الردة واشكالية الدين والواقع:
هناك نوع من التضايق الخفي يبرز من الدراسات الإسلامية التي تتناول بشيء من التحليل التجربة الإسلامية التاريخية أو جوانب من الواقع الإسلامي المعاصر، ومنشأ هذا التضايق (( الخلل )) بين بعض ما تؤكده التجارب المعاشة للإسلام وبين ما تصرح به بعض الآيات القطعية أو بعض التوجهات التأسيسيّة. وإذا كانت بعض الدراسات الإسلامية تتجاهل هذا (( الخلل )) فلا تريد أن تبحثه لا عتقادها أن في ذلك مسًّا من قداسة النص والقاء شبهة أثر الواقع الإنساني على المقدّس، فإن دراسات أخرى عبّرت بمستويات نختلفة من الوضوح عن ضرورة تحليل هذا (( الانكسار )) الذي يصيب النص عند اختراقه الفضاء البشري وهذه الدراسات على قلتها تناولت بالنظر ما فعله الساسة والفقهاء بالنص الديني باسم الدفاع عن العقيدة وحماية الوحي. يتحدث عبد المتعال الصعيدي- أحد المجددين الأزهريين واحد تلامذة محمد عبده في كتابه الحرية الدينية في الإسلام(1) عن هذا (( الخلل )) فيقول (( جاء العصر الحديث وجمهور المسلمين يرون أن الإسلام انتشر بالسيف وان الدعوة إلى الله إذا لم يفد فيها السلم وجب العدول عنه إلى الحرب فيكره الناس على الدخول فيه حلت لنا دماؤهم )) ثم يلاحظ ان مثل هذا الموقف السائد الذي افرزته اختبارات سياسية واعتبارات ظرفية لا علاقة لها بالدين بصطدم مع آيات عديدة تؤكد على عكس هذا الفهم من مثل ] لا إكره في الدين [ ( البقرة 256). وقد اضطر العلماء قديما(2)- للتغلب على هذا التعارض- ان يدّعوا أن هذه الآيات اما منسوخة بآية القتال: ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين الله [ (البقرة 193) وأما انها آيات مخصوصة بأهل الكتاب الذين يقرون على الجزية وأما أن المقصود منها هو نفي الإكراه على الباطل أما الإكراه على الحق فهو من الدين!. هذه الاجتهادات القديمة- المرتبطة بأوضاع سياسية معلومة – تبنّاها اليوم إسلاميون كثيرون على ضعفها مفضلين قبول تأويلات متعسفة للنصوص أو حتى القول بنسخ آيات من القرآن وابطال العمل بها- على أن الذي نريد التأكيد عليه هو أن مسألة الردّة- وهي من المسائل الكاشفة عن جوانب هامة من التجربة التاريخية الإسلامية والمتصلة في نفس الوقت بخلافات المسلم المعاصرة – تتجاوز فى نظرنا الخلافات الفقهية القانونية- انها تكشف طبيعة الإيمان الذي نعيش به فى العالم الإسلامي فالردة ليست إلا الوجه الآخر للإيمان ومن كل هذا الحديث الذي نسمعه اليوم عن الصحوة الدينية في بلاد المسلمين نجد أن السكوت عنه هي هذه الردّة الصامتة التي تنخر الضمير والواقع والتي لن نفلح الاجتهادات القديمة في التصدّي لها- اننا بحاجة إلى تشريح للصور الإيمانية التي عاش بها المسلمون والتي نتوارثها اليوم دون إعادة نظر حقيقية فيها. من جهة ثانية فإن قضية الردّة تكشف لنا جانباً من اشكالية الدين والواقع أو الإيمان والعدل. إن ما سنحرص على توضيحه فى الصفحات الموالية هو أن الفكر الإسلامي المعاصر وهو يتناول مسألة الردّة رسم لنا وجهين متباينين كل التباين: وجه لا ينفصل فيه الإيمان عن العدل القائم على التسامح والحرية ووجه ثان لا يتصور إيماناً دون سلطة تستعمل العنف من أجل إرجاع المسلمين إلى دينهم وانقاذهم من السقوط المتواصل – هكذا أصبح الدين الواحد اليوم – في نفس الوقت دافعاً للتسامح والعدل ومحركاً للقهر والعنف. لقد كشفت لنا مسألة الردة هذه الازدواجية بين خطين كبيرين يميّزان الفكر الإسلامي المعاصر: خط انطلق مع محمد عبده وتواصل بطئ التطوّر ليصل في هذه السنوات الأخيرة إلى ضرورة تأسيس جديد للإيمان قائم على حرية الاعتقاد وخط ثان مغاير ينشأ في الهند وانتقل إلى بلاد العرب يعتبر أن عودة الخلافة الإسلامية شرط أساسي لأقامة الإيمان والدين على الوجه الصحيح. الردة اذن تستطيع أن تكشف لنا جوانب من منهجية الفكر الإسلامي الذي يبدو اليوم متأرجحاً بين اختيارين متباينين في منجزاتهما رغم اتفاقهما في المنطق وهي المنهّجية التي تحتاج إلى دراسة أعمق ان أردنا أن نعي طبيعة هذا التحرك الإسلامي وموقعه وآفاقه المستقبلية.
