تمهيد
عناصر العقيدة الإسلامية وأصولها ، هي التي تكون الإيمان الكامل – وقد جمعها رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديثه الجامع الذي سأل فيه جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة ، فكان جوابه عن الإيمان : ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ” (1) .
وهذه العناصر الستة ، تتناولها الدراسة بهذا العدد ، لتثبت حقائقها بالأدلة الصحيحة إرشاداً للمسترشدين وإقامة للحجة على المعاندين ، أما من حيث إنها موضوع للاعتقاد القلبي الجازم ، فهي واحدة لا كثرة فيها ، وأؤكد على هذه المسألة ، ؛ لان الإيمان من حيث هو حقيقة قلبية ، لا يتجزأ ولا يتبعض ، بل إنه معني واحد ، يشمل هذه العناصر جميعها .
ويؤكد هذا المعني أيضاً أن بين هذه العناصر تلازما وترابطا ، من حيث إنها بحقائق علمية ، ألا تري أن الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالي – وهو أول هذه العناصر – يستلزم الإيمان بكلامه – كتبه – وأن كلامه هذا هو الصدق كله ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالي قد أخبرنا ، بأن له عبادا مكرمين ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون – وهم الملائكة – فإن الإيمان بهم يصبح أمراً مرتبطا بالإيمان بمن أخبرنا بذلك ، وهو الله سبحانه وتعالي . وما يقال هنا يقال كذلك في الرسل واليوم الأخر والقدر .
والإيمان بوحدة هذه العناصر وترابطها ، لم يتوقف على الإخبار الصادق فحسب ، بل ينضم إلي ذلك الدليل العقلي ، الذي يقرر هذه الحقيقة ، فالرسل عليهم الصلاة والسلام ، قد أيدهم الحق سبحانه وتعالي بالمعجزات الدالة على صدق دعواهم ، ولو كانوا كاذبين لما أيدهم الله بها ؛ لأن تأييد الكاذب ؛ كذب كذلك ، وهو محال على الله تعالي ، والمعجزة تنزل منزلة قول الله ” صدق عبدي في كل ما يبلغ عني ” كما يقول علماء العقيدة .
وإذا كانت الرسالة أمرا يقره العقل كما رأينا – فإن المهمة الأساسية لها لا تتحقق إلا بالبلاغ عن الله تعالي ، وهذا يقتضي أن يكون هناك ما يبلغ به ، وهو الكتب ، التي تمثل المشروع الإلهي ، والمنهج الرباني الذي أنزله الله ليهدي به عباده ، وصدق الله العظيم إذ يقول : { يا أيها الرسول بلغ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } (2) .
وبما أنه ليس للعقل الحق في أن ينكر ما وراء العالم المحسوس من العوالم الأخري ؛ لأن الوجود – في الواقع – ليس مقصورا على الوجود الحسي ، فإن هذا يدل عقلا علي جواز وجود عوالم أخري ومنها عالم الملائكة . فإذا انضم هذا الجواز أو الإمكان العقلي إلي الإخبار الصادق بذلك ، لم يبق حينئذ إلا الإيمان بوجود الملائكة .
وأما الإيمان باليوم الأخر ، فيفرضه أمران :
- العدل الإلهي .
- الضرورة الأخلاقية .
فأما العدل الإلهي ، فلأن الأمر لو لم يكن كذلك ، بأن كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف – كما يري ذلك الماديون – لتساوي المحسن بالمسئ ، والعادل بالظالم ، والمؤمن بالكافر وهذا ليس من العدل في شئ .
وأما إنه ضرورة أخلاقية ؛ فلأن الإنسان الذي يؤمن بعقيدة اليوم الأخر ، يضع أمام ناظريه حقيقة ما سيؤول إليه أمره هناك ، وأن الجزاء فيه مرتب على العمل ونوعيته ، فمن فعل في الحياة الدنيا خيرا ، جني في الأخرة ثمار عمله ، جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، ومن فعل شرا ، جني ثماره متكافئة مع عمله ، إن هذا الإحساس كلما قوي لدي المؤمن يحمله على السلوك السوي والعمل الصالح ، وكلما غاب عنه أو فتر في نفسه كان ذلك سببا في تجاوزه السلوك القويم إلي غيره من أنواع السلوك الأخري .
بقيت مسألة الإيمان بالقدر وتحليلها يقوم على عدة أمور :
- إن الوجود كله ملك لله سبحانه وتعالي ، وهو المتصرف فيه بإراداته وعلمه وقدرته ، وفي إطار لطفه بعباده وابتلائه لهم ، تمحيصا لنفوسهم { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير }(3) .
- إن الإنسان محدود الطاقة والإدارة والعلم ، وهذا لا يتكافأ مع رغباته وأمانيه ، من ثم قد تقع عليه أشياء ، لا توافق رغباته ، وقد يتمني أشياء لا تتحقق وقد يكون في هذا وذاك ما فيه مصلحته غير أن ذلك لا يتفق مع حساباته القاصرة ، وقد وضح القرأن الكريم هذا الحقيقة في قولة تعالي : { وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } (4) .
- إن الوجود ملئ بالعوالم الأخري التي تشارك الإنسان في هذه الحياة ، وقد يتعامل معها بمنهج غير قويم فتأتي النتائج على غير ما يتوقع ، حتي ولو أخذ بالأسباب ؛ ولأن هذه الأسباب نسبية في في تصوره واعتباره ، لأن إدراكه وعلمه وقدرته ، صفات مقيدة ، وكل هذا يحمل المؤمن ، على الإيمان بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وصدق الله العظيم إذ يقول :
{ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتو كل المؤمنون } (5) .
أرأيت كيف ترابطت عناصر العقيدة واتحدت وتلازمت ، وأن وحدتها في القلب والشعور وتمكنها منهما تجعل المؤمن عنصرا إيجابيا في الحياة ، إذ تكون هي المحرك الحقيقي لسعته ونشاطه ، فتظهر أعماله متفقة اتفاقا تاما مع عقيدته ؛ ولهذا نري القرآن الكريم يربط بين حقيقة الإيمان الصادق والعمل الصالح ، الأول منهما غائر في أعماق القلب والوجدان ، إنه بمثابة المدلول ، والدال عليه هو الأعمال الظاهرة الصالحة { إن الذين أمنوا عملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } (6) . صدق الله العظيم .
وبعد هذا التمهيد الذي هيأ العقل والنفس لدراسة هذه العناصر نتناولها بشئ من التفصيل ، مستلهمين في ذلك القرأن الكريم والسنة النبوية غير موغلين فيما أفرزته الفرق الكلامية من أراء في كل عنصر ؛ لأن هذا ليس في خطة البحث .
العنصر الأول الإيمان بالله
الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالي مسألة فطرية لدي المؤمنين الأصفياء يشهد لذلك أمران :
الأول : أن الله سبحانه وتعالي أخذ العهد والميثاق على ذرية أدم في مرتبة وجودية سابقة على المرتبة التي هم عليها الآن ، بأنه ربهم وخالقهم فشهدوا بذلك على أنفسهم ، يقرر هذه القضية قوله تعالي : { وإذ أخذ ربك من بني أدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } (7) . وظاهر القرآن هنا صريح في فطرية التدين ، وبهذا لا نقيم وزنا للدراسات التي أنتجها تاريخ الأديان في الغرب ، والتي تجعل من الدين تابعا لحضارة الغرب ، والتي تجعل من الدين تابعا لحضارة الإنسان ورقيه ، وأنه في نشأته وتطوره يخضع لنفس القانون الذي تخضع له الحضارات في نشأتها وتطروها ، ويضاف إلي ما تقدم أن القرآن الكريم – وهو أخر الكتب المنزلة وهو أيضا الباقي منها من غير تحريف ولا تبديل – قد بين أن أدم أبا البشر قد تاب فتاب الله عليه { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي } .
وإنما أثرت هذه المسألة هنا حتى لا يقال – كما تدعي المسيحية المحرفة – : إن أدم قد ورث أبناءه الخطيئة ألكبري من بيان أن المسئولية الدينية والأدبية مسئولية فردية { كل نفس بما كسبت رهينة } { ولا تزر وازرة وزر أخري } .
ومن الغرابة أن نري بعض مفكرينا المعاصرين حين يتعرضون لدراسة نشأة الدين عند الإنسان يقعون في نفس ما وقع فيه علماء الغرب في هذه المسألة ولعل أصرح مثال على ذلك ما أودعه الكاتب والمفكر المعروف عباس محمود العقاد كتابه ” الله ” فقد سار على درب أسلافه من الغربيين في علاج هذه القضية .
والعلة في أخذ هذا الميثاق قد أبرزتها الآتيان ، وهي : سد منفذ الغفلة ، وإغلاق باب تقليد الآباء والأجداد وكأني بهما يطرحان عن الإنسان كل ما يشغله عن هذه الحقيقة ، حقيقة الإيمان بوجود الله إيماناً صادقاً ينتج عملا صالحا ، به تعمر الحياة وتزدهر ، وفي نفس الوقت يكون طريقا لحياة أخلد وأفضل ، هي الحياة الآخرة ، ويفهم من هذا أن غفل عن هذه الحقيقة ، فقد ضيع حياتيه : الأولي والآخرة ، وقد وصف القرآن الكريم الغافل الذي يمر على آيات الله سبحانه وتعالي ، ثم لا يدرك ما وراء دلالاتها لغفلته بأنه أعمي ، وهو وصف حاصل له في الدارين ، قال سبحانه : { ومن كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي وأضل سبيلاً } (8)
كما ذكر سبحانه وتعالي في أية أخري طبيعة حياة الغافلين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا بأنها معيشة ضنك وحياة لهو وعبث ؛ لأن أصحابها غفلوا عن ذكر الله : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي ، قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك أياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي } (9) .
وكذلك الحال في حق من قلد الآباء والأجداد إنه – أيضاً قد أوقف منافذ الإدراك لديه وغفل عن الأدلة البادية في الأنفس والأفاق التي تشهد بوجود خالق لهذا الكون ، مدبر لأمره ، مالك لنواصيه ، متصرف فيه بحكمته واختياره وعلمه .
الثاني : أن الله سبحانه وتعالي قد نصب الأدلة على وجوده ، وفي أعماق النفس وفي أفاق الكون ، وإذا كان الدليل هو الذي يقود الناظر إلي صدق الإيمان بالمدلول ، فإن هذا يعني أن الإيمان بوجود الله حقيقة لا ينبغي أن تنكر ولهذا قال الله تعالي حكاية عن أقوال الرسل لأقوامهم : { قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض . . .} (10) ، كما بين ذلك أيضاً في قوله تعالي : { سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد } (11) .
والمتأمل في القضية يدرك أن الأدلة التي نصبها القرآن الكريم للدلالة على وجود الله ، لا تتعارض مع كون الإيمان به مسألة فطرية ، وإلا كان ذلك من باب تحصيل الحاصل ؛ لأنها سيقت لفريق من البشر ، طمست لديهم معالم الفطرة السليمة ، وأسقطوا من تفكيرهم ” قانون السببية ” بمعناه الحقيقي ، فاعتقدوا أن الكون هكذا كان وهو الأن كائن وهكذا سيكون ، ليس له خالق مدبر ، بل الحياة والأحياء يحكمها قولهم ” إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلغ ” وأن النطفة لا تزال من الحيوان ، والحيوان لا يزال من النطفة ، وأن الموت والحياة يرجعان إلي درجة التلاؤم بين جزيئات الكائن الحي وهم الذين عبر القرآن الكريم عنهم بقوله :
{ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ومالهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } (12) .
ونلاحظ في تعقيب القرآن الكريم على عقيدة هؤلاء – كما صورتها الآية الكريمة – أنه يضع اعتقادهم هذا في دائرة الظن البعيد عن العلم ، ليؤكد أن الإيمان الحقيقي لا يتيقن إلا بالعلم الصحيح – وأما ما دونه من درجات المعرفة ، فلا تغني عن الحق شيئاً . ومن ثم يمكن أن يقال : إن الإلحاد أو الكفر بكل صوره وألوانه ، هو قرين الجهل ، وأن القرآن قد استعمل في هذا المقام تعبيرا مخففا وهذه الحقيقة قد أثبتها العلم بجانب ما أثبتته البداهة والفطرة السليمة } (13) .
والظاهر أن الإلحاد حين يفقد الدعامة الأساسية له . وهي الأدلة على دعوة يكون من الناحية المنطقية قد برهن على عدم قدرته على مواجهة الحقائق التي تدعمها الأدلة ، ويصبح موقفه عارياً عن الأصالة ، ويحمله كبرياؤه القائم على الجهل ، على التغاضي عن النظر في أدلة الموقف المقابل – موقف الإيمان الصحيح – ولهذا نري القرآن الكريم يبرز هذا الموقف بعمق ، حين يقول : { قل تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } (14) ، وهذه الآية تغني : أن الأدلة وكذا الإنذار والتخويف ، لا يغني ذلك شيئاً أمام الملحدين ؛ لأنهم أغلقوا عقولهم دون الحق الجلي الواضح ، وفقدوا شعورهم بما يمكن أن يترتب على موقفهم هذا من الأخذ بالذنب ، وكفي بكفرهم هذا ذنبا ، بل هو على رأس الذنوب جميعا .
وحتى لا نمر على هذه المسألة سارعا ، نقف معها قليلا ، حتى ننظر كيف صفي الفكر والعلم حسابهما معها حتي لا يقال : إن المقابلة بين الإيمان والإلحاد مقابلة بين ضدين لا يسمع من أي طرف منهما شهادته على الطرف الأخر ، ونحن لا نسلم بهذا القول في الحقيقة اللهم إلا من باب التسليم الجدلي حتى يشاهد القارئ الكريم بنفسه ، قيمة دعوي الإلحاد ومدي هشاشتها .
ونحب أن نشير إلي حقيقتين :
أولاهما : أن الإلحاد كظاهرة تمثل الشذوذ والخروج عن الفطرة والعقل – كما بينا – قد وجد في كل عصر وأن عدم امتلاك أصحابه لمبررات وجوده ، لم يمنعهم من التطاول على الحقائق الثابتة التي يدعمها الدين الصحيح وعلى رأسها الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالي .
ثانيتهما : أن الإلحاد الذي تذرع بالعلم والمعرفة والذي ظهرت فيه دعاوي كثيرة باسم العلم لعل على رأسها تلك الدعوي التي قالها ممثله في القرن الماضي ، وأعني به : ” جوليان هكسلي ” من أن العلم أصبح انفجارا معرفيا في وجه الدين ، هي دعوي باطلة روجتها ظروف وملابسات ليست من العلم الحقيقي في شئ سيتبين هذا بوضوح في مباحثنا الآتية :
نظرة تحليلية إلي الإلحاد :
إذا تجاوزنا القرن الخامس قبل الميلاد على اعتبار أنه الذي ظهرت فيه بواكير الإلحاد ، كعمل لبس ثوب الفكر المنظم ، على يد ، ” ديمقراطيس ” ومن شايعه ، إلي القرن التاسع عشر ، على اعتبار أن طابع الفكر والعلم فيه بصفة عامة كان طابعا إلحاديا لنقف مع الأسس التي انطلق منها الملحدون فماذا نجد ؟ .
إن الأساس الأول الذي قام عليه الإلحاد في القرن الماضي هو تلك الرؤية القاصرة إلي حقيقة ” العلة ” ذلك لأنه باكتشاف قانون ” العلية ” وأن الكون في حركته الكلية يسيره قانون ” العلة والمعلول ” زعم ااالملحدون أن هذا الكشف يعني : عدم تفسير الظواهر تفسيراً يجعل للدين والإله مكانا فيها ، وبهذا يصبح التفسير الميكانيكي للظواهر ، هو السمة الأساسية البارزة ، والواقع أنه لم يخطر ببال أحد ممن أسهموا في الكشف عن هذا القانون أن يصبح ذلك الكشف في مواجهة الدين فإسحق نيوتن نفسه وهو من الذين لهم دور بارز في هذا السبيل – يقول في تفسير حركة الكون : ” هذا أسلوب الله في العمل ، فهو يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل ” (15) . ونلاحظ أن الرجل هنا قد تجاوز بمفهومة للعلة تلك النظرة القاصرة التي قال بها الملحدون ، حيث حدد معني العلة الحقيقية وهي التي تكون وراء جميع الظواهر التي تحدث في الكون إنه ” الله ” سبحانه وتعالي بلغة المؤمنين الملخصين ، وأما الأسباب والعلل الأخري فليست إلا أسبابا وعللا قريبة ، ولنا أن نضرب مثلا واحدا نسوقه لهؤلاء الملحدين : إذا ذبح إنسان حيوانا بواسطة سكين حتي زهقت روحه ، فأين هي العلة وراء هذه العلمية ؟ . إن التفسير الميكانيكي للظواهر يري أن العلة هي السكين لأنها التي ذبحت الحيوان ، وهذا كلام مردود بأوليات العقل ، لأن السكين لم تفعل وحدها ، أي لم تتحرك من ذاتها لإحداث هذه العلمية ، إذن فلا تصح أن تكون علة للحادثة ، بقي أن يقال أن الإنسان هو الفاعل للذبح بواسطة السكين ، وهذا يعني أنه ليس علة مستقلة ، ثم تساءل بعد ذلك : من الفاعل الحقيقي لإزهاق الروح ؟ لا يمكن أن يقال إنها السكين ، لأن عملها مجرد الذبح ، أي إنها ألة فقط لتنفيذ العلمية ، ولا يمكن أيضاً أن يقال إنه الإنسان ؛ لأنه مجرد فاعل لقطع رقبة الحيوان لا لإخراج روحه وإذن فهناك علة بعيدة غير منظورة وراء هذه العلل القريبة ، والقول بخلاف ذلك لا يقبله عقل واع ، من ثم نري أن أصحاب التفسير الميكانيكي لحركة الكون ، لم يقدموا تبريرا مقبولا لموقفهم هذا ، ولعل مما يوضح هذه المسألة ما ذكره عالم البيولوجيا الأمريكي ” سيسيل بايس هامان ” فقد قال : ” كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن ، تنسب من قبل إلي الإله ، فأصبحت اليوم بالمشاهدة تفاعلا كيماويا فهل أبطل هذا وجود الإله ؟ ما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا ؟ إن الغذاء بعد دخوله البدن يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي لقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمي التي خلق بها الحياة ” (16) .
