نعنى بمصطلح (مثلث المنهج التجريبى) تحديد الأسس والخطوات العامة للمنهج التجريبى المتكامل فى الفكر الإسلامى كى يسهل على الباحثين رد التفاصيل فى هذا المنهج إلى أصولها بعيدا عن الأحكام المبتسرة والآراء المختلفة ،وتتمثل قاعدة هذا المثلث فى نقد العيلة ،أى اكتشاف أن العلاقة بين العلة والمعول لا تقوم على مبدأ عدم التناقض الصورى وإنما على أساس التجربة ،وهذا الاكتشاف هو أساس نظرية الاحتمال فى العلم الطبيعى المعاصر . أما طرفا المثلث فنعنى بهما خطوات المنهج لاكتشاف الصفة الجوهرية للأشياء ، وتحديد صفة الحكم ،وبالأحرى تحديد مبدأ السبب الكافى اكتشف الجوينى الفرق بين أساس منهج العلوم الصورية وأساس منهج العلوم التجريبية ،وقد استطاع الغزالى أن يكمل هذا الاكتشاف ،وأن يوظفه فى صورته النهائية(1).
وإذا كان الفكر الغربى ينسب مشكلة تأسيس المنهج التجريبى إلى المفكر الإنجليزى ديفيد هيوم ،فإن هذا المفكر غفل عن أس الأساس ،مما جعله يخطئ فى بعض تحليلاته ،ويخلط بين تصوراته ،وذلك على العكس من الغزالى .
أما تحديد الصفة الجوهرية فقد اختص به علماء الفيزياء فى الفكر الإسلامى من ابن حيادة إلى ابن الهيثم.
وإذا كان الغرب ينسب أيضا منهج تحديد الصفة الجوهرية إلى فرنسيس بيكون فإن ما يتميز به ابن الهيثم هو تحديد الأمثلة بدقة تفوق أمثلة بيكون المحاطة بالغموض وعدم التحرى ،كما تميز ابن الهيثم بتطبيق منهجه الرياضى على الفيزياء .
أما تحديد صفة الحكم فقد اختص به علماء أصول الفقه ،ولم يضف جون استيوارت ميل فى القرن الثامن عشر جديداً على هذا المنهج سوى تغيير المصطلحات .
يصعب تحديد المنهج التجريبى فى تفاصيله كما هو مبثوث فى الفكر الإسلامى ،وذلك لما له من تداخل مع مناهج الإسلاميين الأخرى ونظرياتهم المتعددة، كما فى مناهج العلوم الإنسانية والتحليلية والجدلية والرياضية وهلم جرا ،وكذلك كما فى اختلاف نظرياتهم حول وحدات العقل من العقل المجرد إلى الفهم إلى العقل
العملى (2)،وما لهذه الوحدات من لواحق أخرى مثل ملكة التمييز ،أو ملكة الحكم التى تحدد القانون الطبيعى الجزئى من حيث إنه (قضية فى عين) (3)،وعلاقة هذه الملكة بحكم العقل فى تحديده للقانون الطبيعى الكلى فى ضوء تكرار الملاحظة والتجربة وتواتر الاستقراء ،وما لهذا الاستقراء ،وما لهذا الاستقراء من علاقة بالقياس اللاشعراوى فى مقابل القياس المنطقى الضرورى ،وما لهذا وذاك من علاقة بالحدس التجريبى فى مقابل الحدس الإلهامى وهم جرا (4).
إن مثل هذه التفاصيل للمنهج التجريبى فى الفكر الإسلامى وتداخلها مع المناهج والنظريات الأخرى ،تحتاج إلى كتابة موسعة ،وهو الأمر الذى يخرج عن نطاق هذا البحث المحدد بزواياه الثلاث ،ورغم ما لهذه الزوايا من علاقات داخلية وخارجية ،فإننا سنلجأ إلى مبدأ الاقتصاد قدر الإمكان ،ابتداء من منهج تحديد الصفة الجوهرية إلى منهج تحديد صفة الحكم إلى التأسيس للمنهج التجريبى .
أ – منهج الصفة الجوهرية :
فصل صانع الكيمياء جابر بن حيان بين ماهية المادة كامتداد وبين كيفيتها كطاقة ،أيا كانت فاعله أو مفعولة أو منفعلة ،وبذلك اكتشف نظريته فى التكميم (الحاصرة المشتملة على قولنا الأعداد ..وسائر الأرطال والأعداد والأقدار من الموازين والمكاييل)(5)،وبهذا التكميم فصل ابن حيان الطاقة عن المادة ،يصل ابن حيان إلى تحديد المنهج التجريبى بما له من استقراء وقياس ووضع الفروض وما إلى ذلك ،ويضع نظريته عن الاحتمال من خلال القياس الاستقرائى الفقهى الذى يعتمد بدوره على (المجانسة ومجرى العادة ودليل الآثار)(6)،ويسمى المجانسة الأنموذج ،ويعنى به القياس الاستقرائى الذى يحدد القانون الطبيعى بالانتقال من الحكم الجزئى إلى الحكم الكلى .
وإذا كان المتكلمون قد حددوا مصطلح : مجرى العادة فى الطبيعة ليسهل عليهم رد القوانين الطبيعية إلى المشيئة الإلهية ،فإن جابر بن حيان يحدد احتمالية القانون الطبيعى من خلال العلاقة بين مجرى العادة وبين ما فى (النفس من الظن والحسبان)(7) .
ومما لا شك فيه أن نظرية التوقع لابن حيان كظن وحسبان هى الأساس الذى يقيم عليه الأشاعرة نظريتهم فى ترسيخ القوانين الطبيعة من خلال التعود والاعتقاد .
إن توقع الحسبان هو الذى يقيم عليه ابن حيان القاعدة الثابتة لنظرية الاحتمال التى يطلق عليها الغزالى فيما بعد مصطلح (اللاحتمال الجزمى)(8)،ويؤكد ابن حيان على هذا الاحتمال المرتبط بالتكميم فى أكثر من نص كما فى قوله : (إذا كان هذا مقدار ما يقع فى النفس من هذا المعنى ،فما ترى يكون فيما لم يشاهد قط إلا على هذا الوجه )(9). ولا نستطيع أن نجزم بأن جابر بن حيان اكتشف الشق الثانى من نظرية الاحتمال الذى يسميه الغزالى : الاحتمال الأكثرى ،خاصة وأن ابن حيان يشترط لفهم مذهبه الاطلاع على كل ما كتبه ،والذى ضاع بعضه كما ضاعت بعض كتبه العربية المترجمة إلى اللاتنية ،والذى لا يزال البعض منها مخطوطا لم يحقق بعد .
وحتى ابن سينا – الذى يعارض ابن حيان فى فصله للطاقة عن الامتداد والذى يهاجم كيمياءه فى أكثر من كتاب ،وفى أكثر من نص – نجده لا يشير إلى شمولية الاحتمال فى مذهب ابن حيان . إن تصور الصفة الجوهرية للمادة على أنها امتداد خال من الحركة هو نفس التصور الأشعرى وخاصة الجوينى – الذى يعتبر الجوهر المادى نقطة رياضية ،وهو التصور الذى يحدد نظرية الكسب الأشعرية .
أما دليل الآثار فهو المبدأ المحدد للقوانين الطبيعية ،وهو الذى يعبر عنه بمبدأ السبب الكافى أو العلة الكافية ، وبتحليل ابن سينا لمعنى العلة الكافية استطاع أن يرد مبدأ لعلية إلى مبدأ الهوية وعدم التناقض فى أساسه الميتافيريقى من خلال تصوره عن العلة التامة ،وبهذا التصور استطاع أن يصل إلى قاعدتى التمايز واللاتمايز كمحددين للحتمية الضرورية معارض بذلك الحتمية الغائبة وبالأحرى الحتمية المتسامية للمعتزلة (10) .
وقد استطاع الغزالى أن يوظف هذا الصراع بعد اكتشافه لنظرية التميز بالذات إلى جانب التمايز بالزمان والمكان للأشياء مما جعله يحدد الصيغة الضرورية لمبدأ السبب : كل حادث فله سبب ،أو كل طارئ فله سبب ،ولكنه فى نفس الوقت يوظف مبدأى التمايز واللاتمايز فى تحديد نظرية الاحتمال للعلم الطبيعى معارضاً بذلك نظرية ابن سينا فى الحتمية الضرورية ونظرية المعتزلة فى الحتمية المتسامية (11) .
ولم يخرج تطور العلوم الطبيعية ونظرياتها عن هذه النظريات الثلاث ،وإن كتبت السيادة فى عصرنا هذا لنظرية الاحتمال التى ترجع فى أصلها للمذهب الأشعرى .
يتلقى ابن الهيثم مع ابن سينا فى القول بأن الطاقة متضمنة فى الامتداد للمادة كما يوحد ابن الهيثم بين المكان والمتكمن (12)،ولا يسلم بالخلاء الذى تتحرك فيه الذرات حركة تلقائية كما فعل الأشاعرة ،ومن خلال هذا التوحيد بين المكان والمتمكن يصل ابن الهيثم إلى تطبيق الرياضة على العلم الطبيعى كما فى علم الجبر كما يكتشف الرياضة التطبيقية (13)،وقد ترتب على توحيده بين المكان والمتمكن القول بحتمية القوانين الطبيعية ، وثبات الطاقة فى الوجود ؛لأن كل حركة ستدفع بغيرها فى صورتها الدائرية ،وهذا التوحيد بين المكان والمتمكن ،وتدافع الحركات الحتمى الثابت هو الذى أخذ به ديكارت R.Descartes فيما بعد كما فى كتابه (المقال عن المنهج) .وإذا كانت الديكارتية لم تخرج عن دائرة السينوية فى مبحثى الوجود والمعرفة ،فإن قول ديكارت بنظريته فى الخلق على ضربين هما خلق المادة وخلق الحركة جعل الديكارتية تأخذ بالنقطة الرياضية للمادة كما فى المذهب الأشعرى ،وجعلها تؤمن أيضا بالخلق المتجدد الذى يتعارض مع حتمية ديكارت (14) .
إن القاسم المشترك بين الاستنباط الرياضى والاستقراء التجريبى يتحدد عند ابن الهيثم من خلال وظيفة العقل المتمثلة فى المقارنة . وهذه المقارنة هى التى تحدد التدرج الاستقرائى والتركيب الرياضى على السواء .
وإذا كان فرنسسيس بيكون قد اهتم بالقسم الأول من وظيفة المقارنة العقلية فإن ديكارت اهتم بالقسم الثانى حيث إن منهجه الرياضى فى التحليل والتركيب يعتمد على الترتيب المقارن (15).
اعتمد ابن الهيثم فى تحديده للمنهج الاستنباطى التعاقبى بشقيه الرياضى والاستقرائى على تجاربه فى الضوء ولكن هذه التجارب تثبت التعاقب والحدوث فجأة فى زمن واحد ،وهذا الحدوث المفاجئ هو أساس الحدس كإدراك مفاجئ فى لازمن متعاقب من ابن الهيثم إلى الغزالى إلى ديكارت ويعلل ابن الهيثم صحة فرضه بقوله : (لأن وصول الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون الضوء يحصل فى الجزء من الهواء الذى يلى الثقب قبل أن يحصل فى الجسم الذى يليه ثم فى الجزء الذى يليه .. إلى أن يصل إلى الجسم المقابل للثقب ؟ وإما أن يكون الضوء يحصل فى جميع الهواء المتوسط بين الثقب وبين الجسم المقابل للثقب وعلى الجسم نفسه المقابل للثقب وعلى الجسم نفسه المقابل للثقب دفعة واحدة)(16).
