في بداية هذه المساهمة, نود باسم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة أن نحيي هذا الجمع المبارك, ونتوجه بتحية إكبار تليق بمقام راعيه, صاحب السمو ولي العهد الأمير الحسن بن طلال, الذي عرفت فيه الأمة الإسلامية الرجل العالِم, والباحث الفذ, ومشجع نوادي العلم والعلماء.
كما نتوجه بعبارات الشكر والتقدير للمَجْمَع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ( مؤسسة آل البيت ) التي وفقت في الدعوة إلى هذا اللقاء الإسلامي الهام, وألهمت في اختيار موضوعه الذي يعتبر من أدق الإشكاليات التي يواجهها عالمنا الإسلامي, وهذا شئ ليس بغريب على مؤسسة علمية رائدة أنشأها جلالة الملك الحسين بن طلال المعظم لتنهض بأعباء البحث والدراسة في القضايا التي تشغل اهتمام العالم الإسلامي, وعين على رأسها رجلاً من أكفأ العلماء وأقدرهم على العطاء معالى الدكتور ناصر الدين الأسد رئيس الْمَجْمَع الموقر.
حضرات السادة :
إن الموضوع المقترح لأشغال ندوتنا هذه من المواضيع التي تفرض على عالمنا الإسلامي أن يجد لها الأجوبة الحاسمة بأسرع وقت ممكن؛ لأنها تمس جوهر فلسفة التضامن الإسلامي الذي يفترض التكامل بين مكونات العالم الإسلامي في مختلف المجالات بدءاً من السياسة وانتهاءً بمجالات الفكر المختلفة, مروراً بميادين التجارة والصناعة والزراعة والخدمات .. الخ وإذا كانت وسائل وطرق التكامل وطرقه تختلف وتتعدد من مجال إلى مجال حسب الزمان والمكان, فإن تنسيق الجهود ابتداء من التصور وانتهاء بالتطبيق الملموس يعتبر دون شك من أنجح الوسائل وأبلغ المنافذ في تحقيق الأهداف وإصابة المرامي, وهذا ما يبرر دراسة هذا الموضوع في ندوة من هذا المستوى الرفيع.
ومما لاشك فيه أن موضوع التنسيق والتعاون على مستوى العالم الإسلامي قد أسال من المداد واستقطب من اهتمام رجال السياسة والمفكرين الشئ الكثير, وسيظل كذلك لفترة قد لا تكن قصيرة, لأنه موضوع شاسع ومتشابِك والمساهمة فيه انطلاقاً من محاور محددة واهتمامات تخصصية تعتبر في نظرنا من المحاولات الموفقة لذلك نثمن من جديد اختيار موضوع “التنسيق والتعاون بين مؤسسات البحوث والدراسات وتطبيقاتهما في إطار الفكر الإسلامي “, لهذا الملتقى واستدعاء العديد من المنظمات والمؤسسات المهتمة بهذا الموضوع فيها الحكومي وغير الحكومي, ومن بينها ذات الصِبغة الوطنية ومن له صفة الدولية, ومن شأن تلاقح أفكار نخبة من العلماء هذه اهتماماتهم أن ينير الطريق ويصل إن شاء الله إلى نتائج ملموسة تعود بالخير العميم على العمل الإسلامي المشترك.
وقبل محاولة تحليل الموضوع من وجهة نظرنا, نستسمحكم في وقفة قصيرة أمام ورقة العمل الخاصة بهذه الندوة التي تفضل المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بتعاون مع الأكاديمية الإسلامية للعلوم مشكورين بإعدادها ووضعها رهن إشارة المشاركين لتوجيع أشغالنا.
فقد حددت الورقة منطلقين فكريين يمكن تلخيصهما على النحو التالي :
أولاً : أن قيام التنسيق والتعاون ضروري على مستوى المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي.
ثانياً : أن التنمية ( التي يتوخاها عالمنا الإسلامي ) تعتمد على بناء قدرات علمية وتكنولوجية ضمن إطار الفكر الإسلامي.
كما حددت الورقة أربعة أهداف يجب الوصول إليها من خلال التنسيق والتعاون والاختيارات لتصل إلى وسائل التنفيذ الثلاث المقترحة.
ودون شك, فإن هذه الأهداف النبيلة المسطرة في الوثيقة تعتبر محل اتفاق, ويمكن أن يضاف إليها وأن تشمل الإضافات الخيارات المتاحة ووسائل التنفيذ المقترحة, إلا أن منطلق الرؤية يستوجب بعض التوضيح, ونسارع إلى القول إنه يبدو مقيداً في الإطار الذي حدد له مع أن المجال شاسع ومتشابك, ومرتبط بموضوع التنمية في معناها الواسع, غاية الغايات في مجتمعاتنا الإسلامية.