حقا إن الطبيعة نفسها في حاجة إلي تفسير ، فضلا عن أن تفسر بها الظواهر الكونية ، كما يقول ذلك العالم إنك لو سألت طبيبا : ما السر وراء أحمرار الدم ؟ لأجابك : لأن في الدم خلايا حمراء ، حجم كل منها واحد على سبعمائة من البوصة . فلو قيل له : ولماذا تكون هذه الخلايا حمراء ؟ لأجاب : لأن فيها مادة تسمي ” الهيموجلوبين ” وهي مادة تحدث لها الحمرة ، حين تختلط بالأوكسوجين في القلب ، ولو سئل : ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل ” الهيمولوجبين ” ؟ لأجاب : إنها تصنع في الكبد ، ولو سئل : كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد بعضها ببعض ارتباطا كليا ، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة ؟ لأجاب : هذا ما نسميه بقانون الطبيعة ، ولو قيل له : ما المراد بقانون الطبيعة هذا ؟ لأجاب : هو الحركات الداخلية العمياء للقوي الطبيعية الكيماوية ، ولو قيل له : ولكن لماذا تهدف هذه القوي دائماً إلي نتيجة معلومة ؟ وكيف تنظم نشاطها ، حتي تطير الطيور في الهواء – ويعيش السمك في الماء – ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة ؟ لأجاب : لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلا عن الذي يحدث ، وليس له أن يجيب عن : لماذا يحدث ؟ (17) .
وقد يكون من الأسس التي دفعت بالملحدين إلي هذا الطريق ، حب ” التكايس ” و ” التعالم ” وهذا لا يحدث غالبا إلا في غيبة الوعي الكامل بحقيقة الحياة والنظام الحقيقي وراء حركتها ، وإلا فكيف نفسر نظرية مثل نظرية ” دارون ” أو ” فرويد ” أو ” ماركس ” أو غيرهم ممن قدموا إلي ساحة الإلحاد أراء وأفكارا لا يمكن أن تكون هي التفسير النهائي أو المقبول للقضايا التي تعرضوا لها ، لقد كان الإنسان في القديم بل وحتي يوم الناس هذا يعتقد في وجود قوي كثيرة نتعاون فيما بينها في إدارة وامتلاك الكون وأسبغ على هذا القوة صفة الألوهية وينتخب أظهرها ليكون هو الإله الأكبر أو إله الألهة الذي يعمل الجميع تحت سلطانه وأمرته ، وأظهر ما كان ذلك لدي اليونانيين غير أن العلم والعقل السليم قد رفضا هذا التفسير المشرك . واعتبراه من قبيل الأساطير التي لا تقبل ؛ ومن ثم فإن ظهور الإلحاد كبديل للشرك يعد أدخل في الرفض وعدم القبول ، وقد رأينا أن قانون التعليل الذي قال به هؤلاء أضعف من أن تفسر به حركة الكون كما أن القول بالمصادفة – وهو لازم للقول بخلو العالم من إله مدبر حكيم وسقوط قانون التعليل كما رأينا غير مقبول من الناحيتين العلمية والدينية ؛ لأن الكون إذا كان مرهونا بوقوع بعض المصادفات ، فكيف نفسر اضطرار كل الوقائع والحوادث ، على نهج طرق معينة ثابتة نهجتها بالفعل ، ولولا هذا النهج لما كنا اليوم موجودين لنفكر في هذه القضايا ، ألم يكن من الممكن أن يحدث شئ أخر ، ويكون نقيضا لما حدث لو كانت المسألة مجرد صدفة ؟ (18) .
إن القرآن الكريم قد جمع هذا التفسير المرفوض في أسلوب استفهام إنكاري لهذين الأساسين المزعومين : قانون التعليل – المصادفة في قوله تعالي : { أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون ، أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون ، أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ، أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين } (19) .
وفي الآية الأولي من هذه الآيات حصر للفروض المحتملة في تفسير الكون ، تفسير غير حقيقي : الخلق من غير شئ أو خلق الشئ لنفسه ، وقد اختار الله الإنسان ليضرب به المثل باعتباره صاحب دعوي الإلحاد ، وإلا فالكون كله خاضع لله عابد له مسبح بحمده لا يخرج شئ منه عن قهره وسلطانه : { وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفوراً } (20) .
وإذا ثبت أن الإنسان لم يخلق نفسه ، وإذا لاح أن القول بالصدفة في خلقه لا يرقي إلي مستوي التفسير المقبول ، يثبت من هذا أن خلق الإنسان للسموات والأرض أدخل في باب النكران ، من ثم تكون النتيجة المطوية في سياق الآيات واضحة لكل ذي بصر وهي أن هذه الافتراضات التي شملها السياق ، الذي جاء على سبيل السبر ، كلها باطلة ، وأن الوجود كله – والإنسان الذي سيقت له هذه الآيات بين عناصره – مخلوق لله سبحانه وتعالي .
الوحدانية :
هذه القضية قد أولاها القران الكريم عناية في البيان والإيضاح ؛ لأنها تعالج قضية الشرك كما عالج موضوع الإيمان بوجود الله قضية الإلحاد .
والحق أن معالجتها على الشكل الذي سنراه يؤكد ما سبق أن ذكرناه من قبل ، وهو أن الإيمان بوجود الله تعالي أمر مركوز في الفطرة البشرية – وأن الإلحاد مسألة عارضة إذ لو كان أمراً ذاتيا ، لأمكن أن يقام عليه الدليل ، بل يمكن أن يكون مدركا ببداهة العقل ، كشأن الأمور الفطرية غالبا .
وإذا كان الانحراف قد بلغ أقصاه مع الملحدين ، فإنه مع المشركين كان بطريقة اخف ، غير أنه انحراف كذلك ؛ لأن الإيمان بوجود إله ، وحتي ولو كان ليس هو الإله الحق – كما هو شأن المشركين – قد ينظر إليه على أنه إيمان ينبغي تصحيحه ، ولا شك في أن الجهد الذي يبذل في إقناع المشرك أقل من الجهد الذي يمكن أن يبذل في إقناع الملحد – والتصحيح غير الإنشاء ، من ثم كانت مواقف القرآن الكريم مع طوائف المشركين قائمة على هذا الأساس ، أساس تصحيح المعتقد مع هؤلاء .
وعلاج القرآن الكريم لهذه القضية قد أخذ أشكالا وصورا متعددة ، بحسب المقام الذي عالجها به ، فتارة يتكلم عن الوحدانية بطريق إيجابي مباشر في مثل قوله تعالي : { قل هو الله أحد } (21) ، وأخري بطريق إبطال النقيض ، كما في قوله تعالي : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . . . } (22) فالآية هنا جاءت في أسلوب شرطي ، الفساد في السياق مترتب على التعدد ، وقد طوي جزء من الدليل مقدر في العقل هو : لكنهما غير فاسدتين ، إذن النتيجة اللازمة لذلك أن التعدد مرفوض ، وتثبت الوحدانية .
وفي أية ثالثة تري القرأن الكريم يصور لنا المستحيل المترتب على اتخاذ الله سبحانه وتعالي ولدا له أو إلها معه ، قال تعالي : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على البعض . . . } (23) .
وحين اشترط الأنبياء في مقولتهم لأقوامهم { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } كان ذلك معني : الأخذ بأيديهم إلي معرفة الإله الحق ، وترك الشركاء الذين اتخذوا ألهة من دونه ، على أي نحو كانت تلك الألهة ، ظواهر مونية كالشمس والقمر ، أو أصنام تصنع ثم تعبد من دون الله ، أو بعض الأشخاص أو الحيوانات الخ ، وحسب القرآن في هذا كله أن يكشف عن العلاقة الصحيحة بين المعبود والعابد ، أو الخالق والمخلوق ، تلك التي يقرر العقل والفطرة أن يكون أحد طرفيها أعلا طبيعة ومكانة وهو ” الإله الحق ” والأخر أدني طبيعة ودرجة ومكانة وهو ” العابد ” وفي ضوء هذا التحديد للعلاقة الصحيحة تسقط جميع الاعتقادات والممارسات التي تتجاوزها ، وقد أطلعنا القرآن الكريم علي مشهد سيق للتعليم بأسلوب الترقي من موقف إلي أخر وذلك في قوله تعالي : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ، فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ، فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من الضالين ، فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني برئ مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } (24) . وقبل هذه الأية مباشرة جاء قوله تعالي : { وإذ قال إبراهيم لأبيه أزر أتتخذ أصناما ألهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } (25) .
إن هذه الأيات تكشف عن الخصائص التي تكون للإله الحق ، وهي الصفات المطلقة من علم وقدرة وإرادة وحكمة بها جميعا توجد الموجودات على نمط يدل عليها ، وبناء على ذلك يمكن أن تقاس خصائص الألهة المفترضة : الكوكب بصفة عامة – القمر – الشمس ، هل تتوافر فيها خصائص الإله الحقيقي أو أنها ليست كذلك ؟ إن الناظر فيها يشهد بأنها ليست ألهة ؛ لأنها تأفل وتظهر ، وهذه أعراض لا تليق بالإله كما أنها من ناحية أخري لا تملك خصائص الخلق والتدبير إذ هي في ذاتها مطبوعة على ما يصدر عنها ، وإذا كانت كذلك فهي أثر لصانع فطرها على ذلك ، وبهذا كله يبتفي كونها ألهة ، وإذا كان شأن الكواكب التي نلمس أثارها نفعا وضرا ، فمن باب أولي أن تكون الأصنام ألهة مزعومة ، من ثم ينتهي المشهد ببيان الإله الحق الذي فطر السموات والأرض ، وذلك الذي كان الغاية من إيراد هذا الموقف .
إن الآيات التي سقناها تصفي الحساب مع طائفتين مشركتين أظهر القرآن بطلان معتقدهما وهما طائفة الصابئين عبدة الكواكب ، وكذلك عبدة الأصنام ، وعلى هذا النسق جادل طائفة زعمت أن الملائكة بنات الله فعبدوها تقربا إليه ، بعد أن خلعوا عليهم وصف الأنوثة ، مبينا أن كلامهم نازل عن درجات العلم ، ذلك لأن طرق وأسباب العلم ثلاثة كما يقول العقلاء : الحس والعقل والخبر الصادق ، أولها للمحسوسات وثانيها للمعقولات ، وثالثها للإخبار بوقائع يصدفها الواقع ، وإذا كان وصف الملائكة بالأنوثة ليس مدركا بالعقل ولم يأت به خبر صادق – لم يبق إلا أن يكون طريقة المعاينة ، وإذا كان هذا أمرا مستحيلا لأنهم من عالم أخر مغيب عنا ؛ فإن الدعوي حينئذ لا تقبل ، من ثم رأينا القرآن الكريم يظهر هذا المعني في قوله تعالي : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } (26) .
وعلى نفس النسق أيضا يجادل أهل الكتاب الذين انحرفت بهم السبل في تصورهم للإله ، بعد أن تجاوزوا ما جاءت به كتبهم ، وهو في هذا كله يسوق الأدلة الواضحة على حقيقة الوحدانية حيث يشتق من العالم المحس – وما فيه من نظام وتنسيق وكذلك من أعماق النفس ومن بديهيات العقل عناصر استدلاله ، وكأنه عني بذلك مخاطبة كل ملكات الإنسان ، حتي تكون تلك الأدلة في مستوي القضية موضوع الاستدلال .
مفهوم الوحدانية :
المراد بالوحدانية ” التفرد ” في الذات والصفات والأفعال للحق سبحانه وتعالي أي : ليست هناك ذات تشبه ذاته أو تمائلها – نفي الشريك والضد والند – وليس هناك صفات تشبه صفاته – نفي المماثلة في الصفات والتشبيه منها – كما أنه ليس هناك من أفعال غيره يشبه فعله جل وعلا – ونفي المماثلة الذي يلزم منه ” التفرد ” كما ذكرنا قد جميعها أية واحدة ، هي قوله تعالي : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (27) .
ونفي الشريك والضد والند قدر مشترك بين جميع الموحدين – غير أن قوما من أهل الفلسفة والكلام قد وقفوا من الأمرين الأخيرين – نفي المماثلة في الصفات والأفعال – موقف متباينة ، تبعا لتصورهم لمعني التنزيه الإلهي – فالفلاسفة الإسلاميون يرون نفي الصفات على الذات تحقيقا لمعني الوحدانية عندهم – وانطلاقا من القول ببساطة الذات الإلهية – وعدم تركبها من ذات وصفة لأن الثنائية – ولو في التصور الذهني – تخدش التنزيه الإلهي عندهم – وإذن فما ورد به النص مما يفهم منه المغايرة بين الذات والصفات ، ويفيد صفة زائدة على الذات ، لا يعني إلا أمرا سلبيا (28) ومما لا شك فيه أن هذا الموقف لم يفهم التوحيد كما ينبغي أن يكون ، أو إن شئت فقل : إنه بالغ في التنزيه إلي درجة أن الذات تكون – حينئذ – عارية عن أوصافها ، إنها – كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – لا تعدو أن تكون فكرة ذهنية وليست ذات خارجية لها أوصافها الثبوتية الإيجابية (29) . ويقرب موقف المعتزلة من موقف هؤلاء من هذه القضية ، والفرق بينهما أن المعتزلة يثبتون صفات لله غير أنها لا تعني شيئاً مستقلاً في المفهوم عن الذات وهو موقف لا يقرهم العقل عليه – كما لا تقرهم عليه اللغة كذلك (30) .
وفي المقابل نري فريقا نظر إلي المسألة التي معنا نظرة ملؤها التفريط – حيث أجري النصوص التي تحدثت عن صفات الله – وبخاصة ما يسمي بالصفات الخبرية – على ظاهرها ، فأدي ذلك إلي الوقوع في التشبيه والتجسيم (31) .
والحق أن القرأن الكريم حين تعرض لمسألة الصفات ذكرها بكل وضوح وجلاء ، وليس مسئولا عما ألت إليه لدي المدارس المختلفة لأن أفهام البشرليست حاكمة عليه ، وكان يكلفيهم هذه المباعدة الواضحة بين ما لله وما لسواه مما ذكرته أية الشوري ، وكان يكلفيهم أيضاً أن يعملوا أن اللغة التي خاطب بها الله عباده والتي حملت معاني تتحدث عنه جل وعلا إنما هي لغة إنسانية وهي مشتركة في حملها بين المعاني الإلهية والمعاني الإنسانية وإذا كان الأمر هكذا فكان ينبغي أن تراعي هذه القضية ومن ثم فالألفاظ المشتركة في دلالتها على المعنيين –الإلهي والبشري – ينبغي أن تفيد المعني الذي يليق بما تضاف إليه – وهذا المسألة قد تنبه لها شيخ الإسلام ابن تيمية حين تعرض للأيات المتشابهة ، وبهذا قد حل الأشكال الذي ظل حتي اليوم الناس قائما في نفوس بعض الباحثين في مثل هذه القضية (32) .
إن القرأن الكريم قد فصل في الصفات الثبوتية ، وأجمل في صفات النفي وهذا هو الوضع الطبيعي في هذه المسألة ، وإذن فالفكر البشري الذي عكس هذه القضية قد جاءت مباحثه فيها غير متلائمة مع روح القرأن الكريم ، وفي نفس الوقت لا تثبت أمام النقد العلمي الدقيق (33) .
لقد قال الله سبحانه : { ولله الأسماء الحسني فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } (34) وقد جاء التوجيه هنا علي سبيل الأمر ، وإذن فمحاولة تأويلها ، أو تفسيرها على غير ما جاءت ، يحمل ظاهرها على المفهوم الإنساني ، يعد تجاوزا لروح القرأن الكريم ، وقد توعد الحق سبحانه وتعالي في عجز الاية الذين تجاوزوا هذا الروح ، بأن عملهم هذا سيكون محل مؤاخذته يوم القيامة .
إن الطوائف التي استغرقتها بعض القضايا كقضية الصفات وعلاقتها بالذات ، قد حولت العقيدة بمنهجها هذا إلي معني معرفي ، كان من نتائجه ضعف العقيدة الصحيحة في النفوس والقلوب ، لأنها غدت دراسة لما ليس تحته عمل – والإسلام دين العمل والبناء ، وقد كفي المسلمين البحث في مسائل الغيبيات ، ومنها هذه المسألة التي معنا ، حتي يوفروا طاقاتهم وقدراتهم لما ترقي به حياتهم ، وقد كان سلف الأمة أعلم وأسلم حين أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلي الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا العلاقة ، كما فعلت الفرق الأخري ، وقد أثر عن الإمام مالك راضي الله عنه أنه قال ” لا أحب من الكلام إلا ما تحته عمل ” ، ومن المعلوم أن كتب العقائد والفرق لم تترهل وتصبح على الشكل الذي نراها عليه اليوم ، إلا من جراء انتهاج ذلك المنهج الجدلي ، الذي تكون أثاره السلبية أكثر من أثاره الإيجابية .