وانتشار الضوء دفعة واحدة هو الذى يقيم عليه نظريته فى الانكسار الضوئى ،ومن المعروف أن الحدس الديكارتى يعتمد على هذه النظرية كما فى كتاب علم المناظر حيث أوضحه فيتلو vitelloبالشكل الهندسى فى الترجمة اللاتنية ،ومثل هذه الأشكال الهندسية نجدها مبتورة فى مخطوطة الكتاب العربية بمكتبة السليمانية
إن التجارب الضوئية أتاحت لابن الهيثم اكتشاف العديد من قوانين العلم الطبيعى الأساسية مثل قانون الثبات والممانعة والتغير وغيرها من القوانين التى تنسب لديكارت ونيوتن Neuotenفى الفكر الحديث . إن الضوء كخط هندسى وطاقة فى آن واحد : (يتحرك على الاستقامة فى جميع الجهات التى يجد السبيل إليها إذا كانت ممتدة فى جسم مشف ،فإذا انعكس وصار على سمت الاستقامة التى أوجبها الانعكاس امتد على ذلك السمت واستمر حتى يتعرضه مانع)(17). وإذا كان ابن الهيثم فى هذا النص وغيره يوضح قانونى الثبات والممانعة فإنه لا يغفل قانون التغير النسبى على اعتبار (أن الحركة كم يقبل الزيادة والنقصان (18). إن الجسم مهما كانت شفافيته فإن يحدث تغيرا فى قوة حركة الضوء ،وتكون نسبية هذا التغير حسب نسبة الشفافية (19) .
ارتبط اكتشاف مثل هذه القوانين بخطوات المنهج التجريبى عند ابن الهيثم بماله من فروض والتحقق منها ، ومن بين النماذج التى يعرض فيها كيفية التحقق من الغرض مقارنته بين حالتين لمسار الضوء وذلك (عندما يوجد فى مسار الضوء غبار)(20)،وهو ما يظهر حضور حركة الضوء للعين المبصرة ،وهذا الحضور يغيب عن الإدراك الحسى المجرد (عندما لبا يوجد فى مسير الضوء غبار)(21). إن ما يفعله ابن الهيثم ليتحقق من فرضه هو وضعه لعمود مستقيم فى مسار الضوء للحالتين : أى حالة غياب الغبار وحضوره ،وما ينتج عن ذلك بقاء ظهور امتداد الضوء على استقامة العمود فى هاتين الحالتين .
بقى فى هذا التمهيد أن نشير إلى شمولية المنهج التجريبى عند ابن الهيثم ولنختار لذلك قوله (نبتدئ باستقراء الموجودات ،وتصفح أحوال المبصرات ،وتميز خواص الجزئيات ،ونلتقط ما يخص البصر فى حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير ،وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس … ثم نترقى فى البحث والمقاييس على التدريج والترتيب ،مع انتقاد المقدمات ،والتحفظ من الغلط فى النتائج ،ونجعل غرضنا فى جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ،ونتحرى فى سائر ما نميزه وننتقده طلبا للحق لا الميل مع الآراء)(22).
وفى هذا النص تتكامل خطوات المنهج التجريبى والذى يمكننا تقسيمه حسب مصطلح المحدثين إلى المنهج السلبى والمنهج الإيجابى . ويتعلق الجزء الأخير من النص السابق بالابتعاد عن الأحكام المبتسرة بالتخلى عن اتباع الآراء والميل مع الهوى ،وإذا كان الغزالى قد وضع مصطلحاً لهذين العاملين هو (الأوهام العارضة للنفس )(23)،فإنه يصنفها فيما يزيد عن أربعة أنواع :وهمان يتعلقان بسبب اتباع الآراء ،وخطآن بسبب الميل مع الهوى .
وقد تكررت هذه الأوهام فى منهج فرنسيس بيكون مع وضع مصطلحات جديدة ،ويمكننا الاستعانة بكتابات الغزالى فى توضيح هذا المنهج السلبى عند ابن الهيثم على النحو التالى :
المنهج السلبى أو الأوهام العارضة للنفس :
1– أوهام التواتر : وتنشأ هذه الأوهام بسبب تقليد الأبوين والأستاذين (24) . إن التنشئة الأولى فى الأسرة تؤدى إلى تغطية فطرة الطفل بما يكتسبه من عادات وتقاليد ومعتقدات الأسرة والمجتمع . إن التلقين المتكرر يجعل (صبيان النصارى لا يكون لهم نشؤ إلا على التنصر ،وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على اليهود ،وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام)(25).
إن التنشئة عن طريق التربية والتعليم تؤدى إلى تشرب المدرسين وتقليد مذاهب كبار المفكرين ونظرياتهم واتجاهاتهم ،وهذه التلمذة هى السبب فى التعصب المذهبى والحزبى دون نقد أو تمحيص ،بل {كل حزب بما لديهم فرحون }(26)،وهذه الأوهام هى التى صنع لها فرنسيس بيكون مصطلح (أوهام المسرح) .
2-أوهام اللغة : وهى (الأغاليط الواقعة إما من لفظ المغلط أو من معنى اللفظ)(27) ،وهذه الأوهام كثيرة ومتنوعة بسب الاشتراك فى اللفظ كما فى كلمة (عين) التى قد يعنى بها عين الماء وعين الدينار وعين الشمس وعين البصر وغيرها . وقد تحدث الأغاليظ بسبب الإعراب كوضع الفاعل موضع المفعول به ،ومنها ما يتعلق بالتشابه وهلم جرا(28) .
أما عدم الدقة فى توضيح المصطلح بقصد أو دون قصد فهو الآخر يؤدى إلى انتشار الأخطاء وتغطية الأوهام إن مصطلح الحدوث الذاتى عند ابن سينا لا يفهم منه مباشرة قدم العالم فى الزمان ،ونستطيع أن نقول بأن مصطلح بيكون (أوهام السوق) لا يفهم منه بصورة مباشرة الأغاليظ الواقعة إما من لفظ المغلط أومن معنى اللفظ وكذلك المصطلحات التى وضعها كانط فى نقط العقل المحض غطت المطابقة فى المعنى بين النقد والتهافت (29)، وهذه الأوهام تكثر فى الفقهيات والعقليات وتكاد أسبابها لا تحصى .
3– أوهام الجبلة : وهى أوهام النوع البشرى وهذه الأوهام هى التى يردها الغزالى إلى ما جبل عليه الإنسان من عاطفة ووجدان ،وميل النفس إلى ما هو أقرب إليها بسبب الصوارف التى تبعدها من فطرة العقل ،ويذكر الغزالى أمثلة متعددة لهذا النوع من الأوهام خاصة فيما التى اصطنع لها بيكون مصطلح (أوهام الجنس) .
4- الأوهام الصرفة : وترتبط هذه الأوهام عند الغزالى بتحديد جميع الأشياء من خلال الزمان والمكان ،وهى أقوى الأوهام عنده بما لهل من جزم مثل حكم الوهم (باستحالة وجود موجود قائماً بنفسه لا يتصل بالعالم ولا ينفصل عنه ،ولا يكون داخل العالم ولا خارجه ،وهذا يشبه الأوليات العقلية مثل القضاء بأن الشخص الواحد لا يكون فى مكانين فى آن واحد ..)(31)ومما لا شك فيه أن تحديد الغزالى لهذه الأوهام هو الذى دفعه إلى نقد الميتافيزيقا كعلم محدد بما فى ذلك برهان ابن سينا الرياضى على وجود الله (32) ،وهذه الأوهام هى التى وضع لها بيكون مصطلح (أوهام الكهف)والتى يمكننا تسميتها بالأوهام الرياضية خاصة وأن هذه الأوهام هى التى توظفها المكزية الغربية المعاصرة فى تغريب الغريب .
والتخلص من هذه الأوهام الأربعة هو الشرط لطلب الحق الذى ينشده ابن الهيثم ،وهو الشرط الذى يضعه الغزالى لطلب (العلم بحقائق الأمور) ،وهو ما يشترط (طلب حقيقة العلم ما هى)(33)، أى العلم الذى يشترط اليقين والأمان فى مقابل الريب وإمكان الغلط ،وهذا الشرط هو الذى لخصه ديكارت فى القاعدة الأولى من القواعد الأربعة لمنهجه ،أما بيكون ومن قبله ابن الهيثم يضعان هذا المنهج السلبى كشرط للبدء بالمنهج الإيجابى .
المنهج الأيجابى : ونعنى به المنهج الاستقرائى لتحديد الصفات الجوهرية أو صفة بعينها ويمكننا استعمال مصطلحات فرنسيس بيكون المتمثلة فى قائمة الحضور وقائمة الغياب أو قائمة التدرج .
1– قائمة الحضور : يفترض ابن الهيثم أن الصورة الجوهرية للضوء تتحدد فى الخطوط المستقيمة كشعاع حيث يقول :(الخطوط المتوهمة التى يتملى عليها الضوء هى التى تسمى شعاعاً ،وهى صورة جوهرية للضوء)(34). ويحاول ابن الهيثم توضيح وجود هذه الصورة من خلال الأمثلة المتعددة من انعكاس الضوء على السطوح المستوية والمخروطية والكرية والإسطوانية إلى الانعطاف الضوئى من الهواء إلى الزجاج وبالعكس ومن الماء إلى الهواء وبالعكس وهلم جرا .
ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يضع ابن الهيثم قائمة لحضور صورة الضوء مكونة من مجموعة أضواء متفرقة فى مواجهة ثقب واحد تمر منه هذه الأضواء لتظهر على الجسم المقابل فى صورة خطوط مستقيمة دون امتزاج أو اختلاط فيقول بهذا الصدد :(إذا كان فى موضوع واحد عدة سرج فى أمكنة متفرقة وكانت جميعا مقابلة لثقب واحد ،وكان ذلك الثقب ينفذ إلى مكان مظلم ،وكان مقابل ذلك الثقب فى المكان المظلم جدار أو قويل الثقب بجسم كثيف ،فإن أضواء تلك السرج وكل واحد منها مقابل من السرج على السمت المستقيم الذى يمر بالثقب)(35).
ولا يقتصر الأمر على تجربة واحدة ومرور قائمة الأضواء من ثقب واحد ،بل يمكن إثبات هذه الصورة للضوء من خلال فتحة طويلة :(وذلك بأن يعتبر المعتبر بيتاً من البيوت فى ليل مظلم ،وبيكون على البيت باب من مصراعين ويحضر عدة من السرج ،ويجعلها مقابلة للباب ومتفرقة ،بين المصراعين ،ويفتح منها مقدار يسيرا ،ثم يتأمل حائط البيت المقابل للباب ،فإنه يجد عليه أضواء متفرقة بعدد تلك السرج قد دخلت من فرجة الباب كل واحد منها مقابل لسراج من تلك السرج )(36).
وهكذا يمضى ابن الهيثم فى تنويع تجاربه ليثبت صورة الضوء رغم مالها من تقاطع وموازاة واختلاف فى الوضع ،فهى متمايزة بمالها من خطوط مستقيمة ،ولاتمتزج فى الهواء الذى تمر به ،ويعبر عن هذه النتيجة بقوله (فالأضواء إذن ليس تمتزج فى الهواء ،بل كل واحد منها يمتد على سموت مستقيمة ويتميز بالسموت التى يمتد عليها الأضواء المتفرقة متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع وكل واحد من الأضواء تمتد صورتهعلى جميع تلك السموت التى تصح أن تمتد منه فى ذلك الهواء ،ومع ذلك فلا تمتزج فى الهواء ،ومع ذلك فلا تمتزج فى الهواء ،ولا ينصبع الهواء بها ،وإنما تنفذ فى شفيفه فقط ،والهواء مع ذلك حافظ لصورته)(37).
يحاول فرنسيس بيكون اقتفاء أثر ابن الهيثم فى تحديد الصفات الجوهرية لطبيعة الأشياء ،ولكنه لا يصل إلى درجة الدقة التى نجدها عند ابن الهيثم ،ولكن يثبت صورة الحرارة فى الأجسام يضع قائمته الموازية لقائمة ابن الهيثم فى إثباته لصورة الضوء ،ويجمع فى هذه القائمة سبعاً وعشرين حالة يثبت فيها وجود ظاهرة الحرارة ابتداء من أشعة الشمس فى الصيف ومنتصف النهار وانتهاء بدرجة التجمد ورياح الشمال شديدة البرودة (38). ونستطيع أن نقول بأن يكون لم يصل إلى تحديد صورة الحرارة بقدر ما وصل إلى إثبات وجودها فى الظواهر ،والفرق بين معرفة وجود الشئ ومعرفة صورته الجوهرية هو الفرق بين الإجابة عن سؤال هل ؟ والسؤال ما ؟ولا نريد أن نجزم بأن الخطأ الذى وقع فيه بيكون يرتد إلى عدم معرفته للفرق بين الصورة ووجودها بل نلتمس له العذر فى اختياره للمثال نفسه أى صورة الحرارة .