والتنمية كما نعرف جميعاً ذات أبعاد متعددة, ومجالات الاختيار فيها شاسعة وأولويات العمل فيها تختلف حسب تنوع الرؤى وتغير الظروف الزمانية والمكانية وإلحاح الحاجات, وطبيعي أن ينعكس ذلك كله على الاختيار في مجال البحث العلمي بمعناه الواسع, وبالتالي على ترتيب الأسبقيات في هذا المجال الأخير, وما يتبع ذلك حتماً من رصد الاعتمادات وتوفير المناخ اللازم للبحث والاستئناس بالنتائج المتوصل إليها.
من هنا تتأكد ضرورة الاتفاق بشكل لا غموض فيه على المنطلقات في كل معالجة لأية قضية, وبالتالي حتمية العودة إلى البدء ولو أدى ذلك إلى توضيح البديهيات حتى نتفق على المفاهيم.
لذلك سنحاول أن نعلق بعض الشئ على المنطلق الثاني كما ورد في ورقة العمل. أي : أن التنمية تعتمد على بناء قدرات علمية وتكنولوجية ضمن إطار الفكر الإسلامي فأي علم وأية تكنولوجيا ؟
يعرف ” العلم ” في القواميس المعاصرة بأنه ” مجموعة المعارف والأبحاث التي بلغت حداً معيناً من الوَحدة والعمومية قادرة على إيصال الإنسان المتفرغ لها إلى نتائج متطابقة ليست مستخلصة من الإتفاقات الإرادية, أو الأذواق أو المصالح الشخصية, ولكنها محصلة لعلاقات الموضوعية التي يكشفها الإنسان بالتدريج, ويتأكد من صدقها بطرائق التحقق المحددة “.
في حين أن التكنولوجيا تعرف بأنها : ” مجموعة التقنيات والوسائل المادية التي يكتشفها العلم ويصنعها وتستخدم لأغراض محددة من طرف مجموعة من البشر يستوعبونها مع قدرتهم على استغلالها في زمان معين ومكان معين ” (1).
إن التعريف الذي سلف ” للعلم ” يسمح بملاحظة أنه إنما هو تعريف لنوع معين من العلم نقصد ذلك العلم كما تعرفه الحضارة الغربية, أي العلم التجريبي القادر على استنطاق الطبيعة وفهم ظواهرها وبالتالي تسخيرها لما يرى الإنسان أنه مصلحته. وبمقتضى تعريف التكنولوجيا فهي وسيلة تحقيق ذلك بصفتين : الأولى باعتبارها التطبيق العملي للنتائج التي يتوصل إليها هذا العلم, والثانية باعتبارها أداة لتطوير البحث العلمي نفسه, وتمكينه من المزيد من التدقيق والفهم وبالتالي من المزيد من التحكم في الطبيعة وتسخيرها.
ودون أن نطيل الوقوف عند تاريخ نشأة هذا التصور لمفهوم العلم كما يفهمه الغرب, ومختلف المراحل التي مر بها, وطرق تسريبه إلى العالم الثالث وعالمنا الإسلامي من ضمنه, وتقديم هذا ” العلم ” بأنه العلم الكوني وأنه معيار الفصل بين ما هو علمي وما ليس ذلك, نسارع إلى القول إن الرؤية الفلسفية والأيديولوجية الكامنة خلف هذا التعريف مرفوضة في إطلاقيتها لسببين :
الأول : أن تعريف العلم هذا الذي يرجعه مؤرخو العلوم إلى ” ديكارت ” أصبح محل النقد من قبل الغربيين أنفسهم حيث تبين قصوره وبرزت مخاطره, وما جره على الحضارة الغربية نفسها من مشاكل وأزمات سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات, أو ما سببه من مشاكل للمنتظم الدولي ككل.