الردة الصامتة: تختلف أهمية الأبحاث الإسلامية الحديثة المتصلة بالخط الأول في تناولها مسألة المرتد في الإسلام إذ يقتصر البعض على إعادة كاملة وحرفية لما نصّت عليه بعض الكتب المتقدمة في حين تضيف دراسات أخرى إلى الفتاوى الرسمية القديمة تساؤلات حزئية فيها دعوة إلى إعادة النظر في التوجه الذي يُسبغ على تلك الفتاوى الصبغة القطعية التي لا تقبل مراجعة- مجموعة أخرى من الأبحاث ركّزت على استقصاء الاجابات المختلفة في نصوص المرتد سواء ما كان منها مشهوراً أو غير مشهور معطية بذلك صورة كاملة للموضوع الفقه القديم مؤكدة على أن الرأي المشهور هو الأضعف من حيث العلاقة بمنطوق النص وروحه ومجموعة رابعة تبنّت مبدأ التفاعل مع النص القرآني من منظور الوعي المعاصر الذي بلغته انسانية اليوم متجاوزة في ذلك الاجتهادات الماضية كلها باعتبارها وليدة خصوصيات ظرفية لا صلة لها بما نحياه اليوم. ومن خلال الكتب التي تم الرجوع إليها والتي تغطي تقريباً جزءاً هاماً من سنوات هذا القرن يتبين الشوط الذي وقع قطعه في خصوص هذا القرن يتبين الشوط الذي وقع قطعه في خصوص هذا الموضوع- فمن موقف محمد عبده أثناء تفسيره لآيات الردّة في المنار (1904) إلى ما كتبه محمد الطالبي عن حية الاعتقاد (4) سنة 1985 نجد شوطاً كبيراً(3)، يحتاج منا إلى أن نتناول بشيئ من التفصيل الكتاّب الذين قدموا إضافات تُذكر. فإذا نظرنا في محمد عبده ( ت 1905) وجدنا أنه لم يول عناية كبرى بالمسألة فلا هو تحامل على المرتد ولا أعاد النظر في التراث الفقهي الخاص به- لقد اقتصر عمله على عرض بعض الجوانب التطبيقية ثم ختم بقوله (( وللردة أحكام أخرى عند الفقهاء تطلب من كتبهم )) إلا أن عبده وهو يعطي تعريفاً للردة فتح لنا ثغرة لا تبدو أهميتها للوهلة الأولى ولكنها تمثل توّجهاً جديداً في خصوص الفكر الديني المطروح في البلاد العربية والإسلامية في أوائل هذا القرن- الردة كما يعّرفها عبده تعني الرجوع عن أصول الدين الأساسية الثلاثة: الإيمان بالله وباليوم الآخر والإلتزام بالعمل الصالح…(( وهذه الأصول جاء بها كل نبي مرسل لا يتركها انسان بعد معرفتها والأخذ بها )) فالردة عند عبده ليست لها (( مشروعية )) عقلية والمسلم إن ارتد فانما يرتد عن شيء آخر غير الإسلام الذي هو (( منتهى ما يصل إليه ارتقاء العقل البشري في الاعتقاد وتطهير النفس من الأوهام )). انطلاقاً من هذا التوجه بنى عدد من الإسلاميين المحدثين أطروحتهم مطورين السؤال المحوري خارج مجال الفقه ومتسائلين: لماذا يرتد المسلم؟ أو بعبارة أدق ما هي طبيعة إيماننا اليوم؟ أو بعبارة أدق ما هي طبيعة إيماننا اليوم؟ لقد فتح عبده باباً لم يكن في الحسبان فتحه من قبل فبعد أن كان الجدل دائراً حول المرتد ووجول قتله ومدة استتابته.. أصبح الاتهام اليوم موجهاً (( للمؤمن )) فهو الذي يحمل بُنيةً إيمانية تمكّن من التفصّي والارتداد بشكل واسع- الاشكال اذن في إيماننا الذي نعيش به في عالمنا المعاصر وليس في هذا الذي يلحد أو يرتدّ. ولعل أفضل من عبّر عن هذه المأساة الدقيقة هو محمد الطالبي في بحث بعنوان: الإسلام والغرب يقول فيه: (( ان التفصيّ من الإسلام ( Desislamisation )) حقيقة ملموسة.. أن اتباع(5) الإسلام يغادرونه بدون ضوضاء على أطراف أصابعهم… يواصلون ختن أطفالهم دون أن يروه فرضاً ويقرؤون الفاتحة في حفلات الزواج وعلى قبور الموتى دون أن يكون القلب حاضراً ان الأمر لا يتعدى كونه مجموعة من عوامل الاندماج المجتمعية أو نوعاً من الدين المدني على شاكلة بعض القدماء الذين يواصلون تمجيد الآلهة دون أن يعتقدوا فيها )).