2– قائمة الغيا ب :
يحاول ابن الهيثم أن يحدد صورة الضوء فى قانون عام ،ومن ثم يقابل بين حضور الصفة وغيابها حيث تعرف الأشياء بأضدادها ،ويستخدم لذلك نفس مثال السرج السابق حيث يقول :(إذا ستر واحد من السرج بطل من الأضواء التى فى الموضوع المظلم الضوء الذى كان يقابل ذلك السراج .. وأى سراج من تلك السرج يستر بطل من الموضوع الضوء الذى كان يقابل ذلك السراج الذى ستر فقط )(39).
وهذا النموذج من المقابلة بين الحضور والغياب للضوء المقابل لدليل قاطع على أن صورة الأضواء تتحد فى الخطوط المستقيمة التى لا تمتزج بسبب الهواء أو الأجسام المشفة ،ويعتمد ابن الهيثم على تنوع تجاربه فى تحديده لثبات صوت الضوء كما هو الحال بالنسبة للألوان وحدوث الغبار فى الهواء ،ويصل إلى قانون الممناعة السابق ،ويمكن القول بأن قائمة الحضور تؤدى إلى إثبات قانون الممناعة أما قانون التغير فإنه يعتمد فيه على قائمة التدرج كما سنعرف بعد قليل .
أما فرنسيس بيكون فى القرن السادس عشر الميلادى فإنه هو الآخر يحاول أن يضع قائمة غياب صورة الحرارة من خلال حالات مشابهة لقائمة الحضور بحيث تختفى صورة الحرارة فى هذه القائمة ،وهنا يصطدم بيكون بصعوبات متعددة من بينها عدم القدرة على حصر الحالات التى تختفى فيها صورة الحرارة ،ومثل هذه الحالات يصفها باللاتناهى ،كما نجده أيضا بالنسبة للمثال السادس من قائمة الحضور المتعلق بحرارة اللهب لا يجد له ما يقابله من اللهب فى قائمة الغياب التى تختفى فيه هذه الحدادة ،وكذلك الحال بالنسبة للمثال السادس عشر وهلم جرا .
3– قائمة التدرج :
يواصل ابن الهيثم من خلال التدرج فى القوة والضعف ويوضح هذا التدرج بصور الألوان المقرونة مع صورة الضوء حيث يقول بهذا الصدد :
(تبين بالاستقراء أن الصور الألوان تكون أبداً أضعف من الألوان نفسها . وكلما بعدت الصور عن مبدأها ازدادت ضعفاً ،وكذلك صور الأضواء تكون أضعف من الأضواء نفسها وكلما بعدت ضعفاً وقد تبين أيضاً بالاستقراء أن الألوان القوية إذا كانت فى مواضع مظلمة ،وكانت الأضواء التى عليها يسير جدا، فإن تلك الألوان تظهر مظلمة ،ولا تتميز للبصر وكذلك الأجسام المشفة المتلونة إذا أشرق عليها الضوء فإنه إذا كان الضوء قويا ظهرت ألوانها من ورائها على الأجسام المقابلة لها ،وإذا كان الضوء ضعيفاً ظهر من ورائها ظلاً فقط … فإن نظر المناظر إلى جسم من الأجسام الكثيفة التى قد تشرق عليها صورة من صور الألوان فإنه إنما يدرك تلك الصورة من صورة ثانية ترد إليه من تلك الصورة وتكون هذه الصورة الثانية أضعف من الصورة الأولى التى على ذلك الجسم الصورة الأولى أضعف من اللون بعينه ..)(40) .
ومما لاشك فيه أن قائمة تدرج صور الحرارة عند فرنسيس بيكون التى تبدأ بالحرارة فى الأجسام الصلبة وتنتهى بالحرارة كشعور وإحساس ما هى إلا محاولة موازية لإثبات تدرج صور الضوء عند ابن الهيثم التى تبدأ بوجود هذه الصورة فى اللون وتنتهى بإدراك صورة الصورة . لقد حدد بيكون إحدى وأربعين حالة لتدرج صور الحرارة ،وفى هذه القائمة لم يستطيع بيكون تحديد كل صور الحرارة تحديداً علمياً كما يتعرف هو بنفسه ،وهذا ما أكدت عليه استبنج فى مقدمتها عن المنطق الحديث .
ولعل من أهم إيجابيات قائمة التدرج عند ابن الهيثم وبيكون هو محاولة إدراك ظاهرة التغير للموضوع الواحد بحكم تغاير الكيفيات التى تؤدى إلى اختلاف درجات الإضاءة أو الحرارة .
وما يتميز به ابن الهيثم عن بيكون هو القدرة على الترتيب والمقارنة ووضع الشروط اللازمة كضرورة حركة الضوء فى الزمان أيا كانت هذه الحركة فى الزمان الواحد أو الزمان المتصل المتعاقب ،مع توضيحه لضعف البصر فى قدرته على إدراك هذه الحركة (41) .
4– الحذف :
يجمع ابن الهيثم بين الحذف والتجربة وبتعبيره بين (السبر والاعتبار) وفى النص الذى اخترناه كأساس لتوضيح منهج ابن الهيثم نجده يربط نقد الفروض بقائمة التدرج والإحصاء وغيرها ،وعلى سبيل المثال نجده ينتقد الفرض القائل بأن مسار الضوء فى خطوط مستقيمة (خاصة تخص الأجسام المشفة)(42)،حيث يقول بأن هذا الغرض (يفسد عند السبر والاعتبار)(43)وقد سبق أن رأينا تحديده لثبات مسار الضوء على خطوط مستقيمة فى الهواء سواء أكان بهذا الهواء غبار أم لا،وذلك حينما وضع عمودا مستقيما فى كل من المسارين حيث اتضح له أن امتداد الضوء على استقامة واحدة تثبت فى كل حالة من هاتين الحالتين . وقد طبق منهج التجربة والحذف فى استقصائه لجميع صور الضوء التى أمكنه الحصول عليها من الكواكب والقمر والشمس ليثبت الصورة الضوئية مستنداً إلى تجارب صحيحة واعتبارات محررة بآلات هندسية ورصدية (44).
ومثل هذا النقد للفروض القائم على الحذف والتجربة هو ما يمكننا أن نستشفه من النص السابق لا بن الهيثم الذى يقول فيه ( ثم نترقى فى البحث والمقاييس على التدرج مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط فى النتائج ومثل هذا الترقى فى البحث والتحفظ من الغلط هو ما دعى إليه فرنسيس بيكون عن طريق الحذف لاثبات الصفة النوعية ،وإذا كان ابن الهيثم يميز بين الصفات النوعية ،وإذا كان ابن الهيثم يميز بين الصفات الجوهرية والعرضية ،فإن هذا ما فعله بيكون أيضا ،وقد اعتمد كلاهما فى ذلك على منهج السبر الذى يرتد فى أصله إلى علماء الأصول .
5– الإمارات أو العلامات :
يضيف ابن الهيثم ومن بعده بيكون إلى الطرق الاستقرائية السابقة عوامل أخرى مساعدة مثل الإدراك المفاجئ السريع للظاهرة (حتى يحتسب المرء أن الإدراك فعل لا يستغرق زمانا)(45)وإذا كان ابن الهيثم قد أخذ منهج الأمارات من علماء أصول الفقه فإن ربط بنظريته فى ملكة التمييز التى من وظائفها إصدار الحكم الجزئى الذى يحوله العقل إلى حكم كلى . وكل ما فعله بيكون هو رده هذه الأمارات إلى قوائم الاستقراء الثلاث كما فى تحديده لمثل هذه العلامات من خلال سبع وعشرين حالة .
وإذا كان بيكون هو الآخر يعرف هذه الأمارات على أنها حالات تدرك بصورة مفاجئة على النحو الذى نجده عند ابن الهيثم فإنه لم يحاول رد هذه الأمارات إلى ملكة التمييز كما عند ابن الهيثم .
6– القياس الاستقرائى والتمثيلى :
القياس التمثيلى هو عبارة عن (حكم من جزئى واحد على جزئى واحد كاعتبار الغائب بالشاهد )(46). أما القياس الاستقرائى فهو عبارة عن (حكم من جزيئات كثيرة على جزئى واحد )(47).
وفى كلا الحكمين نعتمد على المعنى الكلى المشترك ،ويكتفى ابن الهيثم فى التمثيل بإدراك أمارة أو علامة تميز صورة الظاهرة الحاضرة على غرار الصورة التى أدركها من قبل ،ولا تحتاج ملكة التمييز للأمارة لأن (تقيس بترتيب وتأليف وبتكرير المقدمات)(48). وعلى العكس فإن القياس الاستقرائى (يحتاج إلى إعمال نظر وتفقد واستقراء جميع المعانى أو أكثرها)(49) .
واستقراء جميع المعانى هوالاستقراء التام وهو منهج الإحصاء والمراجعة الذى يحتاج إليه ابن الهيثم لتحقيق (التحفظ من الغلط فى النتائج ) أما تصفح الجزيئات الكثيرة فهو الاستقراء الناقص الذى يتحقق فيه الحكم العام كقانون كلى عن طريق تكرار إدراك الظواهر المتشابهة ،وكلما تكررت الظواهر بتكرار التجارب المتواترة كلما تعود الإنسان على ترسيخ الحكم العقلى بقياس لا شعورى (لدرجة أنه لا يحس بأنه يقيس ويميز )(50).
وهذا الاستقراء القائم على التكرار والتعود والترسيخ الذى يأخذ به ابن الهيثم من الأصوليين لانجده عند بيكون الذى يتحدث عن الاستقراء بصورة عامة . أما الغزالى فإنه فى مرحلى متأخرة عن ابن الهيثم بوظف هذا الترسيخ كاعتقاد ليميز به بين القياس الاستقرائى والقياس المنطقى .
والقياس الاستقرائى هو الذى يعبر عنه جابر بن حيان بالأنموذج ،أى الوصول إلى الحكم الكلى من الجزئى ، وقد استطاع ابن الهيثم الهيثم أن يستخرج هذه الأنموذج : قانون الثبات ،حيث يرى أن طبيعة (صغار الأجزاء وكبارها واحدة مادامت حافظة لصورتها فالخاصة التى تخص طبيعتها ،تكون فى كل جزء منها صغر أو كبر مادام على طبيعته وحافظا لصورته (51).ويمكننا تلخيص خطوات المنهج الاستقرائى عند ابن الهيثم فيما يلى :
1- النظر فى الفروض المسبقة للعلم التجريبى التى تقوم فى أساسها على مبادئ ومقدمات ،ولا يسلم ابن الهيثم بهذه الفروض المسبقة كنظريات صادقة ،ولا يريد فى نفس الوقت رفضها قبل التحقق منها حيث يقول: (نستأنف النظر فى مبادئه ومقدماته )أى مبادئ ومقدمات العلم التجريبى .
2- يحدد منهج النظر فى الفروض عن طريق الاستقراء كما فى قوله السابق (نبتدئ بالاستقراء) ويصف خطوات هذا الاستقراء بطريقة إجمالية فى (تصفح المبصرات) أى عن طريق ملاحظة والمشاهدة ،وتحديد (خواص الجزيئات) وهو ما يحتاج إلى تنوع التجارب التى تؤدى إلى تحديد هذه الخواص عن طريق الحذف أى عن طريق (السبر والاعتبار) .
