إن العنوان العام لهذا المؤتمر ،فى هذا المناخ السياسى – الاقتصادى – التبشيرى العام ،بحاجة إلى وقفة يتم فيها توضيح بعض النقاط : فالاتجاه “نحو فلسفة إسلامية جديدة ” يتطلب عرضاً للحقائق التى يتناولها الغرب بأقلام باحثيه ،الأمناء منهم والمغرضين ،فالحاجة إلى الجديد تتولد إما نتيجة لعدم صلاحية ما هو قديم أو لعدم الاكتفاء به وحده ،وإما من قبيل المواكبة أو التقليد والانصياع.
وعندما يتعلق هذا “الجديد ” بالإسلام أو بأحد المجالات المميزة له ،وفى مثل هذا التوقيت بالذات ،فلابد من أن تكون الوقفة أكثر وضوحاً وأكثر موضوعية ،لتوضيح الإطار العام لذلك المناخ ،كما يتم فيها التعريف بعبارات محددة ،لأهميتها فحسب ،وإنما لاختلاف معناها وقفاً لتناولها من وجهة نظر الغرب أو من وجهة نظر الشرق ،ذلك لأنها أصبحت من العبارات التى تتصدر مختلف الحوارات الحالية ،ومنها ،التغريب والحداثة والأصولية، والتبشير.
والحوار أو المعنى هنا ،مفترض أنه يدور بين ما اعترف على تسميته حالياً بالشمال والجنوب ،أو الشرق والغرب ،وإن كان التعبير الأشمل لكل قضايا الساعة هو : الغرب المسيحى والشرق الإسلامى .
وإذا ما كانت أبجدية الحوار تتمثل فى نظر م . تيتلر M.Teitler“إنها طريقة إقناع تشوبها الكرامة فى تعامل كافة الأطراف الذين حتى وإن اختلفت آراؤهم ،فإن مصلحة مشتركة تجمعهم ،هى البحث عن أكبر قدر من الحقيقة التى يمكن لعقل أن يتوصل إليها عبر جو من الثقة والاحترام المتبادل “(1)،فمن الواضح جلياً أن المناخ السياسى – الاقتصادى التبشيرى لا ينم عن أية كرامة فى تعامل كافة الأطراف ،على الرغم من المصلحة المشتركة ،ولا ينم عن أية ثقة أو عن أى احترام متبادل .. فالغرب ينظر إلى الشرق نظرة السيد المتغطرس إلى العبد الذليل ،والعبد ينظر إلى السيد – وقد انكشفت كل عوراتهما – نظرة بلهاء محبطة ، ذلك أن عورة الأول هى القهر والقرصنة ،وعورة الثانى هى التواطؤ والتعبية .
فما يدور فى الواقع من حوار هو استبداد من جانب واحد : استبداد لفرض سياسة النظام العالمى الجديد ،بعيداً عن أى وجود للقانون الدولى وحقوق الإنسان ،واستبداد لغرض اقتصادى هو استمرار للاستعمار المباشر والتبعية للغرب ،واستبداد لغرض التعصب الكاثوليكى بإيقاع وسائل لا تمت بصلة إلى مبدأ احترام عقائد الآخرين ،فما من مرجع اليوم يغفل ما بين الاستعمار والتبشير من تضافر على مر الزمان ،ولا ما بين التبشير والمنظمات غير الحكومية (ONG) من مجال عمل مشترك وهدف واحد .
وتتضافر هذه المجالات الثلاثة فى مخطط وهيب – إذا بات مكشوفاً – لتغريب العالم الثالث بعامة واقتلاع الإسلام بخاصة .
وليس هذا التضافر بجديد ،إذا بدأ منذ القرن الثامن الميلادى ،عندما قام الغرب باعتبار الإسلام عدوه
الأساسى “(2)،وذلك لكشفه التحريف الذى تم فى العقيدة المسيحية فى القرن الرابع ،ولإبطاله الرهبانية ووراثة الملك ،وتزايد هذا العداء حتى بلغ ذروته فى الحروب الصليبية التى قامت بزعامة البابا أوربان الثانى ولم تكن هذه هى أولى الحروب ضد الإسلام والمسلمين ،لكنها كانت أول حروب أوروبية جماعية تنهال على الإسلام غرباً ويواكبها غزو التتار شرقاً .. ولو غاص أحد الباحثين فى أرشيفها السرى لعثر على الروابط بينهما ..
