رابعا: تقنين الفقه:
ويحتاج الفقه -بعد ذلك- إلى أن يصاغ في صورة مواد قانونية مرتبة، على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية.. الخ. وذلك لتكون مرجعا سهلا محددا، يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون.
مجلة الأحكام العدلية:
ولقد أحست الدولة العثمانية بضرورة هذا الأمر في أواخر القرن الماضي (الثالث عشر للهجرة)، فأمرت بتأليف لجنة لوضع مجموعة من الأحكام المهمة في النواحي المدنية، منتقاة من قسم المعاملات في فقه المذهب الحنفي، الذي عليه عمل الدولة، وقد وضعت اللجنة هذه المجموعة في سنة 1286هـ. ورتبت مباحثها على الكتب والأبواب الفقهية المعتادة، ولكنها فصلت الأحكام بمواد ذات أرقام متسلسلة كالقوانين الحديثة. ليسهل الرجوع إليها، والإحالة عليها، فجاء مجموعها في 1851 مادة.
والمجلة مأخوذة -بوجه عام- من كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي، وإذا اختلفت الأقوال بين الإمام أبي حنيفة وأصحابه اختارت المجلة القول الذي تراه موافقا لحاجات العصر، وللمصلحة العامة. كما في الحجر على السفيه أخذت برأي الصاحبين (أبي يوسف ومحمد). كما أخذت برأي أبي يوسف في عقد الاستصناع.
وفي مسائل قليلة تركت ظاهر الرواية، وأخذت بغيرها، كما في ضمان منافع المغصوب: رجحت رأي الفقهاء المتأخرين في المذهب، وهو رأي قريب من مذهب الشافعية… كما رجحت قول أبي الليث السمرقندي في جواز “بيع الوفاء” في المنقول، خلافا لظاهر الرواية.
ولقد سدت المجلة -كما يقول الأستاذ د. صبحي محمصاني- في حينها فراغا كبيرا في عالم القضاء والمعاملات الشرعية. فبعد أن كانت المسائل مبعثرة في كتب الفقه العديدة، وكانت الفتاوى والأقوال متعددة ومختلفة في الموضوع الواحد، أصبحت الأحكام الشرعية واضحة، ثابتة، لا يحتاج رجال القانون إلى عناء كبير لفهمها وتطبيقها.
وبعد أن كانت الشروح والحواس تصنف على متون المختصرات، وأمهات كتب الفقه، أصبح الشرح منحصرا في مواد المجلة، لأجل تفسير معانيها، وبيان مصادرها وأدلتها.
ولكن الدارسين للمجلة مقارنين بينها وبين القوانين المدنية الأوربية، أخذوا عليها بعض الملاحظات، وأهمها:
1- أنها لم تبحث في الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق ونفقة وبنوة وولاية ووصاية وحضانة ووصية وميراث وما شابه ذلك، مع أهمية هذه الأمور في شريعة الإسلام وفي حياة الناس.
2- خلو المجلة عن نظرية عامة للعقود والموجبات، فترى مثلا قواعد الإيجاب والقبول التي تتعلق بجميع العقود مندرجة في كتاب “البيوع” ونرى معظم أحكام الجرم المدني مبعثرة في المواد المتعلقة بالغصب والإتلاف وما إليها.
3- اشتراطها لصحة بعض العقود شروطا تقيد حرية التعاقد وعدم أخذها ببعض التسهيلات التي جاءت في المذاهب الأخرى.
اتساع حركة التقنين وعوامله:
لا شك أن العصر الأخير قد اتسع فيه نطاق التقنين اتساعا لا حدود له، في جميع الأقطار الإسلامية -وفي كافة فروع القانون مدنية وجنائية وإدارية.
وقد اشتبك التشريع القانوني بجسم الفقه- على حد تعبير الأستاذ مصطفى الزرقا في المملكة العثمانية، وفي البلاد المنفصلة عنها، كسورية وفلسطين والعراق، إلى درجة أنه قلما يوجد باب من أبواب الفقه لم يدخله التعديل أو النسخ القانوني في كثير أو قليل من أحكامه.
ويرجع الأستاذ الزرقا أهم عوامل هذا الاتساع إلى ما يأتي:
1- تطور العلاقات الاقتصادية على المستوى المحلي والعالمي -وتولد أنواع جديدة منها في هذه الأقطار، منها ما هو عرفي محلي، وما هو مقتبس عن البلاد الأوربية كأنواع الشركات القانونية، والطرائق التجارية كتجارة التوصية (القومسيون) والتأمين والتعهدات وغيرها.
2- الحاجة إلى اعتبار “الشروط العقدية” -التي يمنع أنواعا منها الاجتهاد الحنفي المعمول به- وبعض الاجتهادات الشرعية الأخرى.
3- اتجاه الدولة إلى ربط العقود والتصرفات العقارية بنظم شكلية تجعلها تحت مراقبة الحكومة لأغراض مالية وقانونية وسياسية، مما أنشئ لأجله السجل العقاري وما يتعلق به.
4- الحاجة إلى تنظيم الطرائق والأصول التي يجب اتباعها في المعاملات والمراجعات والدعاوى وفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام ونحوها، كقانون أصول المحاكمات وقانون التنفيذ.
5- ما صحب هذا التطور الاقتصادي المدني الكبير من جمود الفقه على أيدي المتأخرين وشلل حركته التوليدية، بعد انقطاع طبقات المجددين والمخرجين التي اتسع الفقه ونما على أيديها في الماضي، حتى آل أخيرا إلى دراسة حفظية لا نظرية، لا إنتاجية علاجية.
6- بناء “مجلة الأحكام” من الفقه الحنفي وحده، فإن المذهب الواحد مهما اتسع فلا يمكن أن يفي بجميع الحاجات الزمنية والمصالح المتطورة التي قد يفقد علاجها التشريعي في ذلك المذهب. ويوجد في غيره من الاجتهادات الأخرى.
واجبنا نحو التقنين المنشود:
ولا بد لنا إذا أردنا وضع قانون مستمد من الشريعة الإسلامية، أن نراعي هذه العوامل وما إليها، وننظر بعين إلى الشريعة وفقهها الرحب، وبأخرى إلى العصر وحاجاته المتجددة، ومشكلاته المتعددة، وبذلك نتلافى المآخذ التي لوحظت على “مجلة الأحكام”.
وإنما يتم ذلك إذا سبق عملية “التقنين” ما ذكرناه من ضرورة الدراسة المقارنة للفقه -داخل مذاهبه واجتهاداته العديدة، وخارجها مع القوانين العالمية- وضرورة إحياء الاجتهاد جزئيا، وكليا، وفرديا وجماعيا، والعمل على “تنظير” الفقه وتأصيله ولهذا قدمت هذه الخطوات على “التقنين” في الترتيب الذكري، لأنها بمنزلة المقدمات اللازمة للنهوض به على الوجه المنشود، ولا يبلغ تقنين عصري نضوجه وكماله بغير توافرها.
وهذا يحتم علينا السعي إلى تكوين جيل من العلماء الذي يجمعون بين الثقافة الشرعية الأصيلة -مستمدة من الينابيع الأولى- وبين الثقافة القانونية الحديثة، يستطيعون القيام بتجديد الفقه دون أن يفقد أصالته.
