على مدى نصف القرن تحرك “الغزالي” بفكره الإيماني المؤثر , ورؤيته المقارنة الذكية , وأسلوبه المتميز ذي النكهة العذبة , لكي يقول أشياء كثيرة , وبفصل الحديث في معضلات شتى , ويكتب عن هموم الإسلام والمسلمين , ويؤكد قيماً ويرفض أخرى.
وعبر آلاف الصفحات التي كتبها , في هذا المدى الزمنى الطويل , لم يكد يترك مسألة تتميز بحساسية ما في الساحة الإسلامية , إلا وقف عندها دراسياً , متصفحاً , حللا ومتواصلا – في نهاية الأمر – إلى حشد قيم من النتائج والمعطيات التي أغنت حركة الفكر الإسلامي المعاصر , وغذت مكتبة الناشئة – يومها – بالعديد من المؤلفات القيمة.
وفى مناسبة تجاوزه السبعين – حيث تحتفى (دار الصحوة) بتقديم هذا الكتاب عن الفكر (الشيخ) أطال الله في عمره , سيلتقي القارئ بمقالات ودراسات شتى عن فكر الرجل الذي جاوزت اعماله الستين عدداً , وحيث يجئ عمل كهذا كفاء أو بعض كفاء لما قدمه (الغزالي) من عطاء ولما نذر حياته من أجله.
لكن …. تظل جوانب من هذا العطاء في حاجة إلى زيد من القول , ولا سيما تلك التي لم تنل قدراً كافياً من البحث والتحليل. فلعل الكثير قد قيل ويقال عن الغزالي ” مفكراً إسلامياً ” ولكن ما الذي قيل أو يقال عنه ” أدبياً” أو “مؤرخاً”؟
ولن يتسع المجال – بطبيعة الحال – للحديث عن الاثنين معاً , ومن ثم ستقتصر هذه الصفحات على التأشير على ملامح الجهد الذي بذله (الغزالي) في حقل ” التاريخ ” حيث يبرز كتابه القيم ” فقه السيرة” واحداً من الدراسات المعاصرة التي تناولت عصر الرسالة بالدرس والتمحيص والتحليل. في قائمة مؤلفاته الأخرى , قطع واسعة , بل فصول بكالها تمس التاريخ , ولتذكر كتباً ن مثل ” التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام” و” الاستعمار أحقاد واطماع” و” كفاح ودين ” و” معركة المصحف في العالم الإسلامي”. كما أننا نجد كتاباً من مثل ” دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين ” مخصصاً للرد على معطيات عدد من هؤلاء ذات الارتباط الصميم بالتاريخ منهجاً وموضوعاً.
ومعروف أن أية محاولة للكتابة في دائرة الفكر الإسلامي ستجد نفسها مضطرة للعودة إلى التاريخ أو الاستبداد منه تحذيراً وتوثيقاً , وتأكيداً للتنظيرات والتحليل بمنطق الوقائع المتحققة في الزمن والمكان , أي: في التاريخ. ومن ثم فإن مفكراً إسلامياً كالغزالي سيضع قارئه , بين لحظة وأخرى – ولهذه الأسباب جميعاً – قبالة التاريخ , أو في نسيجه بعبارة أدق.
إنما نريد في هذا الحيز المحدود الذي رسمته (دار الصحوة) المباركة للمساهمين في الكتاب , ان نقف قليلاً عند مؤلفه الأكثر شهرة وانتشاراً , والأقرب إلى ” البحث التاريخي” من سائر مؤلفاته ذلك هو ” فقه السيرة” الذي يعنى بدراسة عصر الرسالة وسيرة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
لقد صدر الكتاب في منتصف العقد الخمسيني , وربما قبله بقليل , (إذ لا املك طبعاته الأولى) , يوم لم تكن مكتبة ” السيرة” قد تلقت -بعد -سوى عدد محدود من الأعال المعاصرة , مؤلفاته بأيدي رجال كانت عقول معظمهم نصفها على هذا الدين ونصفها الآخر مع خصومه واعدائه.
تقدم (الغزالي) في ذلك الوقت المبكر لكي يملأ الفراغ , ويلبى حاجه القارئ المسلم إلى مؤلف في السيرة لم تكن تعوزه سوى بعض المطالب المنهجية لكي يكون واحداً من أحسن ما كتب – في هذا المجال – من دراسات.
أما على المستوى ” الموضوع” فلقد قال (الغزالي) كل شيء مهم على وجه التقريب , ولم يكد يترك أيا مساحة قد تكون مجالاً للباحث أو مستزيداً في نطاق الدراسات العامة , وليست التخصصية لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بطبيعة الحال.
ولقد انتشر الكتاب , سنة صدوره , وطيلة السنوات التالية انتشاراً ملحوظاً , فلم تبق مكتبة خاصة أو عامة لم يدخلها , ولم يجد أي بيت يقطنه ثقف مسلم بداً من اقتناء الكتاب.
