي التعبير ، ويتألف من مجموع الكلمات والألفاظ.
2 : 1 لهجات القبائل التي تتألف منها لغة القرآن الكريم:
ليس من اليسير حصر اللهجات التي وردت في القرآن الكريم في عدد معين ، بل من المتعذر الوصول إلى قول فيصل في هذه المسألة التي حظيت في وقت مبكر باختلاف الآراء وتعدد وجهات النظر ، ولعل مرد هذه الاختلافات برمتها إلى ذلك الحديث الشهير المتفق عليه الذي يرويه عدد من الصحابة – رضي الله عنهم – بطرق مختلفة عن ان الرسول – عليه الصلاة والسلام – قال: ((أقرأني جبريل على حروف فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف))[10] وفي رواية أخرى شهيرة عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: سمعت هشاماً بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاستمعت لقراءته ، فإنه يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكدت أساوره في الصلاة ، فانتظرته حتى سلم ، ثم لبيته بردائه أو بردائي ، فقلت: من أقرأك هذه السورة ، قال: أقرأنيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت له: كذبت ، فوالله إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقرأني هذه السورة متى سمعتك تقرؤهها ، فانطلقت أقوده إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أرسله يا عمر: اقرأ يا هشام ، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((هكذا أنزلت)). ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه)) متفق عليه ، وهذا اللفظ للبخاري[11].
فهذا الحديث على الرغم من شهرته وبلوغه درجة التواتر المعنوي عند الإمام أبي عبيد بيد أن تحديد المراد بالأحرف فيه قد كان ولا يزال حتى هذه اللحظة محل نزاع واختلاف بين العلماء من قديم الزمان إلى وقتنا الحاضر ، ولعل من أهم الآراء التي قيلت في تحديد المراد بالأحرف ما ينسب إلى الأئمة أبي عبيدة ، وأبي حاتم السجستاني ، والطبري وغيرهم**من أن المراد بها هي لهجات القبائل التي تشتمل عليها لغة القرآن ، والتي تعرف بكونها أفصح لهجات القبائل العربية وقت نزول القرآن الكريم ، وقد استند أرباب هذا القول على جملة من الأدلة والحجج العلمية التي كانت محل اعتراض ونقد.
وإذا ما جال المرء نظراً ثاقباً فيما أورده المعترضون على هذا الرأي ، فسيجد أن أهم اعتراض وأعمقه يرتكز على القول باشتمال القرآن الكريم على لهجات أخرى لقبائل خارج القبائل العربية السبعة الفصحى ، مما يؤكد على عدم إرادة اللهجات بالأحرف في الحديث ، ثمة جملة من الاعتراضات على هذا الرأي عني الشيخ الزرقاني بسردها في كتابه ((مناهل العرفان في علوم القرآن)). وأيّاً ما كان الأمر ، فإننا لا نرى من جدوى في فصل القول في المعنى المراد بالأحرف السبعة في الحديث[12] ولكنا نعتقد أن ثم بصيصاً من نور الصواب يخالج رأي القائلين بأن المراد بالأحرف في الحديث هي لهجات أفصح القبائل العربية عند نزول القرآن؛ وذلك لأن سياق عدد من روايات الحديث يدل على ذلك دلالة غير مباشرة ، بل إن الناظر في جل الآيات القرآنية التي أكدت نزول القرآن الكريم باللسان العربي يجد صفة الإبانة ملازمة للسان كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرْ لِسَان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين) (النحل 103) ، وكذلك في قوله في آية أخرى مؤكداً على صفة الإبانة: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين نَزَلَ بِهِ الرُّوحَ الْأَمِين عَلَى قَلْبِكِ لِتَكُونَ مِنَ الْمٌنْذرِين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِين) (الشعراء 192 – 195). والإبانة عند علماء اللغة هي الفصاحة ، وهذا يؤكد انتقاء الأسلوب القرآني واشتماله أفصح لهجات القبائل العربية أيامئذ.
ولئن اختلف أرباب هذا الرأي في تعيين تلك القبائل في ذلك الحين ، فإن ذلك لا يدل على وهن أو ضعف في هذا الرأي ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء الذين رفضوا هذا الرأي معللين بأن ((القبائل العربية الواردة لغاتها (لهجاتها) في القرآن الكريم لا يصح تقييدها بعدد معين ، وقد بلغت في كتاب أبي عبيد ((لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم)) بضعاً وثلاثين))[13] ، فهذا الاعتراض نخال صاحبه قد أخطأ الرمية وليس بالوجيه في شيء؛ وذلك لأن ما أورده أبو عبيدة في كتابه الموسوم ((لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم)) لا يتعارض في شيء مع ما نحن بصدده هنا ، ولا علاقة له البتة بمفهوم اللهجة التي هي عبارة – كما أسلفنا – عن أسلوب أداء الكلمة إلى السامع ، وتتألف من مجموعة الصفات اللغوية المنتمية إلى بيئة خاصة يشترك فيها جميع أفراد تلك البيئة ، وهي أيضاً – كما قلنا – عبارة عن الطريقة المتفق عليها لدى قبيلة من القبائل في التعبير بحيث تقوم تلك الطريقة على التأليف بين المفردات والجمل من ناحية ، واختيار طريقة معينة في أداء الكلام إلى السامع من ناحية أخرى.
وأما صنيع الإمام أبي عبيدة في كتابه ، فقد كان عبارة عن التركيز على معاني الكلمات القرآنية عند مختلف القبائل والأمم العربية والأعجمية على حد السواء ، ولم يعن قط بالتركيز على الأسلوب الذي وردت فيه تلك الكلمات ، والطريقة التي استعملت بها تلك الكلمات؛ بل إن المرء ليجد في أحيان كثيرة الإمام أبا عبيد يركز تركيزاً على تحديد معنى الكلمة عند قبيلة من القبائل مجردة عن السياق الذي ترد فيه تلك الكلمة ، وعن الصياغة التي تودي فيها الكلمة ، ويعتبر هذا الأمر في نظرنا أقرب إلى أن يكون إبرازاً لمعاني بعض الكلمات والمفردات لدى القبائل وأمم الأرض الحاضرة وقت نزول القرآن ، ولا شك أن هذا الصنيع من الإمام أبي عبيد محل نظر؛ وذلك لتعذر معرفة أول قبيلة استخدمت الكلمة قبل القبائل الأخرى؛ إذ بإمكان كل قبيلة أن تذهب إلى القول بأنها هي أول من استعملت الكلمة الفلانية ، ولقبيلة أخرى أن تعارضها في ذلك ، مما يعني أن القطع باعتبار كلمة فارسية أاو عبرانية أو سريانية لا يعدو أن يكون توسعاً في ادعاء الأولوية والسبق في قضية يصعب الفصل فيها بين المتعارضين. وأضف إلى هذا أنه قد تكون الكلمة مشتركة بين أكثر من قبيلة ، مما يعني أن حصر انتمائها إلى قبيلة دون أخرى أمر لا يشهد له واقع تاريخي متزن.
وأيّاً ما كان الأمر ، فإن صنيع أبي عبيد لا يصلح للاعتراض على القائلين بنزول القرآن في أفصح لهجات القبائل العربية؛ وذلك لأن اشتمال القرآن على كلمة أو لفظة لقوم أو قبيلة أو أمة يختلف عن اشتماله لهجة من لهجات القبائل ، فعلاقة اللهجة في نظرنا بالسياق والأسلوب آكد من علاقتها بمعاني المفردات والكلمات والألفاظ.
ولئن ظل المعترضون متمسكين بوجود عدد من اللهجات يفوق اللهجات السبع ، فإنه من المقرر عند بعض العلماء كالقاضي عياض ومن تبعه أنه لا يراد بالعدد الوارد في الحديث حقيقته ، وإنما هو كناية عن الكثرة في الآحاد كما أن السبعين تستعمل كناية عن الكثرة في العشرات ، والسبعمائة كناية عن الكثرة في المئات..[14] الأمر الذي ينفي وجود إشكالية بين اشتمال القرآن الكريم على اللهجات السبعة وبين ورود لهجات أخرى غير السبع في القرآن الكريم. وبغض النظر عن صحة هذا التأويل ، فإن الحقيقة التي لا يمارى فيها هي أن لغة القرآن تتألف من أفصح لهجات القبائل من حيث الجملة ، فتوافر معيار الفصاحة في لهجة من اللهجات أساس في اشتمال لغة القرآن عليها؛ ولهذا ، فقد كانت ميزة الفصاحة والبلاغة والبيان – دوماً وأبداً – من أهم مزايا الأسلوب القرآني؛ إذ لم يرد فيه قط لهجة يمكن وصمها بعدم الفصاحة[15].
ومهما يكن من شيء ، فإننا نخلص إلى تقرير حقيقة مفادها: أن اللهجات التي اشتملتها لغة القرآن قد كانت أفصح لهجات القبائل آنذاك ، ونقرر أيضاً أن ثمة تداخلاً بين لهجات القبائل مما يجعل الاختلاف في تعيين القبائل التي اشتملت لغة القرآن الكريم لهجاتها خلافاً نظرياً غير جوهري. وإذ الأمر كذلك ، فإنه لحرى بنا أن نلقي نظرة في القبائل التي تتألف من لهجاتها لغة القرآن ، وهي:
قريش ، وهذيل ، وتميم ، والأزذ ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد بن بكر ، وثقيف ، وخزاعة ، وأسد وضبة وألفافهما ، وتميم وقيس ومن انضاف إليهما.. وتذهب جماعة ثالثة إلى القول بأنها هي: قريش ، وكنانة ، وأسد بن خزيمة ، وهذيل ، وتميم أو تيم الرباب ، وضبة ، وقيس[16].
إن النظرة التحليلية الفاحصة في هذه الأقوال الواردة حول القبائل السبع نجد أن ثمت اتفاقاً على قبائل ثلاثة وهي: قريش ، وهذيل ، وتميم ، وأما القبائل الأخرى ، فقد تنوزع فيها ، والذي يبدو لنا أن ذلك النزاع في واقع أمره ليس من المتعذر التأليف بين هذه الآراء ، وذلك انطلاقاً من اعتبار وجود تداخل ملحوظ بين بعض القبائل ، وبمعرفة العلائق بين القبائل بعضها ببعض ، كعلاقة تميم بقيس ، وبضبة ، وبأسد بن خزيمة يستطيع المرء أن ينتهي إلى اعتبار هذه القبائل قبيلة واحدة ذات أفخاذ أربعة بدلاً من أربع قبائل ، كما هو الحال في لهجة قريش التي هي عبارة عن معظم لهجات قبائل الحجاز ، ولكنها تشتهر بلهجة قريش ، وبناء على هذا يمكننا أن نقلص لهجات القبائل في الآتي:
قريش ، وهذيل ، وتميم ، وكنانة ، وسعد بن بكر ، وهوازن ، وثقيف ، فهذه القبائل السبعة يمكن اعتبار لهجاتها مجتمعة لغة القرآن الكريم ، وإذا ما وردت لهجة في كتابات العلماء منسوبة إلى قيس ، أو أسد ، أو ضبة ، فإنها يمكن اعتبارها لهجة تميم بوصفها اللهجة الأم لقيس وضبة وأسد وغيرها من لهجات أهل نجد ، وبهذا يتم حل الإشكال المتمثل في احتمالية وجود لهجات مختلفة في القرآن الكريم عن اللهجات السبع التي أشرنا إليها.
وإذ الأمر كذلك ، فإننا نخلص إلى القول بأن لغة القرآن الكريم عبارة عن لهجات تلك القبائل السبع ، وما اعتبرت لهجة لغيرها من القبائل ، فإنها تؤول في نهاية أمرها إلى لهجة إحداها ولا محالة.
ولسائل أن يتساءل عن المقاصد الشرعية إزاء اشتمال القرآن في أسلوبه على لهجات تلكم القبائل المذكورة؟ وقبل الإجابة عن تساؤل منهجي – كهذا – فإننا نستعجل القول بأن ما قلناه لا يتعارض مع الشائع لدى الناس من أن القرآن الكريم قد نزل بلغة قريش ، وذلك لأن المراد بهذا الأمر في نظرنا التغليب ليس إلا ، نعني أن جل نصوص القرآن الكريم قد نزل بلهجة قريش ، ولكن جزءاً آخر لا يستهان به قد نزل بلهجة غيرها من القبائل ، كلهجة كنانة ، ولهجة هذيل ، وغيرها من اللهجات. وعليه فلا تعارض في واقع الأمر بين هذا الشائع وما نسعى إلى تقريره في هذا الموضوع.
2- مقاصد الشريعة في تعدد لهجات القرآن الكريم
ليس من الأمر الهين ادعاء حصر مقاصد الشريعة في تعدد لهجات القرآن في بضعة مقاصد ، بل ليس بوسع أحد أن يختلف إلى القطع في هذه المسألة ، وكل ما يمكننا فعله هو الإشارة إلى بعض من تلك المقاصد على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ، وعليه ، فنقول:
1 : 2 الحفاظ على اللهجة التي قطعت شوطاً في انتقاء أفصح اللهجات وتلقتها بقية القبائل بالقبول:
إن لهجة قريش قد كانت قبيل نزول القرآن الكريم أفصح لهجات القبائل العربية ، وأعلاها شأناً؛ وما ذلك إلا لـ ((.. أن قريشاً كانوا ينزلون من مكة بواد غير ذي زرع لا يستقل أهله بتكاليف الحياة… وكانت الكعبة – شرفها الله – وجهة العرب ، وبيت حجهم قاطبة في الجاهلية ، فكان لكل قبيلة منهم صنم يحجون إليه.. وكانت تلك القبائل بطبيعتها متباينة اللهجات ، فكان قريش يسمعون لغاتهم ، ويأخذون ما استحسنوه فيديرون به ألسنتهم.. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها..))[17] وغدت لهجتها بعدئذ أفضل لهجات القبائل العربية ، وأحسنها مسموعاً ، وأبينها إبانة عما في النفس؛ ولهذا فلم يكن ثم عجب أن ينزل القرآن في شطر كبير من نصوصه في هذه اللهجة التي اجتمعت فيها جل حسنات لهجات القبائل العربية ، وأصبحت أفصحها وأكثرها تقبلاً لدى معظم القبائل ، ولم يكن الأسلوب القرآني بحاجة إلى إعادة بناء هرم من فصيح اللهجات مخالفاً لما تعوده الناس ، وألفوه؛ ولذلك فقد كفت لهجة قريش الأسلوب القرآني في هذا الأمر ، وتحقق فيه ما تحقق في الجانب التعبدي الأخلاقي من الحاجة إلى التكميل بدلاً من التأسيس من صفر ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
2 : 2 تطوير معيار منهجية لانتقاء الفصحى من لهجات القبائل بحيث يتم إضافة لهجات لم تدرج ضمن اللهجات الفصحى التي اختارتها قريش إما لكونها غير فصحى في المفهوم القرشي للفصحى ، وإما للنظرة الدونية إلى أرباب تلك اللهجات ، وإما لأي شئ آخر: لئن قدرت قريش على أن تقطع شوطاً في التنقيب عن أفصح اللهجات وأبينها من لهجات قريش ، فإنها في جميع أحوالها لم تبلغ الحد النهائي في اختيارها سائر الفصحى من اللهجات ، بل إنه ليس من مستبعد أن تذهب بها الحمية أو العصبية أو غير ذلك إلى تجاوز لهجات واعتبارها لهجات غير فصحى ، والحال أن تلك اللهجات تتوافر فيها الفصاحة التي تتوافر في غيرها من اللهجات المنتقاة؛ ولذلك ، فما كان الأسلوب القرآني ليكتفي بتقرير ما أقرته قريش ، ولا العكوف عند ذلك الحد ، بل ما كان الأسلوب القرآني – في الوقت نفسه – أسلوباً يتجاوز القدر الفصيح الذي اعتمدته قريش واستوعبته من اللهجات ، بل بدلاً من ذلك لاذ بضم لهجات ربما ترفعت قريش عن تقبلها ، واعتبرتها في عداد غير الفصيح من اللهجات ، ويمكن للمرء أن يلمس خيوطاً رفيعة تؤكد على اختلاج هذا الشعور قريشاً في تعامل الفاروق عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه – القرشي مع هشام بن حكيم[18] عندما استنكر قرائته واعتبرها فحشاً ولحناً ، ليس لأي سبب إلا لكونها قراءة مشتملة على طريقة لأداء الكلمات غير مقبولة لدى قريش. بل إن المرء ليستطيع أن يكشف عن هذا الجانب النفسي في تعامل قريش مع لهجات القبائل الأخرى في اعتراض أبي بن كعب – رضي الله عنه – هو الاخر على قراءة ذينكما الرجلين اللذين لا نشك في كونهما غير قرشيين ، ولا نرتاب في كون قراءاتهما مخالفة للهجة القرشية التي تشبع منها أبي بن كعب – رضي الله عنه[19]. ولئن سلكت قريش في تعاملها مع لهجات القبائل منهج استيعاب ما يروق لها من لهجات القبائل وما تعتبره الفصيح ، ثم هضم تلك اللهجات وضمها إلى لهجتها ، فإنها قد انتهجت في نظرنا منهجاً آخر يتمثل في استيعاب لهجات القبائل الوافدة ، فالاستنكاف عن هضمها ، وربما اعتبرتها مستقبحة غير فصيحة.