تجربة مجمع البحوث الإسلامية:
ويشبه عمل “المجلة” ما قام به مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، من تكليف عدة لجان تضم بعض رجال الفقه والقانون، لوضع تقنين لفقه كل مذهب من المذاهب الأربعة المتبوعة على حدة. تمهيدا لقانون عام يختار بعد ذلك من بين المذاهب جميعا.
وقد صدر بالفعل مشروع تقنين للبيوع وما يتعلق بها من المعاملات في كل مذهب من المذاهب الأربعة. ولكن العمل فيما رأيت يتسم بطابع السرعة، والحرص على إنجاز شيء ما في ذلك وإن لم يستوف حقه من الدراسة والموازنة والتحقيق. والملائمة بين القديم والجديد. كان كل ما تحتاج إليه الشريعة الإسلامية في عصرنا لتبرز إلى حيز التطبيق هو مشروعات تقنن فقهها في مواد مسلسلة بالأرقام، كما أن المآخذ الأساسية لهذا المشروع الالتزام بتقنين كل مذهب على حدة. بل الاقتصار على الرأي الراجح فيه. رغم وجود وجهة نظر مخالفة -داخل اللجان الأساسية والفرعية للمشروع- ترى أن تقنن الشريعة من أول الأمر في قانون موحد، من بين المذاهب الإسلامية كلها. ولكن وجهة النظر الأخرى هي التي سادت وغلبت استنادا إلى أن اختلاف المذاهب واقع لا يمكن تجاهله كما لا يمكن تجاوزه….الخ.
وأحسب أن الذي حدا بالمجمع إلى إقرار هذا المسلك هو ما لاحظه من تمسك علماء بعض الأقطار بالمذهب السائد بينهم. فلم يشأ أن يخالف عن رغبتهم.
والحقيقة أن هؤلاء العلماء المتشددين في التمسك بمذهبيتهم موجودين بالفعل في كثير من بلا الإسلام، وقد قابلت وناقشت كثيرا منهم فمنهم من اقتنع بما أبديت، ومنهم من أصر على وجهته.
والواقع أنهم مخطئون في إصرارهم على تمذهبهم، وخصوصا فيما يتعلق بالتقنين لدولة حديثة، ومجتمع متطور. وما كان للأزهر أن يسايرهم، ويقنن لكل مذهب على حدة، فيثبت بذلك هذه النزعة ويعطيها مبررا للاستمرار.
ووجه الخطأ عند هؤلاء أن الله تعالى لم يتعبدنا بالتزام أقوال أحد من خلقه، إلا ما جاء به النص الملزم من كتابه وسنة نبيه، أما اجتهادات البشر فيؤخذ منها ويترك كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، ولو أن عصر الأئمة المجتهدين تأخر إلى زمننا فشهدوا ما شهدنا لغيروا كثيرا جدا مما ذهبوا إليه، كيف لا، وقد رجعوا عن كثير مما أفتوا به في عصرهم نفسه، لتغير البيئة، أو تغير الزمن، أو تغير العرف، أو تغير الحال، أو لغير ذلك مما يتغير به الاجتهاد. وهذا سر ما روي عنهم من اختلاف الأقوال، أو تعد الروايات، وتضاربها في بعض الأحيان.
أما مخالفة أصحابهم لهم، فهي أشهر من أن تذكر، حتى أن أبا يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة خالفاه في نحو ثلث المذهب كما هو معلوم.
وكذلك خلاف أصحاب مالك له، وأصحاب الشافعي له، مما لا يخفى على الدارسين هذا مع أن العصر قريب، والتغير حينئذ -بطيء- والبيئة -تقريبا- واحدة فكيف بعصرنا وقد بعد العهد وتغير الزمان والمكان والعرف والحال تغيرا لم يكن يخطر لأحد من السابقين على بال.
أيجوز لنا الجمود على اجتهاد معين والدنيا حولنا تتغير، والأفكار تتحول وتتطور، والعالم يسير بسرعة البرق؟.
إن مثل هذا الجمود ليس في مصلحة الشريعة ولا في مصلحة المذهب المقلد. وقد ثبت أن الذين جمدوا على الأقوال المعتمدة في مذاهبهم، ولم يقبلوا أي اجتهاد أخر من غيرها، تسببوا في غياب الشريعة كلها في ساحة التقنين والقضاء، وبالتالي غياب مذاهبهم أيضا، ومعنى هذا أنهم ضحوا بالشريعة من أجل المذهب فخسروا الاثنين جميعا.
وشيء آخر يجب ألا يغيب عن الأذهان هنا وهو: إن الذي يحكم البلاد الإسلامية اليوم هو القانون الوضعي الدخيل، فإذا انتصر مذهب فقهي -أي مذهب كان- وأخذ به في قضية من القضايا -فلا يعد الأخذ به هنا انتصارا له على مذهب آخر، بل انتصارا على القانون الوضعي الذي احتل مكان الشريعة اغتصابا.
ليست المنافسة اليوم إذن بين مذهب ومذهب، بل بين الشريعة -بجملة مذاهبها ومدارسها واجتهادات فقهائها- وبين القوانين الوضعية المستورة من هنا وهناك وانتصار هذه القوانين في بلد إسلامي لا يعني هزيمة مذهب بعينه بل يعني هزيمة الشريعة ذاتها، وهذا ما لا يرضاه مسلم.
لهذا يجب أن يتخلى أنصار التمذهب عن مذهبيتهم هذه على الأقل فيما يتعلق بالتقنين للمجتمع، والتشريع العام، وأن يؤخذ ما في المذاهب من اجتهادات وأقوال، وأليق ما فيها بروح العصر، ومصالح الناس فيه، مهتدين في ذلك بنصوص الكتاب والسنة، وقواعد الشريعة العامة، وروح الإسلام، وهدى السلف الصالح في اجتهادهم واستنباطهم، وأخذهم باليسر وبعدهم عن العسر.
مخاوف بعض العلماء من التقنين:
هذا وقد أبدى بعض الغيورين من علماء الشريعة في بعض الأقطار العربية الإسلامية تخوفهم من تقنين الفقه، بل عارضه بعضهم بالفعل، وكتبت في ذلك بعض الرسائل، وذلك بما يلي:
1- يلزم من التقنين تقييد الماضي برأي واحد معين -وهو الذي يختاره واضعو القانون- مع أن الفقه غني بالآراء والاجتهادات القيمة التي كان للقاضي أن يأخذ بما يراه أرجح منها وأليق بالحالة المعروضة عليه. فالتقنين على هذا “يجمد” القاضي ويحبسه في قفص القانون. أما الفقه الرحب الطليق، فيمنحه حرية الحركة لاختيار الحكم المناسب للظروف والواقعة. ولهذا كان الأصل في الشريعة أن يكون القاضي مجتهدا، قادرا على استنباط الحكم من أدلة الشريعة الأصلية، وإنما أفتى الفقهاء بقبول المقلد، من باب الضرورة، نظرا لعدم وجود المجتهد. فإذا لم يكن مجتهدا، فعلى الأقل يكون ممن يمكنه الاختيار والترجيح.