وفى ديسمبر من عام 1965 كان الكتاب قد بلغ طبعته السادسة (1) محققا كسباً منهجياً بقيام العلامة السوري (محمد ناصر الدين الألباني) بتخريج أحاديثه , فزاده بذلك قيمة على قيمة , ومنحه ” التوثيق” الضروري لكل ا يتعلق بطبيعة الارتباط بين الحدث التاريخي وبين عطيات السنة الشريفة.
بعد ثلاث سنوات , وقد قفلت عائداً من مصر إثر إنهاء دراستي للدكتوراه في التاريخ الإسلامي , كلفت بتدريس مادة ” السيرة” لطلبة قسمي التاريخ واللغة العربية في كلية الآداب , وبعد أن قلبت فهارس المكتبات ومؤلفات السيرة المعاصرة , لم أجد غير ” فقه السيرة” ما يمكن أن يؤدى الغرض من توصيل المادة على عقل الطالب الجامعي ووجدانه بأكبر قدر من الأمانة العلمية , والقدرة على التأثير في الوقت نفسه.
فإن العمل الجامعي من رغم توجهه الأكاديمي في الأساس , يظل يحمل قدراً من المطالب التربوية التي يحتاجها الطالب , جنباً إلى جنب مع المفردات التخصصية. وذلك أمر عاد كثير من المعنيين ” بالأكاديمية” الكي يؤكدون كرة أخرى.
ولقد كان ” فقه السيرة” بطريقة صاحبه في المعالجة , وجدله القوى وتشبثه بجوهر الحقائق , ورفضه للدخل والزيف , ورؤيته المقارنة , واستنتاجاته الدقيقة , وقدرته على الربط القنع بين الأسباب والمسببات… فضلاً عن أسلوبه المتميز الذي يعرض الوقائع والأحداث كما لو أنها تتشكل امام القارئ لحطة بلحظة. وقبل هذا وذاك التزامه بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم موردين أساسيين لصياغة هيكل السيرة وتشكيل معماره الواسع المتشعب (2).
كان الكتاب بهذا كله قديراً على أداء مهمته في الساحة الأكاديمية فضلاً عن مهمته التي أداها ويؤديها في دائرة الثقافة التاريخية العامة , وعلى نطاق آلاف القراء الذين وجدوا في ” فقه السيرة” ضالتهم المنشودة.
منذ اللحظات الأولى يرفض (الغزالي) في مقدمته للكتاب ” تحييد” الدراسة التاريخية , خاصة إذا كانت معنية بحياة رجل كمحمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) , فإنه حياة كهذه ليست , بالنسبة للمسلم في الأقل , ” مسلاة شخص فارغ , أو دراسة ناقد محايد. كلا كلا إنها صدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها , ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها. فأي حيف في عرض هذه السيرة وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه”(3).
ومعنى هذا كما هو واضح , ان رفض ” التحييد” لا يعنى الانحراف بعيداً عن ” الحقيقة التاريخية” , بل بالعكس تماماً إن هذه الحقيقة , إذا ما ارتبطت بالنبوة , كان الانحراف عنها كفراً وتلفيقاً وإساءة بالغة لحقيقة الإيمان نفسه” , ومن ثم يربط التوجيه التربوي في منظور (الغزالي) , بالبحث العلمي في التاريخ , ويغدوان متعاضدين لا متضادين كما قد يخيل للبعض.
ولقد بذلت وسعى , يقول الرجل – في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث , ثم تركت للحقائق المجلوة أن تدع آثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال ” (4).
وفضلاً عن القرآن الكريم والسنة الشريفة , استفاد (الغزالي) في تغذية مؤلفه , من أجل السير التي كتبها القدامى والمحدثون ” استفادة حسنة ” كما يقرر في مقدمته. وهو يرى محقاً ” أن المؤرخين والمحدثين يميلون إلى التحليل والموازنة وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك. وذاك أحسن ما في طريقتهم ” وأن ” المؤرخون القدامى يعتمدون على حشد الآثار وتمحيص الأسانيد , وتسجيل ما دق وجل من الوقائع والشئون ” وأن ” في هذه المحفوظات الكثيرة نفائس ذات خطر لو أحسن الاستشهاد بها وإيرادها في مواضعها “. ثم هو يسعى بعد هذا إلى ما يسميه المزج بين الطريقتين على نحو جديد يجمع ا في كلتيهما من خير فيجعل من تفاصيل السيرة موضوعاً متماسكا يشد أجزاءه روح واحد , ويوزع النصوص والمرويات الأخرى بحيث تتسق مع وحدة الموضوع وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته(5).
وهذا هو ما يفعله منهج البحث الحديث في التاريخ: إنه يستقرئ المادة التاريخية المعطاة في بطون المصادر والمنقولات المادية , ثم يعمل فيها تحليلاً وتمحيصاً ودراسةً ومقارنةً واستنتاجاً , ويعيد تريبها بما يجعلها أكثر مقارنة للواقعة التاريخية , وأقدر في الوقت نفسه على التكشف قبالة القارئ أو الدارس. ومع هذا الجهد الثنائي هنالك محاولة للاستفادة مما يسميه هذا المنهج بالعلوم المساعدة أو الموصلة , وهي بالدرجة الأولى ما اصطلح على تسميته ” بالعلوم الإنسانية” من جغرافية ولغة وأدب وفن ونقش واجتماع وإدارة وسياسة وفلسفة واقتصاد …. إلى آخره.