والثاني : أن هذا التعريف لا يستجيب لنظرتنا كمسلمين إلى ” العلم ” بصيغة المفرد وإلى مفهومه طبقاً لما ورد في القرآن الكريم ولما عرف به المجتمع الإسلامي العلوم بمختلف أشكالها وفروعها وغاياتها وطرائفها. هذا التعريف يحصر المعرفة فيـما هو حسي وملموس وقابل للتجربة, وينكر كل معرفة علمية لا تستند إلى هذا المعيار, ونحن كمسلمين لنا منظور للعلم لا يتفق مع هذا المعيار, لذلك فهذا التعريف للعلم يلبي جزءاً من نظرتنا إلى العلم فقط, نعني العلوم التجريبية. وبناء عليه فيمكن تعريف العلم من المنظور الإسلامي بأنه مفهوم يقصد به كل معرفة يكتسبها أو يكشفها أو ينتجها الإنسان, والمعرفة هنا ليست من جنس المعارف الظنية أو الرأيية المبتذلة, بل هي المعرفة الموثوق في صحتها وتدخل فيها المعارف اليقينية التي جاءت من مصدر ديني عن طريق الوحي والهدي النبوي. ومن ثَم فالمعرفة العلمية إدراك موضوعي مبني على التأمل والبحث والتجربة.
وما يهمنا من إثارة هذه الملاحظات هو أنه رغم إقرارنا بضرورة امتلاك العلم والتكنولوجيا ولزومهما لكل تنمية داخل العالم الإسلامي, فإن دورهما في هذه التنمية لا يؤديه إلا الإنسان المسلم القادر على المساهمة في إنتاج المعرفة العلمية بمختلف أنواعها وإبداع التكنولوجيا المستخلصة من نتائج البحث العلمي والملائمة لواقع بيئة المجتمع الإسلامي والمستجيبة لمتطلباته. ولا نعني بذلك أن على العالم الإسلامي أن يرفض معطيات العلم والتكنولوجيا كما تطورت في المجتمعات الصناعية الحالية, ولكن ما نعنيه هو أن أية قدرات علمية وتكنولوجية تتوفر في هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الإسلامي لا يمكن أن تخدم تنمية هذه المجتمعات إنْ هي اقتصرت على نقل المعرفة العلمية والأدوات التكنولوجية من العالم المُصَنِّع واستهلاكها, بل لابد لها أن تساهم في إنتاج المعرفة العلمية وأن تبدع التكنولوجيا الملائمة لواقعنا وحاجياتنا وَفق رؤيتنا الحضارية الخاصة بنا, وتماشياً مع قيم ديننا الحنيف.
هنا يأتي الدور الذي على مؤسسات البحث العلمي أن تلعبه, لكن إذا تساءلنا عن نوعية هذه المؤسسات وعددها داخل عالمنا الإسلامي, وعن واقعها من حيث المشتغلون فيها والإمكانات الموضوعة رهن إشارتها, ومدى فعاليتها في مجالات تخصصاتها, وتأثير نتائج أعمالها على أصحاب القرار السياسي, ومدى ارتباطها بالقطاعات المنتجة داخل مجتمعاتها إذا تساءلنا عن ذلك كله أدركنا من جديد حجم المشاكل التي تعترضنا, ومشروعية السؤال من أين نبدأ.
وحين نتجاوز هذا المستوى من التحليل ونصل إلى مستوى تنسيق العمل وتحديد إطار للتعاون فيما بين هذه المؤسسات, سنجد أنفسنا من جديد أمام مجموعة من التساؤلات لا حصر لها, مثل أي نوع من أنواع المؤسسات يجب أن تتكامل أعمالها وتنسق فعالياتها. وهل سيتم ذلك على مستوى الوطن الواحد أم على مستوى العالم الإسلامي ككل ؟ أم على المستويين معاً ؟ وكيف ستواجه الفروقات والمستويات المختلفة لهذه المؤسسات بين هذا البلد وذاك, وبين هذه الجهة وتلك ؟ وكيف سنحل مشكلة الاعتمادات المرصودة والأولويات المحددة لكل مؤسسة على حدة من قبل السلطة المشرفة عليها ؟
إن تسلسل أسئلة من هذا النوع لا ينقطع وبقدر ما نتعمق في طرح الأسئلة بقدر ما يزداد عمق حيرتنا, لذلك نقترح أن نلقى نظرة سريعة على واقع العالم الإسلامي وواقع مؤسسات البحث العلمي فيه, علنا نتلمس بعض عناصر الجواب لبعض الأسئلة المطروحة هنا, ومن ثَم لبعض أشكال التعاون والتكامل فيما بين بعض المؤسسات الإسلامية في هذا الإطار.
ما هو عالمنا الإسلامي ؟
إنه العالم الذي يقدر عدد سكانه بحوالي مليار ومائتي مليون نسمة, يعيشون على مساحة تبلغ ثلاثة ملايين هكتارا أي ما يعادل 21,3% من مساحة العالم, تمتد من المحيط الأطلسي غربي إفريقيا, إلى المحيط الهادي شرقي آسيا, ومن جنوب خط الاستواء إلى خط العرض 55 شمالاً في بلاد التتار. ويندرج هذا العالم ضمن 46 دولة أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي, وتتكلم شعوب هذا العالم لغات متعددة أبرزها العربية والإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية والبربرية والملاوية والبنغالية والأردية والروسية والسلافية والسواحلية والهوسا والولوف .. الخ. بالإضافة إلى اللهجات الفرعية المتعددة.