2- ويتأكد ضرر هذا التقنين إذا لاحظنا أن التطبيق العملي لبعض القوانين قد يظهر قصورها عن الحاجة، أو عدم ملاءمتها، وقد تكون صالحة ثم تتغير الأوضاع وتتبدل الأحوال، فتفقد صلاحيتها، وتبقى جامدة ملزمة، ولا يستطيع القاضي إزاءها أن يتصرف، أو يخرج عنها.
3- ويتبع ذلك أن “التقنين” سيخلق لدى القضاة نوعا من التكاسل والاتكال على القانون المدون، دون تجشم الرجوع إلى مصادر الفقه، والتنقيب فيها عن الحكم ودليله، ومرجحات الأخذ بهذا الرأي دون غيره، مما يوسع أفق القاضي، ويجعله على صلة دائمة بالفقه وأصوله ومصادره.
الاعتبارات التي ترجح التقنين:
ولا ريب أن هذه اعتبارات وجيهة، عارضتها اعتبارات أوجه منها وأقوى:
أ- من ذلك أن من القضاة من يحتاج إلى مثل هذا التقييد والإلزام، حتى لا يخبط خبط عشواء، ويقع في التناقض والاضطراب. فليس كل قاض قادرا على الاختيار والترجيح، ومنهم من يخشى عليه تأثير العواطف والأهواء، فيحكم بهذا الرأي مرة لشخص، ويحكم بغيره لشخص آخر.
ب- ومن الاعتبارات التي ترجح “التقنين” أن المتقاضين يكونون على علم إجمالي بما يتجه إليه الحكم، سواء كان لهم أم عليهم، فالمرأة التي تنفصل عن زوجها ولها منه أولاد صغار في سن معينة، تعرف متى يحكم لها بحضانة الأولاد ومتى يحكم لزوجها. أما عند عدم التقنين وحرية القاضي في الاختيار فهي لا تعلم ما الذي يختاره القاضي من المذاهب في الحضانة وهي كثيرة.
ج- إن “تقنين” الفقه لا يعني أبدا أن يعتمد القاضي على مجرد قراءة مواده أو استظهارها. فهذا لا يري به قاضي يحترم نفسه ورسالته ولو رضي به ما استطاعه، لأن القانون له مذكرات تفسيرية لا بد من الرجوع إليها، كما لا بد له من شروح تقصر أو تطول، تهدف إلى توضيح مراميه، وشرح غوامضه، وتفصيل مجملاته. وقد رأينا الدكتور السنهوري بعد أن وضع القانون المدني المصري الجديد يشرحه في تسعة مجلدات ضخام. أولها بلغ حوالي 1500 ألف وخمسمائة صفحة. وسمي هذا الشرح “الوسيط” وكان يأمل في شرح أخر، أوسع وأكبر يسميه “المبسوط”. وقبل ذلك كن لمجلة “الأحكام العدلية” شروح جمة تعد من المراجع المحترمة في الفقه الحنفي.
فلا خوف إذن على رجال القضاء أن يركنوا إلى القانون المدون ويدعوا الإطلاع على المصادر.
د- على أن أي قانون مدون في الدنيا مهما اتسعت مواده، وتشعبت أبوابه، وتعددت فصوله، لا يمكن أن تحيط نصوصه بجميع الوقائع التي يختصم فيها الناس، وتعرض على القضاء، فماذا يصنع القاضي إذا لم يجد نصا في القانون؟
إن القاضي لا بد أن يفصل ويحكم فيما يعرض عليه، ولا بد أن يبني حكمه على أسباب مقبولة، ولا بد أن يستمد هذه الأسباب من مصادر معترف بها، ولهذا يحدد القانون نفسه المصادر التي يرجع إليها القاضي عند فقدان النص القانوني. مثلما حدد القانون الوضعي المصري الرجوع في مثل هذه الحالة إلى العرف أو الشريعة الإسلامية أو قوانين العدالة الطبيعية! ومن الطبيعي عندما يوضع قانون مستمد من الشريعة وفقهها أن ينص على وجوب الرجوع إلى هذه الشريعة وذلك الفقه. لاستخراج الحكم الشرعي للمسألة المعروضة.
وإذن لا خوف مرة أخرى على القاضي أن ينقطع عن الفقه ومصادره، والبحث في مخبوء كنوزه وجواهره.
هـ- هذا إلى أن القضاة في عصرنا -وقبل عصرنا بقرون- هم مقلدون ملتزمون بالمذاهب السائدة في بلدانهم. ومن كان منهم من أهل الترجيح والاجتهاد الجزائي -وهذا في غاية الندرة- فهو يلتزم عادة بمذهب الدولة التي يعمل بها، بل الراجح غالبا في هذا المذهب بحيث لا يجوز له العدول عن الراجح والمعمول به إلى الضعيف أو المهجور في المذهب….الخ.
ومعنى هذا أن القاضي ليس له حرية الحركة لاختيار ما يراه، بل هو مقيد بأحكام معلومة محددة، وإن لم تأخذ شكل القانون المدون.
أو ليس أولى من ذلك أن نقيده بقانون يضعه جماعة من العلماء الثقات المتبحرين في فقه الشريعة، والمطلعين على حاجات العصر، وأحوال الناس، مستعينين بالأقوياء الأمناء، من أهل الاختصاص في القانون والإدارة والاقتصاد وغيرها؟.
التقنين الشرعي الذي ننشده:
على أن القانون الذي ننشده نشترط فيه بعض الشروط المهمة:
1- فمنها: ألا يلتزم مذهبا واحدا معينا -فضلا عن الراجح فيه- لا يخرج عنه، ففي ذلك تحجير ما وسع الله من شرعه، وتضييق دائرة الفقه الرحبة، فقد علم الدارسون لهذا الفقه أن من مزاياه وأسرار خصوبته وسعته. هذه الثورة الضخمة الناشئة من تعدد الاجتهادات. وتنوع المدارس والمشارب الفقهية ما بين موسع ومضيق ومتوسط، وما بين ظاهري يتبع حرفية النص، وأخر يتبع الفحوى ويستخدم القياس وثالث يراعي المصالح والمقاصد، وفي هذا البحر الزخار من مذاهب علماء الأمصار، يجد من يريد الاختيار والانتقاء متسعا أي متسع. فإذا ضاق عنه مذهب اتسع له غيره، وإن أعوزه رأى لدى إمام، فما أحرى أن يجده عند آخر. وقد لا يجد واضع القانون ضالته في المذاهب الأربعة، فيلجأ إلى غيرها من مذاهب الأئمة المجتهدين، متى صحت نسبتها إليهم. ولا أقصد بقية المذاهب الثمانية فحسب (الظاهري والزيدي والجعفري والأباضي) بل أقصد معها مذاهب الصحابة والتابعين وأتباعهم، ممن ليس لهم أتباع يقلدونهم في عصرنا، فكل هذه المذاهب متساوية في نسبتها إلى الشريعة. ما لم يكن شيء من آرائها معارضا لنص قاطع، أو إجماع متيقن.
وهذه السعة الباهرة من مفاخر الفقه الإسلامي التي اعترف له بها أساطين الفقه العالمي المقارن في مؤتمرات دولية مشهودة، مثل مؤتمر لاهاي الدولي للقانون المقارن وغيره.