ولن يكون مباح (كالغزالي) أمسك في مؤلفاته الأخرى بخيوط العديد من هذه العلو , بمعزل عن الإفادة منها في مؤلفه هذا , والامر الذي يبدو واضحا بمجرد تصفح فصوله ومتابعة ” الخلفيات” التي كان المؤلف يفرشها لإضاءة الحدث التاريخي وتوضيح معاله وتحديد أبعاده.
ولعل ما يؤخذ على صاحبه ها هنا , وربما يكون من التقاليد التي سادت في مؤلفات جيل الرواد في حقل البحث التاريخي , أولئك الذين قدموا إليه من خارج الاكاديمية , من مثل (العقاد) و(هيكل) و(الغزالي) نفسه.. أنهم جميعاً تجاوزوا نظام التهميش المعتمد في منهج البحث الحديث لتوثيق المعطيات المثبتة في المتون. وهو تقليد غير مبرر على أية حال , سيما بالنسبة لرجل (كالغزالي) يعرف جيداً قيمة التوثيق. بل إن الأمر ليتجاوز المعطيات الوضعية إلى المادة الدينية ذاتها حيث لا نجد إشارة ما إلى أرقام الآيات التي تم الاستشهاد بها أو السور التي تنتمي إليها , كما أننا لا نجد , إلا في الطبعة السادسة فما بعد , تخرجاً للأحاديث النبوية الشريفة في هوامش الفصول.
ومهما يكن من أمر فإن (الغزالي) يعدو لكي يؤكد أن البحث الجاد في ” السيرة” لن يستكمل أسبابه بمجرد تقديمه كواقعة تاريخية ممحصة أو هيكل رسمت أبعاده بالدقة التي يتطلبها ” العلم” وإنما هناك مع هذا كله ضرورة ” أن تكون السيرة شيئاً ينمى الإيمان ويزكي الخلق ويلهب الكفاح , ويعرى باعتناق الحق والوفاء له , ويضم طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله”(6).
وهذا يزيد هذا البعد التوجيهي في البحث التاريخي وضوحاً وحسماً بقوله: ” إنني أكتب عن السيرة كما يكتب جندي عن فائدة , أو تابع عن سيده , أو تلميذ عن أستاذه , وليست – كما قلت – مؤرخاً محايداً مبتوت الصلة بمن يكتب عنه” (7).
ومن أجل ذلك بدأ (الغزالي) كتابة صحائفه وهو في مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-” في الجوار الطيب الذي سعدت به حيناً , وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السنة المطهرة والسيرة العطرة”(8).
فبنوع من المعايشة التاريخية بالاقتراب من بيئة الحدث , ومناخه , في مستواه المكاني على الأقل , قدر المؤلف أن يجيء أكثر دقة وأشد تأثيراً. وهذا يذكر بما فعله الشيخ (أبو الحسن الندوي) – في فترة مقاربة – عندما أخذ يكتب فصولاً عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم(9).
ومما لاريب فيه أن المعايشة التاريخية كانت , ولا تزال , واحدة من الوسائل التي تمكن المؤرخ من مقارنة الموضوع جال البحث , أو التواصل أكثر مع حقائقه ومعطياته , إن على مستوى السيطرة ” المنهجية” على المادة , أو التحقق بالتوتر الذهني والوجداني المطلوب لشحن العمل بالقدرات ” التوجيهية” التي جعلها (الغزالي) نصب عينيه.
ندخل في سياق الكتاب ونتابع فصوله ومقاطعة فتتكشف أمامنا ميزاته الواحدة تلو الأخرى , فلا يكاد يؤخذ على صاحبه , فضلاً عن ضرورات التوثيق التي ألمحنا إليها , سوى التزامه بالتسلسل الزمنى لأحداث السيرة ووقائعها , وهو التقليد الذى كان سائداً في دراسات السيرة- يومها – امتداداً لمنهج ” الأجداد” الحولى المعروف , لكن لا هذا ولا ذاك قد يبرر منهجاً كهذا يسمح لواقعة الزمن أن تأخذ بتلابيب المؤرخ وتصده عن متابعة المعطيات لكل جانب من جوانب السيرة من أجل معاينتها بشكل أدق وأكثر شمولية , وصولاً إلى تبين ملامحها وقسماتها الأصلية , والتحقق بمقارنة نبضها وصيغ تشكلها قدر الإمكان.
وعلى سبيل المثال , فنحن لو أردنا أن نعرف بشكل أكثر دقة ووضوحا – طبيعة العلاقة بين الدين الجديد واليهودية في جزيرة العرب , فإن علينا أن نجمع كل الجزئيات والتفاصيل التي تغذى هذه الواقعة , وأن نعرضها للمعاينة والدرس والتحليل وصولاً إلى إدراك أبعادها الحقيقية , دون أن نسمح للزمن بأن يقطعها بحشود من الوقائع التي لا تمت إليها أو تسمها من قريب.