وهو عالم من الناحية الجغرافية يحتل المواقع الاستراتيجية بحيث يقع على المضايق المائية الحيوية ويشترك في امتلاك البحار, ويتوفر على ثروة اقتصادية كبيرة وهائلة.
ولكن من سماته تفشي الأمية التي يبلغ معدلها العام 52,88% حسب إحصاءات الإيسيسكو لسنة 1985, وتتراوح بين 88,4% كأعلى نسبة في الصومال و 10% في العراق وبين 76% في أفغانستان و30% في الكويت.
ومن سماته أيضاً ازدواجية الأنظمة التعليمية وعدم كفاية هذه الأنظمة, فهي لا تستوعب من الأطفال في التعليم ما قبل المدرسي إلا 3.340.700 طفل, ومجموع المدارس المتخصصة لهذا النوع يبلغ 74.462 مدرسة على امتداد العالم الإسلامي يؤطرهم 143.486 مربي أمريكا وحاضن.
أما على مستوى التعليم الابتدائي فعدد التلاميذ يبلغ 91.666.819 يدرسون في 483.443 مدرسة يؤطرهم 3.178.374 مدرساً, وفي المرحلة الثانية بما فيها العامة والتقنية ينزل هذا العدد إلى 33.680.000 تلميذ وتلميذة يؤطرهم 2,171,000 أستاذاً. ويصل من هذه الأعداد إلى التعليم العالي 4.135.043 طالب وطالبة أي 3,11% من عدد السكان يؤطرهم 230.678 أستاذاً. وحين نصل إلى نسبة الخريجين من الجامعة نجد فقط نسبة 0,58% من مجموع السكان.
وينفق العالم الإسلامي على النظام التعليمي بما فيه نفقات البحث العلمي 16,11% من مجموع نفقات دوله.
ومقابل هذا الواقع تطلعنا أرقام الدول المصنعة علة أنها استطاعت أن تستوعب نسبة 90% من الأطفال البالغين سن الدراسة, وفي أمريكا الشمالية بلغت هذه النسبة 100%, ونسبة الاستيعاب الجامعي في الدول المصنعة بلغت 32,7% سنة 1985. أما في أمريكا الشمالية فهي 50,7% (2).
وفي ميدان انتشار المعرفة نشير إلى أنه في ميدان المنشورات يقارب ما يصدر عن العالم الإسلامي حوالي 150.000 كتاباً سنوياً مقابل 420.000 في أوروبا مع اختلاف الحجم السكاني بين العالمين, وإذا قسمنا هذا العدد على السكان ينوب كل مليون نسمة من عناوين الكتب في العالم الإسلامي 120 كتاباً مقابل 400 كتاباً في أمريكا الشمالية و550 كتاباً في أوروبا لكل مليون ساكن.
أما عدد المجلات والجرائد اليومية التي تسحب في العالم الإسلامي مقارنة بغيرها التي تسحب خارجه فتكفي الإشارة إلى أنه تنشر في الولايات المتحدة الأمريكية 3030 جريدة يومية مقابل 1500 جريدة في العالم الإسلامي على أحسن تقدير, بينما تصل في أوروبا إلى 2500 جريدة (3).
ومجمل القول فإن العالم الإسلامي شأنه شأن دول العالم الثالث يتميز ب :
– أن جل دولة عرفت الاستعمار بمختلف أجناسه ومذاهبه, وكلها ترك عليها الاستعمار آثاراً ورواسب, ولكنها تنتمي إلى فصيلة واحدة وهي فصيلة التخلف والاستلاب الثقافي, إذ كلها ذهب الاستعمار عنها وتركها مجزأة إلى هَوِيَّات ثقافية وفكرية مجزأة, وكلها سارت على نفس الطريق, فحررت نفسها بنفسها بوسيلة أو بأخرى وكلها تطمح للتغيير, وتواجه نفس التحديات, وأبرزها رغبتها المشروعة في إعادة الاعتبار لثقافتها الوطنية. والمشكل السياسي أيكون العالم الإسلامي أو لا يكون ؟ ومما لا شك فيه أن القوى المتحكمة في مصير العالم لا تريد له أن يكون ؟ ومشكلة بناء الذات وما يترتب عليها من إشكالية الانتماءات فإلى أي معسكر ينتمي العالم الإسلامي ومع من يتحالف ؟ ومن أين سيقتني أسلحته؟ ومشكلة تعدد المذاهب إلى آخر القائمة.