ويتخذ هذا التضافر شكلاً جديداً مع بداية عصر النهضة الذى لم يكن مجرد صحوة فكرية وثقافية ،وإنما يعنى أساساً بداية ظهور الرأسمالية والاستعمار وبداية عمليات القتل العرقى وإبادة الحضارات ،وبداية استغلال الموارد الطبيعية للمستعمرات ،وبداية تجارة العبيد لسد احتياجات الاقتصاد الرأسمالى الوليد ،وقهر الشعوب وتدبير الاستعمار تحت ستار الدين وسلطانه … ويقول ج ،بروها (3)Bruhat: فقد قام البابا الكسندر السادس بإصدار مرسوم (3/5/1493) لتقسيم الأراضى الجديدة المكتشفة ،والتى سيتم اكتشافها ،وتوزيعها فيما بين أسبانيا والبرتغال ” لكى يتم تمجيد العقيدة الكاثوليكية والديانة المسيحية وتنتشر فى كل مكان … ولكى تتم السيطرة على الأمم المتوحشة وإخضاعها للإيمان ” .
ويزداد هذا التضافر وضوحاً فى العصر الحديث ،عن تفتيت الإمبراطورية العثمانية وفرض العلمانية على تركيا ،حتى ضرب القوى الإسلامية لمحمد عديد فى الصومال (4) ،مروراً بغرس الكيان الصهوينى فى فلسطين المحتلة ،وكل ما يدور بها وحولها من محاصرة وإبادة للمسلمين ،لا فى البوسنة وحدها ، وإنما على الصعيد العالمى ..
فما من دولة – حالياً – إلا ويضرب فيها الإسلام والمسلمون .
ولم نشر إلى ما تقدم من وقائع وأحداث ،والتى أصبحت من المسلمات التاريخية ،والتى أصبحت من المسلمات التاريخية ومن مفردات الحياة اليومية ،إلا لتوضيح مدى ارتباطها بتلك الاتفاقية القائمة بين المخابرات المركزية الأمريكية والبابا يوحنا بولس الثانى والمخابرات الإسرائلية .. وهو ما أشار إليه كل من جوردون توماس G.thomas وماكس مورجان ويت M.M.Wittفى كتابهما عن “كواليس الفاتيكان ” الذى صدر عام 1983 .
وتتضمن مراحل هذه الاتفاقية ثلاث مراحل :
– عقد الثمانينات لضرب الشيوعية .
– وعقد التسعينات لضرب الإسلام .
– ومطلع القرن الواحد والعشرين لتوحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما .
ولا نعتقد أن الأمر بحاجة إلى توضيح ،فالوقائع تتحدث عن نفسها .. كما أن افتعال الأحداث واختلاف الثورات أو حتى المجاعات ومواكبتها بالمبشرين و العاملين فى المنظمات غير الحكومية O N G)) بات من أبجديات قاموس السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية .. فالمطلوب حالياً هو الإجهاز على الإسلام قبل نهاية عام 1999 ..
وهنا لابد من توضيح معنى بعض الكلمات الرئيسية فى هذا الحوار ،لأنها أصبحت من الكلمات المصيرية فى هذا المناخ :
التغريب : L”Occidentalisation
يقول كورتليوس كاستوديادس (5): إن التغريب يعنى تحويل الحضارات والمجتمعات إلى النمط الغربى ،ويتم فرضه لضمان سهولة السيطرة على هذه المجتمعات وامتصاص مواردها الطبيعية ،اعتماداً على القوى العسكرية والحداثة بنزع الهوية والقتل العرقى واقتلاع الجذور لإدراج المجتمع تحت لافتة التخلف وإدماجه فى استراتيجية التنمية التى تحول الاستعمار إلى استعمار اقتصادى عن طريق تدخل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى .
أما سرج لاتوش فيقول عن هذه العملية المخططة التى تفرض على البلدان لقتل هويتها :”إن عملية تغريب العالم الثالث تعنى أولاً قتل الهوية ،أى قتل البنيات الاقتصادية ،الاجتماعية والأخلاقية التقليدية لتحل محلها كمية من الحداثة مصيرها الصدأ .. وما يتم اقتراحه على شعوب البلدان الدامية كبديل لهويتهم الثقافة الضائعة عبارة عن هوية عبثية وانتماء كاذب للمجتمع الدولى (6).