بينما في المنهج ” الزمنى” ستقطع علينا محاولة السيطرة هذه , احداث وجزئيات وتفاصيل أخرى لا تنتمي إلى الواقعة , وقد يطول بنا السري لكن ما نلبث أن نجد أنفسنا نعود ثانية إليها , وهكذا حتى نهاية عصر الرسالة الذي تقاطعت في نسيجه علاقات وممارسات ومعطيات في اتجاهات شتى.
إن تجاوز التسلسل الزمنى لأحداث السيرة صوب اعتماد المنهج ” النمطي” لن يمكن المؤرخ وحده من السيطرة أكثر على الحقائق , ولكنه يعين قارئه – أيضا – على تحقيق هذا الهدف.
ولنتابع مسرعين هذه المسألة في كتاب (الغزالي) بقدر ما يتعلق الأر بواحدة ن حلقات السيرة , وهي طبيعة العلاقة بين الإسلام واليهودية في الصفحتين 153 -154 (من الطبعة السادسة) يلتقي القارئ بعنوان ” صنع اليهود” يتحدث المؤلف فيه عن وضع اليهود في يثرب قبل الهجرة , وعن إثارته الشحناء بين قبائلها العربية , ليتمكنوا من إحكام قبضتهم على مقدرات البلد… إلخ… وعن علاقة هذا كله بتوجه نفر من أهل يثرب للقاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند العقبة.
بعدها يجيء الحديث عن بيعتي العقبة , وطلائع الهجرة , واجتماع دار الندوة , فالهجرة نفسها , فالاستقرار في المدينة , فأسس البناء للمجتمع الجديد , الكفاح الدامي مع الوثنية , ولا يرجع القارئ ثانية لمتابعة العلاقة مع اليهود إلا في الصفحة 257 , بعد مقاطع عن موقفهم من الوثيقة التي أصدرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة (ص 197-199) , ونحت عنوان ” بدء الصراع بين اليهود والمسلمين “. تقطع هذه كرة أخرى بصراع لا يقل ضراوة مع الوثنية , وتعود إلى اليهود ثالثة (103 – 304 , 335 – 345) وبعد الحديبية ” مع اليهود مرة أخرى” وص 368).
وما يقال عن هذه الحلقة يمكن أن يقال عن حلقات أساسية أخرى من مثل: ” العلاقات مع النصرانية” , ” والصراع ضد الوثنية” , ” حركة النفاق” , ” قيام دولة الإسلام في المدينة , وخصائصها العقيدية ونموها التشريعي” … إلخ….
وعلى أية حال فإن الميزات التي يتألف بها ” فقه السيرة” , بدءاً من عنوانه الذي صمم بعناية , وانتهاء بلغة العرض التي تميز كتابات (الغزالي) بجمالياتها الخاصة , تكاد تطغى على مأخذ كهذا فتعرف كيف تضع القارئ في مناخ السيرة بأكبر قدر من الإخلاص للحق , والمقاربة للواقعة التاريخية , والقدرة على التأثير.
لنرجع إلى بدايات الكتاب , ولسوف نجد صفحاته الأولى تمهد الطريق إلى معالجة السيرة بتنفيذ إضاءة تاريخية لما كان عليه العالم , على المستوى الديني , قبل ظهور الفجر الإسلامي. والمؤلف يتحرك ها هنا , بالإيجار المطلوب في دائريتين: أولهما: عامة تضم العالم كله , وثانيهما: خاصة بجزيرة العرب , وتمهيد كهذا يعد ضرورة منهجية لمعرفة الملامح الأساسية للهيئة التاريخية التي تشكل فيها الحدث موضوع البحث.
بعدها يأخذ المؤلف ببناء معماره عن السيرة حيث تتألق ميزات شتى , ألمحنا إلى بعضها , ونريد أن نقف قليلاً عند بعضها الآخر.
قد يكون حضور الرؤية الإسلامية الواضحة الحاسمة , للمؤلف , في تركيب جزيئات الواقعة التاريخية , وتفسيرها , والتقدم لها , والتعقيب عليها , او وضعها في صيغة مقارنة مع ” حالات” أخرى , أبرز هذه المميزات , بل قد تكون القاعدة الأساسية التي تنبثق عنها , أو تتفرغ عنها سائر المميزات الأخرى.
فما أكثر الذين كتبوا عن السيرة في الغرب أو الشرق فأما في الغرب فقد تحرك جلهم في دائرة ” الاستشراق ” التي وإن أخذت تنزع عنها – بمرور الوقت – أرديتها الكهنوتية , وتتخلى عن التشبث بالمنظور النصراني المتعصب وتفيئ إلى ” الأكاديمية” بدرجة أو بأخرى , فإنها ظلت تعاني من أزمة منهجية يصعب تجاوزها , لأنها تنبثق عن بيئة عقلية , وثقافية , ووجدانية , لا يمكن إلا أن تمارس تأثيرها – الواعي أو غير الواعي – في الدراسة الغربية لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقد ناقشنا هذه المسألة , وطبقناها بالتفصيل من خلال معالجة منهج المستشرق البريطاني المعاصر ” مونتجمري وات” في السيرة النبوية والذي تم اختياره بكونه أحد أكثر المستشرقين حداثة و” إدعاء” للموضوعية في معالجة السيرة. ومع ذلك فإنه لم يقدر على تجاوز الثغرات المنهجي التي حفرت , ولا تزال , خندقا عميقا بين ” الغربي” وبين سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبدو أن عبوره أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا (10).