إن بعض الفرق التي ظهرت على مباحثها سمة الاعتدال – كالأشاعرة والماتريدية – لم تسلم من الوقوع في بعض الأخطاء حين تعرضت لهذه القضية بنفس المنهج الجدلي ، ولعل الذي أوقعها في هذه الأخطاء هو أن رؤيتها للقضايا الاعتقادية ، لم تكن قائمة على التمحيص العلمي بقدر ما كانت قائمة على إلزامات الخصوم ومؤخذتهم بلازم كلامهم ومنطقاتهم ، وهذا هو الذي أفقدها الصواب في بعض الأحيان ، ولعل أظهر مثال لما نقول ، أن الأشاعرة – مثلا – يرون أن صفات المعاني أزلية وكذا ما يشاركها مما يطلقون عليه صفات الذات ، وأن صفات الفعل حادثة ، وهي التي تتعلق بالأمور الكائنة بعد عدم ، كصفة الخلق والرزق والوهب إلخ ، وهذا يعني قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالي كما يعني خطأ شائعا ، وهو أن صفات الإله تكون مشتقة من أثارها ، وهذه يشاكل بينها وبين الصفات البشرية ولما حاولت الماتريدية تفادي الوقوع في هذا الخطأ قالت بقدم صفات الفعل غير أنها أرجعتها إلي صفة واحدة هي صفة ” التكوين ” وهذا التوجيه أيضاً غير مقبول في نظر العقل . ومنشأ هذا كله هو التدقيق الذي تجاوز حد الإيمان إلي الدخول في دائرة المعرفة كما أشرنا سابقاً (35) .
وأما وحدانية الأفعال ، فقد بينها القرأن الكريم في مثل قوله تعالي : { الذي خلق سبع سماوات طباقا ما تري في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل تري من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } (36) وقوله : { وخلق كل شئ فقدره تقديرا } (37) وقوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } (38) . ومما لا شك فيه أن أفعاله إذا كانت أثر القدرة وإدارة وعلم وحكمة ، وكلها صفات مطلقة بالنسبة له سبحانه وتعالي ، فإن ذلك يعني تفردها وتميزها ، وأن ما يصدر عن غيره من أفعال ، فلن يكون كذلك ، لأنها ستكون وليدة صفات محدودة .
العنصر الثاني : الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام كواسطة بين الله سبحانه وتعالي وبين عباده تفرضه الضرورة العقلية ، كما تفرضه كذلك الضرورة الدينية ، فإذا كان الحق جل وعلا من صفاته الرحمة بخلقه واللطف بهم ، وبخاصة الإنسان ، بإعتبار أنه خليفته في أرضه الذي أسجد له ملائكته وسخر له كل ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ، فإن امتداد رحمته وبره بالإنسان أن يزوده بمنهج به تستقيم حياته في الدنيا متي اتبع ما جاء به ويسعد كذلك في الأخرة ، وأما إذا أعرض عنه فإنه سيشقي في الدنيا والأخرة ، وهذا المنهج يستلزم وجود مبلغ من نفس طبيعة البشر كي يقوم بهذه المهمة ، يكون فيه جانبان أحدهما للتلقي والأخر للبلاغ ، ويستحيل أن يكون من طبيعة مخالفة لطبيعة من أرسل إليهم ؛ لما يترتب على ذلك من اللبس . وقد قرر القرأن الكريم هذه المسألة حين رد على بعض المشركين الذين استبعدوا أن يبعث الله بشراً رسولا فقال : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } (39) .
فإذا أضفنا إلي ما تقدم أن عدل الله المطلق ، يقتضي ألا يحاسب الإنسان إلا بعد أن يقيم عليه الحجة ، فإن هذا يرينا إلي أي حد تكون الرسالة أمراً ضرورياً ، وقد قال الحق سبحانه وتعالي : { وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا } (40) كما قال على سبيل التقرير والبيان { وإن من أمة إلا فيها نذير } (41) .
وإني لأتعجب أمام هذه الضرورة كيف تصور قوم ممن لديهم مسحة من عقل أن تكون الرسالة من باب تحصيل الحاصل ، بدعوي أن العقل الإنساني كاف في التمييز بين الخير والشر والحق والباطل (42) ، وهذا دعوي غير صحيحة ، وإلا فأين كان العقل الإنساني يوم اتخذ بعض الناس من الأصنام أربابا لهم ، وهم يعتقدون أنها لا تضر ولا تنفع ؟ ويمكن أن يكون هذا مثلا لكل المعتقدات الفاسدة التي انحرفت بأصحابها عن الطريق الصحيح ، بل أين كان العقل الإنساني في ظل الحضارات السامية التي رأينا المعتقدات فيها أشبه ما تكون بالأساطير ؟ وأين عقل المتنورين في القرن الماضي في الغرب ، يوم أصبح الإلحاد – فضلا عن إنكار الرسل – هو الطابع العام لذلك القرن ؟ .
إن الذين صاغوا الاعتراض على إرسال الرسل على هذا الشكل : إن كان ما يجئ به الرسل موافقا للعقل ففيه كفاية عن إرسالهم – وإن جاءوا بما يخالف العقل فقد جاءوا بالتكليف بما لا يطاق ، أقول : إن صياغة هذا الاعتراض على هذا الشكل لا يعني قوته أبدا بل إنه ليس أكثر من شبهة في نفس أصحابه ، ولو سلمنا جدلا بصحته فيمكن أن يكون الرد عليهم كالأتي :
إن الله سبحانه وتعالي لا يكلف إلا بما يطاق ، إلا كان عبثا لا يليق بالحكيم ، وقد قال سبحانه وتعالي : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (43) { وما جعل عليكم في الدين من حرج } (44) وبهذا يسقط الشق الثاني من الترديد .
وأما الشق الأول فيمكن أن يقال فيه : ما المانع أن يجتمع على الإنسان توجيهان :
- توجيه العقل
- توجيه الشرع الذي جاء به الرسول – ويكون الثاني من قبيل التقوية والتعضيد ؟ اعتقد أن العقل الصريح لا يمنع ذلك (45) .
وليس ما قدمه هؤلاء من اعتراض على قضية ” الرسالة ” بأدخل في باب اللجاج والمهاترة مما قدمه نفر زعموا أن مجئ الأنبياء قد قسم الإنسانية إلي شيع وأحزاب ، وأن المعجزات التي ظهرت على أيديهم كأدلة على رسالتهم لم تسلم من القدح ، وأنهم أتوا بمخاريق لا تقبل في نظر العقل ، وقد كان ابن الراوندي من أكبر الممثلين لهذا الاتجاه ، وتذكر كتب الفرق أنه ألف في الطعن على الإسلام ثلاثة كتب أولها هو كتاب ” الدافع ” الذي عارض فيه القرأن الكريم والثاني كتاب ” الفرند ” وفيه طعن على رسالة النبي الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم وثالثها هو كتاب ” الزمردة ” وهو في إيطال رسالة الرسل وإنكارها ” (46) .
إن هذه الموجات الإلحادية التي أرادت تقويض الدين من أساسه بإنكار النبوة ، وقد حملت الغيورين على الإسلام أمثال أبي حاتم الرازي والفارابي إلي الرد على أصحابها ، فالأول يخرج لنا كتابه ” أعلام النبوة ” الذي يحمل شذرات مما كتبه ” ابن الراوندي ” و ” الرازي ” ويرد عليها بأسلوب علمي رصين – والثاني يؤسس النبوة على مبادئ فلسفية نفسية ، متخذا من قوة ” التخيل ” أساسا لتفسيرها من النفسية ، وبخاصة مسألة الرؤي والأحلام ، وبغض النظر عن قيمة هذه المحاولة من الناحيتين : الدينية والفلسفية ، فإنها تعد مظهرا من مظاهر الغيرة على هذا الدين ، الذي تشكل الرسالة ركنا من أركانه الأساسية (47) .
دليل صدق الرسالة :
يمكن إدراك صدق دعوي الرسالة بثلاثة أمور :
الأمر الأول : حياة مدعي الرسالة وسيرته في قومه قبل أن يكلف بها ويبعث .
الأمر الثاني : ما يؤيده الله به من خوارق العادات التي تظهر عليه مقرونة بدعوي الرسالة سواء تحدي بها أو لا .
الأمر الثالث : مضمون الرسالة التي يبشر بها بالقياس إلي المصالح الحقيقية لمن يدعوهم إليها .
فأما الأمر الأول : فقد قرر الحق سبحانه وتعالي فيه أنه أعلم حيث يجعل رسالته ، ولا يتصور من الحكيم أن يختار من يرسله إلا بما يليق بحكمته وعمله ؛ لأنه مبلغ عنه ، ومتحدث باسمه ، ولا يجوز من جانبنا أن نقرر الأوصاف والمؤهلات التي تكون في الرسول بعد هذا البيان منه سبحانه وتعالي وحسبنا أن نضيف إلي ما تقدم قوله تعالي في هذا المقام ، تقريرا لحقيقة اختيار من يقع عليه عبء القيام بالرسالة : { لا ينال عهدي الظالمين } (48) وإذ انتفي أن يكون الظلم وسيلة لا ستحقاق الرسالة ، فإن العدل الإنساني في أرقي صوره هو الطريق لهذا الاستحقاق مع استصحاب أصل المسألة ، وهو أن الله وحده هو الأعلم بمن يكون أهلا لتحمل هذه المسئولية وحسبنا أيضا أن نقرر أن الاصطفاء والاجتهاد وإن كان له مبرراته من جانب من يختارهم الله لهذه المهمة إلا أن المقاييس الحقيقية تظل حقا لله وحده ، من ثم كانت الرسالة هبة واصطفاء وليست أمراً مكتسباً . وهذه نقطة هامة جداً في هذا السبيل ، تغلق باب الادعاء ، وإن كان هناك ضمان أوفر ، وهو أن خارق العادة الذي يظهره اللع على يد مدعي النبوة يكشف عن طبيعة الادعاء الحقيقي والادعاء المزعوم ، وفي قصة سجاح ومسيلمة شاهد على ما نقول : وفي هذا يقول ابن تيمية : ” إنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين خيار الخلق – الأنبياء – وبين شرارهم العلم وبراهينه وأدلته ، ولا في سلطان النصر والتأييد ، بل يجب في حكمته أن يظهر الأيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ، ويبقي لهم سلطان الصدق ، ويفعل ذلك بمن اتبعهم ، وأن يظهر الأيات المبينة لكذب ، أولئك – الكاذبين – ويذلهم ويخزيهم – ويفعل ذلك بمن اتبعهم (49) .
وهذا الذي قلناه يشكل الإطار النظري للقضية ، وأما الإطار الواقعي فيحدثنا تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بإنهم كانوا أعلا أقرانهم كعبا في أصالة النسب وكرم المحتد وحسن المنبت وطيب النشأة وأن ذلك يمتد منهم إلي أصولهم المباشرة والبعيدة هذا بجانب طهارة الفطرة ونقائها ، وقد نقل الإمام البيهقي في كتابه دلائل النبوة مجموعة من الأحاديث الصحاح تبين شرف نسب الرسول الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم وهو مثل لإخوانه جميعا إذ ليس بدعا من الرسل ، كما يبين ذلك صريح القرأن الكريم من ذلك قوله – فيما رواه واثلة بن الأسقع : ” إن الله اصطفي كنانة من ولد إسماعيل – واصطفي قريشا من كنانة – واصطفي من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ” (50) .
وجمهور علماء العقيدة على أن من يختارهم الله لتبليغ رسالته ، لا يقترفون إنما قط ، قبل البعثة وبخاصة الكبائر ، وإذا وقعت منهم بعض الصغائر فتكون عن عدم تعمد ، كما أنهم من ناحية أخري يقررون أنه قد يقع على يد بعضهم من الخوارق ما يكون تأسسا وارهاصا بالرسالة ، حتي تتهيأ النفوس والقلوب لذلك وقد حدثنا القرأن الكريم عما حدث لعيسي عليه السلام – حين تكلم في المهد صبيا عندما أتت به أمه قومها تحمله ، وسمعت منهم أتهامها بأنها قد جاءت شيئا فريا ، فطلبت إليهم أن يسألوا الوليد عن الحدث ، وقد صور القرأن هذه القصة في قوله تعالي : { فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ، قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك عيسي بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } (51) .
وأما حياتهم بعد البعثة فهم يتمتعون بكل المعاني والصفات البشرية الرفيعة السامية ، وحسبهم أنهم اختيروا لتحمل عبء الرسالة وقد أجمع علماء العقيدة على أنهم موصوفون على سبيل الإجمال بكل كمال بشري ومتنزهون عن كل نقص ، وأما على سبيل التفصيل فيثبتون لهم من الصفات :
- الصدق
- الأمانة
- التبليغ
- الفطانة
المعجزات المؤيدة لدعوي الرسالة :
هذا هو الأمر الثاني من الأمور التي ذكرناها أنفا ، وقد أجري الله سنته بأن يظهر على يد مدعي الرسالة أمرا خارقاً للعادة يأتي تصديقا لدعواه ، يكون غالبا من جنس ما نبغ فيه القوم إمعانا في التحدي وقد وردت هذه المعجزات في القرأن الكريم والسنة النبوية بمعني الأية أي الدليل على تصديق دعوي الرسالة ، من ذلك ما جاء في صدر سورة الإسراء تبيانا لصدق رسالة رسولنا محمد صلي الله عليه وسلم قال تعالي : { سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من أياتنا إنه هو السميع البصير } (52) ، وما جاء في قول الرسول صلي الله عليه وسلم : ” ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الأيات ما مثله أمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ” (53) .
إنها أدلة مستلزمة لمدلولاتها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهي ليست من الأدلة العامة ، بل من الأدلة الخاصة المرتبطة بمن ظهرت على يديه وبطبيعة الدعوي التي جاء ليبشر بها (54) ، وفي هذا تفرقة بينها وبين الأمور الأخري التي قد نشاركها في الظاهر من خوارق العادات أو ما شابهها .
والملاحظة هنا أن هذه الأيات هى من خلق الله سبحانه وتعالي تضاف إليه إضافة الفعل إلي فاعله ، من ثم نري أن الكفار حينما طلبوا من الرسول صلي الله عليه وسلم بعض المطالب على سبيل العنت والتعجيز مضيفيين نسبتها إليه ، بين القرأن في خاتمة مطالبهم أنه ليس إلا بشرا رسولا أي ليس من طبيعته خلق هذه الأيات بل جل من قائل في سورة الإسراء : { وقالوا لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء ولن نؤمن لرقيك حتي تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } (55) .
وقد تنوعت المعجزات بحسب المناسبات بالنسبة إلي الرسل جميعا وبالنسبة إلي الرسول الواحد كما تنوعت في طبيعتها وكان هذا في مجموعه مشيرا إلي شمولية المعالجة لقضية البراهين والأيات على تصديق الرسل حتي إن بعضها كان بمثابة المدخل إلي العقاب الذي يؤاخذ به القوم عند إعراضهم عن الدعوة التي جاء بها نبيهم ، وأظهر مثل لذلك أية ثمود وهي الناقة التي كان لها شرب يوم غير شرب يوم القوم والتي أمورا ألا يمسوها بسوء ، فلما عقروها وعتوا عن أمر ربهم ، أخذهم الله بالعذاب وقد صور القرأن هذا المشهد بقوله : { قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (56) .
وأكثر الأنبياء ظهورا للأيات علي يديه قبل محمد صلي الله عليه وسلم هو موسي عليه السلام . فقد بين القرأن أنه أوتي تسع أيات ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن السبل الممكنة ، لتكون مدخلا إلي نفوس المدعوين قد استنفدت ، وأن سوء طريقهم قد تسبب في تنوع الأيات ، حتي لا تبقي لهم حجة بعد ذلك ، وقد بين القرأن الكريم أن هذا التعدد والتنوع في الأيات لم يغن عنهم شيئا لأنهم أغلقوا بصائرهم دون الإحساس بدلالاتها . فكانت أية الأيات هو المعاينه المباشرة لنتيجة إعراضهم كما جاء في قوله تعالي : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } (57) .
والمتبع للأيات التي أظهرها الله على يد أنبيائه قبل محمد صلي الله عليه وسلم ، يلاحظ أنها كانت أشياء مادية ، لا تدخل في صحيح الرسالة التي جاء بها الرسول ، بل هي دليل خارجي على صدق دعواه ، وهذا يعني أنها تنقضي بزمانها – أي أنها مرتبطة بالحدث الذي سيقت من اجله ، وكذا الحال في معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام التي من هذا القبيل ، أما معجزاته الباقية التي ستظل دائماً موضوعا للتحدي ، لأنها فوق أن تكون حدثا عاديا ، فهي ” القرأن الكريم ” . وفي هذا المعني يقول ابن رشد : ” إن دلالة القرأن الكريم على نبوة محمد صلي الله عليه وسلم ليست كدلالة انقلاب العصا حية ولا كدلالة إحياء الموتي وإبراء المرضي فإن تلك وإن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء ، وفيها ما يقنع الجماهير من العامة ، إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة ، وأهداف الوحي ، ومعني الشريعة . أما القرأن فدلالته على صفة النبوة وحقيقة الدين ، مثل دلالة الإبراء على الطب ، ومعرفة السطوح على الهندسة ، ومثال ذلك : لو أن شخصين ادعيا الطب ، فقال أحدهما : الدليل على أني طبيب أني أشفي الأمراض ، وأذهب الأسقام ، لكان تصديقنا بوجود الطب عند من شفي من المرض قاطعا وعند من طار في الجو مقنعا فقط ” (58) .