3- يتخذ ابن الهيثم من جمع النتائج الأولية عن طريق الاستقراء مرقاه لتطوير البحث (ثم نترقى فى البحث المقاييس على التدرج والترتيب) وما يعنيه بالترتيب هو تطبيق المنهج الرياضى على العلوم التجريبية حيث إن المنهج الديكارتى اعتمد فى أساسه على الترتيب والمقارنة ،والجدير بالذكر أن وظيفة العقل عند ابن الهيثم تقوم على المقارنة كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
4- عن طريق الاستقصاء يصل ابن الهيثم إلى نقد الفروض بالتحرى (فى سائر ما نميزه وننتقده) أى حذف ما يجب حذفه من الفروض السابقة ،وتمييز النتائج الجديدة أو ما ثبت صحته من الفروض السابقة عن طريق البحث العلمى .
5- ولا يكتفى ابن الهيثم بمجرد نقد الفروض من طريق التحرى القائم على الاستقصاء فحسب بل يشير إلى (التحفظ من الغلط فى النتائج)،وهذا التحفظ يحتاج المراجعة إلى جانب الإحصاء .
6- يشترط ابن الهيثم لتحقق المنهج الاستقرائى التخلص من (الأوهام العارضة للنفس) أيا كانت هذه الأوهام فطرية أو مكتسبة حيث يقول :(ونجعل غرضنا فى جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى فى سائر ما تميزه ،وننتقده طلب الحق لا الميل مع الهوى )،وقد سبق أن أوضحنا هذه الأوهام من خلال الغزالى ،ومن بعده بيكون .
ولسنا هنا بصدد توضيح منهج ابن الهيثم فى شموليته وتفاصيله كما فى تطبيقاته خاصة فى موسوعة (المناظر)المكونة من سبعة أجزاء ،والتى لم يحقق منها بعد إلا الجزء الأول ،ولكن ما يهمنا فى هذا المقام هو فتح الطريق أمام الدارس العربى بالابتعاد عن أوهام التغريب ،والاهتمام بابن الهيثم فى تحديده لخطوات المنهج الاستقرائى بدل فرنسيس بيكون . ولكى نكمل هذا الفتح نريد أن نلقى نظرة سريعة على منهج اكتشاف صفة الحكم ،وبالأخرى منهج تحديد القانون الطبيعى عند علماء الأصول .
(ب) اكتشاف صفة الحكم أو تحديد منهج القوانين الطبيعية
اهتم الأصوليون بمبحث الحكم الأستقرائى نفيا أو إثباتا كما فعل من بعدهم جون استيوارت ميل J.S.Mill، فى القرن الثامن عشر الميلادي ،ورغم الاتفاق والاختلاف فى المصطلحات والتسميات فإن طرق الأصوليين الستة تتطابق مع طرق ميل ،ولا مشاحة فى الأسماء إذا ثبت المعنى.
يوضح الغزالى الاستقراء بهذا المعنى من خلال قوله :(هو أن تتصفح جزيئات كثيرة داخلة تحت معنى كلى حتى إذا وجدت حكماً فى تلك الجزيئات حكمت على ذلك الكلى به )(52)،ويعبر عن المعنى الكلى بالاشتراك فى مقابل الافتراق (53)،كما يرد على الاعتراض الموجه ضد الاستقراء الناقص بقوله :(إن قصور الاستقراء عن الكمال أوجب قصور الاعتقاد الحاصل عن اليقين ولم يوجب بقاء الاحتمال على التعادل كما كان بل رجح بالظن أحد الاحتمالين )(54).
وللاعتقاد والاحتمال علاقة مباشرة بتأسيس المنهج التجريبى عند الغزالى وهو ما أشرنا إليه فى المقدمة بقاعدة مثلث المنهج التجريبى ،والذى سنوجزه فى القسم الثالث من هذا البحث . ومما لا شك فيه أن تعمق أبحاث الأصوليين فى البحث عن العلة ،والأسباب الموجبة للحكم الاستقرائى ،هو الذى مهد الطريق أمام الجوينى للفصل بين مبدأ الهوية والسببية الذى وظفه الغزالى فيما بعد لتأسيس المنهج التجريبى .
تعددت مباحث الأصوليين ومن خلالها تعددت مصطلحاتهم وتنوعت مثل مصطلحات وتنوعت مثل مصطلحات طرق البحث التى من بينها الاطراد ،والانعكاس والدوران وتنقيح المناط ،والسبر ،والتقسيم ، والدوران ،والشبه ،والطرد ،والمناسبة ،والإلزامات ،والقياسات وغيرها . ولكى لا نستغرق فى التفاصيل نريد أن نعرض لطرقهم الاستقرائية فى تحديد صفة الحكم من خلال مصطلحاتهم الأساسية ،وليسهل على الباحث رد الطرق الحديثة لمنهج علماء الأصول نريد أن نقابل بين مصطلحات الأصوليين ومصطلحات جون استيوراتميل ،وذلك على النحو التالى :
1– طريقة الاطراد والتلازم فى الوقوع :
بحث الأصوليون فى مسألة الاقتران بين الأسباب والمسببات والتلازم بين العلة والمعلول ،ووضعوا قوانين لهذا التلازم والاقتران ،وبذلك توصلوا إلى وضع قواعد كلية تحدد أسباب الاتفاق فى أحكام الجزئيات المتشابهة أيا كانت هذه الجزئيات فى مجال العلوم الإنسانية كأقوال وأفعال أو فى مجال العلوم الطبيعية كأسباب ومسببات . ولكي يثبتوا سبب الاطراد فى التلازم ،اشترطوا تكرار التجارب فى العلم الطبيعى وتواتر الأقوال والأفعال فى العلم الإنساني من أجل أن يثبتوا العلة المشتركة فى الاتفاق ،وليوظفوا هذا الاشتراك فى القياس الاستقرائي والتمثيلي لتحديد القوانين العامة . ووضعوا لهذا الاشتراك طريقة الاطراد العلى الذى يعبر عنه (كلما وجدت العلة فى صورة من الصور وجد الحكم)(55)،وهذه الصورة للعلية بما لها من الصفات هى التى يطلق عليها جابر بن حيان مصطلح المجانسة فى العلم الطبيعى ،ويتأكد هذا التجانس عند الأصوليين بفعل مبدأ التقسيم (التحليل) ،وبهذا التقسيم يتم حصر الظواهر المشتركة لسبب المؤدى إلى المسبب ،ومن باب الدقة والتحوط من التعريف النظرى للعلة يوضح مصطلح السبب والمسبب ،ويحدد قانون العلية ابتداء من المسبب بدل السبب كما فى قول الغزالى (كل حادث فله سبب) . وإذا كان جون استيوارت ميل قد عبر عن هذه الطريقة بالتلازم فى الوقوع أو الاتفاق للظواهر المتجانسة والمشتركة فى عليتها فإنه لم يتوصل إلى تحرى الدقة فى التعبير من قانون السببية .
2– طريقة العكس والافتراق أو طريقة التخلف فى الوقوع :
وتقوم هذه الطريقة بالبرهان العكسى أى ثبات نفى العلة بانتفاء المعلول فى الظواهر المتصفحة من أقوال وأفعال وحوادث ،وتعرف هذه الطريقة أيضا بدوران نفى العلة بانتفاء المعلول فى الحكم ،ويلخص التلمسانى هذه الطريقة فى مفتاح الأصول بقوله :(كلما انتفت العلة انتفى الحكم أى تدور العلة مع الحكم عدماً)(56)،وقد طبق ابن الهيثم هذه الطريقة على تجاربه الضوئية ،ويمكننا الإشارة إلى حد تلك النماذج ونعنى به تخلف سير الضوء على الخط المستقيم تختلف العلة حيث يقول (إذا كان فى موضع واحد عدة سرج فى أمكنة متفرقة وكانت جميعها مقابلة لثقب واحد ،وكان ذلك الثقب ينفذ إلى مكان مظلم ،وكان مقابل ذلك الثقب فى المكان المظلم جدار أو قويل الثقب بجسم كثيف ،فإن أضواء تلك السرج تظهر على ذلك الجسم أو ذلك الجدار متفرقة وبعد تلك السرج على السمت المستقيم الذى يمر بالثقب ،وإذا ستر واحد من السرج بطل من الأضواء التى فى الموضع المظلم الضوء الذى كان يقابل السراج )(57).
وفى ضوء هذا المثال نستطيع أن نقول بأنه إذا رفعت العلة رفع المعلول ،ولكن الغزالى يدقق فى الأمر حيث يقول بأن (الحكم يرتفع بارتفاع بعض أجزاء العلة وشروطها ،ولا يوجد بوجود ذلك البعض )(58)،وهذا التدقيق يقودنا إلى منهج السبر المتداخل مع طريقة البواقى ،وبالأحرى طريقة تنقيح المناط ،ويعبر الحوينى عن السبر فى كتابه البرهان بقوله :
(يبحث المناظر عن معان مجتمعة فى الأصل ويتتبعها واحداً واحداً ،ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به إلا واحداً يراه ويرضاه)(59)،ويعنى بالمعانى المجتمعة الظواهر المتشابهة ومقارنتها بحالة واحدة يوجد فيها الحاكم ،ولا يوجد فيما عداها من الحالات الأخرى .
أما جون استيوارت ميل ،فإنه يعبر عن طريقة العكس فى أبسط صورها من خلال المقارنة بين حالتين فيقول :(إذا وجدنا حالتين : حالة تقع فيها الظاهرة ،وحالة لا تقع ،فيها وتشتركان فى كل شئ ما عدا شيئاً واحداً ، يظهر فى الحالة الأولى ولا يظهر فى الحالة الثانية استنتجنا أن هذا الشئ هو العلة ) . وبهذه المقارنة المحدودة يتفق ميل Millمع ابن الهيثم الذى يقارن عادة بين صورتين متشابهتين من الظواهر ،والتى يختفى فى أحداهما المعلول باختفاء العلة ويظهر الحكم فى الأخرى بحدوث المعلول (60)ويسمى ميل هذه القاعدة : طريقة التخلف فى الوقوع ،وهذه الطريقة هى نفس قائمة الغياب التى توظف عند ابن الهيثم وبيكون فى تخلف الصفة الجوهرية وتخلف الحكم فى نفس الوقت .
3– قاعدة الدوران (الطرد والعكس) أو طريقة التلازم فى الوقوع والتخلف :
يعرف الأوليون الدوران أو الجريان بأنه (دوران العلة مع العلول وجوداً وعدماً) (61)،وهذا التعريف بالنفى والإثبات حظى باهتمام خاص عند ابن سينا فى تحديداته النظرية (62)،ولكن علماء الأصول يطبقون هذا التعريف فى المجال التجريبى بل يطابقون بين الدوران والتجربة ،وذلك كما يقول القرافى : (الدورانات عين التجربة) (63). وبحكم طبيعة البحث العلمى الإنسانى عند الأصوليين وتطبيقاته اختلفوا حول نتائج الدوران باختلاف مذاهبهم ،وانتقدوا هذا المنهج من عدة زوايا خاصة حينما يطبق الدوران على العلاقات الأخرى مثل علاقة التضايف كما فى علاقة الأبوة والنبوة والليل والنهار وغيرها .
أما تطبيقات هذه القاعدة فى العلم الطبيعى فهى واضحة ،كما عند ابن الهيثم ،والذى يوظف قاعدة الدوران للبرهنة على فروضه الضوئية ،والتى من بينها قوله : (يعتبر المعتبر بيتا من البيوت فى ليل مظلم ،ويكون على البيت باب من مصراعين ،ويحضر عدة من السرج ويجعلها مقابلة للباب ومتفرقة ،ويدخل المعتبر إلى داخل البيت ،ويرد الباب ويفرج بين المصراعين ،ويفتح منها مقدارا يسيرا ،ثم يتأمل حائط البيت المقابل للباب ،فإن يجد عليها أضواء متفرقة بعدد تلك السرج قد دخلت من ذلك الباب كل واحد منها مقابل لسراج من تلك السرج ،ثم إن تقدم المعتبر بأن ستر واحدا من تلك السرج بطل الضوء المقابل لذلك السراج وإذا رفع الساتر عاد ذلك الضوء ..)(64) .
ومن الواضح أن هذا المثال يوظف قاعدة الدوران أو الجريان الأصولية والتى نرى (أن العلة إذا حضرت حضر معلوها وإذا غابت غاب)(65)،وهذه الطريقة التى لانجدها فى قوائم فرنسيس بيكون هى ما تنبه إليه جون استيوارت ميل فيما بعد ،والتى أطلق عليها مصطلح : طريقة التلازم فى الوقوع والتخلف .