وأما في الشرق , فإن الكثيرين ممن مارسوا العمل في حقل السيرة , عند منتصف هذا القرن , كانوا – بدرجة أو أخرى – من تلاميذه الفكر والمنهج الاستشراقي , ولهذا لم يكن بمقدورهم – رغم إخلاص بعضهم للحق – أن يقدموا الصورة المرجوة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبمرور الوقت أخذ الإسلاميون يدخلون الساحة , فهم أحق بها وأهلها وهم بكل المقاييس – الأكثر قدرة على مقاربة مفردات السيرة وإدراك أبعادها وتقديمها للناس كما تحققت فعلاً في بيئتها من الزمان والمكان , وفى إطارها الروحي والعقيدي , لا كما يراد لها أن تكون فيما سماه المفكر الفرنسي السلم ” ايتين دينية”: محاولة لرسم صورة الرسول – صلى الله عليه وسلم – على مكاتب الغربيين لكي تكون ألمانية أو إنكليزية أو فرنسية (11).
وإذن فإن (الغزالي) بدخوله الساحة في تلك الفترة المبكرة , كان سباقا إلى ملء الفراغ ليس على هذا فحسب , بل إنه منح المكتبة الإسلامية الناشئة في حقل السيرة واحداً من أكثر الاعمال التزاماً بـ ” الإسلامية” في البحث التاريخي , هذه ” الإسلامية” التي لا تقتضي فقط التميز عن ” الخصوم” والمتأثرين بهم , وإنما تمضي لكى تعلن تميزها حتى عن المسلمين أنفسهم من الأجداد والآباء والاحفاد , أولئك الذين توهموا أن تمجيد شخصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكون بتحميل سيرته الكثير من الإضافات التي لا تستقيم للنقد والتحميص.
إنه يقرر , منذ البداية , أن حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ” الخاصة , والعامة” جرت على قوانين الكون المعتادة , لم تخرج – في جملتها – عن هذه السنن الدائمة فهو من حيث إنه بشر , يجوع ويشبع ويصح ويمرض , ويتعب ويستريح , ويحزن ويسر (12). وكان في حياته العامة ” رسولا يبلغ عن الله , ويربى المؤمنين , ويقاوم الكافرين , ويدأب على نشر دعوته حتى تؤتى ثمارها في الآفاق (13).
ثم إن المؤلف يمضي في عشر صفحات (46-56) لكي يؤكد هذه الحقيقة وينفى الدخل الذي أراد ” الحبون” ان يزينوا به سيرة رسولهم (صلى الله عليه وسلم). ” إن محمداً وصحبه تعلموا وعلموا , وخاصموا وسالموا , وانتصروا وانهزموا , ومدوا شعاع دعوتهم إلى الآفاق , وهم على كل شبر من الأرض يكافحون , لم ينخرم لهم قانون من قوانين الأرض , ولم تلن لهم سنة من سنن الحياة , بل إنهم تعبوا أكثر مما تعب أعداؤهم , وحملوا المغارم الباهظة في سبيل ربهم , فكانوا في ميدان تنازع البقاء أولى بالرسوخ والتمكين. وقد لقنهم الله عز وجل هذه الدروس الحازمة حتى لا يتوقعوا محاباة من القدر في أي صدام وإن كانوا أحصف رأياً من أن يتوقعوا هذا” (14).
إن (الغزالي) هنا يرسم خطأً حاسماً من خطوط السيرة التي تماوجت في أيدٍ كثيرة من المخلصين , لكنها غدت في أيدي الخصوم والماكرين تشتهر ضد صاحب السيرة (عليه أفضل الصلاة والسلام) وضد دينه وأتباعه , ثم هو يمضي لمتابعة مفردات السيرة بالرؤية الإسلامية نفسها , متقبلاً أو رافضاً , مؤكداً أو نافياً , ممحصاً ومحللاً ومقارناً. لكي يخلص في كل مرة إلى ” الصيغة” التاريخية الأكثر توافقا مع معطيات كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , والأشد – بالتالي – قرباً من الحقيقة التاريخية , ما دام أن هذه الحقيقة في نطاق السيرة على وجه الخصوص ترتبط ارتباطاً صميماً بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام.
والكتاب في مجمله يجيء كفاءً للعنوان الذي أختاره (الغزالي): ” فقه السيرة”. وبمقدور المرء أن يلحظ انعكاس هذا التوافق في المنهج وفى الرؤية التي تنصب على الحدث. في الأولى يبنى المؤلف تصميمه للكتاب وفق طبقتين تقوم إحداهما على الأخرى.