الحداثة : Modernisme
لقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة عام 1904 م عندما قام بعض الباحثين ورجال الدين بالمطالبة بضرورة تطبيق العلوم التاريخية والنقدية على النصوص الإنجيلية ،نتيجة لظهور العديد من الخلافات الناجمة عن تقدم العلوم الطبيعة ،والتى أثبتت عدم مصداقية المعطيات الإنجيلة ،أى أن مصطلح يشير أساساً إلى الصراع القائم بين الكنسية والعلم فى الغرب .
فقام البابا بيوس العاشر بإصدار مرسوم بعنوان “أشياء محزنة Lamentabil (3 / 7 / 1907 ) الذى عتبر أول تدخل عقائدى من الكرسى الرسولى فى أزمة الحداثة ،تلك “الأزمة التى أوقعت الكنيسة الكاثوليكية فى مأزق لم تخرج منه بعد (7)،أو كما يقول أ . بولا : لو استمرت لتفتتت الكاثوليكية ،وانتهت (8).
ثم أتبع هذا المرسوم الذى حرم فيه البابا مناقشة العقيدة ومختلف مراحل صياغتها ،بالخطاب الرسولى المعروف باسم “مراعى ” Pasendiالذى أدان فيه الحداثة ووصف كل من يتعامل مع هذا العلم ” بالهذيان والجنون والجرأة التدنيسية “،وطالب بإبعاد الحداثة عن الكنيسة وإغراقها فى الحياة الثقافية والعلوم الإنسانية والاجتماعية ،بل والعسكرية .
وانسابت وسائل الإعلام لتغرق العالم فى موجة الحداثة لطمس معالمها الدينية الأولى … وانساق المقلدون والأتباع مع المسلمين ،دونما تفكير فى حقيقة أصلها ،لفرضها على ثقافتهم وتراثهم المطلوب فقدانه .. وما أشبهه ما حدث فى كل هذه المجالات بما تم فى لعبة الفن الحديث التى أفردنا لها بحثا بأكمله (9).
الأصولية : Integrisme
ولد هذا المصطلح فى الأوساط الكاثوليكية الفرنسية قبل الحرب العالمية الأولى بقليل ،وقد صاغه مؤيد وانفتاح الكنيسة على العالم الحديث ،وهو يشير إلى التصلب الكاثوليكية بنصوص نسجوها على مر التاريخ فما من طبعة للإنجيل تطابق طبعاته الأخرى .. كما أنه تعبير مرتبط برد فعل الكنيسة ضد التغيرات السياسية والثقافية الناجمة عن عصور الثورة الفرنسية وعصر التنوير ،الذى قام من ضمن ما قام لمناقضة هذه النصوص .
وكان البابا بيوس التاسع قد أدان أخطاء العصر الحديث فى ثمانين بنداً عام 1846 واعتبر المجتمع الحديث ضد الكنيسة الكاثوليكية .. ثم قامت مجلة “الحضارة الكاثوليكية ” Civilta Cattolicaالتى تصدر تحت إشراف الفاتيكان بنشر البيان التالى :
“إن المبدأ الكاثوليكية لا تتعدل ،لا بسبب السنوات التى تمر ولا بسبب تغيير البلدان ،ولا بسبب الاكتشافات الجديدة ،ولابسبب المنفعة ،إنها المبادئ التى بشر بها المسيح ،ونادت بها الكنيسة ،وحددها الباباوات والمجامع ،وتمسك بها القديسون ،ودافع عنها المختصون ،ومن الضرورى تقبلها كما هى ،أو تركها كما هى ومن تقبلها بكاملها وبكل أبعادها فهو كاثوليكى ،ومن يوازن ويعوى ويتلائم مع الأزمنة ويساوم ،ليطلق على نفسه الاسم الذى يحلو له سيكون أمام الله وأمام الكنيسة ثائراً ومرتداً وخائناً (10).
ويقول روجيه جارودى :” إن الأصولية تمثل أكبر خطر فى العصر الحالى ،إذا إنه لا يمكن حل أية مشكلة بدءاً من جماعة جزئية ومن معتقداتها ..