وقد كان منطلق قريش في كلا المنهجين قائماً على استشعارها مكانتها بين القبائل والتي تميزت في أكثر الأحيان بالترفع والتعالي والتسامي؛ ولهذا يمكننا القول بأنه تصحيحاً للمنهج القرشي في انتقاء الفصحى من اللهجات وهضمه ، وتوسيعاً لدائرة اللغة الفصحى ، بل تجاوزاً الحد الذي توقفت عنده قريش اقتضت الحكمة الإلهية على ألا ينزل القرآن الكريم برمته في لهجة قريش ، وعلى أن يشتمل الأسلوب القرآني على لهجات قبائل أخرى ليقضي القرآن بذلك على نزعة الترفع ، ونظرة التعالي لدى قريش وغيرها من قبائل العرب ، ولا يخفى ما في هذا الأمر من تأليف لقلوب أرباب تلك اللهجات ، وانتقال بهم من مؤخر الصفوف إلى مقدمتها ، إذ أكرم بالقرآن الكريم سجلاً خالداً يكسو اللهجة ثوب الفصاحة والمكانة بين اللهجات.
3 : 2 ضبط الإطار العام للغة العربية الأم الفصحى التي لا تجارى ولا تضاهى وإنما تقتدى:
إن القرآن الكريم قد جاء مؤصِّلاً للإطار العام للغة التي ينبغي لها أن تغدو اللغة الأم الفصحى لسائر القبائل القائمة واللاحقة ، ومن شأن المؤصل والمؤسس مراعاة الواقع المعاش ، والانطلاق من النظرة الكلية لا الجزئية بحيث يصبح ما يرسيه قاعدة وأصلاً لسائر الناس ، وهذا الجانب المنهجي في التأسيس والتأصيل قد راعاه الأسلوب القرآني عند اشتماله على فصحى لهجات القبائل العربية من ناحية ، وعند تعديله من مفهوم الفصاحة لدى قريش؛ إذ جعل للفصاحة معياراً مختلفاً من حيث النتائج عن المعيار الذي كانت قريش تعتمده في الانتقاء والتلفيق والاختيار. الأمر الذي يمكن تفسيره بضبط الإطار النظري العام للغة الفصحى؛ ولهذا فما كان للأسلوب القرآني – وهو المؤطر لهذا الإطار – ليغفل هذا الجانب ، فيتجاهل لهجات القبائل ، ويقف عند لهجة قريش أو غيرها فقط ، وإنما بدلاً من ذلك انطلق الأسلوب القرآني مؤصلاً ومؤسساً للإطار العام للغة النموذجية الصالحة للقياس عليها واتخاذها أصلاً لكل تقعيد وتصحيح ، وهذا المقصد ينسجم مع قول أولئك الذين نفوا أن يكون المراد بالأحرف السبعة حقيقة العدد ، وإنما ذكر ذلك العدد من باب الدلالة على الكثرة ليس إلا.. ويمكن للمرء أن يلمس أثر هذا المقصد على كثير من القواعد النحوية التي اعتمدتها بعض المدارس النحوية في التقعيد ، إن اعتماداً شبه كلي كما الحال في مدرسة الكوفة ، أو اعتماداً جزئياً كما هو الحال في مدرسة البصرة. وقد أورثت نسبة الاعتماد على هذا الجانب كلتا المدرستين مزايا وخصائص ، من أهمها: التوسع في التأويل المتنطع والتخريج المتكلف كما هو الطابع الغلب على مدرسة البصرة ، أو عدم التوسع في الأمرين المذكورين كما هو الطابع الغالب على مدرسة الكوفة ، وعدم اللجوء إليهما إلا في نطاق الضرورة كما هو الحال لدى كثير من رواد مدرسة مصر.
ومهما يكن من شئ ، فإن هذا المقصد الكلي مرعى في الشريعة الإسلامية على سائر المستويات العقدية والأخلاقية والعملية ، فأما على مستوى الأحكام العملية فإن ضبط إطار العمل الحسن أو القبيح لم يعد شئناً متروكاً للحس الإنساني أو العقل البشري ، بحيث ينحصر الحسن أو القبيح فيما حسنه أو قبحه ، بل غدا تحديد الحسن والقبيح – بعد ورود الشرع – أمراً موكولاً إلى الشرع ، فالشرع وحده هو الذي يملك سلطة رسم الخطوط الفاصلة بين حسن الأفعال وقبيحتها. وأما على مستوى العقائد والأخلاق ، فإن للمرء أن يلحظ حضور هذا المقصد؛ إذ إن الشرع قد عنى بتأطير الحدود التي يقوم عليها الاعتقاد الصحيح ، وبوضع المقاييس والمعايير الثابتة للخلق الفاضل الحرى بالتحلي ، ولم تعد مهمة رسم حدود العقيدة الصحيحة ، أو الإطار العام للخلق الحميد متروكاً لأذواق الناس ورغباتهم. وقد انتهج الشرع في تحقيق هذا المقصد على جميع المستويات المذكورة منهج المراجعة والتصديق ، إذ راجع جملة من الأفعال والعقائد والأخلاق مراجعة جذرية ، فنبذ ما كان منها جائراً بائراً ، وااعتمد ما كان منها صالحاً للبقاء والدوام ، وثلث ذلك بتأصيل الأطر العامة لهذه القضايا كلها واضعاً بذلك النهاية لكل ادعاء أو خروج أو تمرد على مقاييسه ومعاييره ، وقد تم تحقيق هذا الأمر للشرع بوصفه المهيمن المطلع على ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى قيام الساعة.
وبناء على هذا ، فإنه ليس بوارد أن يكون الشرع قد استبعد هذا المقصد الكلي في اشتمال القرآن الكريم على فصحى لهجات القبائل ، وسعيه من وراء ذلك إلى وضع ضابط الفصحى وتحديد الإطار العام للغة الفصحى النموذجية. ولئن غاب استكشاف هذا الجانب في الدراسات اللغوية والنحوية بسبب عدم ربط النحاة بين المقاصد الإلهية في هذا الشأن والقواعد النحوية ، فإن ذلك لا يعني عدم وجود هذا الأمر على مستوى القواعد.
وعلى كل ، تلك جملة من المقاصد الكلية وراء اشتمال القرآن على فصحى لهجات القبائل ، وليس ثم ريب أن هنالك مقاصد أخرى كثيرة ، ولكننا نرى أن السير قد يطول بنا إذا حاولنا الوقوف عليها كلها؛ ولذلك فإننا نرى أن ما أوردناه ، فيه الغنى والكفاية ، وتعتبر – في نظرنا المتواضع – من أمهات تلك المقاصد العلية. وعليه ، فإنه حرى بنا أن نتسائل عن مدى استحضار علمائنا النحاة هذه المقاصد وغيرها عند تقعيدهم وضبطهم القواعد النحوية ، وأن نتحقق من مدى مراعاتهم هذه الأسس في التأصيل والتقعيد.
3. حركة التقعيد النحوي ولغة القرآن الكريم
نروم من حركة التقعيد المدارس النحوية التي رامت من منتصف القرن الأول الهجري وضع قواعد وضوابط لتسهيل فهم القرآن الكريم ، وتوضيح ما غمض وانبهم من الألفاظ لمن لم تكن ألسنتهم عربية في الأصل ، كما نروم منها تلكم الجهود الجبارة التي نهض بها الغير في صيانة لغة القرآن الكريم ، وحمايته مستقبلاً من كل تحريف أو تبديل خدمة لهذا الكتاب العظيم. شأن تلك الحركة العلمية كشأن بقية الحركات العلمية التي نشأت مستهدفة تيسير فهم النص الشرعي – قرآناً وحديثاً – وتوضيح معانيه للناس ، كما هو الحال في علم الفقه ، وعلم الأصول ، وعلم البلاغة وغيرها من العلوم التي دونت ولا تزال تدون خدمة لكتاب الله العزيز.
1 : 3 ولئن نسج بعض المؤرخين حول نشأة النحو صوراً من الأخبار تنتهي إلى القول بنشأة النحو نشأة فجائية بسبب حادثة لحن سرت إلى مسمع أحد التابعين – أبي الأسود الدؤلي – من ابنته أو أخته أو جارته[20] بل لئن ذهب الذاهبون إلى اعتبار زياد بن أبيه قد استهدف من وضعه النحو القضاء على اللحن الذي شاع أمره وفشا خطره في مملكته[21] فإنه مما لا يُشَكُّ فيه أن تلك الأخبار بجملتها وتفاصيلها لا تخلو من أن تندرج تحت جملة الأساطير التي نسجها وأشاع أمرها القصاص ورواة الغرائب واللطائف والنكت في دنيا الناس؛ وذلك لأنه لو كانت مواجهة اللحن في اللغة هي الغاية من نشأة النحو ، فإن المنطق يقتضي أن ينشأ النحو في فترة مبكرة؛ وذلك لأن اللحن قد وجد قبل حادثة تلك الجارية ، بل من المتفق عليه أن الإنسان في حقيقته ينشأ مع اللحن ، ويمكن ملاحظة ذلك في لغة الطفل أيام الطفولة ، فالمراهقة ثم الشباب… بل لو أن سبب النشأة يعود إلى تلك الحادثة ، فقد كان بالأمر اليسير معالجتها كما يعالج لحن الطفل ، وليس من حاجة إلى استنهاض جيش بكامله في مواجهة حادثة كهذه.
ولهذا فإنه لا يخالج الباحث ذرة من شك في كون تلك الأخبار أساطير غير علمية وغير ذات بال ، وكل ما يمكن قوله هو أن علم النحو نشأ كغيره من العلوم نشأة طبيعية ومرت بما تمر به كل العلوم من مرحلة اجتنان ، ومخاض ، وولادة ، وطفولة وشباب إلخ… وليس صحيحاً في شيء أن يكون قد نشأ نشأة فجائية دون أن تسبقها إرهاصات.
وعليه ، فكل ما يهمنا التأكيد عليه هو تلك الرغبة الصادقة التي دفعت الأجيال التي نمت على سواعدها أركان هذا العلم إلى تدوين هذا العلم ليغدو كغيره من علوم القرآن علماً يسهِّل فهم المراد الإلهي من نصوص كتابه لكل متدبر ، ويصون حماه من كل ما هو مستقبح من الألفاظ والأساليب ، ويمكن للمرء أن يلمس هذه الرغبة واضحة في اعتبار المدارس النحوية باختلاف مواقعها – البصرية والكوفية والبغدادية والشامية والمصرية – القرآن الكريم أحد مصادر التقعيد والتأصيل.
2: 3 وإذا كان ثم اتفاق بين المؤرخين على اعتبار مدرسة البصرة أولى المدارس النحوية وأقدمها نشأة ، بل لئن كان هنالك اتفاق على وجود أسباب علمية واجتماعية وسياسية وراء نشأة هذه المدرسة البصرية ، فإن للمرء أن يستقرئ ذات الأسباب العلمية المنهجية والاجتماعية والسياسية وراء نشأة بقية المدارس النحوية ، بل للمرء أن يتعرف على الجديد الذي رامت المدارس النحوية استدراكها على المدرسة البصرية العتيدة. وليس من ريب في أن الوقوف على هذه الجوانب التاريخية لخير مساعد على فهم مناهج المدارس وخصائصها وأهدافها. وبما أن المقام لا يتسع لأن نوسع هذه الأمور جانب التفصيل والتوضيح ، فإننا سنكتفي بالتعرف على جزء هام من التساؤل الأول ، وهو الأسباب المنهجية الكامنة وراء نشأة المدارس النحوية بعد المدرسة البصرية.
3: 3 إن منهجية المدرسة البصرية في تقعيد القواعد النحوية يمكن استيعابها من خلال النظر المتأمل في مصادر التقعيد التي اعتمدتها.. ويمكن تلخيصها في المصادر التالية:
أ. القبائل البدوية التي لم تختلط بغيرها من الأمم ، وهي القبائل التي كانت تعيش في قلب الجزيرة العربية كقريش التي كانت أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ ، وقبائل العرب من قيس وأسد ، وهذيل ، وكنانة ، وبعض الطائيين… وتتميز هذه القبائل بالتعمق في التبدي ، والالتصاق بحياة البادية ، وهم أهل شيح وقيصوم وحرشة ضباب ، بل أكلة يرابيع ، وقد حددهم الفارابي عندما قال منبهراً: ((.. والذين نقلت عنهم اللغة العربية ، وبهم اقتدى ، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب ، هم قيس وأسد ، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه ، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب ، ثم هذيل ، وبعض كنانة ، وبعض الطائبين ، ولم يؤخذ عن غيرهممن سائر قبائلهم.. وبالجملة ، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط..))[22]. فما تكلمت به هذه القبائل من لغة – نثراًأو شعراً – ينبغي اتخاذها أصلاً للقياس ، ومصدراً للغة الفصحى ، وأما ما عداها من القبائل التي جاورت الأمم الأخرى ، واختلطت بها ، وسكن البراري ، وغدت تأكل الشواريز ، وتبيع الكواميخ ، فإن لغتها لا يحتج بها ، ولا يصلح للقياس عليها البتة ، وبناء على ذلك ، فلا تؤخذ اللغة من لخم ولا من جذام لمجاورتها أهل مصر ، ولا من قضاعة ، أو غسان أو إياد لمجاورتها أهل الشام ، ولا من تغلب ، أو بكر لمجاورتها النبط والفرس إلخ ..[23].
ب. القرآن الكريم في بعض قراءاته:
ليس صحيحاً ما يشاع عن مدرسة البصرة من عدم احتجاجها بالقرآن الكريم ، وعدم اتخاذها قراءاته – جملةً وتفصيلاً – أصلاً من أصول القياس ، ولكن الصحيح أن استقراء هذه المدرسة لقراءات القرآن الكريم المتعددة كان ناقصاً نقصاً واضحاً؛ مما جعل عدداً من الناس يخيل إليهم أنهم لا يعتمدون القرآن الكريم أساساً للتقعيد والتأصيل ، بل الأسوأ من ذلك أن كثيراً من رجالات هذه المدرسة ربطوا الاحتجاج بالقراءات القرآنية بموافقتها شعراً أو كلاماً من أشعار وكلام القبائل البدوية السالف ذكرها ، فإذا لم يكن للقراءة شاهد من شعر شاعر جاهلي أو كلام منسوب إلى أولئك القبائل المتعمقة في التبدي لا يلتفت إليها ، ولا يحتج بها البتة ، بل لا يشك في ضعفها وشذوذها بغض النظر عن سندها الذي قد يكون متواتراً أو مستفيضاً عند القراء.
إن هذا القيد الذي ربطوا به الاحتجاج بالقرآن الكريم جلب لمنهجهم في التقعيد نقوداً لاذعة ، وجعله مجالاً لتحاملات واسعة النطاق والآفاق من قبل العلماء قديما وحديثاً ، فها هو الإمام الظاهري الفقيه اللغوي الأديب المحدث ابن حزم يوسعه جانب النقد والانتقاد قائلاً:
((.. من النحاة من ينتزع من المقدار الذي يقف عليه من كلام العرب حكماً لفظياً ، ويتخذه مذهباً ، ثم تعرض له آية على خلاف ذلك الحكم ، فيأخذ في صرف الآية عن وجهها.. ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح ، أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة ، وقطع به ، ولم يعترض فيه ، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لم يلتفتإليه ، ولا جعله حجة ، وجعل يصرفه عن وجهه ، ويحرفه عن موضعه ، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه ..))[24].