وضعية البحث العلمي في العالم الإسلامي :
يتوفر العالم الإسلامي على حوالي 960 مركزاً للبحث ويصل عدد الجامعات فيه إلى 316 جامعة تنضوي تحتها أكثر من 2000 كلية تغطي مختلف التخصصات. ولإعطاء هذه الأرقام دلالاتها نورد إحصائيات أخرى.
فقد وصل عدد المشتغلين في القضايا العلمية في العالم سنة 1980 إلى 3.756.100 عالم ومهندس, لكن جزءاً من العالم الإسلامي وهو العالم العربي لا يمثل إلا 34.000 من مجموع هذا العدد أي 0.9% وينوب عن كل مليون ساكن 212 عالماً ومهندساً في حين أن عددهم في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1980 هو 765.661 عالماً ومهندساً وينوب عن كل مليون نسمة 1247 عالماً ومهندساً. وفي أوروبا بلغ في نفس السنة 839.473 وينوب عن كل مليون نسمة 1735 عالماً ومهندساً وفي العالم الثالث بشكل عام بلغ العدد 420.028 في نفس السنة وينوب عن كل مليون نسمة 127 عالماً ومهندساً.
ويمكننا أن نستنتج أن عدد العلماء والمهندسين بالنسبة لكل مليون ساكن في العالم الإسلامي يتراوح بين 127 و212 للعالم العربي. أما نفقات البحث العلمي والتطوير فقد بلغت في العالم سنة 1980 ما مجموعه 207.801 مليون دولار أمريكي.
وقد بلغت نفقات البحث والتطوير بالنسبة للناتج القومي الإجمالي سنة 1980 في دول الشمال نسبة 2,23%, في دول الجنوب 0,45% وفي العالم الإسلامي بلغت هذه النسبة سنة 1987 : 0,1%. إنها أرقام تكشف عن الحقيقة المرة وهي تخلف البحث العلمي في العالم الإسلامي وتدني مستويات الإنفاق عليه مع ما يعنيه ذلك من نتائج على مستوى الجهود التنموية في عالمنا الإسلامي والفرق كما يقول هنري لوجير أستاذ العلوم في جامعة السوربون الفرنسية ” الفرق الجوهري بين دول نمت وحققت تقدمها بالفعل ودول أخرى ما تزال تعاني من وَهْدَة التخلف والتبعية إنما هو فرق يتمثل فقط في مجالات البحث العلمي ” (4).
يبدو من خلال الصورة التي رسمناها أعلاه, أن وضع العالم الإسلامي ينتظر منا العمل على أكثر من صعيد, وسنحاول هنا الإجابة على مجموعة من الأسئلة التي طرحناها من خلال ثلاثة محاور :
الأول : يهم وضعية البحث العلمي من حيث تنسيقه وتخطيطه على المستوى الوطني في الدول الإسلامية.
والثاني : يهم البحث العلمي من حيث تنسيقه وتخطيطه على المستوى الإقليمي وشبه الإقليمي.
والثالث : يهم دور المؤسسات الإسلامية المهتمة بتشجيع البحث العلمي والعمل على تنسيقه وتكامله على مستوى العالم الإسلامي من جهة والتكامل والتنسيق فيما بينها من جهة ثانية.
أولاً : على المستوى الوطني داخل الدول الإسلامية :
لاحظنا فيما سبق أن عدد مؤسسات البحث العلمي في عالمنا الإسلامي مقارنة بما يجب أن تكون عليه, وبالتحديات الحضارية التي تواجه عالمنا, لازالت لا ترقى إلى المستوى المطلوب, كما أن هجرة الأدمغة من هذا العالم تجاه العالم المصنع الذي تتوفر فيه أسباب البحث العلمي وشروطه دليل على أن واقعها من حيث الكفاءات المشتغلة فيها والإمكانات المالية المرصودة لها واقع مزري. وعلى سبيل المثال لا الحصر بلغت خسارة الجمهورية العربية السورية وحدها 200 مليون دولار في الفترة ما بين 1959 و 1965 من جراء هجرة أبنائها إلى خارج الوطن. ويكفي أن نعلم أنه خلال فترة لا تتجاوز سبع سنوات غادر ما يقرب من 37.603 عالماً سبعة بلدان هي سوريا والجزائر وتونس والعراق ولبنان ومصر والمغرب وتوضح التقديرات أن نسبة 50% من مجموع 16.492 عالماً ومهندساً وطبيباً التحقوا بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1970 قادمين من البلدان الإسلامية (5).