ولا شك فى أنها مشكلة تمتد جذورها فى الاقتصاد والسياسة … وقد أدب الإعلام العالمى – حالياً – على الجمع بين الأصولية والإسلام ،فى حين أن الأصولية فى العالم الثالث بكل أشكالها قد ولدت من الادعاء الغربى منذ عصر النهضة لفرض نمطه فى التطور وفى الثقافة ،أى أن الأصولية الغربية هى السبب الأول الذى نجمت عنه باقى الأصوليات (11)” .
أما الأصولية فى الإسلام فتعنى التمسك بالنص القرآنى المنزل وبالسنة الصحيحة ،والعودة إلى الأصول الصافية بعيداً عن أى تحريف وانقسامات أو تغريب .
ويقول الدكتور محمد عصفور عن الأصولية المسيحية : إنها “أخطر الدعوات السياسية تأثيراً فى السياسة الخرجية الأمريكية بالنسبة للعرب ،حيث أنها فى جوهرها ترتكز على نبوءة فى التوراة (رغم الشك فى مصدرها التاريخى ) تقرر أن عودة المسيح عليه السلام – أو ظهوره من جديد لن يتحقق إلا فى آخر الزمان وأن بشارة مقدمة تكون بتجمع الشعب اليهودى من الشتات وإقامة دولة إسرائيل ،حيث سيحكم المسيح – عليه السلام – العالم لمدة ألف سنة قبل أن تقوم القيامة ،ويتم خلالها تحويل اليهود المسيحية ..
وهذه النبوءة التوراتية هى إحدى أصول العقيدة البروتستانتية (وهى المذهب الذى يدين به معظم الأمريكين ، ولا سيما الحكام ) . وحركة الأصولية المسيحية هى التى تفخم هذا الأصل وتستغلها الصهيونية العالمية لتحقيق أغراضها الاستيطانية وتبرير كل الاعتدءات ؛بل والجرائم التى يرتكبها قادة إسرائيل ،وهو ما يعنى أن السياسة الخارجية الأمريكية (بالنسبة للعلاقات بين العرب وإسرائيل ) تحددها هذه النبوءة التوراتية (12).
وتثبت الأحداث شدة تأثير المعتقد الدينى فى السياسة الدولية بعامة ،فلا أدل على ذلك من غرس الكيان الصهيونى فى فلسطين المحتلة تحقيقاً لنص مغلوط الفهم ،فما من وعد إلا وكان مشروطاً بالاستقامة والتوحيد وما من وعد إلا وأخل به اليهود ،كما أن وعد الأرض قد تم أيام إسماعيل الابن البكر لسيدنا إبراهيم ،وقبل أن يولد إسحاق بأربعة عشر عاماً … الأمر الذى يغير موازين القضية برمتها … فلا يحق لأحد بعد ذلك الادعاء بأنه لا أثر للدين فى السياسة الدولية ،خاصة وأن المسيحية دين سماوى بحث ،لاصلة له بشؤن الدنيا .. إن العمل على فرض العلمانية وحاولة فصل الدين عن السياسة فى الإسلام ،الذى هو تشريع كامل للدنيا والآخرة يعد انحرافاً بالعقيدة الإسلامية وخروجاً عليها .
التبشير :
لا نتناول موضوع التبشير إلا لتوضيح الموقف الذى نحن بصدده ولتضافره مع الشئون السياسية – الاقتصادية ولن نبدأ إلا من عام 1965 ،عندما أعلن المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى عن “تناسى المنازعات والعداوات الماضية … والعمل باجتهاد صادق سبيلاً للتفاهم (13).
وعلى الرغم من إجراء بعض لقاءات للتعارف أو التفاهم بين العقيدتين ،فقد قام الغرب فى الوقت نفسه – وعلى سبيل المثال لا الحصر – بإنشاء كلية فولر لإرسالية تنصير العالم ،ومعهد صاموئيل زويمر للأبحاث والتدريب على تنصير المسلمين ،ومنظمة التصور ،ومركز الاتصالات والدراسات المتقدمة لإرساليات التنصير ،ورابطة تنصير الأطفال .. إلخ ،كما أقيم العديد من المؤتمرات لدراسة كيفية مواصلة التبشير ،ومنها على سبيل المثال أيضاً – مؤتمر التنصير اعالمى لوزان عام 1947 ،وخاصة مؤتمر كلولورادوا عام 1978 الذى يعد أكبر مؤتمر من نوعه ،إذا حضره مائة وخمسون باحثاً متخصصاً فى أصول التبشير ، وتم تقديم أربعين بحثاً ،يتعرض كل بحث منها لنقطة من النقاط يمكن اختراق الإسلام منها وتنصير المسلمين ،كالثقافة والإعلام والصحة والمرأة والأسرة ،وخاصة هو ما يعنينا هنا ،البحث رقم 38 ،المعنون :
“دور الكنائس المحلية فى خطة الرب لخلاص المسلمين ” . وأخيراً وليس آخر ،مؤتمر مسيحى العالم العربى المنعقد فى باريس عام 1985 .