فمن اللازم المفروض علينا أن ننتفع بهذه الثروة كلها، ونكشف عن دفائنها، غير متعصبين لقول منها على قول إلا بدليل، ولا مرجحين لمذهب في مسألة على مذهب إلا بمرجح وبرهان.
ولو أن علماء الدولة العثمانية في العصر الأخير وفقوا إلى وضع “مجلة الأحكام العدلية” من سائر المذاهب المعتبرة، ولم يتقيدوا بالمذهب الحنفي وحده، ما وجدت القوانين الوضعية منفذا لتحل محل الشريعة في بلاد الإسلام، ولكان ذلك بداية فجر جديد في تقنين الفقه الإسلامي العام وإخصابه وإنمائه.
وقد أخذت المجلة ذاتها ببعض الأقوال المرجوحة في المذهب الحنفي، نظرا لما وراءها من تحقيق مصلحة زمنية، أو دفع مفسدة.
كما أن الدولة العثمانية نفسها في أواخر عهدها اضطرت -عند وضع قانون “حقوق العائلة” أن تتحرر في بعض الأحيان من ربقة المذهب الحنفي، وتأخذ باجتهادات المذاهب الأخرى فيما تراه أوفى بإقامة مقاصد الشرع ومصالح الخلق. فأخذ القانون من مذهب مالك حكم التفريق الإجباري القضائي بين الزوجين، عن طريق تحكيم “المجلس العائلي” الذي نص عليه القرآن، فمكن بذلك الزوجة المظلومة من التخلص من الزوج المضار، ومن سوء عشرته.
وهذا هو مذهب بعض الصحابة: إن للمحكمين حق التفريط. وهو ظاهر القرآن الذي سماهما حكمين “حكما من أهله وحكما من أهلها”. هذا إلى أحكام أخرى كزوجة المفقود وغيرها.
2- ومنها: أن يختار واضعو القانون من بين مذاهب الفقه الإسلامي -ابتداء من مذاهب الصحابة والتابعين فيمن بعدهم- ما يرونه أرجح دليلا، وأوفق بمقاصد الشريعة، وأليق بتحقيق مصالح الناس ودفع الحرج والعنت عنهم. ولنا في فقهائنا في مختلف العصور أسوة حسنة، فكثيرا ما رجحوا رأيا على مقابله بقولهم: هذا أرفق بالناس.
ولعل هذا “الرفق بالناس” هو ما جعلهم يصححون كثيرا من العقود والمعاملات “استحسانا” على خلاف ما يقضي به القياس الصارم، أو القواعد الجامدة، وذلك كعقد الاستصناع وبيع الوفاء وغيره من الحنفية.
والاتجاه إلى التيسير والرفق بالناس هو روح الشريعة نفسها، والتي أراد الله بها اليسر ولم يرد بها العسر، وأمرت بالتيسير، ونهت عن التعسير، ولهذا أرى -إذا كان لدينا في الفقه قولان متعادلان، أحدهما أحوط، والأخر أيسر- أن نأخذ بالأيسر، لأنه أرفق. وائتساء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما.
3- ومنها: أن ينظر في القانون -كلما مضت مدة معقولة- على ضوء التطبيق العملي، والنظر في ملاحظات القضاة والمحامين والمهتمين بشئون القانون بصفة عامة، لتعديل ما يحتاج إلى تعديل، وإضافة ما يحتاج إلى إضافة. ذلك أن الأحكام الاجتهادية قابلة للتعديل والإضافة والحذف دائما، وكذلك كان بعض الصحابة -مثل عمر بن الخطاب- يفتي في المسألة برأي، وفي العام القابل برأي آخر، فإذا سئل في ذلك أجاب بقوله: ذلك على ما علمنا، وهذا ما نعلم! وكان للشافعي مذهبان أحدهما في العراق، ويسمى “القديم” والآخر في مصر ويسمى “الجديد”. وأصبح مألوفا في كتب مذهبه: قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد.
وإذا كانت الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعادة، فالقانون يجب أن يتغير كذلك بتغير هذه الأمور.
خامسا: الموسوعة الفقهية العصرية:
ومن التجديدات المطلوبة للفقه الإسلامي أن يعرض عرضا حديثا في صورة موسوعة أو دائرة معارف فقهية مكتوبة بلغة عصرية سهلة الفهم، قريبة المنال، ومرتبة موادها ترتيبا معجميا على نهج الموسوعات العالمية العصرية، بحيث يسهل الرجوع إليها والاستفادة منها، على الراغبين في المعرفة الفقهية من غير المتخصصين، وإلا ضربنا بين هؤلاء وبين الفقه حجابا بل حجبا، أو كلفناهم من عناء البحث ومشقة التنقيب ما لا يصبر عليه إلا القليل من الرجال، الذين نذروا أنفسهم للعلم، وإن حفت جنته بالمكارة، وملئ طريقه بالأشواك.
يقول المغفور له الأستاذ عبد القادر عودة في مقدمة كتابه “التشريع الجنائي الإسلامي” مصورا بعض ما عاناه في بدء دراسته لفقه الشريعة: “ولقد أتعبتني دراسة القسم الجنائي حيث بدأت الدارسة وأنا لا أعرف شيئا يذكر من علم الأصول ولا المصطلحات الفقهية، وزاد الدراسة تعبا أنني لم أتعود قراءة كتب الفقه، وإن هذه الكتب ليست مفهرسة، وليس من السهل على من يحب الاطلاع على مسألة معينة أن يعثر على حكمها في الحال، بل عليه أن يقرأ بابا وأبوابا حتى يعثر على ما يريد، خصوصا إذا لم يكن له من يرشده، وقد ييأس الباحث من العثور على ما يريد، ثم يوفقه الله فيعثر عليه مصادفة في مكان لم يكن يتوقع أن يجده فيه.
ولا يسير فقاء المذاهب المختلفة على غرار واحد في الترتيب والتأليف، فما يقدمه مذهب قد يؤخره المذهب الآخر. وما يدخل في باب معين في هذا المذهب قد لا يدخله الآخر في نفس الباب. ويضاف إلى ما سبق أن الفقهاء يكتبون بعبارة مركزة دقيقة وهم في كثير من الأحوال يذكرون الحكم ولا يذكرون علته خصوصا في الكتب المختصرة والمتون.
ولا شك أن دراسة المذاهب الشرعية دراسة مقارنة مجهدة بذاتها، لأنني كنت أدرس بدلا من الكتاب الواحد أربعة كتب، ولكن هذه الدراسة أفادتني في الواقع فائدة كبرى، إذ سهلت لي فهم مختلف النظريات وفهم الأسس التي بني عليها كل فقيه نظريته، وساعدت على إظهار الفروق الدقيقة بين المذاهب الفقهية.
وأعترف أني عندما قرأت كتب الشريعة لأول مرة لم أفهمها حق الفهم، فقد أخذت عن بعض المسائل فكرة تبين لي خطؤها في القراءة الثانية، ومن ثم فقد قرأتها مثنى وثلاث ورباع.