كما أن ملاحظة تدني مستوى التنمية في عالمنا الإسلامي رغم ما يزخر به من أعداد هائلة من المتخصصين في مختلف المجالات, دليل على عدم ارتباط البحث العلمي بالقطاعات المنتجة في عالمنا الإسلامي.
من هنا فالمطلوب على مستوى كل دولة من دول عالمنا أن تعمل على تحديد سياسة جديدة للبحث العلمي تساهم فيها الجامعات والكليات ومراكز البحث العلمي, بحيث تتطور فيها أنظمة الجامعات فلا تعود تقتصر على كونها مؤسسات لتخريج أطر تسعى بعد ذلك لنيل وظيفة في مكان ما, ولكن لتصير إلى جامعات ترتبط بالقطاعات المنتجة فتتوسع مخصصاتها, وترصد للبحث العلمي أغلب ميزانياتها, وتكون بالفعل مصدر إشعاع حضاري ومؤسسات لتخريج الباحثين في مختلف التخصصات قادرين على إنتاج المعرفة العلمية وإبداع التكنولوجيا الملائمة لبيئاتهم, وداخل هذه الرؤية يجب أن ترتبط البحوث التي تجرى داخل مراكز البحث المتخصصة بالجوانب التطبيقية التي لها انعكاس مباشر على مسار التنمية, كما أن هذه الأبحاث يجب أن تحدد على أساس الاستجابة للحاجيات الملحة التي تطرحها البيئة, وتساهم في تنمية المجتمعات الإسلامية علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وفكرياً, ولخلق جهاز مركزي على مستوى الدولة ككل من أجل تخطيط البحث وتنسيق مختلف مجهودات الباحثين.
ثانياً : على المستوى الإقليمي وشبه الإقليمي :
إن النهوض بالبحث العلمي ومواجهة التحديات التكنولوجية, لا تستطيع أية دولة إسلامية تحمل أعبائها بمفردها مهما بلغت إمكاناتها المادية, لذلك فالتعاون فيها بين دول العالم الإسلامي لا مندوحة عنه. ولكن للأسف الشديد فإن تجربة دولنا في هذا المجال تدفعنا إلى التساؤل عن وجود نية صادقة في التعاون, وذلك في نظرنا راجع لافتقاد الإرادة السياسية للتعاون الإسلامي ليس فقط في مجال البحث العلمي, بل في مجالات العمل الإسلامي المشترك بصفة عامة, والسبب في نظرنا يرجع إلى أننا لازلنا لم ندرك جيداً أن التعاون الدولي مظهر حضاري يثبت أن الدول تجاوزت مستوى التكتلات التي عرفتها البشرية في عهودها البدائية وأن هذا التعاون يقتضي شيئاً من التنازل عن السيادة الذاتية في بعض المجالات, وأنه دون هذا التنازل يستحيل الوصول إلى مشاريع مشتركة تتوحد فيها جهود المشاركين وإمكاناتهم الوصول إلى نتيجة يصعب على أي واحد بلوغها بمفرده.
كما أننا لازلنا لم ندرك أن البحث العلمي لا يمكن أن يزدهر ويؤتي ثماره إلا إذا تم في مناخ ملائم, أي في مناخ علمي وتربوي وثقافي, وداخل بيئة متعلمة ومشجعة للبحث العلمي وفي إطار دولة تؤمن بأن التنمية الثقافية أساسية في بناء الدولة العصرية. إن تجارب الدول تعلمنا بأن التي تقدمت من بينها وأصبحت متطورة هي التي اعتمدت ثلاثة أسس : أولاً : دعم السيادة السياسية, وثانياً : تطوير الاقتصاد, وثالثاً : تكوين المجتمع تربوياً وعلمياً وثقافياً. ويظهر أن منطق دولنا توقف في المستوى الأول مستوى العمل على المحافظة على الاستقلال, والبعض القليل تجاوزه إلى المستوى الثاني مستوى تطوير الاقتصاد ولكن بفهم متذبذب, أما المستوى الثالث وأقصد به إدماج التنمية الثقافية من منظور التنمية الشاملة واعتبارها أساساً لكل تطور له فلازلنا بعيدين عنه وهذا ما يفسر مواقفنا الحقيقية من التعاون الدولي. فقد نظر إليه بعضنا على أنه استكمال لصورة الاستقلال التي أريد لها أن تكون براقة, لتضفي علينا ظل العصرنة والتعقل بوجودنا فوق مقاعد الأمم المتحدة ومشتقاتها. وهكذا انخرطت دولنا في المنتديات العالمية ولكننا في العالم الإسلامي أقمنا مؤسسات ومنتديات عربية وإسلامية ودولية متعددة ولكن لا لنستفيد من هذه المنتديات, بل ليقال إن لنا منظمات جهودية دولية لذا ظللنا نتجاهل وجود مؤسساتنا ونستهين حتى بالناجح الفعال منها متطلعين إلى المساهمة في العمل الدولي الواسع والتعامل مع مؤسساته, كما لو كان ذلك يغنينا عن عملنا الجهوي الأساسي أو يعفينا منه. وبديهي أن الدول التي لا تفكر في الاستفادة من المنظمات التي أنشأتها وحددت لها أهدافها ووسائل عملها, لن تستطيع أن تستفيد من المنتديات الأممية التي التحقت بها لأن الفعل الحضاري إما أن يكون أو لا يكون, ولأننا كقوة جهوية أقدر على ممارسة التعاون الدولي في المنظمات العالمية من ممارسته فرادى.