وكان الغرض من إقامة مؤتمر كولورادوهو “الإيمان بعد فاعلية الطريقة التقليدية “(14)المتبعة فى التصير ، وقد حضره ممثلون من قادة الكنائس الوطنية فى الشرق الأوسط وأفريقية كخبراء للاشتراك فى الدراسة والتخطيط ،ذلك أن الاعتماد على الكنائس المحلية إلى جانب العمالة الأجنبية (15) من الركائز الأساسية فى هذا المؤتمر ،على حد قول “والدرون سكوت ” إذ يقول :”يجب علينا أن ندرك الاحتمال القوى وإمكانية أن يقوم ربنا المسيح ،خلال العقود القادمة ،باستخدام كنائس العالم الثالث ووكلاته التنصيرية لتحل محل أو – على الأقل – لتكمل سعى إرساليات أمريكا الشمالية “(ص 789 ) .
ويقول أرثر أرثر كلاسر فى تقرير كولورادو : علينا أن نسعى إلى تركيز اهتمامنا على كافة الكنائس المحلية القائمة من أقل تدريب وتهيئة القساوسة والأتباع من أجل إدراك جديد بالإسلام ،ونحاول معا أن نطور ونشذب طرقاً تنصيرية أكثر ملاءمة ” .
أما ستانلى مونيهام فيقول فى تصدير المؤتمر نفسه :”لقد وطدنا العزم على العمل بالاعتماد المتبادل مع كل النصارى والكنائس الموجودة فى العالم الإسلامى “،ويجب أن تخرج الكنائس القومية من عزلتها وتقتحم بعزم جديد ثقافات ومجتمعات المسلمين نسعى إلى تنصيرهم .
وهنا لابد من وقفة ،فمسيحيو العالم العربى يمثلون جزءاً لا يتجزأ من نسيجه ،غير أن مجريات الأحداث السياسية وما يتم – حالياً – من محاصرة وإبادة للمسلمين ،وما يواكبها من مخططات تسعى لتدفع بمسيحيى الشرق بعامة ،وبأقباط مصر بخاصة إلى التواطؤ مع الغرب وخيانة الوطن .. فهل ذلك هو ما نريده ؟! .
إن ما قام به بعض الأخوة من مسيحى المهجر – من دعوة صريحة للاستعمار – بادعاء الشكاوى ومناشدة الغرب التدخل لإنقاذهم ،ما زال يتكرر على الرغم من استنكار قداسة البابا شنودة ،فها هو الأب ديوسكورس يعلن تأكيده على “اقتراب عودة المسيح “(16)فى نفس المقال الذى يشكو فيه د . ميلاد حنا من “الهستيريا الدينية الإسلامية “(17)،إلا أن ما نشرته مجلة “فيجاروا ” على ست صفحات (فى 15 مايو 1993) بعنوان “محنة الأقباط فى مصر “، ومنها صفحة بأكملها لوجه البابا شنودة رافعاً بيده اليسرى الصليب والصولجان معاً ،يضفى على الموضوع معانى مختلفة تماماً .