ففي الطبقة الأساسية: يقدم الوقائع والجزئيات المتفق عليها والتي تشكل المادة الأساسية لهذا الحدث أو ذاك في دائرة عصر الرسالة , وفى الطبقة التالية يقوم المؤلف بتحليل الحدث وتفسيره , أو التمهيد له والتعقيب عليه. وقد يلجأ إلى المقارنة بأبعادها المختلفة: العقيدية , والتاريخية , والنفسية , والاجتماعية , والأخلاقية , إذا اقتضى الأمر هذا او ذاك…
ولطالما أجرى المؤلف مقارنة مؤثرة بين الواقعة النبوية , وبين الحاضر لكى يهز ضائر المسلمين وعقولهم , الأمر الذى يجيء في سياق الهدف التوجيهي للكتاب فيما سبق وان أشرنا إليه. ويجب أن نتذكر هنا ان ” إضافات” المؤلف أو تعقيباته على ” الحدث” قد تجيء بعد استكمال عرض هذه الواقعة أو تلك , وقد تسبقها كتمهيد لها , أو تتخللها أحيانا كما تتخلل الشرايين جسد الإنسان , وهي في كل الأحوال لا تجيء منفصلة عن الحدث , تالية عليه بقدر ما تسعى لأن تتعايش معه وتتخلل مفرداته وجزئياته.
وإسلامية المؤلف لا تبدو أو تتحقق في طبقة دون طبقة وإنما هي تمضي لكي تعمل عملها في العمار كله. في طبقاته جميعا.
في المنهج يلتزم المؤلف , كما ألمحنا قبل قليل , وفى حدود الممكن بطبيعته الحال , الهيكل الأساسي للحدث دونما زيادة أو انتقاص الأمر الذي يعنى التحقق بمقاربة أشد لواقع السيرة , وإدراك أعمق لنسيجها المتفرد وشخصيتها المتميزة.
فالزيادة التراكمية التي أضيفت إلى السيرة بمرور الوقت من قبل المسلمين أنفسهم , والانتقاص الذي يبلغ حد الشك الاعتباطي , والنفي الكيفي الذي مارسه الخصوم في الساحة الاستشرافية وخارجها , هما حالتان تخرجان – منهجيا – عن ” الإسلامية”. ذلك أن الحالة التراكمية لا تدرك القيمة الحقيقية لعصر الرسالة. لجوهر النبوة التي جاءت لكي تعمل من خال الناموس , وفي نسيج الزمن والمكان. أي: في التاريخ , لا خارجه أو ضده. أما الحالة الثانية: فتعتمد أن تسلط سلاح الشك والنفي على واقع مؤكدة في بنية السيرة , لكي تمسح-ما وسعها الجهد – الصورة المتفردة , المتألقة , الخصبة , الغنية , لعصر الرسالة.
ونعرف , من ثم , أن المنهج الذي اعتمده (الغزالي) هو المنهج العدل , وأنه انبثاق مرسوم لرؤية إسلامية ترفض الجنوح في هذا الاتجاه أو ذاك.
في التحليل الذي يميز الكتاب … بمساحاته الواسعة , بامتداده في كل اتجاه , بملاحقته كل الوقائع وإضاءتها أو العقيب عليها , تبدو الإسلامية واضحة على أشد ما يكون الوضوح , بل تبدو شخصية (الغزالي) الذي هو في تركيبه الثقافي مفكر أكثر مما هو مؤرخ: الإحساس الإيمانى المرهف , الجدل الذي يبلغ حد السيف في قدرته على القطع والحسم بمقولات عقلية متدافعة كالموج , لا يمكن للخصم إلا أن يستسلم لها , الفقيه الملم بمطالب الحركة الإيمانية وشروقها ومقتضياتها. الرؤية الواقعية التي ترفض الخيال والتحليق غير المبررين , وتتحرك على أرضية المنظور وتتعامل مع سننه ونواميسه.
التحليل المقارن في التعامل مع الحدث عبر محاوره كافة: نفسية واجتماعية , وبيئية , وتاريخية , وحضارية , وعقيدية , القدرة على استنطاق الواقعة وتوصيلها إلى الوجدان البشري. ثم حشد من الجماليات الأسلوبية في لغة العرض يستنفر لها (الغزالي) كل أدوات البلاغة العربية , فيجعل القارئ وهو يتابع التاريخ يطالع عرضا أدبيا يبلغ درجة الشاعرية أحيانا في عذوبيته وجماله.
ولا أظن قارئا جاداً لـ “فقه السيرة” يمكن أن ينسى تعقيب صاحبه على واقعة ” أحد” والإحساس المرير الحزين المترع بالشحن والأسى الذي يملأ روحه ويفعم وجدانه وهو يتابع لمسات (الغزالي) المؤثرة , وقدرته على نقل القارئ إلى ساحة المعركة لكي يعيش بصحبة أجداده الرواد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لحظات الهزيمة المرة وفراق الأحباب القاسي…ولا أظنه إلا وهو يتذكر كيف قدر المؤلف رغم هذه المرارات كلها , وربما بسببها أن يمسك بالخيوط كافة لكي يبين للناس , بصرامة العقل المؤن المستهدى بكتاب الله وسنة رسول عليه السلام: ما الذي حدث على وجه التحديد , ولماذا؟ وكيف؟ مما هو من مقتضيات البحث التاريخي الجاد.