4– طريقة التدرج أو التغير النسبى (التقسيم المنتشر) :
وظف الطبيب محمد زكريا الرازى هذه الطريقة فى تحديد نسبة الرطوبة حسب المواقع المختلفة ،وذلك بوضعه قطعا من اللحم فى أماكن متعددة ليثبت نسبة التخمر فى هذه الأماكن ،وليختار موقعا لمستشفى هو أقل رطوبة من غيره أما ابن الهيثم فقد سبق وأن أشرنا إلى برهانه على صورة الألوان كيف أنها (كلما بعدت ..عن مبدأها ازدادت ضعفا) ،وإذا كانت قائمة التدرج عند فرنسيس بيكون توازى التدرج عند ابن الهيثم ،فإن هذا الأخير اهتم بالترتيب الذى يظهر التغير النسبى بصورة دقيقة .
أما قاعدة التقسيم المنتشر عند الأصوليين فهى تتميز بحصر الوصف بين النفى والإثبات وعدم حصره بينهما وذلك لما لهذه الأوصاف من تداخل وتدرج يمتد إلى التناهى واللاتناهى فى التدرج والتغير النسبى . ولو طبقنا هذه القاعدة على الفيزياء المعاصرة ،فإننا نستطيع أن نقول على سبيل المثال درجة التجمد المطلقة تقع بين الصفر و2, 273 – درجة . ولكننا من الناحية العملية لا نستطيع أن نصل إلى هذه الدرجة ولا يمكن تحديد التدرج بين الصفر والدرجة المطلقة إلا من الناحية الرياضية ،ولكن الفرض الرياضى نفسه لا يستطيع أن يحدد منحنيات التدرج فى الحرارة حيث أثبت التجربة أن هذه المنحنيات ليست ذات البعد الواحد بل هى خطوط لا تخلو من العرض ،وهذا الوضع للخطوط فى التدرج والتغير النسبى يتيح للتجربة أكثر من وصف رياضى ،خاصة وأننا لا نستطيع أن نحدد هذه الخطوط هل كم متصل أو منفصل إلى من الناحية الفرضية التى تتيح الفرصة لكليهما . وبهذا المعنى نستطيع أن نفهم التقسيم المنتشر على أنه قاعدة التغير النسبى المحدد واللامحدد (66)،وهذا المعنى المتناهى واللامتناهى لتدرج الحرارة هو ما من قريب ولا من بعيد . أما جون استيوارت ميل فإنه هو الآخر لم يفكر فى هذه الخصوصية للتغير النسبى بل يقف به عند حدود التجربة التى أجرها محمد زكريا الرازى .
5– قاعدة تنقيح المناط أو طريقة البواقى :
وضع الأصوليون قاعدة تنقيح المناط كمنهج جامع للطرق الأربعة السابقة من أجل تحديد العلة أو الوصف العام بحذف ما عدا ذلك ،ومن أجل الكشف عن حقيقة العلة وتفسيرها ،ولا يتم هذا الكشف والتفسير إلا بالاجتهاد الذى تفضي إلى إبعاد الفروض المسبقة عن طريق الحذف ،وتعيين الفرض الأقرب والتحقق منه ، وبه يتم تحديد والتمييز للعلاقة الموجبة للحكم ،وقد تكون لهذه العلاقة كعلة أوصاف خاصة لا تدخل فى الحكم فيستلزم الأمر حذف هذه الخواص والصفات لتحديد مناط العلة الموجبة للحكم دون غيره ،وقد يكون التعليل بأكثر من صفة فى الأوصاف المجتمعة ،فيحذف من هذه الأوصاف ما لا يصلح للتعليل ،ويبقى الناظر على الأوصاف الأخرى ،وهذه الأوصاف المتبقية تكتشف عن طريق حذف ما عداها ،وهو ما يعبر عنه علماء الأصول بالتنقيح .
ومجمل القول فإن هذه القاعدة المنهجية تنحصر فى الحذف والتعيين ،وإذا كانت قاعدة الدوران أو الطرد والعكس ،وكذلك قاعدة السير والتقسيم تسعى جميعها لتعيين العلة الوجودية والعدمية أى دوران العلة مع معلولها وجودا وعدما ،فإن هذه القاعدة تتحرى الدقة فى تحديد وصف العلة الأساسى ،أيا كانت هذه العلة مكونة من وصف واحد يناط به الحكم أو من عدة أوصاف ،ومن ثم تنظر فى خواص هذه الأوصاف لتحدد خصائصها وفعاليتها فى الحكم بدل الوقوف عند تحديد علة الحكم ،ويعبر السبكى عن هذه القاعدة بقوله : (أن يدل نص الظاهر على التعليل بوصف ،فيحذف خصوصه عن الاعتبار ،ويناط الحكم بالأعم ،أو تكون أوصافه فى محل الحكم فيحذف بعضها عن الاعتبار والاجتهاد ،ويناط الحكم بالباقى وحاصله الاجتهاد فى الحذف والتعيين)(67).
ويعنى السبكى بالاعتبار التجربة كتحليل للأقوال وتنقيحها أو التجربة فى العلم الطبيعى ،ومنهج تنقيح المناط هو الذى يعتمد عليه ابن حيان فى تحديده للمجانسة ،وهو المنهج الذى لا تخلو منه تجارب ابن الهيثم فى تجاربه المقارنة لانعكاس الضوء على السطوح المستوية والكرية والخروطية وغيرها ،وقد طبق هذا المنهج فى العلوم الإنسانية بصورة خاصة عند علماء الأصول ،وقد انتقدت هذه الطريقة فى الفكر الإسلامى خاصة وأنها تعتمد على السير ،ويرى البعض أنها أعم من السير بمالها من تنقيح وتهذيب .
6– القياس الأصولى والاستقرائى :
يحدد الغزالى أنواع الحجج فى ثلاثة أقسام ألا وهى القياس ولاستقراء والتمثيل .
ويضع لهذه الأنواع من الحجج سبعة أصناف هى القياس الحملى ،والشرطى المتصل والشرطى المنفصل وقياس الخلف والاستقراء والتمثيل ،والأقسية المركبة والناقصة . وهذه الأنواع الثلاثة بأصنافها السبعة تشترك فيما يسميه الغزالى (الحكم المنقول) ولهذا الحكم كيفيات ثلاثة (إما حكم من كلى جزئى … وهو القياس ..وإما حكم من جزئى واحد على جزئى واحد كاعتبار الغائب بالشاهد وهو التمثيل ..وإما حكم من جزئيات كثيرة على جزئى واحد وهو الاستقراء وهو أقوى من التمثيل)(68).
عرف القياس التمثيلى بالقياس الأصولى ،وهو نفس القياس الذى يوظفه المتكلمون تحت اسم (رد الغائب إلى الشاهد) وهذا الرد يقوم على التشابه للمعنى الجامع كعلة للحكم . وشرط هذا المعنى الجامع التلازم فى الاقتران إذا بمجرد رفعه يرتفع الحكم .
وفى ضوء قاعدة الاشتراك والافتراق فى تلازم الصفات يضع الغزالى ستة شروط لصحة قياس التمثيل (69) .
أما العلاقة بين القياس الاستقرائى والتمثيلى فإنها ترتد إلى الاشتراك فى إمكان الاحتمال والترجيح . إن غلبة القياس الاستقرائى على القياس التمثيلى ترجع إلى قوة الاحتمال الذى يرسخ عن طريق المجربات المتكررة فيصبح اعتقادا يقينيا بفعل القياس الاستقرائى الذى يسميه الغزالى : القياس الخفى (70)،وهذا القياس الخفى هو الذى يؤسس الغزالى فى ضوئه المنهج التجريبى فى مقابل القياس المنطقى ،وهذا التأسيس للمنهج التجريبى من خلال نقد العلية هو ما ينسب فى الفكر الأوربى الحديث إلى هموم رغم قصوره لفهم المشكلة ككل ،أما جون استيوارت ميل فإنه يأخذ بهذا القياس الاستقرائى ولا يلتفت إلى مشكلة نقد العلية ،وكل ما فعله هو اعتقاده بأن هذه الطرق الاستقرائية الستة مطلقة رغم أن علماء الأصول أنفسهم لم يعتقدوا فى هذا الإطلاق ولا أدل على ذلك من انتقادهم لهذه الطرق إلى أبعد الحدود (71).
(ج) تأسيس المنهج التجريبى
إن العلاقة فى حكم العلم الطبيعى تختلف عن العلاقة فى حكم العلوم الصورية ،فنحن حينما نعرف المثلث بقولنا (شكل ذو ثلاثة أضلاع) لم نضف جديدا لمفهوم المثلث ؛لأن قولنا المثلث يطابق قولنا :
(شكل ذو ثلاثة أضلاع) ،وكذلك حينما نقول : للمثلث ثلاث زوايا ،فإن الزوايا الثلاثة متضمنة فى مفهوم المثلث ،ولعلاقتى التطابق والتضامن لا نحتاج إلا إلى مبدأ الهوية ،ولكن حينما نقارن بين مثلث وغيره من المثلثات أو الأشكال الهندسية الأخرى فإننا نحتاج إلى علاقتى التساوى والتفاوت ،وذلك كأن نقول المثلث أ يساوى المثلث ب ،وهو أكبر من المثلث ج وأصغر من المثلث ء ،وكذلك الحال بالنسبة للحساب كأن يقول العدد 4 = 2 + 2 أو أكبر من العدد 3 أو أصغر من العدد 5 . ولو قلنا إن العدد 4 أكبر من العدد 3 لوقعنا فى تناقض ،ولكننا حينما نجمع بين الحديد والحرارة فإننا سنحصل على شئ جديد ألا وهو تمدد الحديد ،وهذا التمدد لا نستطيع أن نرده إلى علاقة التطابق أو التضمن أو التناقض ،لأن التمدد صفة زائدة عن الحرارة والحديد ،وليس هناك ما يمنع فى العقل أن نتصور الحديد يبقى كما هو لولا مشاهدتنا لهذا التمدد ،ولهذه المعطيات يبدأ الغزالى نقده للعلية فى التهافت بقوله 🙁 الاقتران بين ما يعتقد فى العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ،ولا ذاك هذا ،ولا إثبات أحداهما متضمنا لإثبات الآخر ولا نفيه متضمنا لنفى الآخر ،فليس من ضرورة أحدهما وجود الآخر ،ولا من ضرورة عدم أحداهما عدم الآخر ،مثل الرى والشرب ،والشبع والأكل ،والاحتراق ولقاء النار ،والنور وطلوع الشمس …الخ )(72).
يحاول ابن سينا تأسيس حتمية القوانين الطبيعية على غرار أحكام العلوم الرياضية من خلال رده لمبدأ السبب الكافى فى أساسه الميتافيزيقى إلى مبدأ الهوية وعدم التناقض ،الحكم فى العلم الرياضى ضرورية لأنها تقوم مباشرة على مبدأ عدم التناقض بينما صفة الحكم فى العلم الطبيعى تقوم مباشرة على الإحساس والمشاهدة ، ويوضح ذلك مع بداية بحثه عن (حقيقة العلم ما هى ؟) بقوله :(فإنى إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ،فلو قال لى قائل بل الثلاثة أكثر من العشرة بدليل أنى أقلب هذه العصا ثعبانا ،وقلبها ،وشاهدت ذلك منه ،لم أشك بسببه فى معرفتى )(73).
ومن هنا نستطيع أن نقول بأن العلم الطبيعى لا يخضع للضرورة المنطقية مثل الرياضة وإنما يعتمد على المشاهدة ،ولكن هل المشاهدة وحدها كافية لتحديد صفة الحكم الكلى فى العلم الطبيعى ؟ من هنا يبدأ الغزالى تشكيكه فى الإدراك الحسى لعدم قدرته على تحديد القانون الطبيعى لوحده بل لابد من التجربة فيقول :(من أين الثقة بالمحسوسات وأقوالها حاسة البصر وهى تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك ،وتحكم بنفى الحركة ؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ،تعرف أنه تحرك ،وأنه لم يتحرك دفعة واحدة ،بل على التدريج ذرة حتى لم يكن له حالة وقوف ،وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا فى مقدار دينار ،ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض فى المقدار)(74).