وأما الرازي ، فقد عبر عن دهشته من هذا المنهج المعوج ، فقال:
((.. إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى ، وكثيراً ما ترى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم ، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقها دليلاً على صحتها ، فلأن يجعلوا ورود القرآن دليلاً على صحتها كان أولى ..))[25] وأما الدكتور الأنصاري ، فقد تحامل عليهم تحاملاً مبالغاً ، وشدَّ نكيره عليهم أيما شدة فقال:
((.. ألا ترى معي أن النحويين بوجه عام ولا سيما البصريين قد جاوزوا الحد المعقول ، وأسرفوا على أنفسهم في اللغة وفي الدين.. فأي منهج لغوي سليم يهدر قدراً كبيراً من شواهدها الموثوق بها دون أن يدخلها تحت القاعدة العامة؟ ولو كان إدخال هذه الشواهد يهدم القواعد هدماً تاماً إذا لالتمسنا لهم المعاذير .. وقلنا: إن اللغة تحتاج إلى شئ من التقعيد .. وكل الذي يحدث هو أن تتسع القاعدة فتشمل جميع الوارد من الشواهد .. ولكن العصبية تعمي وتصم .. فلا يسمع المتعصبون نداء العقل والدين والمنهج السليم ..[26] وأما المحقق الشيخ سعيد الأفغاني ، فقد وصف هذا الاضطراب المنهجي هازئاً عندما قال:
((.. يريدون بناء قواعدهم – يقصد البصريين – على كلام العرب ، فيجمعون نتفاً نثرية وشعرية من هذه القبيلة ومن تلك ، ومن أعرابي في الشمال إلى امرأة في الجنوب ، ومن شعر لا يعرف قائله إلى جملة غير منسوبة ، يجمعون هذا إلى أقوال معروفة مشهورة ، ويضعون قواعد تصدق على أكثر ما وصل إليهم بهذا الاستقراء الناقص الذي لا يستند إلى خطة محكمة في الجمع ، ثم يسددون هذه القواعد بمقاييس منطقية يريدون اطرادها في الكلام ، حتى إذا أتت بعضهم قراءة صحيحة السند تخالف قاعدته القياسية طعن فيها ، وإن كان قارئها أبلغ وأعرب من كثير ممن يحتج النحوي بكلامهم! فلا استقراؤه كامل أو كافٍ ، ولا لشواهده التي استند إليها بعض ما للقراءة الصحيحة من القوة ، ولا اللغة تخضع للمقاييس المنطقية التي ابتدعها ..))[27] ولئن كان ذلك هو موقفهم من مصدرية القرآن بقراءاته المتواترة وغير المتواترة في التقعيد ، فماذا عسى أن يكون موقفهم من الحديث النبوي ، وخاصة أن النص القرآني قد أوفى على قمة الفصاحة والبلاغة والبيان ، وانتقى في أسلوبه فصحى لهجات القبائل ، سواء كانوا من أكلة اليرابيع أو من باعة الكواميخ ، ولكن مع كل ذلك كان لهم ذلك الموقف غير المشرف ، فماذا عسى أن يكون موقفهم من الحديث النبوي والحال كذلك؟
4: 3 الحديث النبوي والتقعيد النحوي:
وأما الحديث النبوي الشريف ، فقد استبعده نحاة البصرة – عن بكرة أبيهم – جملةً وتفصيلاً من دائرة الاحتجاج والاستشهاد به ، واختلقوا لذلك عذراً يعوزه الدقة والسلامة ، والسداد ، فقالوا: إن من الثابت كون الحديث النبوي يروى بالمعنى حيناً ، وباللفظ حيناً آخر ، ونظراً لتعذر معرفة المروي منه بالمعنى من المروي باللفظ تجاوزوا الاحتجاج بأي حديث نبوي مطلقاً تغليباً لجانب الرواية بالمعنى على جانب الرواية باللفظ ، وفي ذلك يقول أبو الحسن بن الضائع في (شرح الجمل) معللاً ومدافعاً عن نحاة البصرة ومن سار على نهجهم في هذا الموضوع:
((.. تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث ، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب ، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه أفصح العرب ..))[28]. وأما أبو حيان ، فقد دافع وعلل عدم الاحتجاج بالحديث النبوي قائلاً: ((.. إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية؛ وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى .. الأمر الثاني إنه وقع اللحن كثيراً فيما روى من الحديث ، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو ، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك ..))[29].
إذاً خلاصة القول هي أن مدرسة البصرة اكتفت باعتماد لغة القبائل البدوية غير المتاخمة للأمم الأجنبية – نثراً وشعراً – مصدراً للقياس ، كما اعتمدت اعتماداً صورياً على صريح النقل من القرآن الذي يشهد له شعر أو كلام من لغة القبائل البدوية غير المختلطة بالأمم الأجنبية. وأما الحديث النبوي ، فقد تجاوزوه ، ورفضوا الاحتجاج به بله التقعيد عليه. وبناء على ما سبق ، فإنه يمكننا القول بأن لقياس المدرسة البصرية في واقع أمرها مصدرين: أحدهما مصدر أصيل ووحيد وهو لغة القبائل البدوية التي لم تختلط بالأمم الأجنبية ، وأما الآخر ، فهو ثانوي ، وهو القرآن الكريم وبتعبير آخر بعض قراءات القرآن التي لها شعر أو كلام منثور من لغة تلك القبائل البدوية الخلص.
4) المنهجية البصرية في التقعيد ودورها في نشأة المدارس النحوية الأخرى
تلك هي المنهجية التي انتهجتها مدرسة البصرة في التقعيد ، وقد لقيت قبولاً لدى جماعة من النحاة ، كما حظيت بالمقابل بجملة من الانتقادات المنهجية والعلمية عند كثير من العلماء المحققين ، شأنها في ذلك شأن كل المناهج البشرية التي تخضع للاختبار والتجريد. وأما أهم الانتقادات المنهجية التي تؤخذ على هذه المدرسة ، فيمكن حصرها في ثلاثة أخلال ، وهي:
أ. الاستقراء الناقص الجلي لمصادر التقعيد المعتمدة لدى المدرسة ، سواء على مستوى المصدر الأصلي وهو لغة قبائل البدو ، أو على مستوى المصدر الثانوي وهو بعض قراءات القرآن المتواترة؛ إذ إنه قد فاتت المدرسة جملة من لهجات قبائل البدو ، كما فاتتها جملة أخرى من القراءات المتواترة والآحاد.
ب. اعتماد المدرسة تصنيفاً معكوساً لمصادر التقعيد؛ إذ إنها لم تراع في التصنيف قوة الفصاحة وضعفها في المصادر؛ ولذلك ، فقد قدمت في الاحتجاج القبائل البدوية على قراءات القرآن المتواترة ، والعكس صحيح؛ وذلك لأنه لا خلاف بين العلماء في كون لغة القرآن أفصح اللغات بلاغة وبياناً.
ج. إبعاد مدرسة الحديث النبوي من دائرة الاحتجاج والاستشهاد
اعتماداً على عذر مفتعل لا نصيب له في الواقع ، وقد كان حرياً بها التفريق بين الأحاديث المروية باللفظ والمروية بالمعنى؛ إذ إنها لا تملك هي ولا غيرها أي دليل علمي منظبط لإثبات هذه القضية الشائكة.
هذه هي أهم الأخلال المنهجية التي يمكن ملاحظتها في مصادر التقعيد في مدرسة البصرة ، وغني عن القول بأن كل خلل منها كاف لإيساع المدرسة وروادها جانب النقد والانتقاد ، بل إن كل خلل منها شاف في الدعوة إلى الاستغناء عن هذه المنهجية ذات الأخلال الخطيرة.
وعليه ، فلا غرو أن تكون هذه الأخلال المنهجية مجتمعة – وخاصة الخللين الأولين – قد عجلت بميلاد مدرسة أخرى حاولت أن تتجاوز قدر الإمكان هذه الأخلال برمتها ، إنها مدرسة الكوفة التي انتقلت بالمصدر الأصلي والمصدر الثانوي من الدائرة الضيقة ، فوسعت من المصدر الأصلي ، فاعتمدت في التقعيد على لغة عرب البدو حرشة الضباب وأكلة اليرابيع ، وعلى لغة عرب الأرياف أكلة الشواريز وباعة الكواميخ. كما وسعت من دائرة المصدر الثانوي ، فاعتمدت جل القراءات القرآنية المتواترة – إن لم يكن كلها – في التقعيد ، وتبرأت من ضرورة وجود قيد وجود شاهد من شعر جاهلي أو كلام بدوي لصحة الاحتجاج بالقراءة القرآنية في إثبات صحة قاعدة نحوية.
ولكن لئن نجحت المدرسة الكوفية في تصحيح الخللين المنهجيين الأولين بعض الشيء ، فإنها لم تستطع التخلص من جميع أدرانهما ، بل ظلت في بعض الأحيان متأثرة بترسبات المدرسة البصرية ، فكان لها بعض المواقف الشبيهة بمواقف البصريين من بعض القراءات المتواترة ، والسبب في عدم تمكن المدرسة الكوفية من التجرد الكلي من جميع رواسب المدرسة البصرية يعود إلى كون الكوفية في واقعها مدرسة منبثقة من رحم البصرية ، وكون كثير من رجالاتها خارجين على أساتذتهم البصريين. بل إن المدرسة الكوفية بجميع فطاحلتها قفوا أثر المدرسة البصرية في الخلل المنهجي الثالث المتمثل في إبعاد الحديث النبوي من دائرة الاحتجاج والاستشهاد ، وما حاولوا في شيء التخلص من هذا الخلل وتصحيحه كما صححوا الخللين الأولين.
وتمضي الأيام حبلى ، فيشاء المولى القدير أن ينتقل مقر الخلافة إلى الأندلس ، فتنشأ على ربوعها حركة تقعيد نحوية تلعن كل المناهج التي لا تقدر كتاب الله ولا سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – حق قدرهما ، فتدعو إلى ضرورة إعادة تقعيد القواعد في ضوء توجيهات وأساليب القرآن الكريم بقراءاتها المتواترة والآحاد ، وفي ضوء أساليب الحديث النبوي الشريف ، إضافة إلى كلام العرب بدويهم وريفيهم ، ويمكن للمرء أن يتلمس هذا التوجه الجديد في منهجية رواد المدرسة الأندلسية كالنحوي الأندلسي الشهير ابن مضاء – رحمه الله – الذي قاد حركة تقعيد جديدة ثائرة ضد حركات التقعيد البصرية والكوفية بأسرها ، بل يجد المرء هذا التوجه التجديدي في تجاوز سائر الأخلال المنهجية في التقعيد عند ابن مالك الذي تجاهل تجاوز نحاة البصرة والكوفة الحديث النبوي مصدراً للتقعيد ، بيد أنه لم يشأ أن ينص على ذلك تنصيصاً ، الأمر الذي جعل أبا حيان الأندلسي يتهمه بالابتداع ومخالفة النزعة السائدة لدى جبابرة النحو وأساطينه ، فقال متذمراً: ((.. قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب ، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره.. والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقباً بزعمه على النحويين ، وما أمعن النظر في ذلك ، ولا صحب من له التمييز..))[30] ولا غرو أن يجد مثل هذا التوجه التجديدي طريقه مفروشاً بالورود في دولة الموحدين؛ وذلك لأن نزعة التجديد والاجتهاد في سائر المعارف الإسلامية عمت جميع الأرجاء ، بل تسربت هذه النزعة إلى الدول الإسلامية الأخرى ، فعلى مستوى ذات النزعة نشأت في مصر حركة تقعيد نحوية حاولت التخلص من الأخلال المنهجية متمثلة في زعامة النحوي لعلامة ابن هشام الذي قيل: إنه كان أعلم بالنحو من سيبويه. ولئن تشابهت حركة التقعيد النحوية الأندلسية والمصرية ، بيد أنه من الإنصاف الإشارة إلى وجود فارق بينهما على مستوى أسلوب تأسيس المنهجية الجديدة في التقعيد النحوي؛ إذ إنه قد اتسم أسلوب جل رواد المدرسة الأندلسية في أكثر الأحيان بالهجوم والانتقاد الشديد اللاذع ، وأما أسلوب المدرسة المصرية متمثلة في ابن هشام وغيره ، فقد اتسم بانتهاج الأسلوب الهادئ الفعال في عرض المنهجية الجديدة. وبناء على ذلك ، فإن الفرق الجوهري بين الحركتين التجديديتين يتمثل – كما قلنا – في تميز الحركة الأندلسية بالحرارة وروح اجتثاث ما بنته المدرسة البصرية خاصة منهجهم حول القياس وتوسعاتهم في التأويلات والتخريجات ..[31] وأما حركة التقعيد المصرية ، فقد كانت تتسم بروح المراجعة الهادئة الفعالة المؤثرة.
لئن كتب الله لتلكما الحركتين التجديديتين في التقعيد شيئاً من النجاح ، فإنهما لم تقدرا على إزالة جميع آثار الأخلال المنهجية الثلاثة ، ولم تقويا على محو نتائجهما في الأذهان إلى يومنا ، مما يمكن القول بأنه على الرغم من كل المحاولات الجريئة الصريحة والخفية في إقصاء المنهجية البصرية الملأى بالأخلال المنهجية عن ساحة التقعيد ، فإنها لا تزال – إلى يومنا هذا – منهجية متبعة في الدراسات النحوية ، بل إن الكتب النحوية الحديثة تكاد تعتمد على نتائج تلك المناهج ذات الأخلال المنهجية في تعلم النحو ، وتقريبه – عبثاً – إلى الأفهام والعقول.
فدعوات ابن مضاء ، وكثير من اجتهادات ابن هشام وابن مالك – رحمهم الله – ذهبت مع أدراج الرياح ، ويكاد الزمان أن يضن بأمثالها.
فخلاصة القول هي أن الأخلال المنهجية التي رافقت منهجية البصريين – منذ بداية نشأتها – في التقعيد النحوي قد كانت وراء نشوء المدرسة الكوفية التي استهدفت الإصلاح والتصحيح والتعديل والتقويم ، كما أن عدم اكتمال دور التصحيح للأخلال البصرية على يد الكوفية قد مهد لنشأة الأندلسية والمصرية فالشامية ، بيد أن الأخلال المنهجية لم تتمكن منها حركات الإصلاح إلى يومنا هذا تمكناً عميقاً جذريّاً ، مما يبرر تقديم منهجية بديلة قادرة على تجاوز تلك الأخلال المنهجية وآثارها على تعلم قواعد اللغة العربية من حيث التعقيد والتعسير والتجريد.
إن معالجة أي قصور أو خلل منهجيين في حركة التقعيد النحوي ينبغي أن تتم على مستوى المصادر التي أنتجت تلك القواعد وولدتها؛ ولذلك ، فإننا نرى أن تجاوز الأخلال المنهجية وآثارها يتم عن طريق الاستغناء عن التصنيف التقليدي ، مصادر التقعيد النحوي التقليدية برمتها ، وتبديلها باعتماد تصنيف منهجي آخر لمصادر التقعيد في ضوء ما أسلفناه بحيث تغدو مصادر التقعيد النحوي مرتبة حسب الترتيب التالي:
5) نحو تصنيف منهجي مقترح لترتيب مصادر التقعيد النحوي من وجهة نظر أصولية:
1 : 5 المصدر الأول الملزم للتقعيد النحوي: لغة القرآن بجميع قراءاته المتواترة والآحاد:
لئن اعتبرت لغة القبائل البدوية غير المختلطة بالأمم الأجنبية أهم مصدر للقياس النحوي عند نحاة مدرسة البصرة ، فإن مرد ذلك – بلا شك – إلى مستوى الفصاحة الرفيع الذي كان غالباً على سكان البوادي ، إضافة إلى بعدهم عن مواطن اللحن بسبب عدم الاختلاط بأية أمة أجنبية أخرى.
وبناء على ذلك ، فإن المنهج العلمي الرصين يقتضي ضرورة الالتزام بهذا المبدأ في كل الأحوال بحيث يتم التفاضل بين مصادر التقعيد على أساس مستوى قوة الفصاحة وتمكنها ، فتقدّم لهجة قبيلة على لهجة قبيلة أخرى إذا كانت لهجة الأولى أفصح من الثانية ، فالعبرة في التقديم والتأخير تكمن في مستوى الفصاحة وعدم اللحن ، وليست العبرة في سكنى البادية أو الحضر أو غير ذلك في واقع الأمر. وإذ الأمر كذلك ، فللمرء أن يتساءل عن مدى وجود لغة أفصح من لغة القرآن الكريم ، فإذا ما ألفيناها قدمناها واعتمدناها مصدراً أولاً للتقعيد النحوي والاحتجاج. وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأنه قد كانت للهجات بعض القبائل قبل نزول القرآن الكريم مكان الصدارة ، وما كان في الإمكان العثور على أية لهجة أفصح من لهجاتها ، بيد أن هذا الأمر لم يعد وارداً ولا قائماً بعد نزول القرآن الكريم ، وبعد اشتماله على لهجات تكوِّن في مجموعها فصحى لهجات القبائل البدوية والريفية ، فغدت لغة القرآن أفصح لغة لا تدانيها أية لغة في الفصاحة والبيان والبلاغة ، وتحدت فصحاء العرب وبلغائهم ، بدويّهم وريفيّهم على أن يأتوا بسورة من مثله ، فعجزوا عجزاً أبديّاً عن قبول التحدي.
بناء على ذلك ، فإن المنهج العلمي يقتضي تقديم لغة هذا الكتاب الكريم عند الاحتجاج والاستشهاد والتقعيد على جميع لغات القبائل سواء أكانوا أكلة يرابيع أم كانوا باعة كواميخ؛ وذلك لأن لغته تمثل اللغة الفصحى التي لا يمكن أن تجاري أو تضاهي لتألقها – كما أسلفنا – على فصحى لهجات القبائل العربية ، ولئن اقتضى الالتزام بالمنهج العلمي المذكور أن يكون مصدر التقعيد النحوي الأول والأصيل هو اللغة القرآنية الفصحى بحيث يتم تقديم الاحتجاج بها على لهجات تلك القبائل فرادى ، فإن ذلك لا ينفي – على الإطلاق – صحة الاحتجاج بلغات تلك القبائل فيما وراء القضايا التي وردت في لغى القرآن ، فإذا كان لقريش – على سبيل المثال – أسلوب في أداء كلمة معينة ، وجاء القرآن بأسلوب آخر غير الأسلوب القرشي؛ فإن الأصل تقديم الأسلوب القرآني على الأسلوب القرشي ، وذلك للأمر المقرر وهو كون لغة القرآن أفصح من لهجة قريش وحدها لاشتمالها على لهجات أخرى فصيحة وهي غير قرشية ، وكذلك الحال في لهجات سائر القبائل العربية الأخرى. ولكن هذا لا يعني حظر الاحتجاج أو الاستشهاد بلغات تلك القبائل على انفراد في التقعيد النحوي ، بل لا محظور في ذلك البتة؛ وذلك لبداهة واضحة وهي أن لغة القرآن لم تشتمل على جميع لهجات القبائل الفصيحة ، وإنما انتقى منها الفصحى ، وشتان ما بين الفصيح والفصحى من فروق جوهرية.