وفى ظني أن تعقيب (الغزالي) على معركة أحد يعكس تماماً , وبالنسب المتوافقة قدراته كمفكر وأديب , هذه القدرات التي تتحرك بكافة تفاصيلها ومعطياتها في دائرة الإسلامية التي يمكن تبينها بوضوح بمجرد أن تقارن هذا بما قاله مثلا – ” كايتاني” الإيطالي , أو ” دوات ” البريطاني , أو ” لامانس” الفرنسي , أو ” بروكلمان” الألماني , عن الحدث نفسه.
ففي الإسلامية يكون الانطلاق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , ويكون اللقاء الوثيق العميق بين النظور والغيب , وبين الدنيا والآخرة , وبين الفناء والخلود , وبين المتحول والثابت , وبين السنة والأقدار. ويصير التاريخ فرصة للتجربة يتعلم فيها الإنسان من خلال فعله المتشكل في الزمن والمكان أنى يكون الصراط. ويغدو – كذلك – الساحة الى تختبر فيها عقيدة المنتمين وتتمحص لكي ينفى التراب والدخل ولا يتبقى – ثمة – إلا الذهب الأصيل
ولعل الاستشهاد ببعض مقاطع هذا التعقيب يكفي للدلالة على طريقة (الغزالي) في تفسير الحدث التاريخي والتعال معه باعتباره يكتب فقهاً للسيرة لا مجرد تركيب لها أو تحقيق.
كانت معركة أحد امتحاناً ثقيل الوطأة , محض السرائر ومزق النقاب عن مخبئها , فامتاز النفاق عن الإيمان , بل تميزت مراتب الإيمان نفسه فعرف الذين ركلوا الدنيا ينالهم فلم يعرجوا على مطمع من مطامعها , والذين مالوا إليها بعض الميل فنشأ عن أطماعهم التافهة ما ينشأ عن الشرر المستضغر من حرائق مروعة…
والدعوات إبان امتدادها وانتصارها تغرى الكثير بالانضواء تحت لوائها فيختلط المخلص بالمغرض , والأصيل بالدخيل , وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسير الرسالات الكبيرة وإنتاجها , من مصلحتها الأولى أن تصاب بدرجات عنيفة تعزل الخبث عنها , وقد اقتضت حكمة الله أن يقع هذا التمحيص في أحد}ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعك على الغيب{(15). إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم ويوجهون زمامه بعزماتهم , هم الذين صلوا هذه الحرب , وحفظوا بها الإسلام في الإسلام في الأرض.
ترفق القرآن الريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في (أحد) عكس ما نزل في (بدر) من آيات. ولا غرو فحساب المنتصر على أخطائه أشد من جانب المنكسر. وقد اتجهت الآيات إلى مزج العتاب الرقيق بالدرس النافع وتطمن المؤمنين , حتى لا يتحول انكسارهم في الميدان قنوط يفل قواهم وحسرة تشل إنتاجهم}قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين , هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين , ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم تؤمنين16){.ثم مضي الوحي يعلم المسلمين ما جهلوا من سنن الدين والحياة. أو يذكرهم بما نسوا من ذك. فبين أن المؤمن – مهما عظمت بالله صلته – فلا ينبغي أن يغتر أو يحسب الدنيا دانت له , او يظن قوانينها الثابتة طوع يديه. “كلا”. فالحذر البالغ والعمل الدائم ها عدتا السل لبلوغ أهدافه المرسومة , ويوم يحسب المسلم أن الأيام كلها كتبت له وأن شيئا منها لن يكون عليه , وأن أمجاد الدارين تنال دون بذل التكاليف الباهظة , فقد سار في طريق الفشل الذريع}إن يمسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس{(17) }أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منك ويعلم الصابرين{ (18)..
إن الإنسان -في عافيته – قد يتصور الأمور سهلة مبسطة , وقد يتأذى به ذلك إلى الجارفة والخداع. فليحذر المؤمن هذا الموقف , وليستمع إلى تأنيب الله لمن تمنوا الموت ثم حادوا عنه لما جاء}ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون{(19).
ثم عاتب الله – عز وجل – من سقط في أيديهم , وانكسرت همتهم لما أشيع أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات. ما كذلك يسلك أصحاب العقائد! إنهم أتباع مبادئ لا اتباع أشخاص , ولو افترض أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قتل وهو ينافح عن ين الله , فحق على أصحابه أن يثبتوا في مستنقع الموت , وأن يردوا المصير نفسه الذي ورده قائدهم لا أن ينهاروا ويتخاذلوا.
إن عمل محمد – عليه الصلاة والسلام – ينحصر في إضاءة الجوانب المعتمة من فكر الإنسان وضميره , فإذا أدى رسالته ومضى , فهل يسوغ للمستنير أن يعود إلى ظلماته فلا يخرج منها؟
لقد جمع محمد الناس حوله على أنه عبد الله ورسوله. والذين ارتبطوا به عرفوه إماما لهم في الحق وصله لهم بالله , فإذا مات عبد الله ظلت الصلة الكبرى بالحي الذى لا يموت باقية نامية }وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل فإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين{(20).