إن هذه الموسوعة أصبحت ضرورية في عصرنا الذي أصبح طابعه السرعة، وفي حياتنا التي تهدف إلى السهولة في كل شيء، وغدت مهمة الآلة اليوم أن توفر على الإنسان جهده الفكري بوساطة ما يسمونه “الأدمغة الإلكترونية” والأجهزة الحاسبة، بعد أن كانت مهمة الآلة من قبل -في عصر الصناعة الأولى- توفير الجهد العضلي للإنسان.
إن الإنسان العصري يريد كل شيء بسهولة لا تعقيد فيها ولا صعوبة، وبسرعة لا بطء فيها ولا قيود، ولا مناص لنا من مسايرة إنسان العصر، والاعتراف به كما هو، وتقديم فقهنا له بالطريقة التي يألفها، وبالصورة التي نرضاها لأنفسنا في الوقت نفسه.
وهذا ما أوصى به مؤتمر باريس للفقه الإسلامي سنة 1951 وقامت عدة محاولات لإخراجه إلى حيز التنفيذ في سنة 1954، بدأت في كلية الشريعة بدمشق، مرورا بالكويت في الستينات، حيث تبنت وزارة الأوقاف فيها مشروع الموسوعة، وأخرجت بالفعل ثلاثة أجزاء منها في بعض الموضوعات الفقهية في صورة طبعة تمهيدية، ثم انتهت اليوم إلى القاهرة حيث تشرف عليها وزارة الأوقاف ممثلة في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وقد صدر من هذه الموسوعة عشرة أجزاء.
ولا ريب أن الأمر يسير أبطأ مما ينبغي، ولا بد من تعاون واسع، وجهود أكبر، واستفادة من كل الملاحظات، واستعانة بكل الكفايات، في سبيل إنجاز الموسوعة في وقت أسرع وبصورة أمثل، وبخاصة أن الحاجة ماسة، والزمن لا ينتظر، والتاريخ لا يرحم.
سادسا: الإخراج العلمي لكتب الفقه:
ومما يعين على التجديد الذي نريده للفقه أن يعاد طبع كتبه المهمة، بحيث تخرج إخراجا علميا صحيحا يليق بمكانتها، ويوسع الفائدة المرجوة منها، بدل تلك الطبعات التجارية المتداولة.
والإخراج العلمي اليوم معروف، وقد حظي به بعض كتب التراث، في مجالات الأدب واللغة والتاريخ والحديث والتفسير. أما كتب الفقه فلعلها أقل كتب التراث حظا في هذا المجال.
لهذا كان من اللازم لنهضة الفقه وتجديده إعادة ما طبع من كتبه -وبخاصة الأمهات منها- لتخرج في صورة علمية حديثة، يقوم بها جماعة من العلماء الثقات المدربين بتكليف من اتحاد الجامعات العربية، أو من جامعة الدول العربية، أو من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أو من كليات الشريعة والقانون والحقوق في البلاد العربية أو بعض الدول العربية، بحيث يشمل الكتاب الفقهي في إخراجه الجديد:
1- النص الأصلي محققا موثقا، بعد مقابلته بما يمكن من مخطوطات معتمدة.
2- وضع عناوين جانبية لفروعه ومسائله، تسهيلا للدارس توضع بين معقوفين إشارة إلى أنها من عمل المحقق.
3- التعليق عليه بما يلزم من توضيح غامض، أو تفصيل مجمل، أو تكملة ناقص، أو المقارنة بما في مذهب آخر، أو مذاهب آخر، أو بما في القانون الوضعي.
4- تخريج أحاديثه، بذكر مخرجيها، وبيان درجتها من الصحة أو الحسن أو الضعف، بالرجوع إلى كتب التخريج، ومصادر الحديث المعتمدة.
5- فهرسة الكتاب فهرسة كاملة: للآيات، وللأحاديث، وللآثار، وللأعلام، وللموضوعات ثم فهرس للمسائل والبحوث والنقاط مرتب على حروف العجم.
وبهذا نكون قد خدمنا الكتاب الفقهي، بل أحييناه، ويسرنا الانتفاع به. ومما يؤسف له أن الإدارة العامة للثقافة بالأزهر في الخمسينات كلفت لجنة من رجال الفقه والقانون، لإخراج كتاب “بدائع الصنائع” للكاساني في الفقه الحنفي، الإخراج العلمي المنشود، ومضت سنوات عدة ولم نر أثرا لهذه اللجنة، ويبدو أن المشروع مات بعد ذلك، ولم يجد أحدا ينعاه.
على أننا نستطيع النفع بالكتب الحالية على ما بها، إذا وضعنا لها معاجم أو فهارس، مفصلة لكل ما حوته من مسائل الفقه مرتبة ترتيبا معجميا.
وقد حظيت بعض الكتب بذلك، مثل كتاب “المحلى” لابن حزم الذي يعد كتابا هاما في الفقه العام أو المقارن، إلى جوار أنه يمثل فقه الظاهرية عامة. وابن حزم منهم خاصة، فقد أخرجت لجنة موسوعة الفقه الإسلامي بكلية الشريعة من جامعة دمشق “معجم فقه ابن حزم الظاهري” في مجلدين، طبعا في مطبعة الجامعة، وضعا كل الكلمات العنوانية ذات الدلالة الفقهية في “المحلى” وتحت كل كلمة خلاصة فقهية تتضمن رأي ابن حزم، وتحيل إلى موضعها من الكتاب لمن أراد التوسع ومعرفة الأدلة ومناقشتها وآراء الآخرين من الفقهاء. وكان هذا ولا ريب عملا مبتكرا ونافعا.
وبمثل هذه العناية ظفر كتاب “المغني” لابن قدامة الحنبلي، وهو موسوعة في الفقه الحنبلي، والفقه المقارن أيضا.
فقد قامت لجنة علمية تابعة لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت بعمل “معجم” للفقه الحنبلي مستخلص من كتاب “المغني” وصدر “المعجم” في مجلدين كبيرين، يعتبران في الواقع بمثابة موسوعة مصغرة لفقه الحنابلة.
ومنذ سنوات أصدر الأستاذ المهدي خضر المحامي بسورية فهرسا لكتاب “رد المحتار على الدر المختار” الشهير بـ “حاشية ابن عابدين” فسهل بذلك الرجوع إلى مباحث هذا الكتاب الهام ومطالبه، مقتصرا على طبعة بولاق الأميرية.
وما أجدر أن توضع لأمهات الكتب في المذاهب الأخرى مثل هذه المعاجم أو الفهارس لتقريبها للباحثين.
على ألا نغفل أن كتابا فقهيا واحدا في مذهب ما -مهما كانت سعته ومكانته العلمية، ومكانة مؤلفه- لا يعطي صورة كاملة شاملة عن المذهب وتطور الآراء فيه. وتفرع التخريجات والاجتهادات، وتعدد التصحيحات والترجيحات على اختلاف العصور والبيئات والأحوال، باستثناء “المحلي” الذي يمثل مذهب ابن حزم خاصة، والظاهرية عامة، وذلك لأنه المرجع الوحيد الباقي من كتب الظاهرية.
ومع هذا لا ننكر فضل وفائدة “تعجيم” الأمهات وفهرستها، على غرار “المغني” و “المحلي” فهي خدمة جليلة بلا جدال.