وإذ الأمر كذلك ، فإن ثمة حاجة إلى إعادة تصنيف مصادر اللغة العربية التي يصح الاحتجاج بها في إثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب بحيث تغدو لغة القرآن بلهجاتها المتواترة والآحاد الصحيحة النسبة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – المصدر الأول والأصيل للتقعيد ، وباعتماد هذا الأمر اعتماداً عمليّاً يتم تجاوز الخلل المنهجي المتمثل في الخلط بين مراتب المصادر ، كما يتم معالجة الخلل المنهجي الآخر المتمثل في الاكتفاء ببعض القراءات المتواترة فقط نتيجة الاستقراء الناقص.
إن في تعامل كثير من النحاة مع القراءات القرآنية المتواترة بشكل خاص نصيباً من الجفاء ، وخاصة عندما يجد المرء بعضهم لا يتحرج في رد قراءة من القراءات المتواترة ، وليس لأي سبب سوى أن تلك القراءة تخالف القاعدة النحوية التي بنوها على أساس اعتماد لغة القبائل البدوية وحدها ولم يستقرئوا قراءات القرآن استقراء صحيحاً. أما وقد جاء الأسلوب القرآني على خلاف قواعدهم ، فما كان لهم من بد سوى أن يوسعوا القراء ولو كانوا من السبعة جانب التخطئة والجهل بالعربية ، فكأن القراءة من الأمور الاجتهادية التي يصح فيها الأخذ والرد.. وقد كان حرياً بهم وخاصة بصريّيهم تصحيح قواعدهم المخالفة بالشاهد القرآني ، وعدم الاستعجال في وضع القاعدة قبل الإشراف على جميع القراءات المتواترة والآحاد إشرافاً محكماً. وإذ لم يفعلوا ، فلا حرمة ولا قداسة لأية قاعدة من قواعدهم إذا كانت تخالف شاهداً قرآنياً ، أو تصادر قراءة متواترة أو آحاداً ثابتة سنداً ومتناً إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولئن تكلف المتكلفون في التأويل والتخريج ، فمن المعلوم أن الأصل المقرر عند المحققين من العلماء هو عدم اللجوء إلى التأويل والتخريج ، إلا في حالات الضرورة القصوى ، ولا وجود لتلك الحالة في هذه المسألة؛ وذلك لأن النص القرآني ابتداء مؤصل ومؤسس للقواعد ، وليس بمؤكد أو مقرر للقواعد التي رفعها النحاة وبنوها على أساس علمي غير منهجي ولا منضبط بانضباط علمي محكم.
2 : 5 المصدر الثاني للتقعيد النحوي: الحديث النبوي الصحيح بشقيه: المروي بلفظه ومعناه ، والمروي بالمعنى دون اللفظ:
من المتفق عليه أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أفصح من نطق بالضاد ، ولا يمكن قياس فصاحته أحد من العرب سواء كانوا بدواً أو ريفيين ، ويكاد أن يكون الإنسان العربي الوحيد الذي لم يسجل عليه لحن قط ، ولم يمازج لغته ضعف أو وهن أبداً ، فقد أوتي جوامع الكلم ، ورزق بياناً كان له عوناً في الإقناع والتبليغ والتأثير ، كما زاده الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم قبل كل ذلك فصاحة وبياناً كان يبهر بهما السامع ، ويؤثر بهما في المخاطب. ومن مجموع ما تحدث به المصطفى – عليه أفضل الصلاة والسلام – يتكون ما يطلق عليه بالحديث النبوي الشريف ، وهو عبارة عن أقواله الشريفة خاصة وعن أفعاله وتقاريره عامة. وإذا كان إثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب يتوقف على صحة المصدر الذي تقوم عليه تلك القاعدة ، وإذا كانت المدارس النحوية تعتمد في تقعيدها القواعد على لغة عرب البادية أو عرب الأرياف لما في لغتهم من فصاحة وبيان ، بل إذا كانت المصادر تعتمد أصولاً للقياس والتقعيد النحوي لما تتوافر فيها من فصاحة ، وسلامة من اللحن والتحريف ، فإن مقتضى ذلك أن تكون لغة المصطفى – عليه الصلاة والسلام – أهم مصدر بعد لغة القرآن الكريم وأولاه اعتداداً في التقعيد والتأصيل النحويين؛ وذلك لأن الفصاحة التي تتوافر فيها لا تتوافر في لغة أيّ بدوي سواء أكان من أكلة اليرابيع أم كان من أكلة الشواريز.
وبما أن هذه اللغة النبوية الشريفة هي الموضوعة فيما يصطلح عليه بالحديث النبوي ، فإن المنطق والعقل يحكمان بضرورة الاحتجاج به ، والاستشهاد به واتخاذه أصلاً للتقعيد والتأصيل ، بل إن المنهج العلمي يلزم تقديم الاحتجاج به على الاحتجاج بشعر شاعر جاهلي مغمور ، أو بنثر متكلم بدوي مدمن على أكل اليرابيع أو على شرب الشواريز؛ وذلك لكون لغته – صلى الله عليه وسلم – أفصح من لغات أولئك البدو حرشة الضباب ، ومن لغات أولئك الريفيين باعة الكواميخ. وبناء على ذلك ، فإننا نرى أن إعادة تصنيف مصادر التقعيد النحوي تقتضي أن يكون الحديث النبوي الشريف الصحيح سنداً ومتناً المصدر الثاني بعد لغة القرآن الكريم للتقعيد. ولئن ادعى مدعٍ كون الحديث النبوي موضوعاً في لغة غير لغة النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك نتيجة تجويز رواية الحديث بالمعنى عند بعض أهل العلم بالحديث ، فإن هذا الادعاء لا يعدو في نظرنا أن يكون ترجيحاً للوهم على الحقيقة ، وبيان ذلك هو أن دعوى تجويز الرواية بالنقل لا تقوم على حجة مقنعة ، وإن رددها عدد كبير من العلماء قديماً وحديثاً؛ وذلك لافتقار الدعوى إلى الأسس العلمية المنضبطة ، نعني أن الأصل في الرواية هو الرواية باللفظ ، وأما الرواية بالمعنى فليست بأصل ، ولذلك ، فلم يجزها بعض أهل العلم بالحديث ، وأضف إلى ذلك أن الغالب في جل الأحاديث كونها مروية باللفظ لا بالمعنى ، وذلك انطلاقاً من شرط الضبط الذي يعتبر أحد شروط صحة الحديث وقبوله عند المحدثين ، ويراد به عندهم نقل الراوي الحديث عمن سمعه بلفظه ومعناه دون زيادة أو نقصان في حرف أو في كلمة ، فإذا ما اختل هذا الضابط بأن خف في رواية الراوي ، فإن الحديث لا يعتد به حديثاً صحيحاً ، فقد ينقلب في أحسن الأحوال إلى حديث حسن لذاته ، وربما انقلب إلى حديث مدرج ضعيف إذا أدت خفة الضبط إلى إدراج كلمة أو حذف جملة من الحديث. وبناء على ذلك ، فينبغي استبعاد تلك الحجة التي تعمم هذه القضية وتجعل من جميع أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – كأنها مروية بالمعنى لا باللفظ.
وهب أن الجملة من الحديث النبوي رويت بالمعنى لا باللفظ ، فهل تُفْقِدُ الرواية بالمعنى تلك الأحاديث خاصية الفصاحة والسلامة ، أم أن الفصاحة تظل سمة باهرة على تلك الأحاديث؛ لأن الرواية بالمعنى لا تقبل إذا أخلت بالمعنى الأصلي .. إننا نعتقد أن الصحابة – رضي الله عنهم – وهم الذين يشك في كونهم قد رووا الأحاديث بالمعنى في بعض الأحيان قد كان منهم البدو (أكلة اليرابيع) كما كان منهم الريفيون (أكلة الشواريز) ، ومن المعلوم أن لغة هؤلاء وأولئك تعتبر – على تفاوت – مصدراً للتقعيد النحوي عند نحاة البصرة والكوفة بغض النظر من أن يرووا حديثاً عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الأمر الذي ينتفي معه عذر المتعذرين بعدم الاحتجاج بالحديث لعدم الوثوق بكونه لفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – ولئن تعلل متعللون بعلة وقوع اللحن في كثير من الحديث المروي بالمعنى لكون أكثر الرواة غير عرب بالطبع ، فإن هذا منقوض بالقصة التي يؤلفون نسجها إزاء سبب تدوين علم النحو على يد أبي الأسود الدؤلي ، نعني بذلك أن اللحن إما: أن يكون قد وجد طريقه مفروشاً بالورود في جيل الصحابة – رضي الله عنهم – وليس في جيل التابعين ولا تابعيهم ، فعندئذ لا جريرة على بنت أو جارية أبي الأسود الدؤلي في لحنها الذي ورثته وتسلل إليها من أفراد أسرتها أو من جيرانها ، أو ربما من أترابها إلخ ..؛ أو أن يكون اللحن لما ينتعش سوقه في ذلك الجيل ، مما يلزم أن يكونوا إما عرب بدو فصحاء قحّاً ، أو عرب أرياف فيهم الفصاحة ، ولغة كل من هؤلاء العرب حجة يصح الاحتجاج بها على تفاوت بين المدارس النحوية ، بناء على ذلك فإنه ينبغي الاحتجاج بالحديث النبوي سواء كان مروياً بالمعنى ، فإذا كان مرويّاً باللفظ كان الاحتجاج به داخلاً ضمن الاحتجاج باللغة النبوية الفصيحة الفريدة ، وأما إذا كان مرويّاً بالمعنى فإن الاحتجاج يندرج ضمن الاحتجاج بلغات قبائل البدو والريف التي لم يتسرب إليها اللحن الفاحش ، وهذا هو المنهج الأسلم والأقوم سبيلا.
ولكن لئن عاند معاند ، فادعى أن رواية الحديث بالمعنى إنما تبدأ من رواية التابعي عن الصحابي لينفي بذلك اللحن عن جيل الصحابة ويثبته لجيل التابعين ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون مصادرة لمعنى الرواية بالمعنى عند أهل العلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين يشترطون في الراوي عن الصحابي العدالة والضبط ، والاتصال ، وعدم الشذوذ والعلة القادحة.. وهذه الشروط باتفاقهم واجبة التوافر فيمن يروي عن الصحابي فصاعداً؛ ولذلك يزول ذلك العذر ويتجاوز تجاوزاً على جميع مستوياته.
وعلى كل ، فإن إطلاق القول في كون جل الأحاديث مرويّاً بالمعنى لا باللفظ بحاجة إلى انضباط وإلى تأصيل ، وبحاجة إلى إبراز الأسس والمعايير العلمية الدقيقة المفرقة بين الحديث المروي بالمعنى والمروي باللفظ ، وحسب علمنا المتواضع لا تزال الدراسات لهذا الجانب المهم في هذه القضية الشائكة شبه مفقودة إن لم تكن مفقودة. وعليه ، فليعتمد الحديث النبوي الصحيح الشريف – سواء كان مرويّاً بالمعنى أو باللفظ – مصدراً من مصادر التقعيد النحوي في التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي ، وليكتف بمراعاة جانب الصحة في الحديث الذي يحتج به في إثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب ، وأما جانب الرواية بالمعنى أو باللفظ فقد تبين لنا عدم جدوى مراعاته عند الاحتجاج بالحديث النبوي. إنه لم يعد ثم مبرر للإبقاء على التصنيف القديم الذي وضعه نحاة البصرة والكوفة لمصادر الاستشهاد والاحتجاج ، بل ليس صحيحاً أن تُبْعَد – بعد مجيء رسالة الإسلام – عليه أفضل الصلاة والتسليم – من دائرة المصدرية للتقعيد النحوي ، ويكتفى به مصدراً في دائرة الاستدلال الفقهي أو الأصولي فقط. إن المرء لن يجد أي تفسير لقصر الاحتجاج بالحديث النبوي على علماء الفقه والحديث والأصول سوى استغفال المقعدين النحاة الأوائل – غفر الله لنا ولهم – المقاصد العلية وراء اشتمال القرآن الكريم على لهجات القبائل ، وبيانات تلك اللهجات في الحديث النبوي الشريف المبين المراد الإلهي من نصوص كتابه العزيز. ومهما قيل من عذر ، فإن النظرة العلمية الدقيقة لتقضي على كل الأعذار المفتعلة… ومن العجب أن يستشهد بشعر لقائل مجهول لا يعرف مظهره ولا مخبره ، ولا سبيل موثوقاً يعتمد عليه في القطع بصحة نسبة ذلك الشعر أو النثر إلى قائله في الوقت الذي يتجاوز فيه عند الاستشهاد بالحديث النبوي الصحيح بدعوى كونه مرويّاً بالمعنى ، بل من أعجب الأعاجيب أن يجهد النحاة أنفسهم عناء البحث عن شعر لجاهلي مغمور غابر لا يعرف له نسب موصول إلى أكلة اليرابيع أو الشواريز ، بينما يتحرجون من الاستشهاد بحديث صحيح مروي عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أفصح من نطق بالضاد. فلو أن قائلاً افترض رواية الشعر بالمعنى لا باللفظ ، فهل يكون مخطئاً؟ وأيهما أولى بالقبول؟ أعني أن الحديث الذي يعرف صحته سنداً ومتناً أولى بالاستشهاد من الشعر ، أو النثر الذي لا نملك منهجية علمية دقيقة لنتثبت من صحته أدق من منهجية المحدثين.. إن في الأمر لشأناً خطيراً حري التصدي لرده جملةً وتفصيلاً.
خلاصة القول ، لابد من تقديم الاحتجاج بالحديث النبوي بعد القرآن الكريم على سائر كلام العرب بدويِّهم وريفيِّهم.. إذ لا تعهد العربية في تاريخها بعد القرآن الكريم بياناً أبلغ من الكلام النبوي ، ولا أروع تأثيراً ولا أفعل في النفس ولا أصح لفظاً ، ولا أقوم معنى؛ ولكن ذلك لم يقع كما ينبغي (وذلك) لانصراف اللغويين والنحويين المتقدمين إلى ثقافة ما يزودهم به رواة الأشعار خاصة ، انصرافاً استغرق جهودهم ، فلم يبق فيهم لرواية الحديث ودرايته بقية ، فتعللوا لعدم احتجاجهم بالحديث بعلل كلها واردٌ بصورة أقوى على ما احتجوا به هم أنفسهم من شعر ونثر..[32]. ولئن رأينا اعتبار الحديث النبوي الصحيح مصدراً من مصادر الاحتجاج ، بيد أنه مما ينبغي التنبيه عليه ضرورة الوقوف على صحة الحديث أولاً وعلى متنه بالتفصيل ثانياً ، بحيث لا يكتفي بجزء منه في إثبات صحة استعمال كلمة أو تركيب ، وإنما بدلاً من ذلك لابد من استقراء جميع طرقه ، وذلك هو وحده الذي يضمن عدم الوقوع في الأحكام القيمية المتسرعة.. ولا زلت أذكر ذلك الحديث النبوي الذي يجده المرء في مدونات كثير من النحاة[33] عند الاستشهاد بالحديث على صحة لغة ((أكلونى البراغيث)) فيوردون الحديث الذي يقول:
((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) ، فيجعلون لفظ ((ملائكة)) فاعلاً لفعل ((يتعاقبون)) وأما الضمير في الفعل ((يتعاقبون)) فإما أن يكون في محل رفع فاعل ، ويكون لفظ ((ملائكة)) بدلاً ، أو يصادر الضمير ، ويعتبر ذلك لغة تعرف بلغة ((أكلونى البراغيث)). ولو عنى أولئك النحاة الذين أرادوا أن يتخذوا من هذا الحديث سنداً لسلامة هذه اللغة بالوقوف على متن الحديث كما رواه الإمام مالك في موطئه[34] بلفظ ((إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار)) لما اتخذوا هذا الحديث أصلاً لإثبات صحة تلك اللغة. وأمثال هذه الاستدلالات شائعة في كتابات النحاة الذين دفعهم حسن النية إلى كسر الحزام البصري القائم على إبعاد الحديث النبوي من دائرة المصادر اللغوية لأقيستهم. ولكن حسن نواياهم لا يبرر عدم التثبت والتحقق من النص الحديثي المراد اتخاذه أصلاً للتقعيد النحوي.