ونفس الفكرة هذه قد قررها الغزالي من قبل بشئ أكثر يسطا وتوضيحا ، في كتابة القسطاس المستقيم ، ولا نريد أن تتوسع في بيان أوجه الاعجاز في القرأن الكريم بعد الدراسات التي سيقت في هذا المقام ، وحسبنا أن نقرر أنه سيظل الكتاب السماوي الوحيد ، الذي يتحدي الإنس والجن على كر السنين ومر الدهور ، وأن كل تقدم علمي صحيح يرقي إلي مستوي الحقائق الثابتة يمكن أن يستوعبه وزيادة مما يتأكد معه بالدليل القطعي أنه كتاب رب العالمين ، لا يأتية الباطل من بين يديه ولا من خلقه ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد ، وفوق ذلك – وبناء على قضية كونه الكتاب المحفوظ بحفظ الله له – هو المصدق لما بين يديه من الكتاب والمتهمين عليه ، ومن هذا نعلم أن كل ما اعتري الكتب السماوية السابقة من تحريف وتبديل ، يمكن معرفته على سبيل الإجمال من موقف القرأن الكريم منها ، وفي نفس الوقت – بحكم كونه يقيني الثبوت – تأخذ أيات الأنبياء السابقين ، المادية – التي أيد الله بها صدقهم – صفة الديمومة التاريخية ؛ لأن القرأن الكريم حين قص علينا قصص السابقين ، قرر أن هذا المنهج هو محض الحق ، { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } (59) { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدي ورحمة لقوم يؤمنون } (60) .
إن هذا الذي قلناه يتعلق بالرسالة والرسل من حيث إنها علاقة بين الله سبحانه وتعالي وبين البشر ، والمبررات العقلية الواضحة التي تلزم العقل بصدق دعوي الصادقين وبعض دعوي الكاذبين ، أما مضمون الرسالة فهو متصل بالعنصر الثالث الذي سنتحدث عنه بعد قليل وهو الكتب التي أنزلها الله تعالي على أنبيائه ليبلغوها إلي من أرسل إليهم .
وقبل الحديث في هذا الموضوع نشير إلي قضية هامة ، ذكرها القرأن الكريم ، هي : العلاقة بين النبوة والرسالة ، أو بين النبي والرسول ، لقد جاء ذكر الوصفين معاً في قوله تعالي (آمن الرسول بما أنز ل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (61) وقوله (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (62) .
وخلاصة القول في هذه المسألة أن مفهوم كل من الرسالة والنبوة مختلف ما في ذلك شك وقد جاء في آية واحدة اللفظان معا معطوف أحدهما علي الاخر ، هي قوله تعالي (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمني ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (63) مع أن كلا منهما اصطفاء واجتباء من الله تعالي لبعض عباده إلا أن النبوة اصطفاء بالوحي دون الأمر بالتبليغ وأما الرسالة فتشمل الأمر بالتبليغ وأما الرسالة فتشمل الأمر بالتبليغ بعد الإيحاء ، ومن ثم فكل رسول نبي ولا عكس ،وأن الوصفين إذا اجتمعا في شخص واحد كان وصف النبوة يعني : الإيحاء قبل التبليغ أو الدعوة إلي ما كان يدعو إليه نبي سابق ، وكان وصف الرسالة يعني التبليغ والبيان ، ولعل مما يؤكد هذا ويوضحه قوله تعالي في حق رسولنا عليه الصلاة والسلام (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (64) (يا أيها المدثر قم فأنذر) (65) .
وقد جاء في بعض الآيات ما يؤكد هذا كما في قوله تعالي : ( ألم تر إلي الملأ من بني إسرائيل من بعد موسي إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله …. ) (66) فهذه الآية تصرح بصفة هذا النبي – وهي النبوة وحدها – لذا لم يذكر في عداد الرسل ، وقد قال المؤرخون وجمهور المفسرين إنه “صمويل” أو “شموئيل” أحد أنبياء بني إسرائيل الذين اصطفاهم الله بالنبوة بعد موسي عليه السلام .
ويتصل بهذه المسألة ، أخري لها قيمة علمية هي : هل النبوات والرسالات محصورة في أعداد معينة أو أنها ليست كذلك ؟ الحق أن القرآن الكريم قد أشار إلي القضية ، في بعدين محددين : البعد الزماني ، والبعد الجغرافي وقد جمعهما في قوله تعالي : (وإنا إرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) (67) ثم بين فيما نحن بصدده أن بعض الرسل والأنبياء قد قص علينا قصصهم وبعضهم الآخر قد استأثر الله بعلمه (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسي تكليماً) (68) أما من يجب علينا الإيمان بهم تفصيلا ، فهم الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم ، في قوله تعالي (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم علي قومه نرفه درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين ، وزكريا ويحيي وعيسي وإلياس كل من الصالحين ، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا علي العالمين) .
والآيات التي ذكرناها ، فيها حديث عن ثمانية عشر رسولاً نبياً ، وقد ذكرت سواها ما بقي منهم ممن ذكرهم القرآن علي سبيل التفصيل ، وهم : آدم عليه السلام ، ومحمد صلي الله عليه وسلم وهود وشعيب وصالح وإدريس وذو الكفل عليهم جميعا السلام ، وبهذا يصير عدد من يجب علينا أن نؤمن بهم تفصيلاً خمسة وعشرين رسولاً .
ومن المسائل المهمة في هذا المقام ، والتي ينبغي أن ينبه إليها – أن من لم يرد ذكرهم في القرآن الكريم من الأنبياء والرسل ممن ذكروا علي سبيل الإجمال قد أشارت بعض الأحاديث إلي عددهم فقد – سواء أكانوا رسلاً أم أنبياء فقد روي أبو ذر رضي الله عنه قال (قلت يا رسول الله : كم وفاء عدد الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشراً جماً غفيراً) (70) .
وعدم ذكرهم علي سبيل التفصيل والتعيين – كما هو الحال فيمن ذكروا تفصيلاً – قد فتح الباب أمام كثير من الاجتهادات الخاطئة التي تري أن بعض النبهاء من الفلاسفة والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين يمكن أن يدخلوا في دائرة الأنبياء الذين لم يرد ذكرهم تفصيلاً في القرآن الكريم وأذكر علي سبيل المثال أن الفليسوف الأثيني “سقراط” كان واحدا من هؤلاء ، وقد سمعنا هذا من بعض أساتذة الفلسفة في مرحلة طلب العلم في الجامعة ، واعتقد أن الأمر هنا يظل في دائرة الاحتمال بشرط ألا يكون هذا المفكر أو ذاك ممن يراد إدخالهم في الدائرة المشار إليها ، قد أتي بما يخالف الفطرة أو الدين الصحيح فلعل خير ما يمكن أن نسوقه في هذا السبيل (لقمان) الحكيم وذو القرنين وأضرابهما .
العنصر الثالث : الإيمان بالكتب
تمهيد :
مضمون الرسالة أو النبوة يأخذ طريقه إلي البشر في أشكال ثلاثة : هي أنواع الوحي ، وقد أشار إلي ذلك القرأن الكريم في قوله تعالي : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أن من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه على حكيم } (71) ، وهذه الأشكال هي الوسيلة التي تبلغ بها وحي الله إلي من يختاره من عبده ، وهي تعني : إعلام الله سبحانه وتعالي هذا المختار ما تتضمنه الرسالة أو النبوة .
والإعلام بواسطة الرسول – الملك المكلف بذلك وهو جبريل عليه السلام – هو الغالب في كيفية اتصال السماء بالأرض ، وأما الإيحاء بلا واسطة كالتكلم من وراء حجاج أو الإلقاء في القلب مباشرة ، فهذا خاص ببعض الأنبياء ، وفي بعض الأحوال .
وقد نازغ بعض الأغرار في النوع الغالب ، وهو الإيحاء بواسطة الملك ، وقام إنكارهم على عدم الاعتراف بوجود الملائكة من جانب ، وعلي عدم جواز خرق السماء على فرض وجودهم – حتي يتصل الملك بمن يوحي إليه من جانب أخر ، وكلام هؤلاء نازل عن درجات العلم اليقيني ، ذلك لأن الملائكة كمخلوقات روحية لا ينكر وجودهم إلا من ارتبط بدائرة الوجود الحسي فقط ، وهؤلاء لم يقدموا دليلاً معقولاً يدعم موقفهم ، إذ الوجود في نظر العقل وكل عاقل ، وجودان : مادي ومعنوي ، وإذا كان أقل ما يمكن أن يقال هنا : إنه لم يقم دليل علمي صحيح على إنكار وجود الملائكة . فوجودهم – إذن – أمر ممكن في ذاته ، والممكن الذاتي إذا جاء النص اليقيني الثبوت ببيان وجوده فلم يبق أمام العقل إلا الإيمان به ، وقد قال الله تعالي في صدر سورة فاطر : { الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثني وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير } (72) وأما القول بعدم جواز خرق السماء فهو قول غير علمي كذلك ذلكم لأن السماء في أبسط تعريفها ، هي كل ما سما وعلا ، ويجاوز منطقة الجاذبية الأرضية يعتبر خرقا للسماء ، وقد تتابعت المراكب الفضائية العابرة للقارات انطلاقاتها إلي كواكب أخري ، وهذا نراه ونقرأ عنه كثيرا في يوم الناس هذا ، وقد تقدمت أبحاث الفضاء بصورة ظاهرة جدا ، كما أن السماء ليست جسما ماديا لا يجوز اختراقه ، وقد ذكر القرأن الكريم أن تجاوز أقطار السموات والأرض ، أنما يكون بسلطان من الله { يا معشر الجن والإنس أن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } (73) .
وظاهر الأية يدل على أن المؤثر في العلمية هذه ، هو سلطان الله ، فهل يمكن بعد هذا أن يستنكر مستنكر إمكان خرق السموات التي هي مقر الملائكة ، ويرتب على ذلك إنكار الوحي ؟ اللهم إن هذا كلام لا يقبل ، لأنه يخضع أفعال الحق سبحانه وتعالي وتصرفاته في كونه لمقاييس الوهم المريض الذي يظن أصحابه أنه فكر سليم وما هو من الفكر السليم في شئ .
الكتب السماوية :
هناك كثير من الأيات التي تحدثت عن وجوب الإيمان بالكتب السماوية ضمن عناصر العقيدة الأخري ، منها قوله تعالي : { أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } (74) وقوله : { يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل . . . } (75) .
وما أنزل الله على رسله ليبلغوه إلي أقوامهم أعم من أن يكون كتابا غذ يشمل الصحف والألواح ، ومضمونه ومحتواه هو التوجيهات الربانية التي أراد الله بها قيام النفوس والقلوب على طريق الحق بواسطة من نزلت عليهم ، وهي شاملة لكل نواحي الإصلاح ، إما على مستوي الفرد أو على مستوي الجماعة ، كما أنها تغطي كل جوانب التقويم والبناء ، في مجال العقيدة والسلوك والتشريع والمعاملات ويمكن أن أن يقال باختصار : إن مضمون ما تنزلت به الكتب يعد نقلة هائلة للإنسان من حياة كان فيها مضيعا ، إلي أخري يصبح معها رمزا لكل معاني الطهر والنقاء ، وحسبنا أن نقرأ في ما تضمنته الرسالة الخاتمة ، وما جاء به القرأن الكريم ، هذه الأية لتدل على مضمون كتب الله جميعا : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم أياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } (76) كما يشير القرأن الكريم إلي طبيعة ما تضمنته التوراة فيقول : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء . . . } (77) كما قال تعالي في الإنجيل : { وقفينا على أثارهم بعيسي ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوارة وأتيناه الإنجيل فيه هدي ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدي وموعظة للمتقين } (78) كما قال فيها جميعاً : { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدي للناس وأنزل الفرقان . . } (79) .
وقد نهجت الكتب السماوية في بلاغها منهجا عظيما ، إذ كان يصدق لاحقها سابقها ، فيما ظل صحيح النسبة إلي قائله ، وهو الله رب العالمين كالأيتين المذكورتين ، كقوله : { وإذ قال عيسي ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } (80) وكأن هذا المنهج يعني التواصل والترابط والترابط والوحدة في أصول الرسالات السماوية جميعا ، كما يهدف إلي إبراز حقيقة أخري هي : أن طبيعة المعالجة الربانية لما تحتاجه البشرية لتطب لنفسها ، لا يختلف في طبيعته ومضمونه باختلاف الأحوال والأزمان ، وبهذا يتأكد أن تعدد الأديان لا يكون إلا من حيث الاعتبارات الخارجة عن مضمونها ومحتواها ، كاعتبار الزمان والمكان ، وأما من حيث حقيقتها وطبيعتها فهي واحدة وقد عبر القرأن الكريم عن هذه القضية بقوله : { إن الدين عنه الله الإسلام } (81) كما قال تعالي : { ووصي بها إبراهيم بنته ويعقوب يا بني إن الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } (82) .
ويؤكد ما ذكرنا أننا لو تتبعنا ما جاء في القصص القرأني معبرا عن الحوار الذي دار بين الأنبياء عليهم السلام من طرف وبين أقوامهم من طرف أخر ، نلاحظ الدعوة الواضحة الصريحة إلي وحدة الأصول في الاعتقادات والعبادات والأخلاق ، كما نري أن التركيز على معالجة أصول العقيدة بالدعوة إلي التوحيد الصحيح ونبذ ما كان عليه الأباء والأجداد ، كان أمرا طبيعيا تمليه الوقائع الاجتماعية الشاذة ، إذ أن هذا الشذوذ الاجتماعي المتمثل في الأمراض الاجتماعية الخطيرة ، التي حفلت بها مجتمعات الأنبياء ، إن كان مرده أولاً وأخيراً إلي الانحراف في العقيدة ، إذ هي الأصل الذي ينبني عليه السلام : { ولقد أرسلنا نوحا إلي قومه إني لكم نذير مبين ، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } (83) وقال تعالي في شأن هود عليه السلام : { وإلي عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون – يا قوم لا أسالكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون } ( 84) وقال في قصة صالح عليه السلام : { وإلي ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من غله غيره هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ، قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد أباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وأتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير } (85) .
ويلاحظ أن دعوة الأنبياء عليهم السلام – فيما ذكرنا كمثل لما لم نذكره – أقوامهم إلي التوحيد الصحيح كانت مبررة بأدلتها القوية الواضحة ، بحيث لا يثبت أمامها تقليد الأباء والأجداد ، وقد كان ذلك هو الشبة الوحيدة التي تذرع بها هؤلاء أمام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وما ساقوه من حجج قوية ، وقد بلغ الجمود على التقليد ذروته فيما ذكرتها الأية الكريمة : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون ، قال أولو جئتكم بأهدي مما وجدتم عليه أباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } (86) .
فكان المناسب للرد على هذا التحدي الذي لا يقره عقل ، ذلك الانتقام المروع ، الذي أخذ فيه الغصاة بذنوبهم كل حسب ذنبه ، والذي أشار إليه قوله تعالي : { فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } (87) . وقوله تعالي : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } (88) .
تحريف بعض الكتب السماوية :
القرأن الكريم كتاب تكفل الله بحفظه وصيانته من عبث العابثين وتحريف المحرفين ، قال تعالي : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (89) لقد حفظه في لوحه المحفوظ ، كما حفظه في قلوب ونفوس الأتقياء من المؤمنين ، ووعته صدورهم ، وتناقلته الأجيال – جيلا بعد جيل – ولم نر ولن نري كتابا هيأ الله له من عوامل الحفظ والصيانة كما كان للقرأن الكريم ، إذا كانت هذه حقيقة واقعة تمليها طبيعة القران نفسه ، وإذا كان هذا الكتاب قد احتوي بين أياته وهو يقص علينا قصص السابقين أن الكتابين السابقين عليه – التوراة والإنجيل – قد أصابهما التحريف والتبديل يسبب الانحراف النفسي والفكري الذي اعترف حياة بني إسرائيل ، فلا يمكن أمام هذه الحقائق أن تثبت أوهام من يدعون خلاف ذلك ، من ثم نخلص إلي نتيجة حتمية ومركزة هي : أن القرأن الكريم باعتباره الكتاب الخاتم الذي سلم من التحريف والتبديل ، مؤهل – عقلا – ليكون المصدق للكتب السابقة في حدود ما لم يصبه التحريف والتبديل ، وهو في نفس الوقت المهيمن والكاشف عن مدي التحريف والتغيير الذي أصابها ، لقد قال الله تعالي في هذا الموقف : { ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم إثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وأمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسباً لأكفون عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ، ومن الذين قالوا إنا نصاري أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلي يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } (90) .
وإذا كان الانحراف بالكتابين – التوراة والإنجيل – أمرا قد سجل على بني إسرائيل ، فلا يعنينا أن نقف كثيرا عند القضايا التي شملها هذا الانحراف ، لأنها كثيرة ، وحسبنا أن نقرر هنا قاعدة يمكن في ضوئها أن نحكم على ما احتوياه من مظاهر هذا الانحراف فنقول : كل ما جاء فيهما من قضايا تتصل بذات الحق سبحانه وتعالي أو بصفاته الكمالية والجلالية ، مما لا يليق بذاته ومما يخدش تنزيهه المطلق فاعلم أن هذا كان نتيجة طبيعية لما عملته أيديهم – وكذلك كل ما يتعلق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، مما ينزل بهم عن المستوي اللائق بهم كقيادات روحية ذات اختصاص إلهي ، إذ اللائق في حقهم انهم موصون بكل كمال بشري ، ومنزهون عن كل نقص بشري كذلك ، وبخاصة ما يخدش إيثار الحق تبارك وتعالي لهم دون غيرهم . ليكونوا مبلغين لرسالاته .
يضاف إلي ما تقدم ، مما يتصل بمصالح البشر الذين أرسل إليهم الرسل ، فكل تشريع لا يتصل بصالح الإنسان من حيث هو ، فاعلم أنه ليس من عند الله . وقد سجل القرأن الكريم لونا من هذه التشريعات التي سنها أحبار اليهود ورهبان النصاري والتي ما أنزل الله بها من سلطان فقال : { يا أيها الذين أمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } (91) ، فليس من العقل في شئ أن يكون أكل الأموال بغير حق – والصد عن سبيل الله – واكتناز الذهب والفضة وعدم إخراج حق الله فيها ، مما جاء به نصوص التوراة والإنجيل ، لأن هذا كله يتنافي مع طبيعة الرسالة الإلهية وأهدافها .