ولعل ما ترتب على عصيان الأوامر في هذه الموقعة درس عميق يتعلم منه المسلمون قيمة الطاعة , فالجماعة التي لا يحكمها أمر واحد , أو التي تغلب على أفرادها وطوائفها النزعات الفردية النافرة – لا تنجح في لقاء , بل لا تشرف نفسها في حرب أو سلام , والأمم كلها , مؤمنها وكافرها , تعرف هذه الحقيقة , ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة , وعندما تشتبك أمة في حرب تجعل احزانها جبهة واحدة , وأهواءها رغبه واحدة , وتخمد كل ترد أو شذوذ ينجم في صفوفها…
ولذلك لما دهش المسلمون للكارثة التي قلبت عليهم الأمور , بين الله لهم أنهم هم مصدرها , فما أخلفهم موعداً ولا ظله حقا ً}أو لما اصابتكم مصيبة أصبتم مثيلها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير {(21).إن الإسلام يشترط لكمال العمل وقبوله , الإيمان والاحتساب والتجرد.
إن معركة (أحد) تركت آثاراً غائرةً في نفس النبي – عليه الصلاة والسلام – ظلت تلازمه إلى آخر عهده بالدنيا. في هذه الجبل الداكن الجاثم حول (يثرب) أودع ” محمد” أعز الناس عليه , وأقربهم إلى قلبه. فالصفوة النقية التي حملت أعباء الدعوة , وعادت في سبيل الله الأقربين والأبعدين , واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها , وانفقت وقاتلت وصبرت وصابرت , هذه الصفوة اختلط لها القدر مثواها الأخير في هذا الجبل الاشم فتوسدت ثراه راضية مرضية , وكان رسول الله يتذكر سير أولئك الأبطال ومصائرهم فيقول: (أحد جبل يحبنا ونحبه).
فلما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة أن يزور قتلى أحد. وأن يدعوا الله لهم , وأن يعظ الناس بهم. عن عقبه بن عامر قال: صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قتلى (أحد) بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والاموات ثم طلع المنبر وقال: ” إني بين أيديكم فرط , وأنا عليكم شهيد , إن موعدكم الحوض , وإني لما نظر إليه من مقامي هذا , وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا , ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا”. قال عقبة: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله.(22).
إن هذا يكفي شاهداً على ما نحن بصدده , ويبقى الكتاب كله بين يدي من يريد الاستزادة فإنه في صفحاته التي تتجاوز الخمسمائة عدداً , عشرات المقاطع , بل مئاتها , مما يمكن أن يعتبر بحق إضافة قيمة لحقل ” السيرة” الذي قيل فيه الكثير , وهو – مع ذلك – لا يزال ينتظر المزيد (23).
الهوامش
(1) فقه السيرة , الطبعة السادسة , دار الكتب الحديثة , القاهرة – 1965م.
(2) انظر الصفحات 36-46 لمتابعة وجهة نظر المؤلف في هذه المسالة.
(3) نفسه ص 4.
(4) نفسه ص 4
(5) نفسه ص 4.
(6) نفسه ص 5.
(7) نفسه ص 5.
(8) نفسه ص 7.
(9) السيرة النبوية , ص 3 من مقدمة عبد الله الأنصاري للطبعة التي عنى بإخراجها , المطبعة العصرية , صيدا (لبنان) – 1976م.
(10) مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية , بحث المستشرقون والسيرة النبوية , بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر: ونتجمرى وات – الجزء الأول ص 115 – 201 , المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – كتب التربية العربي لدول الخليج , الرياضي – 1985.
(11) محمد رسول الله , مقدمة سليمان إبراهيم الجزائري ص 27 – 34 , الطبعة الثالثة , الشركة العربية للطباعة والنشر , القاهرة – 1959.
(12) فقه السيرة ص 46 ,47.
(13) فقه السيرة ص 46 ,47.
(14) نفسه ص 49 -50.
(15) سورة آل عمران الآية 179.
(16) سورة آل عمران الآيات 137 – 139.
(17) سورة آل عمران الآية 140.
(18) سورة آل عمران الآية 142.
(20) سورة آل عمران الآية 144
(21) سورة آل عمران الآية 165.
(22) فقه السيرة , مقتطفات من الصفحات 280 – 292.
(23) يمكن إحالة القارئ على نماذج أخرى من مداخلات المؤلف مع واقع السيرة مثل : حادثة شق الصدر ص 64 – 66 , العزلة في غار حراء ص 88 – 90 , العارضة الوثنية ص 104 – 106 , سنى الحصار ص 132 -126 , الإسراء والعراج ص 134 – 146 , بيعه العقبة الكبرى ص 159 – 162 , طلائع الهجرة ص 163 -165 , الاخاء ص 191 – 195 , السرايا ص 228 -229 , 231 -232 , غنائم بدر و أسرارها ص 250 -255 , الصراع ع اليهود ص 157 -262 , الخندق ص 318 – 322 , مكاتبة الملوك ص 391 -393 , غنائم هوازن ص 428 – 430 , تبوك ص 435 – 442 , تصفية الوجود الوثني ص 452 – 455 , أمهات المؤمنين ص 466 – 484.