3 : 5 المصدر الثالث للتقعيد النحوي: القبائل البدوية والريفية:
وأما المصدر الثالث للتقعيد النحوي المعين على تجاوز أخلال المدرسة البصرية المنهجية ، فهو لهجات قبائل العرب بدوييهم وريفيهم ، وذلك انطلاقاً من عدم اشتمال القرآن الكريم على جميع لهجات قبائل العرب ، وبطبيعة الحال يمكن تقديم كلام البدو على كلام الريفيين في حالة وقوع تعارض بينهما عند التقعيد؛ وذلك ترجيحاً لواقع حياة البدو التي كانت أعمق في التبدي ، وألصق بالعيشة الفطرية ، وأبعد عن تأثير لهجات الأمم الأجنبية في كلامها شعراً ونثراً. وأما إذا لم يكن ثم تعارض فلتعتمد لهجاتهم ضمن اللهجات العربية الفصيحة لا الفصحى.
6) وسائل تطبيق هذا التصنيف المقترح لإعادة تقعيد القواعد النحوية
لئن انتهينا إلى القول بضرورة إعادة تصنيف مصادر التقعيد النحوي وتصحيح الخلل المنهجي المخيم على التصنيف الموروث ، فإن دعوتنا تلك تظل نظرة مثالية ما لم نبد الوسائل العلمية المنهجية المعينة على إخراج ذلك التصنيف المقترح من عالم النظر إلى عالم التطبيق؛ ولذلك ، فإن السطور التاليات تجلي عن هذا الجانب جلاءً حسناً.
1 : 6 إن اعتماد لغة القرآن الكريم مصدراً وأصلاً للقياس يقتضي القيام باستقراء جميع لهجات القبائل التي تتألف منها لغة القرآن ، كما يقتضي اعتماد تلك اللهجات أصلاً لكل تقعيد وتأصيل دونما تأويل أو تخريج ، ومقتضى هذا المنطلق ضرورة الوقوف على جميع القراءات ومعرفة علاقتها بالقبائل التي تتألف من لهجاتها لغة القرآن الفصحى بحيث يتم إدراج ذلك الأسلوب ضمن الأساليب العربية الفصحى ، ويتم إخراجها من عالم الشذوذ (قلة الاستعمال أو ندرته) إلى عالم الفصاحة ، فليس صحيحاً الإبقاء على لهجة قرآنية في دائرة عالم الشذوذ ، بل ليس مقبولاً اللجوء إلى التأويلات المتكلفة والتخريجات المضيعة للعمر والصحة إذا ما استعمل القرآن لهجة مخالفة لقاعدة نحوية وضعها رجالٌ لم تكن بضاعتهم في معرفة القراءات القرآنية ثقيلة. فإذا نصب القرآن اسم ((إن)) في حالة التثنية في موضع ، وكانت علامة نصبه الألف ، ونصب اسمه في موضع آخر ، وكانت علامة النصب الياء ، لا ينبغي أن تؤول الحالة الأولى ، أو تخرج بتخريجات ، للخيال فيها نصيبٌ وافر ، كما لا ينبغي أن تؤول الحالة الثانية لتوافق الحالة الأولى ، وإنما ينبغي أن يعرف أن القرآن في الحالة الأولى استعمل لهجة كنانة ، وأما في الحالة الثانية ، فقد استخدم لهجة قريش ، وكلتا اللهجتين داخلتان ضمن فصحى لهجات القبائل؛ وذلك بسبب اشتمال القرآن عليها. فإذا ما تكلف متكلف في تأويل إحدى الحالتين ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون استغفالاً للمقصد الشرعي الكامن في اشتمال القرآن الكريم على أكثر من لهجة ، كما لا يعدو أيضاً أن يكون مصادرة للمقصد القرآني في ضبط الإطار العام للغة النموذجية ، مما يجعل الأسلوب القرآني حاكماً على شتى اللهجات والقواعد والأصول السابقة عليه.. وأي استبعاد لهذا البعد الكلي تقليبٌ لما ينبغي أن يكون ، ومصادرة للواقع التاريخي الذي يؤكد على وجود القواعد القرآنية قبل ميلاد نحاة البصرة والكوفة أجمعين.
لو تأمل المرء في كل التخريجات النحوية التي أوردها النحاة بصرييهم وبعض كوفييهم حول قوله عز وجل في قصة موسى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) طه 63 ، سيجد نفسه أمام ركام هائل من التأويلات الجائزة البائرة ، كان بوسعهم ألا يلوذوا به لو أنهم عنوا قبل تقعيد القواعد باستقراء القراءات الواردة في تلك الآية ، وعنوا بمعرفة القبائل العربية التي تنصب اسم ((إن)) بالألف في حالة التثنية مطلقاً أو في حالة كون اسمها اسم إشارة فقط ، لكفاهم ذلك من كل أولئك التخريجات والتأويلات المبعدة عن المقاصد العلية. بل لكان يسعهم عند تقعيدهم القواعد النحوية أن يقولوا: إن في إعراب اسم ((إن)) إذا كان مثنى وجهين: إما النصب بالألف ، أو النصب بالياء ، وكلا الوجهين فصيحٌ مليحٌ. وإذا كان يعز عليهم تعميم القضية ، فقد كان يكفيهم القول: إن في إعراب اسم ((إن)) إذا كان مثنى وكان اسم إشارة وجهين: النصب بالألف ، أو النصب بالياء ، وكلا الوجهين شاف كاف. فهذا المنهج كان أسلم وأريح وأولى من المنهج التأويلي أو التخريجي المتكلفين أيما تكلف… وخاصة أن هذه القراءة تنسب إلى إحدى اللهجات التي تتألف منها لغة القرآن ، وهي لهجة كنانة ، وفي ذلك يقول أبو حيان الأندلسي – في بحره المحيط – متجاوزاً كل تأويل أو تخريج متكلفين:
((.. والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً ، وهي لغة لكنانة ، حكى ذلك أبو الخطاب ، ولبني الحارث بن كعب وخثعم ، وزبيد ، وأهل تلك الناحية – حكى ذلك عنهم الكسائي – ولبني العنبر ، وبني الهجيم ، ومراد ، وعذرة – وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً …))[35]
إنه ليس من مستبعد في شيء – على قانون البصريين ومن ولاهم – أن تكون هذه اللغة إحدى لغات قبائل أكلة اليرابيع ، وحرشة الضباب ، وأهل الشيح والقيصوم؛ ولذلك ، ليس هنالك شيء يدعو إلى ركوب متن التأويل ، أو تخطئة القراء ، وبدلاً من ذلك ينبغي اعتماد هذه القراءة قاعدة جديدة أو مصححة ضمن القواعد النحوية المدونة.. إنه ليس ثم مبرر للاستنكاف عن هذا المنهج ، اللهم إلا أن يكون عذرهم الكامن في ذلك نتيجة استعجالهم وتسرعهم في تدوين القواعد قبل الاستقراء الكافي للقراءات ، وللهجات القبائل العربية ، الأمر الذي قادهم إلى التجني في كثير من الأحيان على القراءات بالقبح والسماجة والرداءة ، ورمي القراء في بعض الأحيان بالجهل بالعربية وباللحن ، وبالخطأ ، وما إلى ذلك من أوصاف غير لائقة البتة.
وقس على هذا جميع الأساليب التي استعملها القرآن الكريم من فصحى لهجات القبائل العربية ، وذلك من منطلق وضع إطار عام للغة العربية الفصحى ، ولكنه – مع الأسف الممض – لم يسلم أيٌّ منها من طائلة التأويلات والتخريجات الموغلة في التكلف والتنطع ، وكان يكفيهم تصحيح قواعدهم المدونة في ضوء الشواهد القرآنية ، والحديثية بدلاً من أن يلوذوا بحمى التأويل والتخريج لكل أسلوب مصحح لقواعدهم المصطنعة على عجل.
2 : 6 ومهما يكن من شيء ، فإنه يمكن تجاوز صنيعهم عن طريق التركيز على تصحيح المنطلق الذي قام عليه التقعيد النحوي لدى جميع المدارس النحوية بشكل عام ولدى المدرسة البصرية بشكل خاص ، وذلك بأن يغدو الأسلوب القرآني المحكم بجميع قراءاته – المتواترة أو الآحاد – مؤصِّلاً ومقعِّداً للقواعد النحوية ، وليس مقرِّراً أو مؤكِّداً لها ، وشتان ما بين التأسيس والتأكيد ، وما بين التأصيل والتقرير ، فكل ما ورد وصح أنه قرئ به وجب تقديمه على غيره من مصادر التقعيد النحوي سواء أكان متواتراً ، أم آحاداً ، أم شاذّاً[36] .. وهذا الأمر – كما قررنا من قبل – لا ينبغي أن يمارى فيه ما دام القوم يرون الاحتجاج بالأشعار التي لا تعرف أعيان قائليها ، بل لا سند صحيحاً يقطع بكونها أشعاراً منسوبة إلى أكلة اليرابيع أو أكلة الشواريز ، فالقراءات التي تعرف أعيان أصحابها وعدالتهم سواء كانت متواترة أو آحاداً أولى بالاحتجاج.
ولكي يتحقق ذلك التصحيح المنهجي للمنطلق ، فإنه ينبغي عرض القواعد النحوية التي اعتمد في تقعيدها وتأسيسها على القبائل البدوية أو الريفية على لغة القرآن الكريك الفصحى؛ وذلك بغية مراجعتها فتصحيحها في ضوء اللغة النموذجية الفصحى – لغة القرآن – فما خالف منها القاعدة القرآنية اعتبرت شاذة ، وما وافق القاعدة القرآنية أقرت واعتمدت ، وهذه المراجعة القرآنية للقواعد النحوية خاصية من خصائص صفة الهيمنة الثابتة للقرآن الكريم بنص قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) (المائدة: 48) ، فكما أن المراجعة تطبق على سائر الأحكام الاجتهادية العقدية والعملية والخلقية ، فإنها كذلك ينبغي أن تطبق على القواعد النحوية بوصفها اجتهادية بشرية لا تسمو على الخطأ والنقد ، إذ إن هنالك علاقة مطردة بين جميع جوانب حياة الإنسان ، فالجانب اللغوي مرآة للجانب الحكمي ، والعكس صحيح ، وقد سبق أن أسلفنا القول بأن من مقاصد اشتمال القرآن الكريم على أكثر من لهجة تصحيح النظرة القرشية إلى أصحاب اللهجات الأخرى ، وتعديل المعيار القرشي للفصيح من القول.
وعليه ، فإن عناية القرآن الكريم بتصحيح كثير من المعتقدات ، والمنطلقات ، والتصرفات التي كانت حائدة عن الصراط القويم هي ذات العناية التي عنى بها على مستوى اللهجات ومواقف القبائل من لهجات بعضها ببعض. فإذا ما تم تصحيح منطلق النحاة في تقعيد القواعد ، وتم تجاوز تصنيفهم لمصادر التقعيد ، فإنه يمكن إحداث منهجية قادرة على محو الأخلال المنهجية عند البصريين وبعض الكوفيين وأتباعهم في العصر الحاضر. ولئن استصعب امرؤ القيام بعمل كهذا ، لما يحتاجه من إلمام واف بالقراءات والقبائل التي تستعمل تلك اللهجات ، بل لئن استحال امرؤ القيام بهذه العملية الصياغية للقواعد النحوية في ضوء المقاصد الشرعية – التي أشبعناها حديثاً من قبل – بعد مضي هذه القرون الطويلة على تدوين القواعد من عهد الخليل الفراهيدي ، فإنه يمكن القول بأن:
3 : 6 تحقيق هذا الأمر لا يستلزم إعادة تقعيد للقواعد ، ولا إعادة تدوين لها ، وإنما يستلزم القيام بعملية مراجعة ودمجلة ، فتصفية لأمهات كتب النحو ، بحيث يتم الاستغناء عن القواعد النحوية المخالفة للأسلوب القرآني مخالفة صريحة أو خفية. أما القواعد المخالفة لأسلوبه مخالفة صريحة فنقصد بها تلك القواعد التي تصادر القراءات المتواترة ، وتعتدي على قداستها بتخطئة القراء حيناً ، أو بوصف القراءة بالسماجة أو القبح أو الشذوذ حيناً آخر. وأما القواعد المخالفة لأسلوبه مخالفة خفية فتتمثل في القواعد النحوية التي تم بناؤها قبل استقراء القراءات القرآنية استقراء شبه كامل ، فرسموا الدائرة النهائية لتلك القواعد ، واعتبروا أي شاهد خارج عن الدائرة لحناً أو خطأً أو غير ذلك.
إن تطبيق هذه المراجعة وتحقيقها يقتضي تجاوز كثير من تأويلات وتخريجات النحاة المتكلفة المتنطعة بحيث يتم اعتبار ما ورد في القرآن الكريم من لهجة أو أسلوب قاعدة جديدة تضاف إلى القواعد المرسومة ، ويتجنب السعي غير المفيد في المحاولات الهادفة إلى إخضاع الأسلوب القرآني للقاعدة النحوية المصطنعة على عجلة من الأمر. فإدخال الشواهد الجديدة في عالم قواعد النحو لا يزيد النحو إلا توسعاً وتيسيراً ، كما أن ذلك لا يعدو أن يكون استمراراً لحركة التقعيد التي ما كان ينبغي لها أن تتوقف في أي عصر من العصور ، وإنما كان حريّاً بها أن تتجدد وتزداد نموّاً وتقدماً.
4 : 6 إن تصحيح المنطلق التقعيدي يمكن أن يتم أيضاً عن طريق الترجيح بين الآراء النحوية المتعددة حول قبول قاعدة أو ردها بحيث يتم ترجيح أي رأي يتخذ من الشاهد القرآني دليلاً أو مرجعاً في النزاع ، فإذا كان ثم خلاف بين النحاة كما هو الحال ذائماً بين البصريين والكوفيين حول مسألة من المسائل النحوية ، ووجدنا إحدى الطائفتين تستند في دعواها على شاهد قرآني في إثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب ، عندئذ يرجح أصحاب ذلك الرأي – بصريين كانوا أو كوفيين – وذلك لانطلاقهم من المنطلق الأصيل الذي ينبغي الانطلاق منه في التقعيد ، ولا ضير في شيء أن لا يشتهر ذلك في زمان نحاة بصرة أو من بعدهم شاهداً على إثبات لغة. ويعني هذا تجاوز كثير من دعاوى البصريين في نزاعهم مع الكوفيين الذين تمركزت معارضتهم لهم حول ضرورة الاحتجاج بالقرآن الكريم في جميع قراءاته المتواترة في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول. ولعل ما عني بجمعه الإمام النحوي الأنباري في كتابه ((الإنصاف في مسائل الخلاف)) لخير معين على تحقيق هذا الأمر وتطبيقه إضافة إلى جل كتابات نحاة المدرسة الكوفية والأندلسية والمصرية والشامية.
وينبغي أيضاً الاستفادة من بعض الكتابات المعاصرة في النحو القرآني الذي لا يزال يعاني ضعفاً في الاستجابة والتقبل؛ وذلك خوفاً من مخالفة القديم الموروث ، وعكوفاً على ما انتهى إليه نحاة البصرة من قرون غابرة ، ولعل كتابات ومؤلفات الأستاذ الدكتور أحمد مكي الأنصاري من أجلّ المؤلفات في هذا الشأن ، ومن أكثرها جرأة ونقداً للنحاة ، وكذلك الحال في بعض مؤلفات الدكتور المغفور له محمد عبدالخالق عضيمة ككتابه القيم ((دراسات لأسلوب القرآن الكريم)) وغيرهما كثير. ولئن سجلنا بمداد من التقدير والتبجيل لتلك الكتابات الحديثة الغاية الحميدة النبيلة التي تعهدت بالنهوض بهذه المهمة ، فإننا لن ننسى أن ننبه بأن تلك الكتابات حصرت جهودها في الدعوة إلى النحو القرآني ، وهو النحو الذي ينطلق من القرآن ، ويرى في القرآن مصدراً أساسيّاً للتقعيد والمراجعة النحوية ، بيد أنه لا يجد المرء في خضم تلك الدعوة أية دعوة منهم إلى اعتبار الحديث النبوي هو الآخر مصدراً للنحو ، وإننا نعتقد أن في ذلك نظراً ، وخاصة أن الأعذار بل العذر الذي يعتمد عليه في عدم الاحتجاج بالحديث النبوي لا يكفي في مصادرة ذلك الكم الهائل من النصوص الحديثة ، بل لا يعدو أن يكون عذراً خياليّاً لا نصيب له من الواقع؛ ولذلك ، لا ينبغي التعلق به ، ولا الوقوف عنده حتى يأتينا دليلٌ واضحٌ صريحٌ ينص على أن جميع أحاديث المصطفى – عليه الصلاة والسلام – مروية بالمعنى لا باللفظ.