وسواء تتم هذه الموضوعات بمبادرة فعلية من الأخوة المسيحين – استجابة لدعوة الغرب – أو أنها إخراج لهم للزج بهم فى حلبة الصراع ،فإنه يتعين عليهم اتخاذ موقف شديد الوضوح – بين التواطؤ مع الغرب ،أو الدفاع عن الوطن ووحدته .. فإذا ما ربطنا كل ما يدور بالأصولية المسيحية الصهيونية ،المؤمنة بمذهب الألفية ومشروع عودة المسيح ،باتفاقية البابا يوحنا بولس الثانى مع المخابرات الأمريكية واليهودية ،بأول خطاب رسولى له ،بعنوان “تقويم البشر Redemptor Hominis(4/3/1979) الذى خالف فيه قرارات المجمع الفاتيكانى الثانى ،وجولاته فى البلدان التى يتم فيها التبشير بضغوط سياسية – اقتصادية ، بكتاب “التعليم الدينى الجديد (Catechisme) الذى صدر فى باريس فى نوفمبر 1992 ،بكتاب توماس كرينان الذى صدر عام 1975 عن “العرب ” ووصفه لهم بأنهم “متآمرون على الاقتصاد العالمى ” وطالب فيه بحرب لإبادتهم ونهبهم لضمان أمن الغرب وأزدهاره .. وإذا ما ربطنا بين ما يدور على الصعيد العالمى بما تم عمليات تنصير قبل عمليات الإنقاذ التى تقوم بها المنظمات المسيحية فى البوسنة أو فى الصومال ، كما أعلنته شبكة CNNأكثر من مرة ،لأدركنا التضافر الحميم بين عناصر هذا المناخ السياسى – الاقتصادى – التبشيرى الذى يحيط بالعالم الإسلامى حالياً .
وإذا ما تساءلنا عن سر هذا العداء وهذه القرصنة ،أجاب أحد المشتركين فى مؤتمر كولورادو قائلاً :”لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذى تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية .. وأن النظام الإسلامى هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً .. وأنه – الإسلام – حركة دينية معادية للنصرانية ،مخططة تخطيطا يفوق قدرة البشر ” .
ولا تعليق على استمرار غرس روح والعداء والمغالطة ،وتكفى الإشارة إلى يقنيهم بأن القرآن منزل ويفوق قدرة البشر ..
أما فيما يتعلق بالطرف لآخر فى هذا الحوار الإسلامى ،فلا يسع المجال لتناول أمجاد المسلمين ولا سرد إسهاماتهم فى الحضارة الغربية ،فقد باتت من الأمور المعترف بها بفضل العديد من الأمناء من الباحثين الغربيين أو الشرقيين ،ورغم جهود السمتشرقين ،ورغم جهود المستشرقين لطمس معالمها أو لتشويشها ، لكننا سنبدأ بالوضع الراهن للعالم الإسلامى كما جاء فى استشهاد لأحد المشاركين فى مؤتمر كولورادو ، القس دون ماكرى ،وهو منصر ويعمل مديرا لمعهد زويمر للتنصير : إن وحدة العالم الإسلامى على أية حال مضمحلة أكثر من أى وقت مضى ،ليس سياسياً فقط ،كما حدث فى العهد العباسى ،وإنما دينياً وثقافياً ،بل بسبب التآكل الذى أحدثه النمط الغربى فى حياتهم ؛بل وسيطرة الأنماط الغربية على حياتهم … لقد كان للتحديث آثاره ليس فقط فى زرع بذور الاضطراب فى عقول من تأثروا به وفقدوا بذلك تأثير الإسلام عليهم وإنما عمل – أيضاً – وأكثر من أى وقت مضى على خلق الفرقة بين أجزاء عديدة من العالم الإسلامى ” (ص265) .
ومن كل ما تقدم بأننا أمام هجمة لا سابقة لها فى تاريخ ،وأن المصيبة الكبرى للعالم الإسلامى – حالياً – هى تفتته واستنزاف طاقاته فى عدوات مختلفة ،وأن القضية الحقيقة ليست مجرد البترول أو ما يسمى بمصادر الطاقة ،بغض الطرف عن “قرب نفاذ مخزونه أو موارده ،خلال عقد أو اثنين (18)” وبغض الطرف عن أنه يشكل شريان الحياة الصناعية بالنسبة للغرب ،إلى جانب بقية الموارد الطبيعية التى ينهبها من العالم الإسلامى .. وإنما القضية المطروحة – حالياً – هى أبادة أمة الإسلام تحقيقاً لنص مشكوك فى مصداقيته ..
فيما أنه قد تنمت السيطرة على منابع البترول بإقامة القواعد العسكرية بدءا بغرس الكيان الصهيونى فى فلسطين المحتلة ،وضرب القوى العسكرية الإسلامية فى المنطقة ،وجارى ضرب بقيتها تباعاً ،وبما أنه يتم تغريب معظم البلدان الإسلامية لاقتلاع هويتها بمحاولات فرض العلمانية والحداثة والعصرية على مجتمعاتها ولذلك بفضل إعلام وأشخاص لا يقلون عمالة وتواطؤاً ،فلا يبقى لهذا الغرب بعد أن أجهز على أخلاقيات العالم الإسلامى وكرامته إلا أن يضرب عموده الفقرى ،أو دعامته الأخيرة الباقية ،وهى : القرآن وهو المطلب الذى حام حوله العديد من خبراء التنصير فى مؤتمر كولورادو وهو ما يفسر الهاوية التى سقط فيها جاك بيرك بترجمته المغلوطة لمعانى القرآن ..