ومع ذلك فإن استقراء الواقع يؤكد أن التعاون الإسلامي في مجال ىالبحث العلمي تتوفر له إمكانات الوجود بل بإمكانه أن يعود على الدول الإسلامية بالنتائج الخيرة و لنعط أمثلة على ذلك:
إن مواجهة التصحر مثلاً يمكن أن يكون مجالاً للتعاون بين مؤسسات البحوث في العالم الإسلامي التي تعاني من هذا المشكل وما أكثرها, وذلك بتبادل الخبرات فيما بينها وإطلاع بعضها البعض على النتائج التي توصلت إليها والتقنيات التي ابتكرتها فتتكامل جهودها في تغطية هذا الجانب وتصرف الاعتمادات المرصودة لتغطية نفقات البحث في الجوانب التي لا زالت لم تغط, وبذلك يربح العالم الإسلامي المال والجهد والوقت ويستفيد علمياً وتقنياً. نفس الشئ يمكن أن يقال في مجال حماية البيئة, وفي علوم البحار, وتقنيات الإعلام .. الخ, وقد تفيد التجربة العربية في هذه المجالات بإنشائها لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية ببغداد, وهي هيئة تجمع الأجهزة الوطنية المكلفة بتنسيق وتخطيط البحث العلمي, وإنشاء هيئة من هذا القبيل على الصعيد الإسلامي من شأنه أن يعطي للعمل الإسلامي المشترك زَخْماً في هذا المجال, حيث يتم تبادل الخبرات والاطلاع على اهتمامات الباحثين في الأقطار الإسلامية وأولويات العمل المسطرة لهم, والإمكانات البشرية والمالية المتاحة في كل مجال, وإمكانية تنسيق الجهود وتكاملها فيما بينهم وكذلك إمكانية عرض مشاريعهم للبحث المشترك.
ولتشجيع هذا التوجه على المؤسسات الإسلامية المهتمة في نطاق ما تستطيع تقديمه من مساعدات فنية ومالية في مجال البحث العلمي, أن تعطي الأولوية للمشاريع المشتركة على حساب المشاريع التي قد تهم دولة واحدة, وذلك حتى تشجع الباحثين ومراكز البحث على هذا التوجه الجماعي أشرنا إليه أعلاه.
ثالثاً : على مستوى المؤسسات المهتمة بالبحث العلمي :
إن الدور الذي على هذه المؤسسات أن تلعبه في غاية الأهمية, وعملها يجب أن يكون على مستويين :
الأول : ويتعلق بدورها في تشجيع مراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي وذلك بالعناية بالباحثين وتقديم كل ما تستطيعه من عون فني ومالي لهم والدفاع عن مكانتهم لدى أصحاب القرار في الدول الأعضاء وإقناعهم بأن الإنفاق على البحث العلمي والتطبيقي ليس استثماراً خيالياً, لذلك فعلى الدول الإسلامية أن تزيد في مخصصات البحث العلمي, وأن توفر المناخ المناسب للباحثين في مختلف التخصصات, كما يجب إعادة النظر في علاقة السياسيين برجل البحث العلمي لأننا للأسف الشديد لازلنا نلاحظ تهميش الباحثين والعلماء في عملية اتخاذ القرار والتخطيط للتنمية.