من خلال هذين المثالين (الظل والكوكب) يتضح لنا أن الإدراك الحسى يعتمد على الزمان والمكان ،ويقر الغزالى فى (معيار العلم)بأن الزمان والمكان هما الشرطان لضرورة العلم الرياضى (75)،ولكنهما فى علاقتهما بمبدأ عدم التناقض فى الرياضة ،ويتدخل الاستدلال العقلى فى التجربة لا تصل صفة الحكم إلا إلى درجة الاحتمال كما سنعرف فيما بعد .
يقارن الغزالى فى :معيار العلم ،وتهافت الفلاسفة ،بين القضايا الحسية ،والقضايا التجريبية ،فحينما نقول : هذا الظل متحرك أو هذا الحجر يهوى إلى الأرض يختلف عن قولنا كل ظل يتحرك حركة متصلة ،وكل حجر يهوى إلى الأرض ،فالنوع الأول من القضايا يسميه الغزالى : (قضية فى عين)(76)والنوع الثانى من القضايا القائم على التعميم العقلى هو القانون الطبيعى ،ولكن كيف نصل إلى هذا التعميم ؟ ويجيب الغزالى على مثل هذا التسأول فى (محك النظر) على أن القانون الطبيعى (معرفة ينالها العقل بعد الإحساس والتكرار بواسطة قياس خفى ارتسم فيه ،ولم يثببت شعوره بذلك ،القياس ،لأنه لم يلتفت إليه ،ولم يشكله بلفظه ،والعقل يقول بأنه لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد فى الأكثر) (77).
إن هذا القياس الخفى اللاشعورى هو القياس الاستقرائى القائم على تكرار الظواهر الطبيعية المتشابهة مثل تمدد الحديد بالحرارة وجذب المغناطيس للحديد ،وهذا التكرار يولد فى النفس علما كليا ،وهو أنه كلما اقترب الحديد من الحرارة حكمنا بأنه سيتمدد قياساً على ما سبق أن لا حظناه وشاهدناه ،ونحكم بشروق الشمس فى الغد قياساً على شروقها فى الماضى المتكرر على نفس المنوال ،وللا يلاحقنا شك فى ذلك ،وكذلك الأمر بالنسبة لكل القوانين الطبيعية ،واستمرار تكرار الظاهرة هو الذى يجعلنا نحكم باطراد القوانين ،ويتم هذا الحكم عن طريق قياس لا شعورى بالأحرى قياس ميكانيكى مضمر حيث نعتقد بسببه أنه كلما شاهدنا على سبيل المثال اقترب قطعة قطن من النار ،اعتقدنا بأنه سيحدث احتراق القطن ،ولكننا فى هذا الاعتقاد لا تقوم بعملية القياس حسب عدد مرات الاحتراق السابقة التى شاهدناها ،بل يختزل العقل هذه العملية القياسية فى اللاشعور .
وفى حالة عدم الاحتراق عند التقاء القطن بالنار ،نجد أنفسنا نبحث عن سبب لعدم الاحتراق ؛لأنه سبق وأن تولد فى النفس لاعتقاد باطراد هذا القانون ،ويقول الغزالى بهذا الصدد على أن التجربة (لا تخلو من قوة قياسية خفية تخالط المشاهدات ،وهى أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيا أو عرضيا غير لازم لما استمر فى الأكثر من غير اختلاف ،حتى إذا لم يوجد ذلك اللازم استبعدت النفس تأخرة عنه وعدته نادراً ،وطلبت له سببا عرضا مانعا ،وإذا اجتمع الإحساس متكررا مرة بعد أخرى ،ولا ينضبط عدد المرات – كما لا ينضبط عدد المخبرين فى التواتر فإن لكل واقعة هنا مثل شاهد مخبر ،وانضم القياس الذى ذكرناه أذعنت النفس للتصديق)(78) .
والجدير بالذكر أن علماء الأصول هم الذين وضعوا قانون الأطراد كما سبق أن أوضحناه فى طرق تحديد صفه الحكم ،كما تعددت نظرياتهم فى القياس التجريبى من الاستقراء الناقص إلى التام إلى قياس التمثيل ، ولكن التأسيس كمبرر لاختلاف المنهج التجريبى عن العلم الصورى ثم على يد الغزالى من خلال فصله بين مبادئ العلوم الصورية ومبادئ المنهج التجريبى .
العادة والاعتقاد :
إن العلوم التجريبية لا تخضع لمبادئ العلوم الصورية ومن ثم إلى أى حد تكون هذه العلوم صادقة ؟ إن المبادئ الضرورية لا تمنعنا من أن نتصور النار بأن تكون برداً وسلاماً بدلا من أن تحرق ،وكذلك الحال بالنسبة لكل القوانين الطبيعية يمكن أن تكون من حيث التصور العقلى على نحو آخر ،ومثل هذا التصور الممكن قد يبعث الشك فى كل القوانين الطبيعية كأن نتخيل تحول الحجر إلى ذهب والفروس إلى كتاب وما إلى ذلك (79).
إن ضمان العلم الطبيعى الذى يقترحه الغزالى بد القوانين الضرورية هو قانون العادة الذى يرسخ بتكرار مشاهدة الظواهر وحدوثها على النحو السابق ،وترسيخ قانون العادة يتحول إلى اعتقاد فى اطراد القوانين على النحو التى هى عليه . وهذا ما عناه الغزالى بإزعان النفس للتصديق بالقانون الطبيعى بسبب تكرار الظواهر حيث : (استمرار العادة بها مرة بعد مرة أخرى يرسخ فى أذهاننا جريانها وفق العادة الماضية ترسيخا لا ينفك عنه )(80). ويعبر الغزالى على هذا الترسيخ بالعقد القوى الذى لا يشل فيه (81).ولكن هذا العقد القوى لا يحدث من فراغ ،حيث إن المشيئة الأزلية هى المسؤولة عن التناسق بين مجرى العادة فى الطبيعة وتعود النفس على هذا الجريان لمنوال القوانين الطبيعية .
نظرية الاحتمال :
يضع المعتزلة نظريتهم فى حتمية القوانين الطبيعية بطريقة تختلف عنها عند ابن سينا حيث يعترفون بأن العلاقة بين العلة والمعلول علاقة تلازم ،ولكنهم فى نفس الوقت يسلمون بضرورة هذا التلازم من خلال تصورهم من الفعل المتولد وسمى المتكلمون (اللوازم توابع الذات ،وربما سموها توابع الحدوث حتى زعمت المعتزلة منهم أن توابع الحدوث لا تتعلق بها قدرة قادر)(82). وقد اضطر المعتزلة إلى وضع نظرية المنطق المتسامى أو ما يسمونه بنظرية الأحوال لتبرير ضرورة صدور المعلول عن العلة إذا ما توفرت المعطيات ، ونظرية الأحوال هى الحل الذى أخذ به كانط Kantلإثبات ضرورة العلم الطبيعى فى مقابل نظرية الاحتمال القائمة على نقد العلية عند الغزالى ،ومن بعد هيوم .
يواجه الغزالى الحتمية المتسامية بفرضه القائل بأن العلة جوهر مغلق على نفسه والمعلول جوهر مغلق على نفسه ،وإذا كان الغزالى قد اهتم بهذه الجواهر المغلقة فى مشكاة الأنوار فإنه يطبقها فى التهافت من خلال العلاقة بين النار وجسم إبراهيم الخليل عليه من حيث إن الإمكان العقلى يجعلنا نتصور أن كلا منهما لا يؤثر فى الآخر ولا توجد ضرورة منطقية لذلك ،ولا يمكن إثبات هذه الضرورة إذا ليس من المتناقض أن يخلق جسم الإنسان دون أن يكون علة قابلة للاختراق ،ومع ذلك لا يخرج عن كونه لحماً وعظما ،وكذلك ليس من التناقض أن تحتفظ النار بسخونتها دون أن تتعدى حرارتها جسمها (83)،ويضع الغزالى قاعدته المشهورة القائلة بأن (الوجود عند الشئ لا يدل على أنه موجود به) (84).
(أ) الاحتمال الجزمى :وهذا الاحتمال العلمى ينقسم إلى نوعين – كما سبقت الإشارة – أى الجزمى والأكثرى والاحتمال الجزمى يشبه فى ثباته القانون الصورى الضرورى فى استمراره واطراده ،ككون الحديد يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة ،وكون النار تحرق القطن ،والخبز يشبع وهلم جرا ،وقد عبر الغزالى عن هذا الاحتمال فى التهافت بقوله 🙁 لم يتخلق قط من نطفة الإنسان إلا إنسان ومن نطفة الفرس على سائر الصور ، فلم يقبل إلا الصورة المترجحة بهذا الطريق ،ولذلك لم ينبت قط من الشعير حنطة ،ولا من بذر الكمثرى تفاح) (86).
(ب) الاحتمال الأكثرى: يقابل الغزالى هذا الاحتمال الجزمى بالاحتمال الأكثرى ،ويضرب لذلك بأمثلة يعتمد منها على التولد بالانقسام الثنائى لبعض الكائنات الحية (87).
ويرد معرفة الاحتمال الأكثرى والتفرقة بينه وبين الاحتمال الجزمى إلى التجربة كمحك لتحديد هذين اللونين من الاحتمال حيث يقول فى معيار العلم : (وربما أوجبت التجربة قضاء جزمياً ،وربما أوجبت قضاء أكثرياً)(88).
(ج) الصدفة : وذلك كأن تلد الفرس توأم أو حسب مثال الغزالى كأن لا ينبت شعر على وجه رجل ما (89)، وهذه الصدفة لا علاقة لها بتحديد صفة الحكم فى العلم الطبيعى ،لأنها لا تحدث إلا نادراً .
وقد أخذ هيوم D.Humeبالاحتمال الجزمى والأكثرى والصدفة ولكنه لم يدرك حقيقة الشئ بذاته أى الجواهر المغلقة ،ولم يفهم نظرية العقل عند الغزالى رغم استعماله لمصطلح الغريزة كما يستعمله الغزالى . ورغم فهم هيوم للجانب المنطقى فى نقد العلية ،فإنه لم يدرك هذا النقد فى شموليته مما جعله يقع فى العديد من التناقض كعدم تفرقته بين الحركة الإرادية والحركة الميكانيكية وكذلك عدم تعرضه لقانونى التساوق والتأثير المتبادل وهلم جرا .
ميكنة القوانين الطبيعية :
لقد نهبت المعجزات الغزالى إلى القول بأن الطبيعة لا فعل لها ،لأن الفعل يشترط الحياة والإرادة ،أما الجماد فلا فعل له ،ومن هنا يعيد النظر فى القوانين الطبيعية الثلاثة أى التساوى والتلاحق والتأثير المتبادل ،وذلك من خلال توظيفه للشئ بذاته المرتبطة بوحدة العقل العليا حسب تصوره .
وقد سبقت الإشارة إلى القاعدة التى يقول فيها (إن الوجود عند الشئ لا يدل على أنه موجود به) ،ومن هنا يرد الغزالى الفعل إلى المشيئة الأزلية ،وذلك إما بطريق مباشر كما فى نظرية الخلق المتجدد عند الأشاعرة أو بطريق غير مباشر بافتراض وجود أرواح فاعلة فى الوجود هى التى تفعل بطريقة ميكانيكية ،وتساوى العلة الطبيعية للمعلول ما هو إلا ظاهرة ميكانيكية ،ولو توقف هذه العلل الخفية عن الفعل لأدركنا أن النار على سبيل المثال ليست هى الفاعلة للاحتراق كما هو الأمر فى قصة الخليل عليه السلام ،ولأدركنا أيضا أن الرجل ليس هو الموجود لابنه بإلقائه النطفة فى الرحم كما حدث فى قصة عيسى عليه السلام ،وكذلك الحال بالنسبة لقانون التلاحق فهو نسبى أيضا ولا نستطيع عن طريق مبادئ العقل الصورية أن نرد تحول العصا إلى ثعبان فى زمان متطاول بعينه ،إذا من الممكن عقليا اختزال زمان قانون التلاحق كما حدث فى قصة موسى عليه السلام ،وما الزمان المسؤول عن التلاحق إلا(نسبة لازمة بالقياس إلينا )(90). وإذا كان هيوم يؤمن بإمكان هذه الأحداث ويكذب وقوعها ،فإن تواترها يجعل هيوم متناقضا مع تصوره عن تأسيس المنهج التجريبى فى ضوء العادة والاعتقاد . وما هذا التواتر إلا شاهد على فرضية الجواهر المغلقة .