لقد آثرنا نتناول معنى بعض المفرادات لتوضيح كيف أن مفهومها يختلف فى الغرب عنه فى الشرق : فإذا كانت الحداثة والأصولية – باختلاف موقعيهما – يعنيان فى الغرب : التمسك أو التعصب لنصوص ثبت نسخها على مر التاريخ ،فإن الأصولية فى الإسلام تعنى التمسك بنص القرآن والسنة الصحيحة – إلا أن الغرب قد ضرب علينا بمفاهيمه من باب الخلط والمغالطة .
لذلك يتعين على المختصين فى مجال الفلسفة هنا ،وهم متجهون “نحو فلسفة إسلامية جديدة ” أن يضعوا فى الاعتبار هذا المناخ السياسى – الاقتصادى – التبشيرى العام الذى يحيط بنا .. فالمطالبة بتطبيق الحداثة على القرآن والسنة – رغم ما بها من مغالطة فادحة – هو الهدف الأساسى للغرب ليفتح نفسه باب التخريب على مصراعيه فيما بقى للمسلمين من رباط .
كما يتعين أن يوضع فى الاعتبار – أيضا – أن واقع العالم الثالث اليوم ،وكل ما يعانى منه ،هو نتيجة لخمسة قرون من الاستعمار ،ونهب ثرواته البشرية والطبيعة (19)ولا ننكر هنا مسؤوليتنا فى تحقيق ذلك سواء أكان بالتواطؤ والتبعية أم بالانسياق خلف بريق زائف لحضارة مادية مفلسة وإلا لما لجأت للقهر والقرصنة لفرض سلطانها .
إننا لسنا بحاجة إلى كلمات ،ومزيد من الكلمات .. لكننا بحاجة إلى سلطة تنفيذية لوضع رؤية شاملة لاستراتيجية إسلامية تتصدى لهجمة الغرب بكافة مستوياتها والعمل على توحيد صفوف المسلمين .
علينا أن نبدأ بأنفسنا وأن نكف عن التواطؤ سواء بالصمت أم بالمشاركة ،وأن ننظر للتاريخ بتمعن إذا لنا فيه موقفان لا ينساهما الغرب :
* توحيد صفوف المسلمين أيام الحروب الصليبية .
* وتوحيد صفوفهم أيام حظر البترول عام 1973 .
علينا أن نتأمل تاريخ الأزمات التى حاصرت المسلمين واضطروا لغلق باب الاجتهاد حفاظاً على الإسلام من غزوات الغرب .. وأن نتأمل خطوات أسلافنا الذين حاولوا فتحه بمحاربة الضعف الفكرى والدينى والاجتماعى والسياسى .. فقد قام التقد عندهم على أساس المحافظة على ألوهية الله وحده لا شريك له ،وعلى تحقيق إنسانية الإنسان ،وعلى فصل التعاليم الإسلامية التى تدور حول هذين المبدأين عن العناصر الثقافية والينية الدخيلة ،متمسكين بالقرآن والسنة والصحيحة ،أى أنهم أرادوا إسلاماً مصدره القرآن والسنة ،وأرادوا جماعة تتبع القرآن والسنة (20).. فالاجتهاد هو اعتصار الوعى والطاقة فى الوصول إلى حكم شرعى اجتهادى وهو ما أقره سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – حينما أرسل معاذاً فى بعثة إلى اليمن .
ولا سع المجال هنا لتناول كل ما يتضمنه القرآن ،لكنه يكفى أن نشير يقيناً إلى أنه يمثل مولد العقل
الاستدلالى :
فهو لا يكف عن مناشدة العقل والإصرار على النظر إلى الكون وتأمل الطبيعة وحركتها الدائبة ،والاستقراء هو الطريقة الوحيدة الموصلة إلى اليقين .