وعليه ، فلتضم إلى الدعوة إلى النحو القرآني الدعوة إلى نحو أشمل وأوسع. ومهما يكن الاستفادة – كما قلنا – من تلك الكتابات في الجانب المتعلق بالقرآن منطلقاً للتقعيد النحوي. إن كتاب ((نظرية النحو القرآني: نشأتها وتطورها ومقوماتها الأساسية)) للدكتور أحمد مكي الأنصاري من الكتب التي قطعت شوطاً لا بأس به في تحقيق هذا المنطلق التصحيحي التصديقي للنحو ، وما أورده من أفكار حول الإصلاح المتعقل للنحو العربي المعاصر قمة في الروعة ، كما أن ما ختم به دراسته من تصحيح لجملة من القواعد النحوية في ضوء الشواهد القرآنية هو الآخر غاية في الدقة والسداد. وكذلك كتاب ((دراسات لأسلوب القرآن الكريم)) للدكتور عضيمة ، فقد عني بتصحيح جملة من القواعد النحوية التي خالفت الشواهد القرآنية وقرر القول بأن القرآن الكريم حجة في العربية بقراءاته المتواترة ، وغير المتواترة كما هو حجة في الشريعة. فالقراءة الشاذة التي فقدت شرط التواتر لا تقل شأناً عن أوثق ما نقل إلينا من ألفاظ اللغة وأساليبها.. وعني بإبداء جملة من القواعد النحوية التي لم يحتكم فيها النحاة لأسلوب القرآن.. فهذا الكتاب من أروع الكتابات في هذا الشأن أيضاً؛ ولذلك ، فإنه يمكن الاستفادة من هذه الجهود المباركة في هذا الشأن بقصد التواصل والتكامل في تحقيق هذا التصنيف الجديد لمصادر القياس في النحو العربي ، ولن يكون ذلك إلا تجديداً وتجاوزاً لهفوات وكبوات وزلات بعض النحاة وخاصة البصريين عند تدوينهم القواعد النحوية.. فلا عصمة إلا لكتاب الله ولرسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – ورحم الله الشيخ محمد رشيد رضا عندما قال قولته الشجاعة:
((.. نحن لا يروعنا ما يراه المفسرون من الصعوبة في إعراب بعض الآيات ، أو في حكمها؛ لأن لهم مذاهب في النحو والفقه يزنون بها القرآن ، فلا يفهمونه إلا منها ، والقرآن فوق النحو والفقه والمذاهب كلها ، فهو أصل الأصول ، ما وافقه فهو مقبول ، وما خالفه فهو مردود ومرذول ، وإنما يهمنا ما يقوله علماء الصحابة والتابعين فيه. فهو العون الأكبر لنا على فهمه..[37]. تلك هي بعض الأسس المعينة على تحقيق ذلك التصنيف الجديد لمصادر الاحتجاج والتقعيد ، ولعله من المفيد أن يوكل دراسة تفاصيل هذا الأمر إلى لجنة علمية مؤمنة بالمبادئ المذكورة ، وعسى الله أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل.
7) التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي وعلاقته بتيسير تعلم اللغة.
إذا كنا قد انتهينا إلى الدعوة إلى ضرورة تجاوز الترتيب الموروث لمصادر التقعيد النحوي ، وذلك لما ينطوي عليه ذلك التصنيف من قلب وأخلال منهجية سافرة ، ولما كان له من دور في تعقيد تعلم النحو ، وتعسير استيعاب فصوله ومباحثه ، بل إذا كنا قد أبرزنا ذلك القصور المنهجي الجلي في صنيع كثير من النحاة ، وخاصة بصرييهم ومن ساروا على نهجهم ، فإنه لابد لنا من تأصيل القول فيما سيفرزه التصنيف المقترح لمصادر التقعيد والقياس من نتائج علمية منهجية مفيدة من ناحية ، وما سيقوم به من دور جبار في تيسير تعلم النحو واستيعابه ، فهضمه دونما ملل ولا كلل.
1 : 7 من المتفق عليه أن المرونة والسعة سمتان رئيستان تتميز بهما شريعتنا الغراء في شتى نواحيها وأحكامها وقضاياها ، وقد كانتا السبب الأساس في بقاء الشريعة شريعة خالدة تمد الحياة الإنسانية بين الحين والآخر بالسرج الوهاجة التي تنير لها درب الخلاص في تيهها ، وتأخذ بيدها سواء السبيل بين ركام الأهواء والشهوات ، فتغدو الحياة المهتدية بهديها حياة سعيدة هادئة ، للأمن والأمان والسلام نصيب وفير فيها ، إن افتقاد وافتقار شرائع من قبلنا هاتين السمتين – المرونة والسعة – قد كان أحد الأسباب الرئيسية وراء انقراض تلك الشرائع وعدم خلودها؛ وذلك لأن الحياة البشرية في تغير وتبدل مستمرين ولم تعرف توقفاً عن هذين الأمرين في أية لحظة من اللحظات.
إن كثيراً من علمائنا الفقهاء والأصوليين والمفكرين قد أدركوا هذه الخاصية للشريعة الإسلامية ، وفي ضوئها قعدوا قاعدة: ((لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد)) بل على أساسه قرروا بأن كل مجتهد مصيب ، وأ ، الطرق الموصلة إلى الحق قد تتعدد ، وإن لم يتعدد الحق ذاته ، وعلى درب الإيمان بمرونة الشريعة وسعتها كانت المدارس الفقهية المتعددة في تاريخنا الإسلامي ، ولا تزال الأيام حبلى بكثير من الاجتهادات الواعية التي تصدر عن فهم دقيق للواقع وللنصوص بغية إرشاد البشرية جمعاء نحو سبيل الرشاد والفلاح.
2 : 7 لئن كانت مرونة الشريعة وسعتها بارزة في جانب الأحكام الفقهية أوالعقدية أو الخلقية ، فإن ذلك لا يعني أن المرونة أو السعة قاصرتان فقط على تلك الجوانب المذكورة كما قد يختلف البعض إلى ذلك ، بل المرونة والسعة من أجل أن تنحصرا في دائرة الأحكام فقط ، بل لا يمكن أن تحدهما حدود ، ولا أن تقفا عند محطة دون أخرى ، بل تشملان الشريعة في جميع جوانبها ، ولعل من أهم الجوانب التي يمكن ملاحظتها فيها جانب الأسلوب المتمثل في قراءات القرآن الكريم المتعددة ، وفي أحاديث المصطفى – صلى الله عليه وسلم – سواء منها ما كان مرويّاً باللفظ أو بالمعنى ، ولكن الأمر الملحوظ أن جمهرة نحاتنا – وخاصة البصريين منهم – الذين قعدوا القواعد النحوية تجاوزوا هذا الجانب الأساس في الأسلوب القرآني ، فضيقوا ما كان واسعاً ، وعقدوا أمراً كان يمكن أن يكون أسهل الأمور وأيسرها على الراغبين في تدبر القرآن وتفهم معانيه. ولعل السبب الرئيس في هذا الأمر يعود في نظرنا إلى قيام الدراسات النحوية ومدارسها على النظرة المجردة الجافة التي لا يهمها سوى وضع القواعد دونما أخذ في الاعتبار المقاصد العلية في اشتمال القرآن الكريم على فصحى لهجات القبائل العربية ، ويعود السبب أيضاً إلى التسرع في وضع القواعد بناء على استقراء ناقص ، وعلى خلط في تحديد العلاقة بين مصادر التقعيد ، ولم يأخذوا في الاعتبار ما ينتج عن التسرع في وضع القواعد بناء على استقراء ناقص ، وعلى خلط في تحديد العلاقة بين مصادر التقعيد ، ولم يأخذوا في الاعتبار ما ينتج عن التسرع في وضع القوانين من تضييق وتعسير على الممتثلين بها ، كما لم يلتفتوا إلى ما طرأ على الواقع العربي بعد نزول القرآن وبعثة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – من تغيير جذري على سائر مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واللغوية والتربوية. وإذا كان المعهود أن واضعي القوانين البشرية الناجحين في تقانينهم يستفرغون طاقاتهم في استقراء أحوال المقننين لهم ، ومآلات القوانين المراد وضعها بغية ضمان نجاح تلك القوانين ، فإن كثيراً من نحاتنا – غفر الله لنا ولهم – لم يسعهم إدراك هذا الجانب في التقنين النحوي ، وفي وضع الأحكام القيمية للأسلوب العربي بشكل عام وللأسلوب الشرعي بشكل خاص. إذ إنهم لو أدركوا ذلك عند تقعيد القواعد لورثونا قواعد نحوية مرنة سهلة الاستيعاب يسيرة الهضم والفهم ، ولما احتاجت صناعتهم النحوية إلى كثير عناء أو كبير جهد في البحث عن أعرابي بوال على قدميه في الشمال ، أو عن أعرابية مغرمة بأكل القديد في الجنوب لإثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب ، وإنما كان يكفيهم استقراء الأسلوب القرآني المرن ، والأسلوب النبوي الواسع ليخرجوا من كنوزهما القواعد النحوية يسيرة الإدراك والاستيعاب.
وبما أنهم قد تجاوزوا إدراك هذا الجانب المرن في الشريعة بشكل عام ، وفي الأسلوب القرآني والحديثي بشكل خاص ، فإن ذلك لا يبرر للأجيال اللاحقة بهم الإبقاء على تلك القواعد التي لم تراع هذا الأمر- قواعد سارية المفعول واجبة الالتزام بها ، بل حري بهم تجاوز ذلك القصور ، وإصلاحه من جذوره ، إنْ بتعديل جزئي أو كلي ، أو بتطوير خاص أو عام أو بإلغاء جزئي أو كلي للقواعد النحوية التي قعدوها واعتبروها قانوناً واجب الالتزام به عند التحدث أو الكتابة على الرغم من شذوذها لمخالفتها لما هو أوثق منها وهي اللغة القرآنية النموذجية.
3 : 7 إن التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي سيلعب – في حالة تطبيقه – دوراً مهمّاً في تيسير تعلم اللغة العربية بحيث تصبح القواعد النحوية قواعد مرنة مواكبة لمرونة الشريعة الغراء في سائر جوانبها ، كما تغدو قواعد واسعة بسعة الشريعة بحيث تصبح التخطئة والتلحين في اللغة شأناً ذا دائرة ضيقة ، فلئن كان جمهور النحاة[38] – على سبيل المثال – قد قرروا من قبل عدم جواز العطف بالرفع على موضع ((إن)) قبل تمام الخبر ، واعتبروا مخالفة ذلك لحناً ، فإن الأسلوب القرآني جاوز هذه القاعدة في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (المائدة 137) ، ويعني هذا أن قاعدتهم المبنية في غياب استقراء تام للأسلوب القرآني المرن لابد من مصادرتها وتبديلها بقاعدة نحوية أخرى سديدة ترى جواز العطف بالرفع على موضع ((إن)) قبل تمام الخبر أو بعد تمامه ، وفي ذلك تيسير أيما تيسير على متعلم النحو ومتفهمه. بل لئن اختلف فطاحلة النحاة إلى عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف[39] ، وذلك لقاعدتهم التي ترى أن المضاف والمضاف إليه في حكم الشئ الواحد أو الكلمة الواحدة ، وأما الأسلوب القرآني المرن فقد صادر هذه القاعدة النحوية الضيقة في قوله عز من قائل: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه) (الأنعام: 137). ولئن قطع جمهور النحاة بعدم جواز إضافة ((إذا الشرطية)) إلى الجملة الإسمية ، وإنما تضاف إلى الجملة الفعلية في كل الأحوال[40] ، فإن الأسلوب القرآني المرن تحدى هذه القاعدة اليتيمة بإضافة ((إذا الشرطية)) إلى الجملة الاسمية في كثير من الآيات كما في قوله: (إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت) (التكوير: 1 – 4). وفي قوله (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت) (الانفطار: 1 – 4). وإذا كان جهابذة النحاة قد قضوا بأنه لا يجوز إضافة ((مائة)) إلى الجمع مطلقاً[41] فإن الأسلوب القرآني قد صادر هذا الإجماع في قوله: (وليثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين) (الكهف: 25) ، وذلك في قراءة الكسائي المتواترة دون تنوين لفظ ((المائة)).
ثمة قواعد نحوية تفوق العد والحصر قد أسهمت في تعقيد تعلم النحو ، وتعسيره على الفهم؛ لأنها تقوم على التضييق والإلزام في غير ما ملزم ، ولو تم مراجعتها كلها في ضوء التصنيف المقترح لأحدث ذلك تغييراًجذريّاً في تعلم النحو. وبطبيعة الحال ليس بغائب ما سيقوله أتباع نحاة البصرة أو الكوفة ممن أشربوا بابتلاع تأويلاتهم وتخريجاتهم المتكلفة ، إنهم سيقولون بأن الأسلوب القرآني لا يتعارض مع القواعد النحوية ، ويكفي المرء أن يلجأ إلى التأويل أو التخريج ، فيجد توافقاً وانسجاماً والتئاماً بين القواعد النحوية. إننا نقول لهؤلاء: إن حكم الجواز والوجوب والحرمة والكراهة لا يملكه نحوي أي نحوي – كائناً من كان – ولو أن اللغة كانت من اختراع النحاة ، ومن صنعهم هم لحق لهم أن يحكموا على أي أسلوب مخالف لقواعدهم بالقبح وبالرداءة وبالشذوذ.. بل لو أنه أوحي إليهم عدم جواز إضافة ((إذا الشرطية)) أو عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير ظرف ، أو نصب اسم ((إن)) بالألف في حالة التثنية ، أو غير ذلك من الأحكام التي أصدروهاه وقعدوها؛ إن وجوباً أو جوازاً ، أو منعاً أو كراهيةً.. لو كان ثم وحيٌ في ذلك الشأن لما جاز لأحد الخروج على قواعدهم.. أما واللغة ليست من اختراعهم ولا من صنعهم ، وليس هنالك وحيٌ منزل في قواعدهم ، فإن المرجعية في الحكم ينبغي أن تكون لكتاب الله ولسنة رسوله – عليه السلام – وليس من حاجة في شيء أن نفني أعمارنا القصيرة في افتعال التأويلات والتخريجات للأسلوب القرآني المرن ، وللغة المصطفى الواسعة. ولهذا ، فعلى إثركم يا قوم.
ومهما يكن من شيء ، فإن تيسير تعلم النحو في نظرنا يتوقف على إحياء هذا الجانب المرن في الأسلوب القرآني المتمثل في قراءاته المتواترة والآحاد ، وفي إدخال الحديث النبوي المروي باللفظ ، أو بالمعنى ما دام صحيحاً في سنده ومتنه في دائرة الاحتجاج والاستشهاد ، وليتم استبدال القواعد النحوية القائمة بالقواعد النحوية المنبثقة من التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي ، بحيث يمَّحي في الدرس النحوي تلك الأحكام النحوية التي جادت بها قرائح نحاة بصرة ، أو كوفة بغداد قبل أن يستقرئوا – استقراء تامّاً – الأسلوب القرآني ولغة رسول الإسلام – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – بل ولهجات قبائل البدو سواء كانوا من أكلة اليرابيع أو من أكلة الشواريز ، فليس في مجاوزة قواعدهم الضيقة الإطار ، المعقدة التركيب ، المملة الترتيب أي محظور شرعي يعاقب عليه فاعله يوم القيامة ما دام القرآن الكريم وسنة النبي العظيم قبلته ووجهته التي يوليها عند التحدث أو الكتابة.
4 : 7 إن التصنيف المقترح – إضافة إلى ما سيلعبه من دور جبار في تيسير تعلم اللغة – سيعنى – أيضاً – بربط متعلم القواعد النحوية بمعايشة كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – في كل حين ، بحيث تغدو الأمثلة والنماذج كلها مشتقة منهما ، مما يعني في واقع الأمر الدعوة إلى اتخاذ مصدري الشريعة – الكتاب والسنة – مرجعية للأحكام سواء منها الأحكام الاجتهادية الفقهية أو القواعد النحوية. وإذا كان من المقرر أن مصدري الشريعة – الكتاب والسنة – قد سلكا في عرضهما للأحكام الفقهية والعقدية والخلقية مسلك التيسير والتسهيل ، فلا ينبغي أن يتوقفا على تلك الجوانب المذكورة ، وإنما ينبغي أن يتجاوزا سائر الحدود البشرية؛ ولذلك ، فحري بتصنيف – كهذا – أن يجعل القواعد النحوية مزاحمة للقواعد الفقهية والأصولية والتفسيرية في هذا المسلك. إننا نعتقد أنه يوم أن تتاح لهذا التصنيف الفرصة لأن يصبح واقعاً ملموساً معاشاً ، فسوف يتم – عندئذ – الاستغناء عن تلك الأمثلة التجريدية النظرية التي ما فتئ النحاة يتمثلون بها عند تقريب فهم قاعدة إلى الأذهان.
8) اقتراحات الدراسة:
أولاً: اعتماد تصنيف مصادر التقعيد النحوي الذي أوسعناه جانب التفصيل والتوضيح في هذه الدراسة ، بأن يصبح القرآن الكريم بجميع قراءاته المتواترة أو الآحاد مصدراً أوليّاً وأساساً للتقعيد النحوي ، ولا حاجة البتة إلى اللجوء إلى التأويل أو التخريج لموافقة القواعد النحوية التي بناها النحاة قبل استقراء النص القرآني على مستوى جميع قراءاته. فكل ما ورد في القرآن أصل وقاعدة يصح الاحتجاج والاستشهاد به؛ ولذلك لإيماننا جميعاً بكون لغة القرآن فصحى ، وما عداها من لغات قبائل العرب فلا تخلو إما أن تكون فصيحة أو تكون دون ذلك.