وصور الانحراف كثيرة – كما ذكرنا – ومنها : اتخاذ القوم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، كما قال تعالي : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه . . . } (92) ، ونعتقد أن القوم مع مقدميهم من الأحبار والرهبان قد ضلوا ضلالاً بعيداً حيث بلغ الانحراف قمته في هذا المقام ، لأنه يمس أصل الدين ، وهو قضية الألوهية ، وهي قضية تأليه البشر ، ومن الطبيعي أن يكون ما وراءها من صور الزيغ والضلال راجعاً إليها .
وإن الفطرة السليمة والعقول المستقيمة لتتعجب ! ! كيف سمح هؤلاء الأحبار والرهبان لأنفسهم أن يتخذوا ألهة من دون الله ؟ وكيف طاوعت القوم عقولهم أن يؤلهوا من ليسوا أهلا لذلك ؟ إنه المرض النفسي والخبل العقلي في أعلا ذروته ، من هؤلاء وأولئك على السواء ، وإذا كانت العقيدة هي الأساس في كل دين ، وأن التشريعات إنما تنبني عليها فمن الضروري أن يكون كل ما بني على تلك العقيدة الفاسدة فاسداً كذلك .
موقف البحث العلمي المحايد من هذه التحريفات :
لقد انتهي البحث العلمي المحايد إلي قضية واضحة لا تقبل الجدل بالنسبة لأسفار العهدين ، القديم والجديد وهي : وجود نسبة كبيرة جدا من الأخطاء التاريخية والأغلاط الظاهرة والتناقضات الواضحة بين نصوص هذه الأسفار ، مما يتأكد معه أن صلتها بأنبياء بني إسرائيل ، ونسبتها إليهم ليست صحيحة .
فأما عن رسائل العهد القديم وكتب بني إسرائيل في عهدهم الأول ، قد فقدت جميعا في عهد ” يختنصر ” حين سباهم وأجلاهم عن أرض فلسطين إلي بابل ، وقد كان ذلك في عام ( 586 ق . م ) تقريبا ، واليهود أنفسهم يقرون بذلك ، ويزعمون أن أحد كهنتهم – وهو عزرا – قد كتبها من جديد من وحي الإلهام ، حين سمح لهم ” قورش ” الملك الفارسي بمزاولة نشاطهم بعد الأسر البابلي ، وأعادهم من منفاهم إلي فلسطين ( 538 ق . م ) .
وأما الإنجيل الذي أنزله الله علي عيسي ، فلم يبق منه شئ منذ العصور الاولي للمسيحية ، وفي الاناجيل المتداولة اليوم وهي الأربعة المعروفة : إنجيل متي – مرقس – لوقا – بوحنا . إشارات واضحة إلي ذلك ، مما يؤكد فقدان الصلة بينها وبين المسيح عليه السلام ، والإنجيل الوحيد الذي يحمل المضمون شبه الحقيقي الذي نزل على عيسي عليه السلام ، هو إنجيل ” برنابا ” غير أن الكنيسة الرسمية لا تعترف به ، وقد أصدر البابا ” جلاسيوس الأول ” في القرن الخامس مرسوما بابويا يعتبر هذا الإنجيل ضمن كتب أخري ، يحرم على المسيحين مطالعتها ، لذا ظل سرا مجهولا حتي بداية القرن الثامن عشر (93) .
وليس ما تذرع به اليهود من إعادة كتابة ” العهد القديم ” على يد ” عزرا ” من وحي الإلهام ، وما يقوله المسيحيون عن أناجيلهم وأنها ترجمة عما كان يعنيه المسيح عليه السلام ، بكاف أمام النقد العلمي ، الذي ثبت معه عدم صحة نسبة ما فيهما إلي وحي السماء ، بعد انقطاع السند التاريخي ، الذي هو العمدة في هذا المقام ، ولم تكن التناقضات والأغاليط المثبوتة في العهدين : القديم والجديد إلا مظهرا للتحريف ، المبني على انقطاع السند هذا – وقد كان لاكتشاف مخطوطات البحر الميت أثر واضح جدا في الحكم على هذين الكتابين ، وقد قال عن هذه المخطوطات أحد الكتاب المسيحيين ، وهو القس الدكتور ” تشارلس فرنسيس بوتو ” في كتابه ” السنون المفقودة من عيسي ” ” لدينا الأن وثائق كافية تدل على أنها مخطوطات هي حقيقة هبة الله للبشر ؛ لأن كل ورقة تفتح ، تأتي فيها إثباتات جديدة على أن عيسي كان كما قال هو عن نفسه إنه ” ابن الإنسان ” أكثر منه ” ابن الله ” كما قال عنه أتباعه ، وهو منه برئ ” ثم قال أيضا : ” من العسير العثور على كتاب في العهد القديم لا يحتاج إلي تصحيحات ، تحت ضوء مخطوطات البحر الميت ، وكذلك ليس هناك كتاب في العهد الجديد لا يحتاج إلي تفسير شامل للأيات الأساسية التي تقوم عليها الشريعة (94) .
القاعدة الإسلامية للتعامل مع هذين العهدين
بان لنا الفرق الواضح بين ما تضمنته التوراة والإنجيل باعتبار مصدرهما الحقيقي من أصول الدين وأحكامه وأدابه والغايات القصوي لهما ، كما ظهر كذلك ما سجله القرأن على اتباعهما من التحريف والتبديل ، حتي أصبح كتابا العهدين : القديم والجديد مقطوعي الصلة بالمصدر الإلهي ، كما انضم إلي تقرير هذه الحقيقة القرأنية ، نتائج البحث العلمي المحايد ، بعد اكتشاف مخطوطات البحر الميت والمقارنة بينها وبين هذين العهدين كما أشرنا ، والأمر المترتب على ذلك أن فقدان الثقة فيما يغدو مسألة طبيعية ، ومن ثم فما جاء فيهما مما يخالف أصول الاعتقاد الصحيح ، كما بينه القرأن الكريم باعتباره الكتاب الخاتم والمصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه ، وكذا أصول التشريعات والمعاملات والأداب فحكمنا على النصوص التي تحمل ذلك هو الوضع والتحريف والتبديل للنصوص الصحيحة ويضاف إلي ذلك أيضا ما تأباه السنة الصحيحة وردها واجب شرعا وعقلا وأما النصوص التي تحمل مضامين صحيحة في الأصول التي ذكرناها فعلينا قبولها لا على أنها نصوص إلهية ، بل شروح لا تتعارض مع مضامين النص الإلهي ، وأما النصوص التي لا نري في القرأن الكريم والسنة الصحيحة ما يؤيدها أو يعارضها فعلينا أن نسكت عنها ، وقد جاء في ذلك بعض الأحاديث التي تفيد هذا المعني من ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ” لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ” (95) وما رواه جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي النبي صلي الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه عليه فغضب وقال : لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شئ فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسي كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ” (96) .
ومما لا شك فيه أن في هذا المقياس مقنعا للعقل ورضا للقلب ، وإظهاراً للحق .
العنصر الرابع : الإيمان بالملائكة
تضافرت الأيات القرأنية والأحاديث الصحيحة على وجوب الإيمان بالملائكة ضمن عناصر العقيدة الأخري كما في قوله تعالي : { أمن الرسمول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته ومتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } (97) ، وكما جاء في حديث جبريل المعروف الذي منه ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ” (98) .
ومنكر وجودهم كافر ، لقوله تعالي : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر فقد ضل ضلالا بعيدا } (99) وفي معيار العقل الصريح لا مبرر لإنكارهم ، لأنه لا يترتب على الإيمان بوجودهم استحالة عقلية ، وكل ما كان كذلك ، فإن وجوده يكون ممكنا عقلا ، فإذا جاء النص اليقيني الثبوت بما يفيد وجوده ، فلا مناص من الإيمان بذلك عقلا ، وهنا يتعالق دليل العقل مع دليل النقل .
وقد أخبرنا الحق سبحانه وتعالي بأن العلم الحقيقي لأنواع المخلوقات وأعداد كل نوع يخضع للقياس البشري لأن هذا فوق طوق البشر وقدرتهم ، قال : { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكري لليشر } (100) .
ومن المعلوم أن الملائكة عالم يدخل ضمن عالم الغيب الكبير ، ومن الثابت في ديننا أن هذا العالم لا يحيط بحقائقه وحقائق أنواعه وأفراده علما سوي خالقه ، وهو الله سبحانه وتعالي ومن يرتضي من رسول ، وقد صدق الله العظيم إذ يقول : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضي من رسول } (101) .
وتظهر حكمة الحق تبارك وتعالي من إيجاد هذا النوع من المخلوقات من المهام المتعددة التي نيطت بهم ، وهي الوظائف التي يقوم بها كل واحد أو كل صنف منهم ، وتتخلص في انهم رسل ووسائط بين الخالق جل وعلا وبين عباده . وهي حكمة تنطوي على عجز العقل البشري عن تصور كيفية الحياة الإنسانية يدونهم .
وهذا في حدا ذاته كاف ليكون مقنعا لكل ذي عقل صريح ، من ثم تسقط دعاوي المنكرين لوجودهم أو المتأولين لحقائقهم ، لأنهم لم يقدموا برهانا صحيحا على ذلك ، فإذا انضم إلي ما تقدم أن أهم مظاهر الإيمان القوي هو الإيمان بالغيب . وهم من عالمه ؛ لظهرت الحكمة حينئذ في أجلي صورها وسنتكلم عنهم من المواحي الأتية :
أولا : طبيعتهم وصفاتهم
1 – الملائكة مخلوقات ذات طبيعة نورانية ، لا تخالطهم المادة بأي حال من الأحوال ، حتي لو ظهر بعضهم وتشكل في صورة مادية ، كمثل الملك وهو – جبريل – الذي نفخ في مريم عليها السلام لها بشرا سويا كما قال تعالي : { فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا ً } (102) وتمثل جبريل عليه السلام لرسولنا محمد صلي الله عليه أحيانا في شكل رجل وسيم هو ” دحية الكلبي ” .
والدليل على نورانية طبيعتهم ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ” خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار وخلق أدم مما وصف لكم ” .
2 – ومن الطبيعي – وهم رسل الله ووسطاؤه إلي عباده – أن يكونوا طائعين منفذين لما وكل إليهم من مهام ، وقد وصفهم القرأن الكريم بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وأنهم لا يسبقون الله بالقول ، بل بأمره يعملون وأنهم يسبحون الله الليل والنهار لا يفترون .
3 – ومن الثابت لهم أنهم ليسوا مشمولين ضمن طبائع المخلوقات التي تتعاقب عن طريق التوالد على الصورة التي أجري الله سنته عليها ، من ثم يتميز فيها أصناف الذكور التي تحمل خصائص النوع عن أصناف الأناث التي تكمل بما طبعت عليه عملية الاخصاب ، وقد قرر القرأن الكريم أن من يصفهم بالأنوثة فقد وقع تحت مسئولية هذا الوصف الشائن الذي لا يمكن أن يكون وليد العلم الثابت القائم على المشاهدة والمعاينة . قال تعالي : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن أناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } (103) .
4 – أشار القرأن الكريم إلي كونهم مخلوقين قبل خلق الإنسان ، في ذلك الحوار الذي جاء في قوله تعالي : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم أدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال يا أدم أتبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمانهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } (404) .
ثانيا : أعدادهم
ظاهر الأيات القرأنية والأحاديث النبوية ، أن عدد الملائكة ليس معروفا بالنسبة لنا ، وأنهم من الكثرة بحيث لا يحصي عددهم إلا الحق سبحانه وتعالي الذي خلقهم ، ففي القرأن الكريم قول الله تعالي : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وهذا جزء من أية كريمة جاءت في سورة المدثر هي قوله تعالي : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين أمنوا إيمانا ولا ترتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } (105) .
وقد جاء في الحديث قوله صلي الله عليه وسلم عما يدل على كثرتهم ومهامهم : ” أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع ” (106) .
ثالثا : أنواعهم ووظائف كل نوع
ذكرت النصوص الدينية أنواع الملائكة ببيان وظيفة كل منها . وهي وظائف تفيد عظيم المسئولية التي نيطت بهم وقدر الأعمال التي يضطلعون بها بأمر من الحق سبحانه وتعالي ، وفي قمة ما يتعلق بهم جميعا من أعمال ، ما يقوم به أمين الوحي ” جبريل ” عليه السلام . إذ ليس هناك أولي ولا أعظم من هذه المهمة ، لذا نري القرأن الكريم ينعته بالروح الأمين في قوله : { نزل به الروح الأمين } (107) . بعد قوله : { وإنه لتنزيل رب العالمين } (108) . ولعل من أبرز مظاهر التكريم له ذلك الذي يدل على عظم شأنه وجلالة قدره عند ربه ، أن قرنه الله به كمعين وناصر للرسول صلي الله عليه وسلم في مقام تهديد نسائه صلي الله عليه وسلم إن تظاهرن عليه قال تعالي : { إن تتوبا إلي الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } (109) .
وحسبه من الله أن نعته بروح القدس – أي الخالص في الطهارة قال تعالي : { وأتينا عيسي ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } (110) ، يضاف إلي ذلك ما جاء في قوله تعالي في مقام تعدد أوصافه وما يمتاز به عن سائر إخوانه من الملائكة : { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } (111) .
لقد استحق ” الأمين ” عليه السلام بهذا كله أن يكون أكبر أكابر الملائكة وهم : ميكائيل الذي ورد ذكره في القرأن الكريم باسم ” ميكال ” في قوله تعالي : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } (112) وإسرافيل وعزرائيل .
ومن أنواع الملائكة ” حملة العرش ” وقد جاء ذكرهم في قوله تعالي : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية }
(113) والحافون من حوله كما قال تعالي : { وتري الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العاملين } (114) .
ثم هناك أيضا نوع من الملائكة يؤنس الله سبحانه وتعالي بهم أهل الجنة إظهاراً لتنعيمهم قال تعالي : { جنات عدن يدخلونها ومن صلح من أبأئهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار } (115) .
وفي المقابل نري القرأن الكريم يتحدث عن نوع أخر من الملائكة خصهم لأهل النار ، سموا بالزبانية وقد جعلهم الله شهودا علي تعذيب الكفار والعصاة تبكيتا لهم وزيادة في الإيلام والإيذاء النفسي بالإضافة إلي الإيلام المادي ، قال تعالي : { وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب وليزداد الذين أمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا إراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكري للبشر } (116) .
وإذا كان الحق سبحانه قد جعل من حكمته شهودا على العباد في الحياة الأخرة في الجنة أو في السعير من عباده المكرمين ” الملائكة ” فقد جعل كذلك أصنافا منهم موكلين بالبشر ، إما في أول خلقتهم كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات : فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح . . . ” في طول حياتهم ، وأما في نهايتها ، كما سنبين ذلك فيما يأتي بإيجاز شديد .
ومن بين أنواع الملائكة المكلفين بالبشر
في حياتهم :
1 –وهم الذين يحصون أعمال الإنسان وأقواله ويسجلونها عليه ، دون أن يراهم وقد جاء في القرأن الكريم ما يدل على إن لكل إنسان ملكين يقومان بهذه المهمة قال تعالي : { إذ يتلقي المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (117) . وفي هذين الوصفين : ” رقيب عتيد ” ما ينبئ على خطر المهمة التي يقومان بها وفي هذا ما يشخذ عزائم الإنسان حتي يظل دائما على ذكر من أمره ، فلا تأخذه الغفلة ولا تحجبه عن دوام المراقبة للحق سبحانه وتعالي صوارف الحياة الدنيا .
وليس لقائل أن يقول : أليس الله بمحيط ما يحدث في كونه ، وعلي أيدي عياده إحاطه تامة وانكشافا يليق بذاته دون هؤلاء الوسطاء ؟ ألم يقل الحق سبحانه وتعالي عن نفسه مما يتصل بهذه القضية : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (118) ؟ ؛ لأن هذا النظام الذي أقام عليه قانون مراقبة البشر من مقتضيات حكمته وعلمه بما ينصلح به أمرهم ، ثم من جانب أخر : أليس في تحديد نظام المراقبة المباشرة هذا ما يكون داعية للنفس الإنسانية لمزيد من العمل الصالح والإخلاص الدائم ؟ بلي إن الأمر كذلك .
2 – الحفظة : وهم الذين يحفظون الإنسان من الشرور والأثام ، إلا ما شاء الله حصولها ووقوعها ، وقد قال الله تعالي في ذلك : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } (119) .
إن ما تفيده هذه القضية والتي قبلها – الكتبة والحفظة – هو تكريم الحق جل وعلا لبني الإنسان في تلك الحياة – وليس هذا بمستغرب على إله جواد كريم ، جعل هذا المخلوق خليفته في أرضه ، وقد نازعته الملائكة في ذلك قبل أن يبرز لهم أن يعلمون ، س من ثم صح في نظر العقل ما جاء به الوحي ، من كون الملائكة موكلين بأمور الإنسان ، تسجيلا وحفظا في حدود المهمة التي ناطها الحق تبارك وتعالي بهم .
3 – وأما الذين وكل إليهم أمر إنهاء حياة البشر – ملائكة الموت – فقد ذكرهم الحق سبحانه وتعالي على سبيل الإجمال في قوله تعالي : { . . . حتي إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } (120) ، فالأية تشير إلي أنهم جمع وليسوا ملكا واحدا ، وما جاء بصيغة الإفراد مثل قوله تعالي : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلي ربكم ترجعون } (121) فقد يراد به ” الخبس ” المخصوص بهذه المهمة ، ويفسر هنا أن هناك أيات أخري تفيد تنوع هذا الجنس إلي : نازعات وناشطات ، فالصنف الأول خاص بنزع أرواح الكفار والثاني خاص بقبض أرواح المؤمنين وفي كل من التعبيرين إيحاء شديد الوضوح في تنوع مقام إنهاء حياة كل من الفريقين ، وفي هذا ما يغري بالعمل الصالح الجاد . الذي يكون سببا في إنهاء حياة صاحبه بصورة كريمة ، قال تعالي : { والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا ، فالسباقات سبقا ، فالمدبرات أمرا } (122) ، فالأيات – كما نري – تبين نوع مهام هؤلاء إذا كان المراد بهم الملائكة – وهو أرجح الأقوال – مما يفهم منه أن جميع الأنشطة في الحياة موكولة غلي فريق منهم وهذا هو التنظيم الإلهي للكون في أرقي صوره .