ورغم هذه النسبية الممكنة التى تحقق فى حالات المعجزات فإن الغزالى يريد توظيف هذا الإمكان فى ميكنة القوانين الطبيعية بتصوره لقوانين العالم على هيئة قوانين الساعة التى تحدد الأوقات . فالعالم ككل صنع على هيئة ساعة أو ما يسميه لا ينبتر g.Leibnityساعة الله ،فكما أن صانع الساعة يحتاج إلى التدبير الكلى فى ترتيب الأسباب والمسببات ،وكما يترتب على ذلك تحديد الثوانى والدقائق ،والطنين الدال على انقضاء الساعة الزمنية ،وبالأحرى تحديد القوانين الجزئية والكلية كالأرض والسموات والأفلاك وحركاتها ،وهى الأصول التى تمثل القضاء كقوانين كلية ،أما القدر المتمثل فى القوانين الجزئية فيتعلق ب(توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المحدودة والمعدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص )(91)، ويوازى هذه القوانين الجزئية فى الساعة وجود سبب الحركة الأولى التى تؤدى إلى حركات مقدرة بقدر معلوم ومقدار مقدر .
ولا يغفل الغزالى علاقة هذا التكميم فى العلم الطبيعى بالعلم الرياضى ،فكما أن الحركات فى الساعة تعرف بطريق الحساب ،فكذلك نجد (حركة الشمس …إذا قربت من وسط السماء ،وسمت رؤس أهل الأقاليم حمى الهواء واشتد القيظ وحصل نضج الفاكهة ،وإذا بعدت حصل الشتاء واشتد البرد ،وإذا توسطت حصل الاعتدال وظهر الربيع ،وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة ،فقس بهذه المشهورات التى تعرفها الغرائب التى لا تعرفها ،واختلاف هذه الفصول كلها مقدر بقدر معلوم ،لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر و{والشمس والقمر بحسبان}أى حركاتها بحسبان معلوم ،وهذا الحسبان هو التقدير ووضع الأسباب الكلية هو القضاء)(92)، وبهذا التصور يلغى الغزالى كون الحركات الكلية كما عند الفلاسفة على أنها إرادية ترتد إلى نفوس الأفلاك ،ولا يعترف الغزالى والأشاعرة وغيرهم من المتكلمين بأن للأفلاك نفوساً وإرادة تحدد الحركات ،بل الحركة السماوية ما هى إلا حركة ميكانيكية ترتد إلى المشيئة الإلهية .
إن نظرية التكميم فى العلم الطبيعى ترتد إلى نظرية الأشاعرة فى قولهم بان المادة نقطة رياضية وفصلهم الحركة عن الامتداد ،وهذه النظرية هى التى أتاحت المناخ كنمو الجبر وتطبيقاته ،كما فتحت الطريق أمام نظرية الاحتمال فى العلم الطبيعى .
وإذا كان الغزالى يعترف بأن مبدأ السبب (أولى ضرورة فى العقل) (93)،فإنه يؤكد فى نفس الوقت بأن هذه الضرورة تكمن فى مفهوم الممكن الذى (يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد)(94) ،ولكن مفهوم السبب نفسه ما هو إلا المرجح لإحدى الكفتين (ونحن لا نريد بالسبب إلا المرجح)(95)،وارتباط السبب بالترجيح يجعل العلم الطبيعى فى تفاصيل قوانينه علماً بعدياً تجريبياً ،تختلف فيه ضرورة مبدأ السبب الكافى عن ضرورة مبدأ الهوية وعدم التناقض .
تعقيب عام :
حاولنا فى هذا البحث تحديد الصورة التخطيطية للمنهج التجريبى فى الفكر العربى الإسلامى ،وحصرنا هذه الصورة فىحدود مثلث الصفات الجوهرية وصفة الحكم ونقد العلية كأساس للمنهج التجريبى ،ولهذا الحصر والتحديد سلبياته وإيجابياته ،وما نعينه بالإيجاب هو إيجاد أرضية لمواصلة البحث فى المنهج وتطويره ،إن المناهج فى الفكر الإسلامى متعددة ومتشبعة ،ولكنها فى نفس الوقت متكاملة رغم تضادها وإشكاليات التضاد هى المسؤولة عن إيجابيات تطور الفكر الإسلامى قديما ،وسلبياته فى فكرنا المعاصر ،إن إشكالية النفس كصورة للجسم فى المذهب الأرسطى جعلت ابن سينا يبحث عن حل جذرى بفصله الجوهر العقلى عن الجوهر المادى محدداً إياه بأن ماهيته معقوليته ومعقوليته ماهيته ،وهذا التطابق بين الجوهر العقلى ووجوده الذى عبر عنه ديكارت بالكوجيتو ،هو الذى بنى عليه ابن سينا منهجه فى تحديد مذهبه الفلسفى بأكمله ،وبهذه المطابقة فى الهوية وضع ابن سينا القاعدة الأساسية للمنطق الصورى ،مما جعله يكتشف أن أحكام الرياضيات تركيبيةرغم صورتها . إن إشكاليات العلاقة بين الأحكام التحليلية و التركيبية فى المذهب السينوى تظهر بوضوح فى مبحثى العلم الطبيعى والوجود ،وقد رأى البعض المتكلمين وعلى رأسهم المعتزلة بضرورة البحث عن صورة جديدة لمنطق الأحكام التركيبية عرف عندهم بنظرية الأحوال وسمى حديثا بالمنطق المتسامى (الترنستدتتالى) 96. إن إشكاليات المنطق الصورى والمتسامى بالنسبة لأحكام العلم الطبيعى جعلت بعض الأشاعرة ،وعلى رأسهم الغزالى يحدد المنهج التجريبى للعلم الطبيعى من خلال النقد لتحديد صفة الحكم . ومع هذا نجد الغزالى يسلم بمبدأ الهوية بمعناه التقليدى ،ومن ثم يقتفى أثر ابن سينا فى تحديده للأحكام الصورية التحليلية والأحكام التركيبة فى العلم الرياضى (97). ولكن سرعان ما انكسرت زجاجة تقليده حينما اكتشف الغزالى أن مبدأ الهوية بمعناه التقليدى مبتور خاصة من زاوية علاقة التضمن وذلك لما هذه العلاقة من تداخل يؤدى إلى الكثرة فى وحدة مبدأ الهوية . وهكذا يكتشف فى (المقصد الأسنى فى أسمائه الحسنى) وجهين جديدين يسميهما : المتداخل ووحدة الموضوع ،وبهذين الوجهين يضع فى نفس الكتاب نظريته فى الأوصاف التى نجدها تتكرر عند برتراند رسل B. ussalleكما هى فى الفكر الأوروبى المعاصر . إن وجه التداخل فى الهوية يجعل الغزالى يكتشف منطق كم المحمول من خلال تحديده لعلاقات الصفات السبعة بالذات الإلهية .
أما وجه الكثرة فى وحدة الهوية فمدده إلى اكتشاف الشئ بذاته عند الغزالى والذى يكون أحد قطبى نقد العلية فى مذهبه ،وبالأحرى يمثل الشئ بذاته القطب الموجب لتأسيس المذهب التجريبى ،وهذه الإيجابية هى التى يقام عليها الحساب المنطقى والدرية المنطقية ،إن هذه الدرية تظهر بوضوح فى كتاب (المعارف العقلية) الذى يقيمه الغزالى على مسلمة المسلمات {وأحصى كل شئ عدداً} . يطابق الغزالى فى هذا الكتاب بين الوحدة والكلمة ويصل به التحليل من خلال حذف اللغو والكلام الذى لامعنى له إلى المطابقة بين المنطق واللغة والرياضة وغيرها ،وهذا ما أوضحناه فى بحثنا بخصوص (تأسيس المنطق الرياضى عند الغزالى)(98)
إن اكتشاف الشئ بذاته عند الغزالى هو المسؤول عن تطوير المنهج الجدلى فى الفكر الإسلامى من خلال إثبات التناقض فى كل مفهوم (99)إلى تناقض علم النفس النظرى (100) ،وهو المسؤول عن التكافؤ فى الأدلة من تكافؤ علم الكون النظرى إلىى التكافؤ الرياضى (101)، ورغم تنميط الغزالى لهذا التكافؤ فإن علاقة الكلى بالجزئى لعبت دوراً أساسيا فى تطوير منهج العلوم الإنسانية (102) .ولكن ما يهمنا فى الدرجة الأولى تكافؤ أدلة علم الكون النظرى الذى بسبب تنميطه جعل تهافت الفلاسفة يهدم البناء الميتافيزيقي السينوى كعلم ليضعه الغزالى موضوع إيمان ،محذرا العقل بالتفكير فى الوجود الإلهى والتوجه بالتفكير إلى مخلوقاته على اعتبار أن الخلق بمعناه اللغوي يعنى التقدير المكمم والمحدد بالزمان والمكان . وقد كان لهذا التحذير جدواه فى الفلسفة الإنجليزية من هيوم إلى الوضعية العلمية المعاصرة رغم ما لهذه الجدوى من محاذير وتحريفات (103)
إن سلبيات تفكيرنا العربى المعاصر تمثلت فى الاعتقاد بمعجزة الفلسفة الحديثة ومناهجها ،وتكون هذا الاعتقاد بفعل التواتر المكذوب فانطبع على القلوب ،وما محاولتنا هذه وغيرها المبثوثة فى كتبنا ودراساتنا الأخرى إلا من أجل الكشف عن نقاب الأوهام ،وإن قد يعدها البعض أوهاما لما للعادة كمنهج للاعتقاد من قدرة على إخفاء نفسها ،وهذا هو الجانب السلبى للمنهج التجريبى للقياس الاستقرائى اللاشعورى (104).
المراجع والملاحظات
(1) يحاول ابن رشد فى ((تهافت التهافت))أن يرد على نقد العلية فى المسألة رقم 17 من ((تهافت الفلاسفة))بصورة إجمالية ،حيث يقول بأن فعل العلة صفة ذاتية ،ولكن الغزالى يثبت عكس ذلك ؛لأن العلاقة بين العلة والمعلول لا تخضع لمبدأ الذاتية . ولم يجد ابن رشد حلاً لهذا البرهان المنطقى سوى أن يرده لمكتشفه ألا وهو أبو المعالى الجوينى .
(2) انظر كتابا : ((الاستشراق وتغريب العقل التاريخى ))الذى أوضحنا فيه بأن المسلمين اكتشفوا وحدات : العقل الضرورى والتجريبى السامى والمتسامى بفضل تحليلهم لمبحث الصفات الإلهية ،وهذه الوحدات العقلية هى التى اعتمد عليها الفكر الأوربى من القرن السابع عشر الميلادى حتى يومنا هذا . الكتاب تحت الطبع من منشورات المجلس القومى للثقافة العربية ) .
(3) أبو حامد الغزالى : ((كتاب محك النظر ))ص 50 ،الطبعة الأولى ،(ب ق) .
(4) يقول الغزالى : ((من مارس العلوم يحصل له على .. طريق الحدس والاعتبار قضايا كثيرة لا يمكنه إقامة البرهان عليها ،ولا يمكنه أن يشك فيها ،ولايمكنه أن يشرك فيها غيره بالتعليم إلا أن يدل الطالب على الطريق الذى سلكه واستنهجه ))انظر ((معيار العلم))لحجة الإسلام محمد الغزالى ، ص134 ،الطبعة الثانية سنة 1927 م .