وإذا اعتمد كل أسلوب قرآني بأية قراءة صحيحة كانت – متواترة أو شاذة – أصلاً وقاعدة نحوية ، فليكن الحديث النبوي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم ، سواء كان الحديث مرويّاً باللفظ أو بالمعنى ، فالمروي منه باللفظ تعتبر لغته أفصح من أية لغة أخرى ، وأما المروي منه بالمعنى فيصدق عليه ما يصدق على لغات قبائل البدو والأرياف من سليقة وفصاحة وبيان. وكل ما ينبغي مراعاته في ذلك هو جانب الصحة في الحديث لا غير. وإذا ما استوعب الحديث النبوي جاز الاحتجاج بلغات قبائل البدو سواء كانوا من حرشة الضباب ، أو من باعة الكواميخ. وأهم ما نؤكد عليه في هذا المجال هو ضرورة مراعاة الترتيب السلمي بحيث لا يقدم مصدر أدنى على مصدر أعلى ، فالقرآن بقراءاته المتواترة أولاً ، وبقراءاته الشاذة ثانياً ، ثم الحديث النبوي المروي باللفظ ثالثاً ، والحديث النبوي المروي بالمعنى رابعاً ، ثم لغات قبائل البدو خامساً ، ولغات قبائل الريف سكان البراري سادساً.
ثانياً: اتخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار الإسلامية المعنى نماذج وأمثلة للقواعد النحوية ، بحيث يتم استبعاد الأمثلة الافتراضية غير الواقعية كما هو الحال دائماً في ضرب زيد عمراً ، وأكلت الكمثرى ليلى ، وإن أباها وأبا أباها قد بلغا من المجد غايتاها ، فبدلاً من هذه الأمثلة التي يغلب عليها طابع التجريدوالتخييل يمكن إيراد جملة من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية للتطبيقات النحوية ، وهذا الاقتراح في واقعه تتمة للذي أسلفناه آنفا.
ثالثاً: الشروع في تطبيق التصنيف المقترح للتقعيد بالتدريج بحيث يبدأ بتعديل القواعد النحوية التي يغلب عليها طابع التضييق ، كالقواعد التي تتخذ حكماً واحداً ، فترى عدم جواز وقوع الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب ، فتعدل هذه القاعدة لتصبح جواز وقوع الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب لقوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) (البقرة: 45) ، ويتبع تصحيح أمثال هذه القواعد تطوير بعض القواعد بحيث تصبح دائرتها أوسع كما هو الحال في القاعدة التي تحصر دخول لام الأمر على المضارع الغائب ، وتعدل هذه القاعدة بتطويرها عن طريق تجويز دخول لام الأمر على المضارع الغائب أو المتكلم أو المخاطب؛ لقوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون) (العنكبوت: 12) (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) (يونس: 57 – 58) وفي قراءة شاذة ((فلتفرحوا)) وليَلِ هذا التطبيق مصادرة القواعد النحوية التي تقوم على تلحين القراءات الصحيحة المتواترة أوالآحاد ، وهذا الطابع غالب على كثير من القواعد النحوية التي اعتمدتها مدرسة البصرة وتمردت عليها مدرسة الكوفة.. إذاً بالتدرج العملي المخطط يتم إحلال التصنيف المقترح لمصادر التقعيد محل التصنيف الشائع المعمول به منذ قرون غابرة.
رابعاً: إحياء دراسة الجانب المقاصدي في الدراسات النحوية ، بحيث يتم استقراء المقاصد الشرعية سواء على مستوى الجانب الأسلوبي أو الجانب الأدبي ، فمن الواضح جداً استبعاد هذا الجانب في الدراسات النحوية الحالية ، ويمكن تحقيق هذا الاقتراح عن طريق دراسة أسباب اشتمال القرآن الكريم على لهجة قبيلة من القبائل ، وعن طريق دراسة الظروف الاجتماعية والنفسية للقبائل العربية المختلطة بالأمم الأجنبية وغير المختلطة بأية أمة ، وأثر الاختلاط على المستوى النفسي والاجتماعي والتربوي ، كما يمكن إحياء هذا الجانب في الدراسات النحوية عن طريق الاهتمام بدراسة لغة النبي – صلى الله عليه وسلم – لكونه أفصح من نطق بالضاد ، فأساليبه في التعبير والتحدث ما كانت خلوّاً من تحقيق مقاصد سامية علية. بل اشتملت على مقاصد جمة تنكشف لمن يرغب في معرفة تلك المقاصد.
وأخيراً ، لابد من التنبيه على ضرورة تجاوز وتجاهل تلك الدعوات التي ستجرِّم هذا الأمر ، والتي ستشكك – حتماً – في نوايا فاعليه ، بل ينبغي عدم ضياع الوقت في الإنصات إلى الدعوات التي سينهض بها قوم مبهورون بنحاة بصرة أو كوفة أو بغداد أو أندلس أو مصر أو شام ولو كانت قواعدهم مبنية على جرف هار منهار ، فلا حاجة البتة إلى سماع دعاة التأويل والتخريج المتكلفين المتنطعين ، وكل ما في الأمر أن يستحضر القائمون على هذا الأمر المقتنعون بجدواه في تيسير تعلم النحو قوله جلت قدرته: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما لذبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) (الرعد:7) ، فعسى الله أن يجعل أمرنا هذا مما ينفع الناس ، ويمكث في الأرض ، وما توفيقنا إلا بالله ، عليه توكلنا وإليه ننيب.
شكل التصنيف المقترح لإعادة ترتيب مصادر التقعيد النحوي من وجهة نظر أصولية
شكل يصعب رفعه على الموقع
[1]*أستاذ محاضر في أصول الفقه بكلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية – الجامعة الإسلامية بماليزيا.
[1]انظر: السيوطي، المزهر في اللغة (طبعة القاهرة، بدون سنة الطبع..) ج1 ص7.
[2]انظر: المرجع السابق ج1 ص7.
[3]انظر: الدكتور أنيس، إبراهيم، في اللهجات العربية (مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثامنة 1990) ص 17.
[4]واللهجة الآرامية هي اللهجة التي كانت يتحدث بها قبائل إرم البدوية التي كانت تعيش في الشام وغربي بلاد الرافدين، وهذه اللهجة هي التي أقصت اللغة الآشورية بعد تمكن الآراميين من الحكم، وقد أقصت لغة القرآن هذه اللهجة الآرامية بعد تمكن المسلمين من فتح بلاد الرافدين غرباً وشرقاً. انظر: قلعجي، الدكتور محمد رواس، لغة القرآن – لغة العرب المختارة – (بيروت، دار النفائس، طبعة أولى 1988م) وما بعدها.
[5]اللهجة القبطية هي التي كان أهل مصر يتكلمون بها قبل الإسلام، وقد أقصتها لغة القرآن بعد تمكن المسلمين من فتحها، وغدت القبطية لغة ثانوية بعد أن كانت سائدة.. انظر: قلعجي، الدكتور محمد رواس، لغة القرآن، ص 8 وما بعدها.
[6]انظر: الشافعي، الرسالة بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر (طبعة ثانية 1979م، مكتبة دار التراث بالقاهرة) ص 41 – 42 باختصار.
[7]وأورد القاضي هو الآخر – كما نقل عنه الغزالي – جملة من الأدلة التي تساند ما ذكره الشافعي في هذا الموضوع، ويمكن تلخيص تلك الأدلة في الآتي:
أ. قوله تعالى: ولو جعلناه قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) فصلت: 44.
ب. قوله (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان لذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) النحل 103.
ج. لو كان فيه ألفاظ أعجمية لما صح كونه عربيّاً محضاً، كما مر ذلك في الآيتين وإنما كان يصح أن يقال: إنه قرآن عربي، وأعجمي، وإذ لم يقل دل ذلك على أن القرآن كله عربي محض، لا أعجمي فيه..
د. لو كانت فيه ألفاظ أعجمية لصح لقريش أن يدعوا عجزهم عن الإتيان بالألفاظ غير العربية لغرابتها، لا عن الإتيان بالألفاظ العربية، ولو ادعوا ذلك لما صح التحدي، والإعجاز ولكنهم إذ لم يفعلوا، دل ذلك على أن القرآن كله عربي محض، لا أعجمي فيه، وخاصة أن قريشاً كانوا حريصين كل الحرص، وولعين كل الولع على الإتيان بمثل تلك الدعوى، ومع ذلك لم يفعلوا.. وحاول القاضي أن يرجع الألفاظ التي يدعى أنها غير عربية إلى أصول عربية، وزعم أن أصول تلك الألفاظ كلها عربية، لكنما القوم هم الذين غيروا فيها تغييراً كما غير العبرانيون بعض الألفاظ مثل ((إله)) إلى ((لاهوت)) و((ناس)) إلى ((ناسوت))، وهلم جرا.. انظر تفاصيل هذا الرأي في: الغزالي: المستصفى من أصول الفقه، (المكتبة التجارية، الطبعة الأولى 1937م) ج1 ص 105، والآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، (مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع) ج1 ص 50 والسكبى، الإبهاج شرح المنهاج، (مكتبة الكليات الأزهرية طبعة 1982م) ج1 ص 281.
[8]انظر: الغزالي، المستصفى من علم الأصول ج1 ص 106.
[9]انظر: السيوطي، المهذب ص 65.
[10]الحديث متفق عليه، والرواية مذكورة عن ابن عباس – رضي الله عنهما.
[11]إنه من المؤسف حقاً ألا يجد المرء في الدراسات التي عني بها كثير من العلماء حول هذا الحديث أية محاولة تهدف إلى استخلاص المعنى المراد بالأحرف من هذا الحديث، وذلك عن طريق تطبيق كل الأوجه المذكورة على سورة الفرقان، فينظر – على سبيل المثال – مدى اشتمال هذه السورة على لهجة قبيلة من القبائل الواردة لهجاتهم في القرآن الكريم، فإذا ما ألفى الباحث لهجة غير قرشية حق له أن يدعي أن المراد بالأحرف السبعة هي اللهجات، وليست الأوجه. وإذا ما عجز عن العثور على أية لهجة في السورة برمتها غير لهجة قريش لاذ بالتنقيب عن مدى ورود الأوجه التي يقع بها التغاير، فإذا لم يفلح على ورود أي وجه من الأوجه السبعة نبذه وراءه – ظهريّاً – الرأي القائل بأن المراد بالأحرف الأوجه، ولينتقل بعد ذلك إلى التحقق من مدى ورود القراءات السبعة أو جلها – على الأقل – في السورة. وبهذه المنهجية يمكن التوصل إلى المعنى المراد بالأحرف، ولا شك أن تطبيق هذه المنهجية ليس بالأمر العسير. وعسى الله أن يمد لنا في الأجل، فنعنى بتأصيل القول في هذا الأمر بإذنه تعالى.
**انظر: الطبري، تفسير الطبري، بتحقيق آل شاكر، (مصر، طبعة المعارف..) ج1 ص 48، والقسطلاني، لطائف الإشارات لفنون القراءات بتحقيق عامر عثمان وعبد الصبور شاهين، (القاهرة، طبعة 1972م) ج1، ص 33، والزرقاني، مناهل العرفان ج1 ص 180.
[12]لقد عني الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه القيم ((مناهل العرفان في علوم القرآن)) ج1 ص 180 وما بعدها – بعرض الأقوال الواردة حول المراد بالأحرف السبعة في الحديث المذكور أعلاه، بيد أنه اختار رأياً دافع عنه بضراوة شديدة، واعتبر بقية الآراء باطلة وضعيفة، وعرضها في معرض غلب عليه انتهاج التعسف في فهم بقية الآراء، وما ذلك إلا لأنه رسم لنفسه هدفاً يتمثل في الحفاظ على ما ارتآه، وتوهين ما عداه لئلا يكون أي من الآراء المخالفة حجر عثرة في طريق من يقتنع بما اختاره وأيده، وقد رد المذهب الذي يرى أن المراد بالأحرف اللهجات قائلاً بأن في القرآن ألفاظاً كثيرة من لغات قبائل أخرى غير السبعة.. وهو بذلك يكرر ما ذكره أبو عبيدة في كتابه ((لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم))، وليت الشيخ توقف عند هذا الحد في الرد على الرأي الذي اخترناه، لكنه رد على نفسه بعد سطور بطريقة غير مباشرة، فقال ما نصه – بعد أن نقل قول الواسطي من أن في القرآن أربعين لغة..
((.. ولا يغيبن عن بالك أن هذه اللغات كلها تمثلت في قريش باعتبار أن لغة قريش كانت المتزعمة لها، والمهيمنة عليها، والآخذة منها ما تشاء مما يحلو لها ويرق في ذوقها، ثم يأخذه الجميع عنها، حتى صح أن يعتبر لسان قريش هو اللسان العربي العام، وبه نزل القرآن..)) أهـ. فهذا القول يعني أن كل لهجة في القرآن لا تخفى على قريش، والحال خلاف ذلك، بل ينطوي ما ذكره الشيخ على تناقض سافر؛ وذلك أنه ينطلق من اعتبار لغة قريش مؤلفة من لغات العرب، وأن العرب جميعاً تعود بعد ذلك لتأخذ عن قريش..!!
ومما يضاف إلى تعسف الشيخ الزرقاني – رحمه الله – في حمل الرأي المخالف ذهابه إلى أن القول بأن المراد بالأحرف السبعة اللهجات يقتضي أن يكون القرآن أبعاضاً، منه ما هو بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، وهكذا.. ولاشك أن ذلك غير محقق لحكمة التيسير الملحوظة للشارع الحكيم في نزول القرآن على سبعة أحرف.
هذا القول نخال صاحبه مخطئاً الرمية، وذلك لما سبق أن قررنا أن لغة القرآن أوسع وأشمل من لغة قريش، صحيح أن نسبة لغة قريش فيه أعلى من نسبة أية لغة أخرى، ولكنه ليس صحيحاً أنه ليست فيه إلا لغة قريش، وليس أدل على ذلك جملة مسائل وأمثلة ستأتي معنا تدل على هذا الأمر. وأما القول بأن ذلك يتعارض مع حكمة التيسير، فالعكس هو صحيح، ولا تيسير – في نظرنا المتواضع – أجل من إقرار قوم على اتباع لهجتهم عند النطق بالقرآن الكريم بدلاً من أمره بقراءته على لغة غيرهم.
وعلى كل، لسنا في معرض رد تفصيلي على ما ذكره الشيخ الزرقاني، وإنما وددنا أن نتوقف هنيهة أمام ما أورده من اعتراض على هذا الرأي، والذي نخاله فيه غير مصيب البتة.
[13]انظر: أحمد مختار عمر، لغة القرآن دراسة توثيقية فنية، (طبعة أولى 1993م، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي) ص 58.
[14]انظر: الزرقاني، مناهل العرفان ج1 ص 173 باختصار.
[15]إننا لن ننسى أن نثير في هذا المقام إشكالية تتمثل في العلاقة بين فصاحة لهجة برمتها بسبب اشتمال القرآن على جزء منها وبين انحصار الفصاحة في الجزء الذي اشتمل عليه القرآن، وأما ما عدا ذلك الجزء فلا يلزم بالضرورة كونه فصيحاً أو عدمه. وهذه الإشكالية تؤكد على المقصد الذي سنورده بعد قليل والذي يتمثل في وضع القرآن الكريم منهجية لانتقاء الفصيح من اللهجات وتجاوز المنهجية القرشية في تعاملها مع لهجات القبائل إن استيعاباً وهضماً أو استيعاباً فقط.
[16]انظر: الزركشي، بدرالدين، البرهان في علوم القرآن بتحقيق محمد أبو الفضل (طبعة الحلبي الثانية) ج1 ص 217 وما بعدها.
[17]انظر: الرافعي، مصطفى، تاريخ آداب العرب (نشر المكتبة التجارية الكبرى، طبعة ثانية) ج1 ص 85 وما بعدها بتصرف.
[18]ربما ذهب ذاهب إلى القول كابن الجزري في كتابه ((النشر في القراءات العشر)) ج1 ص24، بأن هشام بن حكيم قد كان قرشيّاً مثل الفاروق؛ ولذلك، فإن إنكار الفاروق عليه قراءته لا علاقة له بمسألة اللهجة. بل لئن اعتقد معتقد كابن حجر في فتحه ج9 ص21، بأن سبب الاختلاف بين الفاروق وهشام يعود إلى أن عمر حفظ السورة قديماً ولم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه، وأما هشام فقد سمع ما نزل من السورة أخيراً لكونه من مسلمة الفتح، وقد كان المنزل الجديد سبباً في إنكار الفاروق عليه. فكلا هذين التخريجين لسبب الاختلاف بي الفاروق وهشام مردود، ومنقوض؛ وذلك لأن هشاماً لو كان قد قرأ القرآن على لهجة قريش لما كان للفاروق ليعترض عليه في شيء، مما يؤكد على أن اعتراض الفاروق إنما كان سببه سماعه قراءة في لهجة لم يعهدها من قبل، أو ربما عهدها، ولكنه بحكم قرشيته اعتقده من مستقبح اللهجات وليست من أفصحها. كما أنه لو كان الأمر متعلقاً بالجديد الذي حفظه هشام ولم يعلم الفاروق بنزوله لكان يسع هشاماً أن يخبره بذلك، ولكان الرسول – عليه السلام – ينبئ الفاروق بأن هذا آخر ما نزل من السورة، فلا داعي للاستغراب والإنكار. ولكن شيئاً من هذا وذاك لم يحدث، مما يؤكد على كون منشأ النزاع بينهما اختلاف اللهجات.