فإذا أضفنا إلي ما تقدم ما حلفت به السنة الصحيحة من الحديث عن مهام أخري أضيفت إليهم لتبين لنا الدور الهام الذي يضطلعون به في النظام الكوني – كما أراده الخالق جل وعلا ، مما لا يسوغ معه تصور مخالف لأن هذا مقتضي الحكمة كما أشرنا .
وفي حكم الإيمان بالملائكة ، الإيمان بالجن ، وهم عالم خفي غيبي تحدث عنهم القرأن الكريم ، وفيه سورة باسمهم ، وقسمهم إلي صالحين وطالحين أو قاسطين ، كما تحدثت عنهم السنة الصحيحة ، وإنكار وجود هذا العالم ، أو تفسير وجوده على وجه غير صحيح بمعيار ما جاء النص الصحيح بالإخبار عنه ، فهو ضلال في الدين ، وجهل في العقل ، وحسب كل إنسان عاقل أن يقرأ قول الله تعالي : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } (123) ليدرك إن الحق سبحانه قد سوي بين هذين الجنسين : الجن والإنسان ، من حيث المهمة والغاية ، وفي حدود تلك المهمة يظهر أن الإيمان بهم وبمهمتهم إيمان بالإنسان وبمهمته كذلك .
يبقي أن يقال : إن الفارق بينهم وبين الملائكة هو فارق في الطبيعة إذ طبيعتهم نارية ، كما صرح بذلك القرأن الكريم في قوله تعالي : { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } (124) .
العنصر الخامس : الإيمان باليوم الأخر
من مقتضيات العدل الإلهي أن تكون هناك حياة أخرة ، يجازي فيها الإنسان على ما قدم في هذه الحياة الدنيا ، ولو لم يكن الأمر على هذا الوضع ، بأن كانت الدنيا هي نهاية الوجود – كما أقرته الفلسفات المادية والمذاهب الإلحادية على غير أساس من العلم والدين – لتساوي المحسن بالمسئ والصالح بالطالح ، من ثم نري أن الإيمان باليوم الأخر هو ضرورة عقلية أخلاقية ، فوق كونه ضرورة دينية .
وقضية الإيمان باليوم الأخر ، مبنية على قضية ” التكليف ” التي اختص الله بها الإنسان ، كما يرشد إلي ذلك قوله تعالي : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } (125) والتكليف لا يكون إلا عندما يتحقق الأساس الذي يقوم عليه ، وهو حرية الأرادة الإنسانية ، ومسئولية المكلف الكاملة عن كل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو اعتقاد ، وللعقل الإنساني الذي هو ملكة الإدراك والتمييز ، دون الواضح في هذا المقام ، إذ ليس من المعقول أن يكلف من يحرم من تلك الملكة ، كما أن الاستطاعة التي تتعلق بالأفعال والقدرة عليها من مكملات عناصر المسئولية التي تستلزم الجزاء .
واليوم الأخر أو يوم الدين أو يوم الحساب أو يوم الجزاء كلها بمعني واحد وقد جاء القرأن الكريم بذلك ، كما جاءت به السنة الصحيحة ، ومنكر هذا اليوم كافر ؛ لأنه منكر لما علم من الدين بالضرورة ، وهو فوق ذلك جاهل أيضا ، إذ أن ترتب الجزاء على التكليف مما تفرضه بداهة العقل ، ومنكر ذلك نازل عن درجة العقلاء . لقد جاءت أيات القرأن الكريم لتؤسس قضية الإيمان باليوم الأخر – كيوم للجزاء – على المبدأ الذي أشرنا إليه أنفا ، وهو مبدأ ” العدل الإلهي ” قال تعالي : { وما يستوي الأعمي والبصير والذين أمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون ، إن الساعة لأتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } (126) كما قال في نفس السياق : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين أمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } (127) .
والناظر بعين الاعتبار إلي المسألة هذه ، يري أنها من البداهة بمكان ، بحيث لا تحتاج إلي دليل يؤكد بدهيتها ، غير أن هناك نفوسا قد غشاها ظلام الجهل ، ولفتها الأوهام والشكوك ، وقعدت بها عقولها المريضة عن التصور الحقيقي لصفات الحق تبارك وتعالي ، حتي انتهي بها الأمر إلي إنكار ذلك اليوم ، وأسسوا هذا الإنكار على استحالة عودة الأجسام الأصلية للموتي ، كما كانت عليه من قبل ، لأنه يمر عليها عدد لا يحصي من التحولات في صور وأشكال وأجسام متباينة ، وقد عبر القرأن عن عقيدتهم هذه بقوله تعالي : { إذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } (128) وقوله : { قال من يحيي العظام وهي رميم } (129) .
والسياق – كما نرى – يقرر أن الاستفهام الصادر عن فريق المنكرين هؤلاء – إنما هو من قبيل الاستفهام الإنكارى ، غير أن إنكارهم يقوم على قصور في التصور كما ذكرنا ومن ثم نري القرأن الكريم يقف أمام هذه القضية ، كي يدحض هذا الإنكار بأكثر من دليل ، تنوعت في سياقها ، حتي شملت كل مدارك الإنسان ، فلا يبقي له بعد ذلك تعليل صحيح أو تبرير مقبول يرفض بهما هذه العقيدة .
لقد عقب القرأن الكريم على من استبعد إحياء العظام بعد أن بليت ورمت ، ذلك الذي يستلزم رفض الإيمان بالبعث بقوله تعالي : { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } (130) وفي هذه الأية قياس عقلي لا يقبل القدح ، لإتحاد العلة فيه ، فإذا تصورنا أن النشأة الأولي للإنسان التي كانت من العدم المحض وعلى غير مثال سابق ، هي مظهر لقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ، فإن هذه الصفات هي هي على إطلاقها وعمومها ، فإذا كانت هذه هي علة الخلق ابتداء فهي نفسها علة الإحياء مرة ثانية ، وتولد الحياة عن العدم كتولد العدم عن الحياة في ميزان الصفات المطلقة سواء بسواء ، بل إن العقل قد يري في المرحلة الثانية للإحياء – وهي البعث هنا – ما ليس في المرحلة الأولي – وهي الخلق ابتداء والإيجاد من عدم – من الجهد والمشقة إن افترضنا أن ذلك جائز في حق الله سبحانه وتعالي ولعل هذا الذي ذكرناه ما تشير إليه الأية الكريمة : { وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلي في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } (131) .
وكأن الأسلوب القرأني الحكيم يقرب إلي الأذهان الصور المعقولة ، التي تصور الفعل الإلهي في شكل الوقائع التي تحدث من البشر ، مستصحبا في ذلك قياسا مطويا ، هو : قياس الأولي ، ويصبح المعني الأول حينئذ : إذا كان العقل يقرر أن فعل القدرة المحدودة – فعل البشر – المتمثل في إخراج شئ ما من العدم إلي الوجود يكون في المرة الثانية أهون منه في المرة الأولي ، فمن باب أولي أن يكون ذلك للقدرة المطلقة التي لا يعجزها شئ .
ونلحظ في بقية الأيات التي جاءت بعد الأية التي معنا ما يشير إلي أن إخراج الشئ من ضده أمر سهل على القدرة الإلهية : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } (132) .
كما أن منها ما يبين أن كل ما يحدث في الكون بأكمله – إحداثا وخلقا أو محوا وإعداما – إنما هو خاضع لإرادته وقدرته جل وعلا ، مع أسقاط زمن الفعل أو الإعدام لأن أفعاله سبحانه وتعالي ، لا تخضع لما تخضع له أفعالنا : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (133) وتجئ الأية التالية بمثابة التعليل العقلي الذي لا مطمح وراء لأي تعليل أخر : { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون } (134) .
ونلاحظ في علاج القرأن الكريم لهذه القضية تنوع مادة الاستدلال بحيث تغطي في مجموعها كل المدارك الإنسانية ، ولم يكن الأمر على هذا النسق إلا رفضا لموقف المنكرين بإقامة الحجة عليهم من كل وجه ، لقد رأينا بجانب القياس العقلي الذي توحي به بعض الأيات – كما ذكرنا – المشهد ، الحس التجريبي الذي يمد الحواس بمادة الاستدلال ، التي يستخلص العقل منها النتيجة اللازمة .
لنستمع مثلا إلي هذه الأيات من سورة ” ق ” وهي كلها مسوقة للرد على منكري ” البعث ” : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج ، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكري لكل عبد منيب ، ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } (135) .
وفي نهاية المشهد الاستدلالي الواضح ، نطالع بعض الأيات تعتمد على التجربة العلمية لتثبيت هذه العقيدة ، وذلك ظاهر فيما حكاه القرأن الكريم عن إبراهيم عليه لا سلام حين قال : { رب أرني كيف تحيي الموتي قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا . . . } (136) .
كيفية البعث :
ظاهر النصوص الدينية على أن البعث يكون للروح والجسد معا ، ومعني هذا : أن تكون أحوال الأخرة كلها واقعة على ذات الإنسان الذي كان مكلفا في الدنيا ، وهذا هو مقتضي العدل الإلهي ، كما أنه مما تقضيه الضرورة العقلية كذلك . وقد حكي القرأن الكريم مشهدا سوف يحدث يوم العرض مع الحق سبحانه وتعالي للفصل والقضاء يؤكد ما نقول ، فيقول الله جل وعلا في ذلك : { وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا } (137) .
ومما يؤكد هذا أن حديث القرأن الكريم عن الجزاء بنوعيه : النعيم للطائعين والعذاب للعاصين مستفيض ببيان نوعين لكل منهما ، نوع النعيم والعذاب المادي ، ونوع النعيم والعذاب الروحي والمعنوي ، يقول تعالي في حق الجنة التي وعد المتقون : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها انهار من ماء غير أسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفي ولهم فيها من كل الثمرات . . .} وهذا الجزء ظاهر الدلالة على النعيم المادي – ثم يكمل الله الأية بقوله : { . . . ومغفرة من ربهم } وهذا أيضا ظاهر الدلالة على النعيم الروحي ، لأن لذة الفرح بالمغفرة فوق لذة التذوق للماديات إذا قلنا إن هناك تفاوتا بين اللذتين .
وفي المقابل نري أيضا أيات ظاهرة الدلالة على ان العذاب كذلك مادي ومعنوي ، ففي نفس الأية التي معنا يقول الله تعالي في جزء منها : { . . . وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } (138) . كما يقول في أية أخري : { . . . كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } (139) وفي شهادة الأعضاء على ما اقترفت في الدنيا دليل واضح على ما نقول ، يقول القرأن في ذلك : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } (140) .
والأيات التي جاءت في هذا السياق من المحكمات لدي سلف الأمة ، ولا يمكن تأويلها ؛ لأن حملها على ظاهرها لا يترتب عليه محال ، غير أنهم يفرقون بين طبيعة كل من اللذتين والعذابين في الدنيا والأخرة ، ويقررون – وهذا حق – أن الاشتراك بينهما هو من قبيل الاشتراك اللفظي ، إذ ليس في الأخرة من الدنيا إلا الأسماء ، وأما طبيعة المسميات فهي مختلفة لاختلاف الدارين – إذ الدنيا دار عمل والأخرة دار جزاء .
وإذا كان الأمر كما بينا – فلا عبرة – في نظر الشرع – بما ذهب إليه فريق من الفلاسفة ومن في حكمهم ممن يقصرون البعث على الجانب الروحي فقط ، وبالتالي يرون أن النعيم والعذاب كذلك ، ولا حجة معهم سوي تصورهم لحقيقة الإنسان ، حيث يذهبون إلي أنه ” الروح ” على الحقيقة . وكان من أبرز من اعتنق هذا التفسير هو ” ابن سينا ” وله في ذلك كلام طويل ضمنه في الرسالة الأضحوية في أمر المعاد ، وقد أوسع الأمام الغزالي أصحاب هذا الاتجاه نقدا ورفضا في كتابه ” تهافت الفلاسفة ” .
والحق الذي ينبغي أن يدين به المسلم ، أن كل ما جاء به النص الصحيح ، يجب أن يؤخذ على ظاهره ، ما لم يترتب على الأخذ بذلك الظاهر محال عقلي واضح ، وأركز على هذه المسألة حتي لا يكون ذلك ذريعة لكل متصرف في ظاهر النص ، من أصحاب الأوهام أو العقول التي تشبعت بفكر سابق أملي عليها هذا الموقف من النص ، وقد رأينا في تراثنا كثيرا من هذه المواقف التي حملت أصحابها على تفسيرات لظواهر النصوص الصريحة ، فكان ذلك مسخا لها لا تفسيرا . وقد كان لبعض ” المعتزلة ” مواقف غير سوية بالقياس إلي ما تمليه الروح القرأنية ، وما يفرضه المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يتعامل به المسلم مع عالم الغيب .
قضية الأبدية :
الديمومة أو الأبدية وصفان جاء بهما القرأن الكريم في حق أصحاب الجنة وأصحاب النار ، قال تعالي في شأن الجنة : { أكلها دائم وظلها تلك عقبي الذين اتقوا وعقبي الكافرين النار } (141) والجزء الأخير من الأية يحمل على صدرها ، فإذا كانت الجنة ذات الأكل الدائم هي عقبي المتقين فإن النار ذات العذاب الدائم هي كذلك عقبي الكافرين وقد استفاض القرأن الكريم بمثل هذه الأية ، وجمهور أهل الملة على ذلك ، أخذا بظاهر الأيات ، غير أن بعضها ممن لم يبلغوا درجة التحقيق يري أن المراد بالتأييد الوارد في حق الجنة والنار وأهلهما ، إنما يعني ” المكث الطويل ” ثم يفني الله ” الخلدين ” حتي تبقي له وحده الديمومة المطلقة الأزلية الأبدية ، ولهم في قوله تعالي : { هو الأول والأخر والظاهر والباطن } (142) فهم خاص ظنوا أنه يسعفهم في هذا المقام ، غير أن أشهر الأقوال وأقربها إلي الفهم ، في ضوء ما جاءت به الأيات الأخري التي تحدثت على أبدية الدارين ، أن معني الأولية هنا هو عدم مسبوقية الحق سبحانه وتعالي بشئ أصلا كما أن معني الأخرية هو ألا يلحق بشئ أصلا كذلك وأحسب أن هذا الفهم هو الذي يقره العقل .
وإطراوا للمنهج الذي أشرنا إليه فيما تقدم ، والذي يعتمد على الأخذ بما يفيده ظاهر النص الصحيح ما لم يؤد إلي محال واضح ، نقول : إن كل ما جاء به النص من أمور اليوم الأخر ، من حديث عن الصراط والميزان والشفاعة وشهادة الأعضاء وكذلك ما جاءت به السنة الصحيحة من حديث عما أعد الله لعبادة في الأخرة – ويدخل في ذلك رؤية المؤمنين لربهم – ينبغي ألا يرد ، أو يؤول على معني بعيد ، ولا يكون هذا الرد أو التأويل إلا من أصحاب اللجاج والخصومة ، ممن حذرنا الله منه في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } (143) .
ما يسبق البعث :
من توابع الإيمان باليوم الأخر الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، ليوفيهم حسابهم الإيمان بما يسبق ذلك اليوم ، وهو نهاية هذه الحياة الدنيا ، وهو ما يعرف بالساعة أو القيامة وقد جاء يطلب الإيمان بذلك اليوم ، القرأن الكريم والسنة المطهرة ، ففي القرأن الكريم نري قوله تعالي : { اقتربت الساعة وانشق القمر } (144) وقوله : { لا أقسم بيوم القيامة } (145) وقد بين القرأن الكريم أن علم ذلك اليوم عند الله وحده ، وقد خبأه عن عباده ، حتي يظلوا مترقبين لوقوعه ، فيشدهم هذا إلي العمل الصالح ، قال تعالي : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } (146) ، وفي حديث جبريل عليه السلام الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين سأل الرسول صلي الله عليه وسلم عن الساعة قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، وهذا يدل على أن علمها عند الله تعالي وحده كما صرحت بذلك الأية الكريمة التي ذكرناها أنفا .
وأما أشراط الساعة ، فقد ذكرها القرأن الكريم كما ذكرتها السنة الصحيحة ، ففي حديث جبريل المذكور بين الرسول أن من أماراتها : { أن تلد الأمة ربتها وأن تري الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان } (147) وفي القرأن الكريم حديث عن هذه الأشراط منها : خروج الدابة من الأرض تكلم الناس ، قال تعالي : { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دأبة من الأرض تكلمهما إن الناس كانوا بأياتنا لا يوقنون } (148) .
ومنها كذلك تكوير الشمس وانفطار السماء وانشقاقها ، إلي أخر ما جاء به الحديث عن هذه المسألة .
وفي حكم الإيمان باليوم الأخر وقيام الساعة ، الإيمان بنعيم القبر وعذابه ، وقد جاء القرأن صريحا في ذلك قال تعالي في حق أل فرعون : { النار يعرضون عليها غدوا وعيشا ويوم تقوم الساعة أدخلوا أل فرعون أشد العذاب } (149) فعرض هؤلاء العصاة على النار غدوا وعيشا لينالوا نصيبهم من العذاب ، إنما يراد عذابهم في القبر ، بدليل ما عقب به بعد ذلك من أنهم بعد قيام الساعة سينالون أشد العذاب وأنكي العقاب ، وفي الحديث أن الرسول الله صلي الله عليه وسلم مر على قبرين فبين أن صاحبهما يعذبان ،فأما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الأخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة .
وسؤال الملكين حقيقة أكدتها النصوص الصحيحة وحسبنا هذا القدر من بيان حقائق اليوم الأخر ، كي نؤكد على ما سبق أن ذكرناه ، وهو أن الأمور السمعية ينبغي أن تكون المعول عليه فيها النص الصحيح ، مع كون كل أمر منها ممكنا في ذاته ، أي ليس بمستحيل ، وهذا هو المنهج السليم في أظهر صوره .
ولم نشأ أن نستطرد بأكثر من هذا ، من سرد أراء الفرق والمذاهب في ذلك حيث إن طبيعة هذا البحث تركز على الحقائق الثابتة التي يوحي بها النص الصحيح والعقل الصريح ، بعيدا عن التفريعات والتشقيقات ، التي تتحول بقضايا العقيدة من كونها غذاء للأفئدة والقلوب ، يمتلئ بها صدر المؤمن ، فتتحول بعد ذلك إلي سلوك قويم وممارسة صحيحة ، إلي جدل عقيم ، يطفئ جذوة الإيمان في النفوس ، وينعكس ذلك على الأخلاق والأعمال ، فتبدو باهتة منطفئة ، لا روح فيها ولا حياة ، ولعل فيما أقوله هنا ما يكون حافزا ودافعا للعاملين في حقل الدراسات العقدية ، كي يخلصوها مما شابها من جدال عقيم ، وتشقيقات لفظية حجبت عن القلوب صفاء العقيدة ونقاءها ، ولعل هذا الوضع هو الذي حمل حجة الإسلام أبا حامد الغزالي ، على القول بأن علم الكلام ، لم يف بالمقصود منه من وجهة نظره هو ، يقول في ذلك : ” . . . فصادفته علما وفيا بمقصوده ، غير واف بمقصودي . . . فقد ألقي الله تعالي إلي عباده على لسان رسوله ، عقيدة هي الحق ، على ما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرأن والأخبار ” (150) .
تذييل :
إذا كان أسلوب القرأن الكريم قد جاء في تصوير أهوال يوم القيامة بهذه الصورة الموحية بالرهنة والتخويف ، وكذا ما جاء في وصف ما سيقع من عذاب في النار ، فإن الذي ينبغي أن يستقر في وجدان كل مسلم أن هذا هو الأسلوب المناسب لعلاج القلوب والنفوس حتي يكون ذلك التصوير رادعا لها ، كي لا تتمادي في الغواية والضلال . وطريقة المعالجة هذه ، إنما جاءت من الخالق البارئ الذي يعطي العلاج على قدر الطاقة والوسع ، ولا يفوتنا أن تلك المشاهد ستكون واحة أمن واستقرار وهناء بالنسبة للطائعين ، كما ذكر ذلك بعض المفسرين استنادا إلي النصوص الحديثية الصحيحة ، كما أن أسلوب الترغيب لم يغب عن صورة هذا العلاج ، مما يتأكد معه حكمة الخبير العليم ، الذي يطبب النفوس البشرية بما يناسب تنوعها واستعدادتها ، وصدق الله العظيم حيث قال : { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً وجاء ربك والملك صفا صفا وجائ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأني له الذكري ، يقول يا ليتني قدمت لحياتي ، فيومئذ لا يعذب عذابة أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } (151) .
العنصر السادس : الإيمان بالقدر
إن الأية الواضحة في الدلالة على القدر هي قوله تعالي : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } (152) وقوله : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } (153) ، ومن هاتين الأيتين وما شاكلهما في المعني ندرك أن ” القدر ” يعني : ” علم الله الأزلي السابق على جميع الأحداث بما ستكون عليه عند وقوعها وحدوثها ، بحيث يكون ذلك الوقوع والحدوث تطبيقا وتحقيقا لعلمه سبحانه وتعالي الأزلي ” ويؤكد هذا المعني كثير من الأيات الواردة في هذا المقام مثل قوله تعالي : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } (154) وقوله : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (155) وقوله : { علم أن سيكون منكم مرضي وأخرون يضربون في الأرض . . .} (156) { علم الله أنكم ستذكرونهن } (157) { لكل أجل كتاب } (158) { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلي مضاجعهم } (159) .
والإيمان بذلك ركن من أركان الدين من حيث أصوله الإعتقادية ومنكره كافر بالضرورة ، وتفسير القدر بهذا المعني ، مرتبط أشد الارتباط بصفة العلم الإلهي ، الذي هو إحاطة وانكشاف كاملين مطلقين ، كما أنه حضور دائم ، وتعني كلمة ” الحضور الدائم ” أن علمه سبحانه وتعالي ليس تابعا في وجوده للمعلومات ، كما هو الحاصل في علومنا البشرية ، لأن– نحن البشر – تتكون علومنا بعد وجود المعلومات ، فهي إذن تابعة لها ، لهذا تسمي علوما حصولية ، أي أنها حصلت بعد أن لم تكن كذلك ، كما أنها تسبق بالجهل ويعتريها الخلل والنسيان ، والحق سبحانه يحدث الأشياء ، وفق علمه السابق عليها ، أي أن المعلومات تأتي موافقة لعلمه وإرادته .
وقد لاحظنا في بعض الأيات التي استشهدنا بها ورود كلمه ” كتب ” وعلمنا أن السياق يقتضي تفسيرها بمعني ” علم ” وقد جاءت أيات أخري صريحة في ذلك مما ذكرنا ، غير أن بعض المسلمين ومن شايعهم ممن لم يمنعوا النظر في كتاب الله قد فهموا من ذلك معني أخر ، هو بعيد كل البعد عن السياق ، حيث ظنوا إن ” الكتابة ” هنا تعني : الأمر اللازب الذي لا يستطيع الإنسان الخروج عليه ، من ثم نشعر أنهم قد فهموا القدر على غير وجهه الصحيح فإذا كان ” العلم ” الإلهي هو أساس عقيدة ” القدر ” والعلم ليس صفة انكشاف وإحاطة كما ذكرنا ، فإن فهمه على غير هذا المعني يكون خطأ بينا ، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس ، ومن سوء فهمهم كذلك لمعني القدر ، هو ضيق عقولهم عن فهم الأحداث التي تقع في الكون كله ، ومن بينها الفعل الإنساني – مرتبطة بمقدماتها ونتائجها وأثارها – من ثم رأينا الروح التواكلية تسري في أوصالهم ، ولعل هذا الذي قعد بالمسلمين عن الاستمرار أو الاحتفاظ بموقعهم الحضاري على خارطة العالم اليوم – وكذلك في أوقات الانحسار التقدمي بالمعني الصحيح للتقدم ، في تاريخ المسلمين الطويل ، وهذا الفهم الخاطئ هو الذي حدا بأحد المارقين لأن يقول : إن عقيدة القدر هي إحدي المؤثرات في ضعف المسلمين حيث قعدت بهم عن النهوض .
ومما لا شك فيه أن الإسلام غير مسئول عن سوء الفهم هذا لتلك العقيدة ، ذلك لأن الحق تبارك وتعالي قد أقام الوجود كله على قانون الأسباب والمسببات ، ورتب النتائج والأثار على المقدمات ، وأمر بعمل المعروف كله ونهي عن كل منكر ، ووعد الطائعين جنات عرضها السموات والأرض وتوعد العصاة بسوء العاقبة في نار جهنم وبئس القرار .
من الأيات الظاهرة الدلالة على ما نقول ، قوله تعالي تحريضا وحضا على استغلال الطاقات الممكنة حتي يحيا الإنسان حياة كريمة : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } (160) وقوله تعالي للمتطلعين إلي الجنة : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } (161) كما قال في الإعداد لملاقاة أعداء الحق : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } (162) وقال للمسلمين عند استنفارهم لقتال العدو : { يا أيها الذين أمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } (163) وباختصار : لقد أمر الإسلام بالأخذ بالأسباب في كل شئ ، كما نهي عن قول أو فعل أو اعتقاد أي شئ من شأنه أن يغير صفو الحياة ورقيها على مستوي الفرد أو الجماعة .
وبالضرورة يفهم من هذا أن إهمال الأسباب وعدم الأخذ بها أمر ليس من الإسلام في شئ وبهذا يظهر أن روح الإسلام روح ناهضة وثابة ، المطلوب منها أن تنهض بالمسلمين وتضعهم في مقدمة الصفوف ، متي فهمت على وجهها الصحيح .
لقد كانت حياة الرسول صلي الله عليه وسلم العملية صورة كاملة لتلك الروح ، فقد أخذ بالإسباب إلي أخر مدي ممكن في السلم وفي الحرب على السواء ، في داخل بيته وفي المجتمع الخارجي ، فتزوج وأكل وشرب ومشي في الأسواق ، وعبد ربه حتي تورمت قدماه ، ولم يقعد عن ذلك مونه مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشارك الصحابة في بعض الأعمال اليدوية كبناء المسجد ، وأقر خبرة الخبراء في حديث تأبير النخل ، وأما في الحرب فقد لبس الدرع ، وحفر الخندق واتخذ الحراس والعيون واستعان بالحلفاء والأصحاب .
ومن جوامع كلمه في تنظيم شئون الحياة في جانبها المادي الاقتصادي قوله صلي الله عليه وسلم : ” إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ” (164) وكذلك قوله : ” المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز – وإن أصابك شئ فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل – فإن ” لو ” تفتح عمل الشيطان ” (165) .
وشطر الحديث الأخير ترتبط تماما بصدره ، لأنه يطلب من المسلم أن يفرغ طاقته في الأخذ بالأسباب ، فإن أدرك بذلك ما يتمني فليحمد الله علي ذلك ، وإن أخذ بها وأتت نتائجها على خلاف ما يرجوه فليعلم أن هذا من الله ، ولا يحمله ذلك على العجز واليأس ، فلربما يكون في هذه النتيجة الخير له من حيث يظن أنها بخلاف ذلك ، وهذا – والحق يقال – واقع مجرب ، فكم من نتائج ظنها الإنسان خيرا له – وهي في الواقع ليست كذلك ، وكم من أخري اعتقد خيريتها فكانت شرا له ، وصدق الله العظيم حيث يقول : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } (166) .
لا يجوز الاحتجاج بالقدر :
إذا كان الأمر القدر كما بينا فلا يجوز – حينئذ – الاحتجاج به في ترك الأسباب على اعتبار أن كل شئ مقدر عنه الله ، وأن نتائج الأفعال معلومة سلفا عند الخالق جل وعلا قبل وقوعها ، كما لا يجوز الاحتجاج به أيضا في ارتكاب المعاصي والمنكرات وترك الطاعات والحسنات لأنه قد بأن لنا أن ” القدر ” لا يخرج عن كونه العلم الإلهي السابق قبل وقوع الأحداث ، ومن الثابت في ديننا ، بل في كل دين صحيح ، بل في نظر العقل الصريح أن مناط الحساب هو الأوامر والنواهي ، وليس التقدير السابق ومن ثم فالذين يتعللون بالقدر حين يرتكبون المنكرات ، ماذا يملكون من حجج حين يواجهون بأنهم قلبوا خطاب الله إليهم ، حيث فعلوا ما نهوا عن فعله ، وخالفوا أمره ؟ .
وقد رد القرأن الكريم على المشاركين حين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شئ . . . } بقوله تعالي في نفس الأية { . . . كذلك كذب الذين من قبلهم حتي ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (167) .
ويبين من الرد أن القوم وأباءهم لم يكن عندهم علم على دعواهم ، بل مجرد الظن والخرص وهذا أو ذاك لا يغني عن الحق شيئا في مقام الاعتقادات التي ينبغي أن تتأسس على اليقين ، الذي يولده الدليل البرهاني .
حقا إن الله سبحانه وتعالي شاء إشراك هؤلاء المشركين ، كما شاء إيمان وفق مشيئته سبحانه ، ومعلوم لدي جمهور المحققين من الباحثين في العقيدة أن متعلق المشيئة هو كلا الأمرين معا : الإيمان والشرك ، لأننا لو قلنا إن الشرك ليس من متعلقات المشيئة ، وهو واقع من المشركين لكان مقتضي ذلك أن يقع في ملك الله ما لا يريده ولا يشاؤه ، فيكون مضطرا لذلك ، وجل جناب الحق عن أن يكون كذلك ، وعلى هذا فوقوع الشرك من أصحابه وفق المشيئة ، أمر صحيح ، وقول هؤلاء كما عبرت عنهم الأية حق ، غير انه حق أريد به باطل ، ذلكم لأن مشيئة الشرك لا تغني الرضا عنه أو الأمر به ، وقد سبق أن قلنا : إن مناط المسئولية إنما يتعلق بالأوامر والنواهي ، ولهذا حدد علماء العقيدة العلاقة بين أفعال الخير بكل صنوفها وألوانها ، وهي المعبر عنها شرعا ” بالمعروف ” وأفعال الشر ، وهي ” المنكر ” وبين هذه الأمور : المشيئة – الأمر – النهي – الرضا – السخط ، وانتهوا من ذلك إلي ما يأتي : –
- يشاء الحق سبحانه وتعالي أفعال الخير والشر على السواء ، واقتصار المشيئة على الخير وحده يؤدي إلي أن يقع في الكون ما لا يشاؤه الله فيكون مكرها في أن يعصي .
- يأمر الحق سبحانه وتعالي بالخير وحده ويرضاه ويثيب عليه .
- ينهي الحق سبحانه وتعالي عن الشر وحده ، ويسخطه ويعاقب عليه .
وهذه النتائج – كما تري – معتمدة على نصوص قرأنية وحديثية ، من ثم يكون احتجاج المشركين بالمشيئة لا معني له ، وقد جاء في معرض تكذيبهم الرسل ، الذين دعوهم إلي الإيمان ، وهو مأمور به ، فيظهر من ذلك أنهم خالفوا الأمر ، وفعلوا المنهي عنه وهو الشرك .
علاقة القدر بالفعل الإنساني :
وكما ضلت بعض الأفهام حين فهم أصحابها القدر مقطوعا عن قانون ” الأسباب والمسببات ” ، أو محتجاً به على اقتراب الذنوب والأثام ، وعلى رأسها الإشراك بالله كما ذكرنا ، ضلت كذلك أفهام أخري في فهم علاقة القدر بالفعل الإنساني ، وانقسم المتناولون لهذه القضية – كما يحدثنا تاريخ الفرق الإسلامية – طوائف أظهرها :
- القدرية : وهم أتباع ” معبد الجهني ” مؤسس هذه الطائفة ، ويقوم فهمهم لهذه القضية على أساس الاستقلال للإنسان في كل ما يصدر عنه ، وينفون أن تكون أفعاله قد وقعت منه على موافقة العلم الإلهي السابق ويعني هذا : أن الله لا يعلم عن أفعال الإنسان شيئا قبل وقوعها ، بل يعلم ذلك بعد وقوعها ، أي أن علمه حينئذ يصبح تابعا للمعلوم وحاصلا بعده ، من ثم يقولون : ” لا قدر والأمر أنف ” .
والناظر في هذه الفكرة يري أنها غريبة عن روح الإسلام ، إذ كيف يستسيغ العقل أن يكون العلم الإلهي التام المطلق تابعا للمعلوم ؟ إذ الإقرار بهذا يؤدي إلي كونه علما مسبوقا بالجهل ، وهذا محال على الله سبحانه وتعالي ، لذا رأي جمهور السلف تكفير هذه الطائفة .
ثم ماذا يقول هؤلاء وأمثالهم في الأيات الظاهرة الدلالة على عموم علمه سبحانه وتعالي ، بما كان وبما هو كائن وبما سيكون ، مثل قوله تعالي : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (168) ثم ماذا يفيد الإنسان – وهو المخلوق الذي منحه الله كل أدوات فعله وأسبابه – إذا تطاول على مقام الألوهية ، ونازع الحق سبحانه وتعالي في عموم قدرته ؟ إنه الغرور الكاذب ، الذي يتجاهل الحقيقة والواقع وقد أحسن العلامة ” ابن القيم ” (169) صنعا حين بين أن مقالتهم هذه ، إنما هي نقض للشرائع من أساسها ، لأنها جاءت لتقرر أن الكون كله مخلوق لله ، وقد أضاف بعض الأعمال إلي العباد لا علي سبيل الخلق والإيجاد ، بل على سبيل جريان أحكامها عليهم .
من ثم يظهر أن هناك نسبتين لأفعال العباد ، نسبة إلي الله باعتباره خالقا ومريدا وعالما بها ونسبة إلي العباد باعتبارهم كاسبين لها ومسئولين عن نتائجها ، وصدق الله العظيم إذ يقول : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (170) { كل نفس بما كسبت رهينة } (171) .
- الجبرية : وهم الذين يذهبون إلي نسبة أفعال العباد إلي الله تعالي خلقا وإيجادا وعلما وإرادة ، ويقولون : إن العبد لا يملك حيالها شيئا ، بل هو كالريشة المعلقة في مهب الريح ، لا حول له ولا طول أمام ما تجريه الأقدار على يديه ، وقد يتعللون لموقفهم بالفهم غير الصحيح لبعض الأيات القرأنية ، مثل قوله تعالي : { والله خلقهم وما تعلمون } (172) .
وإمام هذه الطائفة هو ” جهم بن صفوان ” الذي ظهر في أواخر عهد الأمويين .
وهذا القول – كما رأينا يقف علي النقيض من قول “القدرية” وهو في نفس الوقت مخالف لما جاءت به الشرائع وشهدت به الفطرة السليمة وأقرته العقول المستقيمة ، لأنه يتنافي مع العدل الإلهي كما يتنافي أيضاً مع التكليف ، الذي لا يعقل إلا عند الاستطاعه عليه ، كما أنه ينزل بالإنسان إلي درجة غير المكلفين ولو كان الأمر كذلك لكان مجئ الأنبياء ونزول الكتب عبثا ، وهذا لا يليق بالحكيم ، ولكانت أفعال العباد التي يتوجهون بها إلي الله تعالي من صلاة وصيام وحج وزكاة ، ليست صادرة عن إراداتهم فيكون الحق سبحانه وتعالي معبوداً قهراً واضطراراً ، وهذا يتنافي مع مبدأ “لا إكراه في الدين” (173) .