سابعا- نشر المخطوطات الفقهية:
ومما يعين على نهضة الفقه الإسلامي وتجديده: نشر مخطوطاته القيمة الحبيسة في المكتبات العامة والخاصة في الشرق والغرب، يمضي عليها الزمن الطويل، وهي مخبوءة في خزائنها، لا يكاد يطلع عليها أو ينظر إليها، إلا الواحد بعد الآخر، ممن عرف طريقها، ومرن على قراءة خطوطها، وفك رموزها. وقليل ما هم.
إن هذه المخطوطات النفيسة الحبيسة في عالم الثقافة أشبه بالنقود الثمينة المكنوزة في عالم الاقتصاد، كلاهما لا ينتفع به، ولا يظهر أثر نفاسته إلا إذا أخرج من مخابئه إلى عالم النور، وإلى حيز التداول.
وفي دار الكتب المصرية، ومكتبة الأزهر، ومكتبة استانبول، وبلاد المغرب وسورية واليمن والهند، وغيرها من البلاد العربية والإسلامية، وكذلك بعض المكتبات في الدول الغربية -ومنها الاتحاد السوفيتي- توجد مخطوطات فقهية عديدة في مختلف المذاهب، ومن مختلف العصور، بعضها موسوعات جليلة القدر وبعضها مختصرات جيدة وبعضها متوسط وكثير منها من الكتب الأصلية التي لا يسد غيرها مسدها.
ومما يؤسف له أن “كلية الشريعة” بجامعة الأزهر منذ بضعة عشر عاما شرعت في نشر كتاب “الذخيرة” للإمام شهاب الدين القرافي في فقه المالكية، وأخرجت منه جزءا واحدا على ما أعلم، ثم توقفت، ولم يتم نشر الكتاب حتى اليوم. برغم أهمية الكتاب وأصالته، وما أجدر أن تتبنى نشر مثل هذا الكتاب دولة من الدول التي تتبع المذهب المالكي مثل “أبي ظبي” أو ليبيا أو إحدى بلاد المغرب.
ولعل أحسن المذاهب حظا في السنين الأخيرة هو المذهب الحنبلي، الذي تبنت دولة قطر، منذ بضعة عشر عاما، نشر عدد من مخطوطاته، مع إخراجها إخراجا حسنا، كما ساهمت قطر في نشر كتاب “الروضة” للإمام النووي في مذهب الشافعي، وصدر منه ثمانية أجزاء، ونرجو له أن يكتمل.
هذا إلى أن من الواجب علينا متابعة البحث والتنقيب في أنحاء البلاد الإسلامية والبلاد الأوروبية، عن المخطوطات الفقهية التي تذكر أسماؤها في الكتب ولا يعرف عنها شيء إلى اليوم، فعسى أن يعثر عليها أو على بعضها بطول البحث والتفتيش في مختلف المظان في المكتبات الخاصة والعامة. وكم من كتب ساد الاعتقاد زمنا أنها مفقودة ثم وجدت كلها أو بعضها، بفضل الصبر والمصابرة من بعض الباحثين الغيورين.
حياة الفقه بتطبيقه:
وأعظم ما يحتاج إليه الفقه الإسلامي -ليحيا وينمو ويتجدد- هو العمل به والاحتكام إليه هو: أن نعود به إلى مكانه الطبيعي، ليكون المصدر الأول لتشريعنا وقضائنا. فهذا ما تحتمه علينا أصالتنا الدينية والقومية. فإذا كنا مسلمين، فإن إسلامنا يوجب علينا أن نحكم شريعة الله في حياتنا دون تردد. وأن نقف عند حدودها دون تلكؤ أو تباطؤ. لا يتم بغير ذلك إسلام ولا إيمان. “إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون”. “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا”.
وإذا كان الرجوع إلى الشريعة الإسلامية هو مقتضى الإيمان والإسلام. فإن الفقه الإسلامي -بمجموعه ومختلف مدارسه واجتهاداته المعتبرة- هو المعبر عن هذه الشريعة والممثل لها، فمن الواجب الديني أن يكون هو مرجعنا التشريعي والقضائي.
وإذا كنا عربا، فإن كرامتنا القومية تفرض علينا أن نجعل هذا الفقه أساس تشريعنا وقضائنا كذلك، وأن نتحرر من آثار الاستعمار التشريعي الذي فرض علينا -في غفلة من الزمن- وحكمنا -ونحن عرب مسلمون شرقيون- بقوانين مستوردة دخيلة علينا. غريبة عنا لم تثبت في أرضنا، ولم تنبع من عقائدنا وقيمنا، ولم ترتبط بتراثنا وحضارتنا.
وقد رأينا بعض البلاد العربية، عندما بدأت تتحرر من ضغط الاستعمار العسكري الأجنبي، وأخذت تشعر بذاتها، وتعي تراثها، شرعت أيضا تراجع تشريعاتها وقوانينها التي زحفت عليها مع زحف الاحتلال، أو عقبه. لكي يتم تحررها، ويتحقق له كمال استقلالها.
يقول الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري في مقدمة كتابه “الوسيط” في شرح القانون المدني المصري الجديد (إبريل سنة 1952): “وقد كتبت منذ ثمانية عشر عاما في كتاب “نظرية العقد”: “علينا أن نمصر الفقه -يقصد فقه القانون طبعا- فنجعله فقهيا مصريا خالصا نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا -حتى اليوم- لا يزال. هو أيضا يحتله الأجنبي. والاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتا من أي احتلال آخر. لا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد. لا يكاد يتزحزح عن الفقه، أو ينحرف عن مسراه، فهو ظله اللاصق. وتابعه الأمين..
ولما كلف السنهوري وضع التقنين المصري المدني الجديد، خطا إلى الأمام خطوات في سبيل التحرر من سلطان الفقه الأجنبي، أو الاحتلال التشريعي، والاستعداد من الفقه الإسلامي، ولكنه لم يصل إلى نهاية الشوط المنشود، لعوامل عديدة، لا تخفى على الدارسين. ولكنه فتح الباب لمن يأتي بعده ممن يملكون العزيمة والقدرة على الوصول بتشريعنا إلى مرحلة الاستقلال الكامل، الخالص من كل تبعية.
يذكر السنهوري أن التقنين الجديد استبقى ما اشتمل عليه التقنين القديم من أحكام أخذها عن الفقه الإسلامي، بعد أن هذب النصوص القديمة، وصحح ما انطوت عليه من أخطاء. ثم يقول:
“وقد استحدث التقنين الجديد أحكاما أخرى استمدها من الفقه الإسلامي. وبعض هذه الأحكام الجديدة هي مبادئ عامة، وبعضها مسائل تفصيلية.
فمن المبادئ العامة التي أخذ بها، النزعة الموضوعية التي نراها تتخلل كثيرا من نصوصه. وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي والقوانين الجرمانية، أثرها التقنين الجديد على النزعة الذاتية التي هي طابع القوانين اللاتينية، وجعل الفقه الإسلامي عمدته في الترجيح.