[19]يروى في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر، فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقرآ، فحسن النبي – صلى الله عليه وسلم – شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا، فقال لي: يا أبيُّ أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد عليه الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلي الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، ولكل بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي. وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم – صلى الله عليه وسلم.
[20]قلما يجد المرء كتاباً يؤرخ لنشأة النحو يتجاوز ذكر هذه الحادثة التي خلاصتها: أن التابعي الجليل أبا الأسود الدؤلي دخل ذات يوم على ابنته في وقدة الحر بالبصرة، فقالت له: يا أبت ما أشد الحر؟ فقال لها: ((شهراً ناجز)) ظناً أنها تسأله عن أي زمان يكون الحر فيه أشد… فقالت له ابنته: يا أبت، إنما أخبرتك، ولم أسألك ((فكان سبب قيام أبي الأسود الدؤلي بأمر من سيدنا علي – كرم الله وجهه – بتدوين القواعد. انظر: تفاصيل القصة في الأغاني للأصفهاني ج1 ص101 وما بعدها… فهذه القصة – على افتراض صحتها – لا تكفي بأي حال من الأحوال أن تكون سبباً لوضع علم النحو؛ وذلك لأمرين أساسين:
أ. جو القصة الذي يدل دلالة واضحة على فشو اللحن، وشيوعه قبل حدوث هذه الحادثة، والدليل على ذلك تأثر الجارية بذلك الوضع، وإلا أنى لها أن تنفرد بهذا اللحن دون غيرها من ناس عصرها؛ ولذلك، فإننا لا نشك، على افتراض صحة القصة – أن يكون اللحن فاشياً في بيت أبي الأسود الدؤلي نفسه، والدليل على ذلك لسان ابنته التي لم تكن تعرف الفرق بين ما التعجبية وما الاستفهامية، وإذا كان أولى جبهة يتعلم منها الطفل البيت وبتعبير أدق الأسرة، فإن بنت أبي الأسود الدؤلي بلا شك قد تعلمت هذا اللحن من أحد أفراد الأسرة، ولئن استبعد أبوها، فلا يستبعد ان تكون أمها أو إخوتها أو أخواتها مصدر هذا اللحن الدقيق. وبناء على ذلك، فقد كان الأولى القيام بحركة التقعيد في فترة مبكرة. ولئن استبعد امرؤ وجود ظاهرة اللحن الفاشية في بيت أبي الأسود الدؤلي، فإنه ليس بالإمكان غمض أعيننا عن أن تكون.
ب. بنت أبي الأسود الدؤلي طفلة ولما تخل لغتها من لحن الأطفال الذي يعتبر أمراً عادياً لدى كل طفل، والذي يعد أساساً لتعلم الصحيح، فربما يعود سبب عدم تفريقها بين ما التعجبية وما الاستفهامية إلى حداثة سنها، وإذا كان كذلك، فقد كان يكفي أبا الأسود الدؤلي أن يقوم لها لحنها، ويصحح لها خطأها العارض، وإذا لم يفعل شيئاً من ذلك، فإن ذلك لدليل على تجاوز بنته سن لحن الأطفال، وتأثرها بجو البيت وببعض أفراد الأسرة. إذاً باستحضار هذين الأمرين التحليليين، يمكن المجازفة بهذه القصة، والاستغناء عنها، وتجاوزها جملة وتفصيلاً، وربما لن يكون ثم جرم إذا نسبها المرء إلى عالم الأسطورة، أو الخرافة. وعلى كل، فإن الفصل في هذا الأمر متروك لذمة المستقبل القريب عن طريق قراءة إبستمولوجية متمكنة لجو القصة ورواتها، وعسى الله أن يمن علينا بفيض رحمته في المستقبل القريب، فنوسع هذا الأمر جانب الدراسة بإذنه تعالى، وما توفيقنا إلا به.
[21]وهذه القصة كسابقتها يجدها المرء شهيرة في كتب النحو، وخلاصتها تقول: إن رجلاً دخل على زياد بن أبيه، فقال له:
((إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا)) فقال له زياد: ((ما صنعت من نفسك أكثر مما ضاع من مالك…)) (انظر هذه القصة بروايتها في عيون الأخبار ج2 ص59 وما بعدها..) ولهول هذه الحادثة ووقعها على نفس أمير المؤمنين آنذاك أعلن حالة طوارئ في دولته، وأعد الرجال لمواجهة هذه المصيبة الخطيرة التي ستكون عقباها – إذا لم تتدارك – وخيمة ومدمرة.
وإنه لا يخالج الباحث ذرة من شك من أن تكون هذه القصة من بنات أفكار القصاصين المغرمين برواية واختلاق النكت؛ ولذلك لأمر ما لا يجد المرء في القصة أي شيء يحدد هوية ذلك الرجل، وخاصة إذا علمنا أن دولة الإسلام في أيام زياد لم تعد قاصرة على ربوع الجزيرة وشبهها، وإنما توسعت رقعتها، وترامت أطرافها، فأصبح سكانها عرباً وعجماً وأمماً بين ذلك، وبناء على ذلك، فقد كان الأولى – كما هي العادة دائماً – ذكر وصف لذلك الرجل، كأن يقال: دخل رجل أعرابي على زياد، أو رجل فارسي، أو رومي أو حبشي. إلخ… ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ولعل مرد ذلك إلى فطانة أولئك القصاصين ووقدة قرائحهم؛ إذ إنهم لو وصفوا ذلك الرجل بالأعرابي لما شك امرؤ في اختلاق القصة وفي كونها خرافة بائدة زخرفتها مجالس السمار، بل لو وصفوه بالفارسي أو الحبشي أو الرومي لما هالت الحادثة أمير المؤمنين، وما أعلن قانون الطوارئ في مملكته، ولكان كافياً له تفهم وضع الرجل وظروفه.. ولهذا، فكل ما في الأمر هو أن هذه القصة بفصها وفصلها قرينة القصص الأسطورية والخرافية التي يبتغي من روايتها الترفيه عن النفوس، ودعوة المسامرين إلى القهقهة والمرح الخ.
[22]انظر: السيوطي، جلال الدين، الاقتراح في علم أصول النحو بتقديم وضبط وتعليق د. أحمد الحمصي، ود. محمد قاسم (جروس برس، طبعة أولى 1988م) ص 24.
[23]يروي السيوطي في الاقتراح ص 129 عن الأندلسي أنه قال في ((شرح المفصل)): الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً، فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلاً، وبوبوا عليه بخلاف البصريين.. ومما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا: نحن نأخذ اللغة من حرشة الضبا وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ ..)) أهـ.
[24]انظر: ابن حزم، علي بن محمد، الفصل في الملل والأهواء والنحل (.. طبعة سنة 1928م) ص 29.
[25]انظر: الرازي، أبو بكر حسين، مفاتيح الغيب الشهير بالتفسير الكبير ج3 ص159 أو ص193.
[26]انظر: الدفاع عن القرآن ضد النحويين والمستشرقين – د. أحمد الأنصاري – (مصر، دار المعارف 1973م) ص هـ وز.
[27]انظر: الأفغاني، سعيد، في أصول النحو (بيروت، المكتب الإسلامي، طبعة 1987م) ص31.
[28]انظر: البغدادي، خزانة الأدب (المطبعة السلفية 1347هـ) ج1 ص23.
[29]انظر: مجلة مجمع اللغة العربية العدد 3 ص199 بحث للشيخ محمد الخضر الحسين بعنوان ((الاستشهاد بالحديث)) نقلاً من كتاب في أصول النحو للأفغاني ص 47 – 48 بتصرف واختصار.
[30]انظر: السيوطي، الاقتراح ص 41 – 42 بتصرف، وقد حاول أبو حيان الرد على هذا المنهج الجديد في الاعتداد بالحديث النبوي مصدراً للتقعيد، فقال – بعد أن اعتبره بدعة لا يليق صدورها عن مثله – مبرئاً ساحة النحاة الأقدمين من عدم الاحتجاج بالحديث:
((وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول المبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب، وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما ..)) انظر: السيوطي، الاقتراح ص 42 وما بعدها باختصار.
وهذه المنهجية الجديدة لدى رواد مدرسة الأندلس النحوية أكدها الإمام المقرى في كتابه ((نفح الطيب بتحقيق محيى الدين، طبعة مطبعة الحلبي)) عندما بين منهج الإمام ابن مالك قائلاً: ((كان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، وإن لم يكن فيه عدل إلى إشعار العرب)) أ. هـ ج2 ص 322 باختصار .. والجدير ذكره أن بعض المؤرخين المحدثين لحركة التقعيد النحوي (كالدكتور عبد العال سالم مكرم في كتابه: القرآن وأثره في الدراسات النحوية، مؤسسة علي الصباح، طبعة ثانية 1987م ص 190 وما بعدها) يذهبون إلى اعتبار ابن مالك أحد رواد مدرسة مصر النحوية؛ وذلك لأن ابن مالك هاجر من الأندلس إلى المشرق، ووافته منيته في المشرق.. ولكن الأولى اعتباره من رواد مدرسة الأندلس، وذلك لأن هجرته إلى المشرق كانت بعد أخذه نصيبه من العلم في الأندلس، وقد أثر فيه التعليم العام الذي شب عليه في الأندلس، مما جعله ينتهج منهجية مخالفة لمناهج نحاة المشرق وخاصة البصريين والكوفيين والبغداديين.. وعليه، فاعتباره من رواد مدرسة الأندلس أولى وأدق. والله أعلم. وأما ابن هشام الذي تتلمذ على أبي حيان الأندلسي البصري النزعة، فقد تجاوز أستاذه في هذه المسألة، فأكثر من الاستدلال بالحديث النبوي في كتابه شذور الذهب، ومغني اللبيب، الأمر الذي جعل كثيراً من الناس يذهبون إلى القول بأنه قد كان كثير المخالفة لشيخه أبي حيان، شديد الانحراف عنه.. انظر ما قاله السيوطي في ذلك في (بغية الوعاة) في ترجمة ابن هشام.
[31]من المعلوم أن ابن مضاء الأندلسي المتوفي سنة 592 هـ قد قاد حملة شعواء على نحاة المشرق وخاصة البصريين، وألف جملة من الكتب للرد على نحاة المشرق ومن كتبه ((المشرق في النحو، والرد على النحويين، وتنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان ..)) ولعل أهم حملة عنى برفع لوائها هي دعوته إلى إلغاء نظرية العامل التي يقوم عليها النحو منذ عهد الخليل، وإلغاء القياس واعتماد السماع بدلاً منه، وكثيراً ما ضاق ذرعاً بتأويلات النحاة وتخريجاتهم القرآنية .. لمزيد من الإحاطة بثورة ابن مضاء على نحاة المشرق يراجع كتابه: الرد على النحاة بتحقيق شوقي ضيف (طبعة دار الفكر العربي).
[32]انظر: في أصول النحو للأفغاني ص 46 وما بعدها.
[33]انظر: ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب بتحقيق وتعليق د. مازن المبارك، ومحمد حمد الله، ومراجعة سيد الأفغاني، (بيروت، طبعة خامسة 1979م) ص 478، وقد أورد الحديث ابن هشام في معرض التدليل على واو علامة المذكرين في لغة طيء، أو أزد شنوءة، أو بلحارث.. والجدير ذكره أن اللغة التي تعرف عند النحاة بلغة ((أكلوني البراغيث)) من اللغات التي اشتملت عليها لغة القرآن في قوله (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) المائدة 71. ولا حاجة إلى استصحاب تأويلات النحاة وتخريجاتهم لهذه الآية وغيرها، وقد كان يسعهم أن ينتهوا إلى القول بجواز كلا الأمرين وصحتهما، وليس أي منهما لحناً، ورحم الله ابن مالك الذي نبه إلى هذا، فقعد قائلاً:
وجرد الفعل إذا ما أسندا لاثنين أو جمع كفاز الشهدا
وقد يقال سعدا وسعدوا والفعل للظاهر بعد مسند
[34]انظر: الموطأ للإمام مالك.
[35]انظر: أبو حيان، البحر المحيط ج 6 ص 255 وما بعدها ..
[36]رحم الله الإمام السيوطي، فقد نقل هذا الحكم في ((اقتراحه)) ص 36، وانتهى إلى كونه مطبقاً عليه، بيد أنه أردف أن الاحتجاج بالقراءات الشاذة مطبق عليه إذا لم تخالف قياساً معروفاً، ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه… ومحصلة هذا القول توقف الاحتجاج بالقراءات الشاذة على شرط عدم مخالفتها القواعد النحوية المستنبطة، ولا يخفى ما في هذا الأمر من تضييق، بل ما كان للإمام ليبقى الاحتجاج بالقرآن بمتواتره وآحاده في دائرة الجواز، وإنما ينبغي اعتبار ذلك في دائرة الوجوب باعتبار القرآن مؤصلاً ومؤسساً للأحكام الفقهية والعقدية والخلقية والنحوية واللغوية بشكل عام؛ وذلك لأن ما يتوافر في القراءات متواترها أو آحادها أو شواذها من صحة سند، واتصال لا يتوافر مثل ذلك في أي شعر جاهلي، أو في أي نثر جاهلي؛ ولذلك، فلابد من تقديم الأسلوب القرآني بجميع قراءاته المتواترة والآحاد على جميع المصادر النحوية الأخرى.
[37]تفسير المنار عند تفسيره قوله تعالى في المائدة: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) (آية 106).
[38]يرى الكوفيون جواز العطف على موضع اسم ((إن)) قبل تمام الخبر، وأما البصريون فيرون عدم الجواز على كل حال. والأصل في الجواز هو الآية المذكورة، ينبغي تجاوز قول نحاة البصرة وعدم الاعتداد بتأويلاتهم وتخريجاتهم التي ما كانت ثمة حاجة تدعو إليها لولا التوسع في تحميل الأسلوب القرآني ما لا يحتمل.. انظر: الأنباري، الإنصاف، ج1 ص 185.
[39]يرى الكوفيون جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، وحرف الخفض لضرورة الشعر، وأما البصريون فيرون أن ذلك لا يجوز بغير الظرف وحرف الجر والأسلوب القرآني جاوز قاعدة كل منهما. كما في الآية المذكورة، ولبرح كل امرئ نفسه من التأويلات والتخريجات التي ما أنزل الله بها من سلطان..
انظر: الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد (بيروت، المكتبة العصرية، طبعة 1987م) ج2 ص427.
[40]روى الأنباري الآراء الواردة في هذه المسألة، وانتهى إلى تقرير القول: ((.. وبهذا يبطل قول من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الإسم بعد ((إذا)) مرفوع؛ لأنه مبتدأ إما بالترافع، أو بالابتداء في نحو قوله تعالى: (إذا السماء انشقت) لأن ((إذا)) فيها معنى الشرط، والشرط يقتضي الفعل؛ فلا يجوز أن يحمل على غيره …)) أ. هـ. انظر: الإنصاف ج2 ص620… فجلي بهذا الحكم انبهاره بما انتهى إليه نحاة البصرة مع أن الإنصاف يقتضي من صاحب الإنصاف خلاف ذلك، فالقرآن الكريم كفاه حجة في تغيير القاعدة النحوية التي ألزمت نفسها بعدم جواز حمل الشرط على غير الفعل.
[41]مما يؤسف له أن بعضأ النحاة خطئوا هذه القراءة، وفي ذلك يقول المبرد في مقتضبه: ((.. وقد قرأ بعض القراء بالإضافة فقال: (ثلاثمائة سنين) وهذا خطأ في الكلام غير جائز، وإنما يجوز في الشعر للضرورة…
__انظر: المبرد، المقتضب، بتحقيق الشيخ عضيمة (مصر، طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية) ج2 ص 171. وليس صحيحاً في شئ تخطئة هذه القراءة المتواترة بقاعدة نحوية تفتقر إلى التواتر الحقيقي؛ ولذلك، فالأولى تجاوز حكم النحاة الاجتهادي غير المعصوم في هذه القضية.
*ملحوظة: قد يجد المرء ثمة شبهاً بين التصنيف المقترح والتصنيف الذي استنبطناه من استشهادات بعض رواد مدرسة الأندلس ومصر، ولكن نظراً إلى أنهم لم يعنوا بالتنصيص على هذا التصنيف، ولم يوسعوه جانب التأصيل العلمي الواضح، مما دفع بنا إلى هذه القراءة المتواضعة في مصادر التقعيد النحوي، وقد حاولنا إبراز هذا التصنيف في شكل منهجي صارم منضبط، فليتأمل!