- المعتزلة : وهؤلاء يشتركون مع القدرية في القول بأن أفعال العباد الاختيارية إنما تصدر عنهم خلقا وإيجاداً وإراداتهم لها استقلالاً ، غير أنهم يخالفونهم حين يرون أنها معلومة لله سبحانه وتعالي قبل وقوعها ، ونلاحظ أن موقفهم هنا أخف بكثير من مواقف القدرية ، إلا أنه ليس القول الصحيح في المسألة ، فهم لا يزالون يقطعون أي صلة لله سبحانه وتعالي بأفعال العباد إلا صلة العلم السابق ، وهذا يعني أنهم يبالغون في دور الإنسان في إخراج أفعاله الاختيارية ، والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الأدوات التي تساعد علي تحقق الفعل الإنساني ووقوعه ، وكذا أسبابه الظاهرة والخفية ، إنما هي من خلق الله ولولا ذلك لما وجد الفعل أصلاً ، وهذا ما يشهد به الواقع ، ومن ثم نري أن هؤلاء قد أصابوا الوجه الكبر من الحقيقة حين أقروا مسئولية الإنسان الكاملة عن أفعاله حتي يتحقق العدل الإلهي بمجازاة كل فاعل عن فعله الذي صدر منه ، وهذا قمة التنزية المطلق غير أنهم عندما أقروا بأن الأفعال الإنسانية لا تتعلق بها قدرة الله ولا إراداته قد خدشوا هذا التنزيه من حيث لا يعلمون فهاتان الصفتان تتعلقان بكل الأمور الممكنة ومنها أفعال العباد ، الأولي منها تتعلق بها تعلق تأثير ، والأخري تعلق تخصيص ، ولو أنهم أقروا بأن قدرة العباد علي أفعالهم إنما هي سبب لإقرار الله تعالي لهم لما وقعوا في هذا المحظور .
غير أن الذي ينبغي أن نبينه هنا أن هؤلاء – المعتزلة – ومن سبقهم – الجبرية أصحاب شبه قوية حين خرج كل فريق منهم المسألة كما يتصورها ، حفاظا علي التنزيه الإلهي كما يراه من ثم لا يجب إخراجهم عن المللة ، بل يكتفي أن يقال في حقهم ، إنهم اجتهدوا فأخطاوا ، ولم ينكروا شيئا معلوما من الدين بالضرورة .
- الأشاعرة : وهؤلاء يذهبون إلي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالي مكسوبة لهم وتفسير هذا عندهم أن الله سبحانه هو الذي يحدث أفعال الخلق وآلاتها وأسبابها ، حتي إرادة العبد وأن جريان تلك الأفعال علي يديه هو كسبه لها – وهو محل المسئولية – غير أن هذا الرأي – كما نري – فيه شائبة جبر ، لأننا لو سألنا هؤلاء ماذا يبقي للعبد من دور في فعله ، بعد إسناد كل شئ إلي الله ؟ لم يكن لديهم من جواب كاف ، بل يتشبثون بدعواه ، وهذا منتهي فهمهم لهذه القضية ، ويعتمدون في هذا الفهم علي ظاهر قوله تعالي : (كل امرئ بما كسب رهين) (174) وكذا كل الآيات التي جاءت بمادة “الكسب” هذه .
- الماتريدية : وهؤلاء يذهبون إلي أن أفعال العباد مخلوقة لله وأنها تقع وفق علمه وإرادته غير أن العزم عليها وتكييفها إما إلي الخير أو والي الشر إنما يكون من عمل العباد ، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا توافر لديهم قدركاف من الحرية والاختيار ، به يستطيعون إخراج أفعالهم علي الصورة التي يكونون مسئولين عنها .
وهذا المذهب كما نري هو أقرب المذاهب إلي روح القرآن الكريم ، التي جاءت لتعطي للصفات الإلهية إطلاقها وعمومها ، بحسب متعلقاتها ، وتظهر أيضاً قيومية الحق تبارك وملكيته التامة للملك والملكوت ، وفي نفس الوقت تظهر لنا أن جميع أدوات الأفعال الإنساني وأسبابه إنما هي من تقدير الحق سبحانه . وأن القدر الذي يجعله محل المسئولية إنما يكون في كيفية توجيه لهذه الأدوات ، واستغلاله لتلك الأسباب ، وبهذا تحفظ تلك الروح للحق تبارك وتعالي كل كمالاته ، ومنها العدل ونفي الظلم ، وتعطي للإنسان القدر المناسب في تكييف أفعاله حتى لا يكون مسئولاً عنها ، وفي هذا وضع له في مكانه الصحيح ، بعيداً عن إفراط “القدرية” وتفريط “الجبرية” .
تعقيب
لم تكن دراستنا لعناصر العقيدة علي هذه الصورة إلا تركيزاً وتأصيلاً ، بعيدين عما نراه لدي المتكلمين علي اختلاف فرقهم وطوائفهم ، وقد ظهر لنا من خلالها كيف تتماسك هذه العناصر وتترابط ، ختى تشكل في القلب وحدة عضوية هي ” العقيدة الصحيحة” بدءاً من عنصرها الأول وانتهاء بعنصرها الأخير “القدر” كما ظهر لنا أيضاً قوة الأدلة التي قامت عليها , واتساقها مع ملكات الإنسان المتعددة من ذهنية ووحدانية وشعورية وحسية ، وكيف أن القرآن الكريم قد عالج قضاياها بهذا المنهج الفريد ، حتى تتمكن من القلوب والنفوس فلا تهزها عواصف الشبهات ، ولاتحرك ثوابتها نزغات الإلحاد والتشكيك .
ونلمح خلال تلك المنهجية الواضحة في معالجة قضايا العقيدة كما جاءت بها القرآن الكريم وبنيتها وأكدتها السنة الصحيحة الغاية التي يريد الحق سبحانه وتعالي أن تكون عليها عقائد المؤمنين ، وهي انعقاد القلوب عليها ، وانفعال النفوس بها ، انعقاداً وانفعالاً يحملان المؤمن علي العمل الصالح الجاد ، الذي ترقي به جماعته ، والذي يسعد به في حاضره كما سوف يسعده في آجله ، وفي نلحظ أن الشقاء الذي يعاني منه الأفراد والأمم ، إنما يرجع إلي اضطراب القلوب وقلق النفوس ، ومرجع ذلك إلي خوائها من برد اليقين ونور الإيمان ، وسيكون هذا الشقاء في الآخرة ، كما كان في الدنيا وصدق الله إذ يقول : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمي ، قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيراً ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي) (175) وقوله : (ومن كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي وأضل سبيلاً) .
أما المؤمنون الصادقون العاملون للصالحات ، فقد قال الله فيهم (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبي لهم وحسن مآب) (177) صدق الله العظيم .
نسأل الله سبحانه أن نكون منهم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الهوامش
- الحديث بتمامه في صحيح مسلم بشرح النووي عن عبدالله بن عمر عن أبيه ، انظر ج 1 ص 157 كتاب الإيمان ط – دار إحياء التراث العربي – بيروت .
- سورة المائدة : أية 67 .
- سورة أل عمران : أية 26 .
- سورة البقرة : أية 216 .
- سورة التوبة : اية 51 .
- سورة الكهف : اية 30 .
- سورة الأعراف : الأيتان 172 ، 173 .
- الإسراء : أية 72 .
- سورة طه : الأيات 124 ، 125 ،126 .
- سورة إبراهيم : أية 10 .
- سورة فصلت : أية 53 .
- سورة الجائية : أية 24 .
- انظر : وحيد الدين خان : الإسلام يتحدي ص 32 . ط 9 مؤسسة الرسالة سوريا سنة 1985 .
- سورة يونس : أية 101 .
- وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص 24 . ط . القاهرة سنة 1974 .
- وحيد الدين خان : الإسلام يتحدي ص 32 .
- وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص 26 .
- وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص 26 .
- سورة الطور : الأيات 35 – 38 .
- سورة الإسراء : الأية 44 .
- سورة الاخلاص .
- سورة الأنبياء : أية 22 .
- سورة المؤمنون : أية 91 ، وقد جاءت هذه الأية بعد قوله تعالي : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون ، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، سيقولون لله قل أفلا تتقون ، قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ، سيقولون لله قل فأني تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون } لتبطل جميع الشركاء من دون الله سبحانه وتعالي .
- سورة الأنعام : الأيات من 75 – 79 .
- سورة الأنعام : الأية 74 .
- سورة الزخرف : أية 19 .
- سورة الشوري : أية 11 .
- د / محمد البهي : الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 543 ط . القاهرة سنة 1967 وانظر : ابن سينا : النجاة ص 229 . ط . القاهرة سنة 1938 .
- هذه الفكرة شائعة في معظم كتب شيخ الإسلام وفي كتابه ” منهاج السنة النبوية ” دراسة وافية لها .
- انظر كتابنا العقيدة الإسلامية : أصولها وتأويلاتها ص 180 ط . أولي القاهرة سنة 1982 .
- انظر الشهر ستاني : الملل والنحل ج1 ص 102 – دار المعرفة – بيروت سنة 1980 .
- انظر ابن تيمية : منهاج السنة النويية ج 2 ص 190 ط القاهرة .
- نفس المرجع وانظر أيضا الرد على المنطقيين بتحقيقنا وأخر ط القاهرة سنة 1977 وهذه الفكرة مثبوتة في كل كتبه .
- سورة الأعراف : أية 180 .
- انظر د / محمود قاسم مقدمة كتاب الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ص 15 ط . القاهرة سنة 1964 وانظر أيضا في دار المغربي إمام أهل السنة والجماعة أبو منصور والماتريدي وأراؤه الكلامية ص 179 . ط . القاهرة سنة 1985 .
- الملك : الأيتان 3 – 4 .
- الفرقان : أية 2 .
- المؤمنون : أية 14 .
- الأنعام : أية 9 .
- الإسراء : أية 15 .
- فاطر : أية 24 .
- انظر : الأغاني ج 3 ص 24 لتري ما حدث بين جرير بن حازم الأسدي السمني وبين عمرو بن عبيد من حوار في هذه المسألة ( الأول يتبني فكرة إنكار النبوة والثاني يرد عليه ) .
- البقرة : أية 286 الأخيرة .
- الحج : أية 78 الأخيرة .
- انظر كتابنا في العقيدة الإسلامية والأخلاق بالإشتراك ص 65 – ط – القاهرة سنة 1973 وانظر أيضا : التفتازاني المقاصد ج 2 ص 174 ط . استانبول سنة 1277 ه .
- انظر الرد على هذه الكتب في كتاب ” الانتصار ” للخياط المغتزلي تحقيق ونشر الدكتور ” نيبرج ” ط بيروت سنة 1988 .
- انظر : د / مدكور ، في الفلسفة الإسلامية :منهج وتطبيقه ج 1 ص 92 ط . القاهرة سنة 1976 وانظر أيضا كتابنا في الفلسفة الإسلامية ص 103 ط . القاهرة سنة 1982 .
- سورة البقرة : أية 124 .
- النبوات : ص 389 . ط . دار الكتاب العربي بيروت سنة 1985 .
- البيهقي : دلائل النبوة ج 1 ص 130 . ط . دار الفكر – بيروت سنة 1983 .
- سورة مريم : الأيات من 27 – 34 .
- الإسراء : الأية الأولي .
- البخاري . ج 8 ص 619 ج 63 – 261 من فتح الباري .
- النبوات : ص 313 .
- الإسراء : الأيات من 90 – 93 .
- سورة الشعراء : من الأية 155 – 159 .
- سورة العنكبوت : أية 40 .
- الكشف عن مناهج الأدلة ص 75 .
- سورة الكهف : أية 13 .
- سورة يوسف : الأية الأخيرة .
- سورة البقرة : أية 285 .
- سورة أل عمران : أية 84 .
- سورة الحج : أية 52 وقد وصف بعض الأنبياء بالوصفين معا كقوله تعالي في حق موسي عليه السلام : { واذكر في الكتاب موسي إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا } وكقوله تعالي في حق نبينا عليه الصلاة والسلام : { يا أيها النبي أنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلي الله بإذنه وسراجا منيرا } .
- سورة الحجر : أية 94 .
- سورة المدثر : الأيتان 1 – 2 .
- سورة البقرة : أية 246 .
- سورة فاطر : أية 24 .
- سورة النساء : أية 164 .
- سورة الأنعام : الأيات 83 – 86 .
- انظر مشكاة المصابيح حديث رقم 5737 وقد رواه الإمام أحمد في مسنده .
- سورة الشورى : أية 51 .
- أول سورة فاطر .
- سورة الرحمن : أية 33 .
- سورة البقرة : أية 285 .
- سورة النساء : أية 136 .
- سورة الجمعة : أية 2 .
- سورة المائدة : أية 44 .
- سورة المائدة : أية 46 .
- سورة أل عمران : الأيتان 3 – 4 .
- سورة الصف : أية 6 .
- سورة أل عمران : أية 19 .
- سورة البقرة : أية 132 .
- سورة هود : الأيتان 25 – 26 .
- سورة هود : الأيتان 50 – 51 .
- سورة هود : الأيات 61 – 63 .
- سورة الزخرف : الأيتان 32 – 24 .
- سورة الزخرف : أية 25 .
- سورة العنكبوت : أية 40 .
- سورة الحجر أية9 .
- سورة المائدة : الأيات 12 – 14 .
- سورة التوبة : أية 34 .
- سورة التوبة : أية 31 .
- راجع : رحمه الله الهندي : إظهر الحق ص 75 والشيخ أبو زهرة محاضرات في النصرانية ص 60 .
- نفس المصدر .
- البخاري ج 8 ص 20 ج 13 525 من فتح الباري .
- رواه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي شيبة والبزار وإسناده صحيح .
- سورة البقرة : أية 285 .
- رواه مسلم في صحيح : كتاب الإيمان ج 1 ص 157 شرح النووي ط – دار التراث – بيروت .
- سورة النساء : أية 136 .
- سورة المدثر : أية 31 .
- سورة الجن : الأيتان 26 – 27 .
- سورة مريم : أية 17 .
- الزخرف : أية 19 .
- سورة البقرة : الأيات 30 – 33 .
- المدثر : أية 31 .
- انظر مشكاة المصابيح : باب ذكر الله عز وجل حديث رقم 2267 .
- سورة الشعراء : أية 193 .
- سورة الشعراء : أية 192 .
- سورة التحريم : أية 4 .
- سورة البقرة : أية 87 .
- سورة التكوير : الأيات 19 – 21 .
- سورة البقرة : أية 98 .
- سورة الحاقة : أية 17 .
- سورة الزمر : أية 75 .
- سورة الرعد : الأيتان 23 – 24 .
- سورة المدثر : الأيات 27 – 31 .
- سورة ق : الأيتان 17 ، 18 .
- سورة الأنعام : أية 59.
- سورة الرعد : أية 11 .
- سورة الأنعام : أية 61 .
- سورة السجده : اية 11 .
- سورة النازعات : الأيات 1 – 5 .
- سورة الذاريات : الأيتان 56 – 57 .
- سورة الحجر : أية 27 .
- سورة الأحزاب : أية 72 .
- سورة غافر : الأيتان 58 – 59 .
- سورة الجائية : أية 21 .
- سورة ق : أية 3 .
- سورة يس : أية 78 .
- سورة يس : أية 79 .
- سورة الروم : أية 27 .
- سورة يس : أية 80 .
- سورة يس : أية 82 .
- سورة يس : أية 83 .
- سورة ق : الأيات5 – 11 .
- سورة البقرة : أية 260 .
- سورة الكهف : أية 48 .
- سورة محمد : أية 15 .
- سورة النور : الأيتان 24 – 25 .
- سورة النساء : أية 56 .
- سورة الرعد : أية 35 .
- سورة الحديد : أية 3 .
- سورة أل عمران : أية 7 .
- أول سورة القمر .
- أول سورة القيامة .
- سورة لقمان : أية 34 الأخيرة .
- انظر صحيح مسلم : كتاب الإيمان – أمارات الساعة ج 1 ص 158 شرح النووي ط دار إحياء التراث – بيروت .
- سورة النمل : أية 82 .
- سورة غافر : أية 46 .
- المنقذ من الضلال ص 96 – 98 ط . القاهرة بدون تاريخ – دار الكتب الحديثة .
- سورة الفجر : الأيات 21 – 30 .
- سورة التوبة : أية 51 .
- سورة الحديد : أية 22 .
- سورة الملك : أية 14 .
- سورة القمر : أية 49 .
- سورة المزمل : أية 20 .
- سورة البقرة : أية 235 .
- سورة الرعد : أية 38 .
- سورة أل عمران : أية 154 .
- سورة الملك : أية 15 .
- سورة أل عمران : أية 142 .
- سورة الأنفال : أية 60 .
- سورة النساء : أية 71 .
- هذا الحديث مخرج في الكتب والستة .
- صحيح مسلم ، كتاب القدر ، باب في الأمر بالقوة وترك العجز .
- سورة البقرة : أية 216 .
- سورة الانعام : أية 148 .
- سورة الأنعام : أية 59 .
- في كتابه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص 152 ط . دار المعرفة – بيروت .
- سورة البقرة : أية 286 الأخيرة .
- سورة المدثر : أية 38 .
- سورة الصافات : أية 96 .
- سورة البقرة : أية . 256 .
- سورة الطور : أية 21 .
- سورة طه : الأيات من 124 – 126 .
- سورة الإسراء : أية 72 .
- سورة الرعد : الأيتان 28 – 29 .