“ومن هذه المبادئ أيضا نظرية التعسف في استعمال الحق. لم يأخذها التقنين الجديد عن القوانين الغربية فحسب، بل استمدها كذلك من الفقه الإسلامي. ولم يقتصر فيها على المعيار الشخصي الذي اقتصرت عليه أكثر القوانين. بل ضم إليها معيارا موضوعيا في الفقه الإسلامي يقيد استعمال الحق بالمصالح المشروعة. ويتوقى الضرر الجسيم الذي قد يصيب الغير من استعماله.
“وكذلك الأمر في حوالة الدين، أغفلتها القوانين اللاتينية، ونظمتها القوانين الجرمانية، متفقة في ذلك مع الفقه الإسلامي، فأخذ بها التقنين الجديد.
ومبدأ الحوادث الطارئة (Imprevision) أخذ به بعض التقنيات الحديثة، فرجح التقنين الجديد الأخذ به استنادا إلى نظرية الضرورة ونظرية العذر في الفقه الإسلامي.
ومن الأحكام التي استحدثها التقنين الجديد مسائل تفصيلية كما قدمنا، اقتبسها من الفقه الإسلامي، ومن هذه المسائل: الأحكام الخاصة بمجلس العقد، وبإيجار الوقف، وبالحكر، وبإيجار الأراضي الزراعية، وبهلاك الزرع في العين المؤجرة، وبانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر، وبوقع الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده.
وقد نصت المادة الأولى من التقنين الجديد على أنه “إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة”.
ويتبين من ذلك أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرسمي الثالث للقانون المدني المصري وهي إذا أتت بعد النصوص التشريعية والعرف، فإنها تسبق مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، ولا شك في أن ذلك يزيد كثيرا في أهمية الشريعة الإسلامية، ويجعل دراستها دراسة علمية في ضوء القانون المقارن أمرا ضروريا لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب بل كذلك من الناحية العلمية التطبيقية. فكل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالبا أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص، ولم يقطع فيه عرف، بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامي. ويجب عليه أن يرجع إلى هذه الأحكام قبل أن يرجع إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، بل لعل أحكام الشريعة الإسلامية، وهي أدق تحديدا وأكثر انضباطا من مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، هي التي تحل محل هذه المبادئ والقواعد، فتغنينا عنها في كثير من المواطن.
ولا شك أن مشروع هذا التقنين الجديد قد أثار ضجة كبرى أول ظهوره في مصر لعدم اعتماده اعتمادا كليا على الشريعة الإسلامية، التي يؤمن بعدالتها وكمالها الأغلبية العظمى من المواطنين. وقام جماعة من كبار رجال القانون وعلماء الشريعة يدعون إلى قانون يستمد من الشريعة ويعتمد عليها. وقدموا نموذجا لذلك صاغوا فيه نظرية العقود الواردة في القانون كلها صياغة جديدة تتضمن الأحكام القانونية نفسها. مستمدة من مذاهب الفقه الإسلامي، مع إحالة كل مادة على المرجع الفقهي الذي استمدت منه. فبرهنوا بذلك على إمكان إنشاء أحدث القوانين العصرية من الفقه الإسلامي، كما يقول الأستاذ مصطفى الزرقا وإن كان الأستاذ السنهوري يصف هذا العمل بأنه “دراسة سطحية فجة لا غناء فيها” لأنها نسبت نصوصا في نظرية العقد إلى الشريعة الإسلامية، وهي ليست منها في شيء كما يقول.
وقد خطا السنهوري في وضع القانون المدني العراقي الجديد خطوة أبعد في طريق الاستقلال والتحرر من التأثر بالفقه الغربي، فقد قام هذا القانون -على حد تعبيره- على مزاج موفق من الفقه الإسلامي، والقانون المصري الجديد.
ومع هذا يعلن الرجل عن تطلعه إلى أفق أرحب، واستقلال أتم، فيقول بمناسبة حديثه عن القانون السوري والعراقي:
“وقد حان الوقت ليتعاون الفقهاء المصريون، مع زملائهم من فقهاء سورية وفقهاء العراق، ويتكاتفوا جميعا، لإرساء أساس قوي “للقانون المدني العربي” يكون قوامه الفقه الإسلامي، قانون المستقبل لبلاد العروبة جميعا.
فهذا هو مكان الفقه الإسلامي في نظر القانون الكبير: إنه الأساس والقوام لقانون المستقبل، وتشريع الغد، للبلاد العربية كلها.
وهو يعلق كذلك على القدر الذي أخذه القانون المدني المصري من الفقه الإسلامي، والذي أشرنا إليه من قبل، فيقول:
“هذا هو الحد الذي وصل إليه التقنين الجديد في الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية، عدا المسائل الأخرى التي أخذها بالذات من الفقه الإسلامي، وهي المسائل التي تقدم ذكرها”.
أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي يبنى عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح، ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون المقارن. ونرجو أن يكون من وراء جعل الفقه الإسلامي مصدرا رسميا للقانون الجديد ما يعاون على قيام هذه النهضة.
رد شبهات حول الفقه الإسلامي:
ومن الناس من يرتاب أو يتوجس خيفة من المناداة بالرجوع إلى الفقه الإسلامي واتخاذه أساسا تشريعيا وقضائيا.
ومصدر هذا الارتياب والتوجس هو: الأساس الرباني والصفة الدينية للفقه الإسلامي فمن المتفق عليه أن المصدرين الأساسيين لهذا الفقه هما: كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يقتضي -في نظرهم أن يتسم هذا الفقه بالثبات- أو الجمود- وأن تقف العقول البشرية أمامه وقفة التسليم والاتباع، لا وقفة الابتكار والإبداع، إذ لا مكان للعقل أمام الوحي، ولا مجال للاجتهاد في مورد النص. وهذا ما يجعل أسباب المرونة وقابلية التطور معدومة أو ضعيفة داخل هذا الفقه.
مجال الثبات والتطور في الفقه:
والعارفون يعلمون تمام العلم أن من يقول هذا الكلام لا علم له بالفقه الإسلامي وخصائصه ومميزاته، التي هي ثمرة لخصائص الإسلام نفسه. فإن من أبرز هذه الخصائص: أنه يجمع بين الثبات والمرونة معا في تناسق محكم وتوازن فريد. فلم يمل مع القائلين بالثبات المطلق، الذين جمدوا الحياة والإنسان، ولم يجنح إلى القائلين بالتغير المطلق كذلك، الذين لم يجعلوا لقيمة ولا لمبدأ ولا لشيء ما ثباتا أو خلودا، بل كان وسطا عدلا بين هؤلاء وهؤلاء.
فالأصول الكلية ثابتة خالدة، شأنها شأن القوانين الكونية، التي تمسك السموات والأرض أن تزولا، أو تضطربا، أو تصطدم أجرامها. والفروع الجزئية مرنة متغيرة، فيها قابلية التطور، شأن ما في الكون والحياة من متغيرات جزئية، لازمة لحركة الإنسان والحياة.
وهكذا كان في الفقه الإسلامي منطقة مغلقة لا يدخلها التغير أو التطوير، وهي منطقة “الأحكام القطعية” وهذه هي التي تحفظ على الأمة وحدتها الفكرية والسلوكية، ومنطقة مفتوحة هي منطقة “الأحكام الظنية” ثبوتا أو دلالة، وهي معظم أحكام الفقه، وهي مجال الاجتهاد، ومعترك الأفهام، ومنها ينطلق الفقه إلى الحركة والتطور والتجديد.