وعلينا أيضاً أن نقوم بحملة واسعة من أجل أن يسترد العالم الإسلامي أبناءه العلماء المهاجرين الذين استقطبتهم الدول المصنعة واستفادت ولا زالت تستفيد من عملهم وخبرتهم, وذلك بأن نقنع القادة بضرورة توفير الحد الأدنى الضروري من وسائل البحث المادية والتقنية داخل الدول الإسلامية, واحترام مكانة الباحث ورأيه في عالمنا وتوفير المناخ السياسي والعلمي اللازمين للبحث العلمي حتى يمكن لهؤلاء العلماء والباحثين أن يطمئنوا على أنفسهم ومستقبلهم فيلتحقوا بأوطانهم لخدمتها.
وعلينا أن نشجع تبادل الخبرات والزيارات بين مختلف المتخصصين في عالمنا الإسلامي وأن نيسر تبادل المعلومات والمعارف بينهم, وفي هذا الإطار قامت الإيسيسكو بإعداد إتفاقية إسلامية لمعادلة الشهادات والمؤهلات العلمية وعرضتها على الدول الأعضاء قصد التصديق عليها, وقامت كذلك بإنشاء اتحاد الجامعات في الدول الأعضاء ومقره حالياً بالإدارة العامة للإيسيسكو, وذلك مساهمة منها في فتح جسور التعاون الإسلامي وتيسير التحاق الطلبة بمختلف جامعات العالم الإسلامي ومعاهده.
الثاني : ويتعلق بالعلاقات بين مختلف المنظمات والمؤسسات الإسلامية فيما بينها, وفي هذا الإطار فإننا نرى ضرورة تبادل المعلومات والإنتاجات والخطط فيما بيننا, فللأسف الشديد لا زال العالم الإسلامي يجهل بعضه البعض فلا يعرف أحدنا ما يقوم به الآخر.
وفي هذا الإطار فإننا نقترح أن نفكر جدياً في مد قنوات تداول المعلومات على امتداد العالم الإسلامي واستغلال الإمكانات التي تتيحها بنوك المعلومات في تيسير هذا التداول, وأن تكون البداية باتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف فيما بيننا لضمان التداول السريع لما نتوفر عليه من معلومات بين المؤسسات ذات الرسالة المماثلة لتوسع هذه الشبكة فيما بعد عمودياً وأفقياً حتى تغطي العالم الإسلامي بالكامل. ولم لا يتم التفكير مستقبلاً في قمر صناعي إسلامي على غرار عربسات لتيسير هذه المهمة.
كما أننا مطالبون بإقناع دولنا بأن تستجيب لطلبات المنظمات المتخصصة حول الإحصاءات والبيانات والمعلومات عن الدولة, لأننا دون التوفر على تلك الإحصاءات والمعلومات بشكل دقيق نكون عاجزين عن التخطيط السليم المبني على رؤية واقعية لأحوال العالم الإسلامي, وإذا كانت تخطيطاتنا مبنية على التخمين والتقريب, سنفشل في أداء المهمات المنوطة بنا خدمة لهذا العالم. وفي هذا الإطار نقترح أن تعمد المنظمات ذات الرسالة المماثلة حسب حصول الاختصاص إلى تصميم استبيان موحد وتبعث به إلى الدول الأعضاء وتلح عليها في استيفائه وإرجاعه إلى هذه المنظمات, ويتم تعهده من قِبَل هذه الأخيرة ومراجعته كلما دعت الحاجة إلى ذلك, فإنه لا يعقل أن نبقى نستمد إحصاءات وبيانات عن عالمنا الإسلامي من مصادر خارجية.
هذه جملة أفكار ومقترحات عرضناها عليكم للتداول وللإغناء ونحن من جهتنا في المنظمة الإسلامية مستعدون للعمل بها ووضعها موضع التنفيذ والتنسيق مع الجهات المعنية شأنها.
وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الهوامـــــــــــش
(1) Andre Lalande, Vocabulaire techuique et critique de la philosophie. P. 954. Paris, Presse Universitaire de france. 1968.
(2) عبد الهادي بو طالب : دور التربية في تنمية العالم الإسلامي وتضامنه. منشورات الإيسيسكو 1987.
(3) إحصاءات التربية في البلاد الإسلامية, منشورات الإيسيسكو 1989.
(4) من مقال الدكتور الطاهر محمد عوض الله ” التنمية وآفاق البحث العلمي في دول العالم الثالث ” نُشِرَ في المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد 33 المجلد التاسع 1989.
(5) عبد الهادي بو طالب : وضع البحث والإبداع في العالم الإسلامي.
بحث أُلقي في ندوة الجامعة والبحث العلمي والتنمية. أكاديمية المملكة المغربية الدورة الأولى لسنة 1989 باريس 5 – 7 يونيه 1989.