(5) جابر حيان ،كتاب ((الميزان))ص 34 ،تحقيق كراوس .
(6) راجع : جلال موسى : ((منهج البحث العلمى عند العرب))،ص 132،(دار الكتاب البنانى سنة 1972 م )
(7) نفس المصدر ، ص 133 .
(8) ((معيار العلم ))(مصدر سابق) ، ص 122 .
(9) نقلا عن جلال موسى : منهج البحث العلمى عند العرب ، ص 133 ،هامش .
(10) يضع ابن سينا قاعدة اللاتمايز فى النجاة ،والتى تقول : (لايوجد وقت أولى من وقت ) . لحدوث العالم زمانيا ،تساوى الأوقات عند ابن سينا هو الذى قابله الغزالى فى المسألة الأولى من التهافت بتساوى الجهات ليثبت فيما بعد أن التمايز بخصائص الزمان والمكان يرجع إلى الإرادة الإلهية القديمة وذلك على العكس من ابن سينا الذى يرد اللاتمايز إلى الكمال الإلهى والتمايز بالمكان إلى مبدأ عدم التناقض قارن بهذا الصدد كتابنا (الاستشراق وتغريب وتغريب العقل التاريخى) .
(11) قارن كتابنا : ((تأسيس العلوم عند العرب))،ص 50 إلى 55 ،مطابع الثورة العربية ،سنة 1989 .
(12) يطرح ابن الهيثم نظريته فى المطابقة بين المكان والمتمكن فى رسالته عن الضوء ،ويوظفها كفرض فى نظرياته الأخرى مثل تربيع الدائرة والجبر وحركة الضوء وغيرها .
(13) قارن كتاب( طريق ابن الهيثم إلى الفيزيقا ) شرام : Mathias Schramm ;IBN Al – Haithams
Weg Zur phgnik s . 181 – 189 steiner rerlyg wiesbaden
(14) وضع الأشاعرة نظرية الخلق المتجدد من أجل رد الفعل فى الطبيعة إلى الخالق ،وهذه النظرية اهتم بها مالمبرانش فى الفكر الأوروبى الحديث .
(15) قارن القواعد الثلاثة (السادسة والسابعة والثامنة) من كتاب ديكارت (قواعد لهداية العقل)
Descartes ; Regulae Directis mem ad Inglmii
(16) نقلا عن كتاب شرام ((طريق ابن الهيثم إلى الفيزياء))(سبق ذكره) ،ص199 .
(17) ((مجلة المسلم المعاصر ))،ص 21 ،سبتمبر سنة 1987 م .
(18) مصطفى نظيف : ((الحسن بن الهيثم))،ج 1 ، ص 124 .
(19) نفس المصدر ، ص 139 .
(20) ابن الهيثم : ((رسالة فى الضوء)) ، ص 61 .
(21) نفس المصدر ،ونفس الصفحة .
(22) كمال الدين الفارسى : ((تنقيح المناظر))،ج 1 ص 13 .
(23) يضع الغزالى مصطلح (الأوهام العارضة للنفس) ،ويقابله فرنسيس بيكون بمصطلح أوهام العقل Idolae mentis،و لكن الغزالى يرفض أن تكون للعقل اوهام .
(24) انظر شك الغزالى فى مطلع ((المنقذ من الضلال)).
(25) نفس المصدر .
(26) سورة الروم : آية 32 .
(27) الغزالى : ((معيار العلم))(مصدر سابق) ، ص 131 .
(28) نفس المصدر ص 132 .
(29) راجع كتابنا (مواقف ومقاصد فى الفكر الإسلامى المقارن) ،الدار العربية للكتاب ، سنة 1982 م .
(30) انظر((معيار العلم ))، للغزالى ،ص 126 ، وما بعدها .
(31) نفس المصدر ص 129 .
(32) انظر شك الغزالى فى العلوم الضرورية كما فى مطلع ((المنقذ))،وقارن نقده لدليل واجب الوجود موجود ،فى المسألة الثالثة من التهافت .
(33) انظر شك الغزالى فى مطلع ((المنقذ من الضلال)).
(34) ابن الهيثم : ((رسالة فى الضوء)) ، ص 60 .
(35) كتاب شرام : ((طريق ابن الهيثم إلى الفيزيقا ))(مصدر سابق) ص 196 .
(36) نفس لمصدر ،ونفس الصفحة .
(37) نفس المصدر ، ص 197 .
(38) قارن : فرنسيس بيكون ((الأورجانون الجديد))فقرة 12 .
(39) نقلا عن كتاب شرام : ((طريق ابن الهيثم إلى الفيزيقا ))ص 196 .
(40) نفس المصدر ص 198.
(41) نفس المصدر ص 199 .
(42) ابن الهيثم : ((رسالة فى الضوء)) ،ص 29 .
(43) نفس المصدر ونفس الصفحة .
(45) انظر جلال الدين موسى : ((منهج البحث العلمى عند العرب))،ص 11 ،دار الكتاب اللبنانى بيروت 1972 .
(46) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم))، ص 102 .
(47) نفس المصدر ونفس الصفحة .
(48) نقلا عن : ((جلال موسى ))،((منهج البحث العلمى عند العرب))،ص 111 .
(49) نفس المصدر ص 110 .
(50) نفس المصدر ص 112 .
(51) مصطفى نظيف : ((الحسن بن الهيثم))،ج 1 ،ص 38 .
(52) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم ))، ص 102 .
(53) نفس المصدر ص 111 .
(54) نفس المصدر ص 103 .
(55) قارن على سامى النشار : (مناهج البحث عند مفكرى الإسلام ))،ص 111،دار المعارف مصر ،سنة 1965 م .
(56) نفس المصدر ص 112 .
(57) نقلا عن كتاب شرام ٍSchramm((طريق ابن الهيثم إلى الفيزياء))، ص196 .
(58) أبو حامد الغزالى ((معيار العلم ))،ص 107 .
(59) أبو المعالى الجوينى ((برهان فى أصول الفقه )) ،ص 815 ،دار الأنصار ،القاهرة ،1400 هجرى .
(60) قارن نص ابن الهيثم المتعلق بالملاحظة رقم 39 من هذا البحث .
(61) قارن – على سامى النشار :((مناهج البحث عند مفكرى الإسلام ))،ص 120 .
(62) قارن على وجه الخصوص الرسالة الثانية من ((جامع البدائع ))فى تفسير الصدمية للشيخ الرئيس الطبعة الأولى ،سنة 1917 .
(63) على سامى النشار : (مناهج البحث فى الفكر الإسلامى )،120 .
(64) نقلا عن كتاب شرام : ((طريق ابن الهيثم إلى الفيزيقا ))ص 196 ، وما بعدها .
(65) على سامى النشار : ((مناهج البحث عند مفكرى الإسلام ))، ص124 .
(66) قارن G . Joos Lethrbuch der theoretischen physic 6 . auf . leibzig 1945 . 940
(67) على سامى النشار : ((مناهج البحث عند مفكرى الإسلام ))، ص 124 .
(68) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم ))، ص 102 .
(69) قارن أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم))، ص 109 إلى ص 114 .
(70) نفس المصدر ص 122 .
(71) تكرر مثل هذه الظاهرة عند كانط كما فى كتابه ((نقد العقل المجرد)) حيث يعتقد فى المقولات الاثنى عشر التى وضعها الغزالى فى المسألة الأولى من التهافت ،وطبقها على المسائل من رقم 5 إلى رقم 16 ،والفرق هو أن الغزالى اعتبر هذه المقولات أموراً عامة ،ولم يحدد أسماءها فى التهافت وإن أشار إليها فى معيار العلم . قارن كتابنا السالف الذكر : ((مواقف ومقاصد فى الفكر الإسلامى المقارن ))،الموقف الثانى – المقصد الثالث .
(72) أبو حامد الغزالى : ((تهافت الفلاسفة))مسألة رقم 17 .
(73) أبو حامد الغزالى : ((المنقذ من الضلال ))،ص 11 ،بيروت ،1969 .
(74) نفس المصدر ،ص 12 .
(75) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم))ص 33 .
(76) يميز الغزالى فى ((معيار العلم))فى الفصل الثانى من مدارك اليقين بين القانون الطبيعى والقضايا الحسية حيث يرى أن المجريات (يعبر عنها باطراد العادات مثل حكمك بأن النار محرقة والحجر هاو وإلى الأرض . وهذا غير المحسوسات ،لأن مدارك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض ،فهو قضية عامة لا قضية فى عين فليس للحس إلا قضية فى عين ) .
(77) نفس المصدر ،نفس الأصل .
(78) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم))،ص122 .
(79) راجع ،أبو حامد الغزالى : ((تهافت الفلاسفة ))المسألة رقم 17 .
(80) نفس المصدر ونفس المسألة .
(81) نفس المصدر ونفس المسألة .
(82) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم )) ،ص 122 .
(83) أبو حامد الغزالى : ((تهافت الفلاسفة))مسألة ،رقم 17 .
(84) نفس المصدر ونفس المسألة .
(85) أبو حامد الغزالى : ((معيار العلم))ص 122 .
(86) أبو حامد الغزالى : ((تهافت الفلاسفة))،مسألة رقم 17 .
(87) نفس المصدر ونفس المسألة .
(88) أبو حامد الغزالى : معيار العلم ،ص 122 .
(89) يسمى الغزالى الصدفة الأمر الاتفاقى أو العرض غير اللازم ،قارن نفس المصدر ،ونفس الصفحة .
(90) أبو حامد الغزالى ((تهافت الفلاسفة))،المسألة الأولى .
(91) أبو حامد الغزالى : ((المقصد الأسنى فى أسماء الله الحسنى))،ص 83 ،مكتبة الجندى ،سنة 1968 م .
(92) نفس المصدر ،ونفس الصفحة .
(93) أبو حامد الغزالى : ((الاقتصاد فى الاعتقاد))،صص 100 ،مطبعة محمد على صبيح وأولاده ،1982 م
(94) نفس المصدر ونفس الصفحة .
(95) نفس المصدر ونفس الصفحة .
(96) قارن كتابنا : ((الاستشراق وتغريب العقل التاريخى))،الوحدة الثانية ،المبحث الأول تأسيس المنطق المتسامى .
(97) راجع كتابنا : ((مواقف ومقاصد فى الفكر الإسلامى المقارن ))، الموقف الثالث ،المقصد الأول .
(98) قدم هذا البحث لمؤتمر التراث الذى تعقده أمانة البحث العلمى بالجماهرية فى 17/ 12 / 90 / وقد أوضحنا فيه أن الغزالى باكتشافه لوجهين جديدين من أوجه الهوية ،ألا وهما التداخل والكثرة فى وحدة الهوية استطاع أن يضع نظريته فى الأوصاف والتى من خلالها اكتسف منطق كم المحمول والحساب المنطقى .
(99) قارن : أبو حامد الغزالى ،((محك النظر))،ص 106 .
(100) قارن كتابنا : ((الاستشراق تغريب العقل ))تأسيس المنهج الجدلى .
(101) استطاع الغزالى أن يحل إشكالية {وأحصى كل شئ عددا} من خلال قوله بأن العاد لا يدخل فى المعدود ،وهذا ما فعله رسل B.rassel فى كتابه مبادئ الرياضة . انظر بحثنا السالف الذكر (تأسيس المنطق الرياضى عند الغزالى) .
(102) قارن كتابنا : تأسيس العلوم عند العرب . القسم الرابع – الوحدة الأولى .
(103) حاولت الوضيعة العلمية أن تتميز عن الغزالى برفضها للميتافيزيقا على اعتبار أنها لا معنى لها بينما يؤكد الغزالى على أن الميتافيزيقا موضوع إيمان ،وهى شرط المعرفة .
(104) انظر كتاب محمد وقيدى : ((بناء النظرية الفلسفية))،الذى يريد تحريم مقارنة الفلاسفة الإسلامية بالحديثة ،وإن كان يرضى مقارنتها بالفلسفة الأوروبية القديمة ،وذلك قياساً على ما يدعيه العرب الغرب .