أسباب المرونة في الشريعة الإسلامية:
وقد أعددت بحثا مستقلا عن خصيصة المرونة أو قابلية التطور في الشريعة الإسلامية، لم ينشر بعد، وحسبي هنا أن أشير إلى عناوينه أو خطوطه البارزة.
فمن أسباب هذه المرونة:
أولا: أن الشارع الحكيم لم ينص على كل شيء، بل ترك منطقة واسعة خالية من أي نص ملزم، وقد تركها قصدا للتوسعة والتيسير والرحمة بالخلق، وهي المسماة منطقة العفو وفيها جاء الحديث: “وترك أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها”.
ثانيا: إن معظم النصوص جاءت بمبادئ عامة، وأحكام كلية، ولم تتعرض للتفصيلات والجزئيات إلا فيما لا يتغير كثيرا بتغير المكان والزمان مثل شؤون العبادات وشؤون الزواج والطلاق والميراث ونحوها. وفيما عداها اكتفت الشريعة بالتعميم والإجمال، مثل “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” “وأمرهم شورى بينهم” “لا ضرر ولا ضرار”.
وثالثا: إن النصوص التي جاءت في أحكام جزئية قد صيغت صياغة معجزة، بحيث تتسع لتعدد الأفهام والتفسيرات، ما بين متشدد ومترخص، وما بين آخذ بحرفية النص، وآخذ بروحه وفحواه، وقلما يوجد نص لم يختلف أهل العلم في تحديد دلالته وما يستنبط منه، وهذا راجع إلى طبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة التكليف.
رابعا: إن ملء منطقة الفراغ التشريعي، أو العفو يمكن أن يتم بوسائل متعددة يختلف المجتهدون في اعتمادها وتقدير مدى الأخذ بها ما بين مضيق وموسع فهنا يأتي دور القياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو مراعاة العرف، أو الاستصحاب أو غيرها، من أدلة ما لا نص فيه.
خامسا: تقرير مبدأ تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف “وهو مبدأ تقرر منذ عهد الصحابة الذين كانوا أكثر الناس رعاية له، وبخاصة عمر، كما في موقفه من المؤلفة قلوبهم، ومن قسمة الأرض المفتوحة، ومن طلاق الثلاث وغيرها.
بل يبدأ تقرير هذا المبدأ حقيقة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في منع ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث لطروء بعض الوافدين على المدينة في أحد الأعياد، وإباحته بعد ذلك في الظروف العادية، وما روي من ترخيصه لرجل في القبلة وهو صائم، ومنعه آخر منها، حيث كان الأول شيخا، والثاني شابا.
سادسا: تقرير مبدأ رعاية الضرورات والأعذار، والظروف الاستثنائية، بإسقاط الحكم أو تخفيفه، تسهيلا على البشر، ومراعاة لضعفهم أمام الضرورات القاهرة، والظروف الضاغطة. ولهذا قرر الفقهاء أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة مع قيد أن “ما أبيح للضرورة يقدر بقدره”.
منطقية الفقه الإسلامي:
وشبهة أخرى أثارها بعض المستشرقين -مثل يوسف شاخت وغيره- لهوى في أنفسهم، بنوها على الأساس الديني للفقه الإسلامي، وزعموا أن هذا الفقه فقه تعبدي تحكمي، لا يخضع للعقل، ولا يرحب بالمنطق، ولا يقبل التعديل، وإنما يجب أن يؤخذ بالتسليم والتفويض، وإن لم يدرك كنهه، ولم يعرف وجه المصلحة فيه، كما يجب أن يتلقى بالرضا والقبول، وإن تناقضت أحكامه فيما بينها، وضرب بعضها بعضا.
والحق أن هذا الزعم فرية ليس فيها مرية، كما يقال. فما عدا الأحكام التعبدية مثل أحكام الصلة والصيام والحج، فكل أحكام الفقه الإسلامي بعد قابلة للتعليل، ملائمة للفطرة، جالبة للمصلحة، دارئة للمفسدة بل الأحكام التعبدية ذاتها معقولة المعنى على وجه الإجمال، وإن لم تدرك أسرارها على وجه التفصيل، ابتلاء للعباد.
ومهما يكن من خلاف في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فإن الجميع متفقون على تعليل الأحكام الشرعية، وربطها بالمعاني المعقولة، ما عدا فئة قليلة شذت عن جمهور الأمة، وأنكرت ارتباط الأحكام بالمعاني والعلل، كما أنكرت القياس، وما يلحق به من الاستصلاح وغيره، وهذه هي فئة الظاهرية، التي لم يستطع مذهبها أن يعمر بين المسلمين طويلا، وبقي حبيسا في الكتب.
ولا ريب أن أقوال ابن حزم -ممثل الظاهرية ومحاميها- في إنكار التعليل والقياس، هي التي أوحت إلى شاخت وأمثاله بهذا الزعم وأعطتهم مادة يؤيدون بها هذا الافتراء مع أنهم يعلمون حق العلم مكان هذه الفئة وفقهها من جمهور الأمة.
وقد رد المحققون من فقهاء الأمة على كل ما أثاره ابن حزم ومن نحا نحوه، ونقضوه من أساسه، وبينوا -بالبراهين الناصعة- أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، ولا تجمع بين مختلفين، ولا تأتي بشيء خارج عن مقتضى الحكمة أبدا، كما يتضح ذلك في إعلام الموقعين للإمام ابن القيم.
ومما أكده ابن القيم هنا، ونقله عن شيخه -شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة القياس- أن لا شيء في الشريعة جاء مخالفا للقياس أبدا، خلافا لما ذهب إليه بعض الفقهاء: أن بعض الأحكام جاءت مخالفة للقياس، لما وراءها من مصلحة، وقد ذكر الشيخان هذه الأحكام وبينا بالتفصيل مطابقتها للقياس الصحيح تمام المطابقة.
وقال ابن القيم في أعقاب ذلك:
“فهذه نبدة يسيرة تطلعك على ما وراءها، من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف، وإن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها، وجودا وعدما، كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودا وعدما. فلم يخبر الله ورسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل.
وحسبنا في الرد على هؤلاء أن الذي يقرأ كتاب الله وسنة رسوله يجد في نصوصها ارتباط الأحكام بالمعاني والعلل في مئات من المواضع، حتى الشعائر التعبدية نفسها لم تخل من هذا التعليل، الذي هو مظهر حكمة الله فيما شرع. فالصلاة “تنهى عن الفحشاء والمنكر” والزكاة “تطهرهم وتزكيهم بها” والصيام “لعلكم تتقون” والحج “ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله”.
ولقد أخذ الراسخون من علماء الأمة من أمثال الغزالي وابن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وغيرهم، من استقراء الأحكام الجزئية وتعليلاتها التي ثبتت بنصوص الكتاب والسنة إن الشريعة ما جاءت إلا لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودفع الشرور والمفاسد عنهم، وهذا ما لا ريب فيه.
“وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين”.