وهكذا قام المنهج التجريبى القائل بأن الملاحظة والتجربة هما أساس العلم وأصله وليس التفكير النظرى المجرد ،كما يتضمن القرآن – من ضمن ما يتضمنه – بذور المذهب التاريخى والعناية بالتاريخ على أنه مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية ،بل لقد وضع الإسلام قاعدة من أهم قواعد النقد التاريخى ،وهى أن أخلاق الراوى عامل هام فى الحكم (21).
إن خلاصة ما أود قوله هنا والتوكيد عليه هو : أنه لا توجد فى الإسلام مشكلة بين الدين والعلم ،فالقرآن يفرضه علينا ويحثنا عليه ؛بل إن العلماء فى الإسلام لأعلى مرتبة من الشهداء .
ومحاولة البحث عن “جديد ” بمفردات أوضحنا حقيقة مضامينها وأهدافها بعد تخريباً وكفراً بمبادئ الإسلام وثقافته ،فعلينا أن نصونه بكل ما أوتينا من علم وإيمان ،لا لأنه خاتم الديانات التوحيدية الثلاث فحسب ، وإنما على حد قول إدوارد مورتيمر E . Mortimerفى مجلة “شئون دولية” البريطانية (22)،”لأنه الثقافة الوحيده القادرة على توجيه تحد فعلى وحقيقى للمجتمعات الغربية” فى ذلك الحوار الدائر بين الحضارات .
● ● ●
الهوامش
1- Sur 1’usage social des dialogues ; in : Le Dialogue euro – arabe ,Ouvrage Collectif ,ed . Economica , Paris ,1979 .
2- M . Rodinson :Fascination de I’Islam ,ed . Maspero ,paris ,1980 .
3- J.Bruhat : “Colonie” in Enc Univ ,vol,5 ed .1975 .
4- تحت زعم إنقاذ الشعب الصومالى من المجاعات المختلفة ،وتحت مسمى “عودة الأمل ” ،بينما هناك أربع شركات أمريكية هى : كونوكو ،وآموكو ،وشفرون ،وفيليبس ـتقوم بنهب أكبر مستودع للبترول والغاز تم اكتشافه فى الصومال ،لوس أنجلوس بوست فى 19/1/1993 ) .
5- RevueEuropeenne des Sciences Sociales ,No . 1988 .
6- L’Occidentalisation du monde ed . La Decouverte ,paris ,1989 .
7- Exegete ,inEnc , Univ . vol . 6 . ed . 1985 .
8-Modernisme in ,Enc ,Univ ,vol .12. ed . 1985
9 – لعبة الفن الحديث ،بين الصهيونية – الماسونية وأمريكا ،الزهراء للإعلام العربى ،القاهرة 1990 .
10- E. poulat :Intergrisme in Enc . Univ ,vol . 9 ed . 1985 .
11- Interismes ,ed . Belfond ,paris ,1990 .
12- كارثة الخليج .. وأزمة الشرعية فى العصر الإمريكى ،دار القارئ العربى . القاهرة 1991 .
13- وثائق المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى ،الطبعة الثانية ،1979 .
14- التنصير ،خطة لغزو العالم الإسلامى ،صفحة 220 .
15- فى 22/12 / 1992 أذاع راديو لندن عن اعتقال مسيحين من الفلبييين يقومان بالتبشير فى السعودية .. وفى 18/6/1993 نشر فى جريدة الأهرام خبر عن الإفراج عن خمسة أجانب سبق القبض عليهم بتهمة التنصير ،ثلاثة أمريكان وواحد نيوزيلاندى ومصرى .
16- وفقاً لعقيدة مذهب الألفية الرائجة الصيت فى هذا العقد .
17- مجلة نيوزيورك الصادرة فى 12 / 4 / 1993 .
18- R. Dumont Un monde intolerable ed . du Seuil ,paris 1988 .
19- Ziegler ,J. & popov ,Y. : Un dialogue est – oust ,P.M . Farve ,Lauzanne 1987 .
20 د . محمد البيهى : الفكر الإسلامى ،دار الزينى للطبع والنشر ،1962 الطبعة الرابعة .
21- محمد إقبال ،تجديد الفكر الدينى فى الإسلام ،لجنة التأليف والترجمة والنشر ،القاهرة ،1968 ،الطبعة الثانية .
22- مجلة شئون دولية البريطانية ،عدد يناير 1991 ،وارد فى كتاب د . محمد عمارة : استراتيجية التنصير فى العالم الإسلامى ،مركز دراسات العالم الإسلامى ،1992 .