إيمان جديد لردّة جديدة: قضية الردّة والتفصّي من الإسلام توصلنا عبر أدبيات الخط الأول إلى ضرورة إعادة النظر في هذا الإيمان الذي نحمله أو لا نحمله- اننا ندرك أن الإيمان السائد في الفضاء العربي الإسلامي ليس إلا محصّلة عوامل سياسية وظواهر نفسية اجتماعية عاشرات المسلمين في قرونهم الأولى- زمن الفتوحات وانتصار الامبراطوريات الأمويّة والعباسية ثم عندما جاء العثمانيون لتكريس نفس البناء الإيماني. إن من يقرأ الرأي السائد للمذاهب السنّية الأربعة وللشيعة الإمامية في خصوص المرتد لا يبقى لديه شك في أننا نتعامل مع إيمان صاغه فقهاء السلطة المظفرة
والعسكر القاهر- يقول الأحناف (( إذا ارتد المسلم عرض عليه الإسلام وأجل ثلاثة أيام لأن الظاهر أنه دخلت عليه شبهة ارتد لأجلها ولابد من ازالتها.. ويضيف المالكية: ويستتاب المرتد وجوباً ولو عبداً أو امرأة ثلاثة أيام بلياليها من يوم الثبوت لا من يوم الكفر بلا جوع ولا عطش. أما الشافعية فلا يوجبوب الأيام الثلاثة ويرى ابن حنبل أن المرتد والمرتدة يدعيان للإسلام ثلاثة أيام والإمامية يفصّلون المسألة إلى مرتد فطرة: وهو المرتد من أبوين مسلمين وتوبته غير مقبولة ويتعين قتله وتبين منه زوجته وتؤخذ أمواله وإلى مرتد ملّي وهو من أبوين كافرين: أسلم بعد بلوغه ثم ارتد إلى الكفر الأصلي: يستتاب فان قبل التوبة وإلا قتل ))(6) حين نقرأ هذه الفتاوى الحاسمة ثم نقرأ ما كتبه الطالبي عن خروج مسلمي اليوم من الإيمان دون ضوضاء ندرك اننا نواجه نوعاً جديداً من الارتداد عجز ايماننا الذي ورثناه من عصر آخر أن يحول دون تفشيه وانتشاره. فكيف طرح الكتاب الإسلاميون المنتسبين للخط الأول هذه (( الردة الجديدة )) وهذا (( الإيمان القديم )) وكيف يمكن أن نصنّف أدبياتهم من محمد عبده إلى محمد الطالبي؟ المراجع التي اعتمدناها تنقسم إلى ثلاثة مجموعات فرعية متعايشة ومتفاعلّة إلى اليوم
المجموعة الأولى: تعتبر الردة جريمة لا مجال للتسامح فيها وترى أن قتل المرتد ليس إلا تطهيرًا للمجتمع من عروق الأدواء المهلكة. هذه المجموعة الأولى وان كررت الطرح التقليدي للفقهاء فان تباينا جزئياً يبرز خفتها بين فئة ثانية تنقله في شيء من التحفظ في الفئة الأول نجد عبد القادر عودة ( ت 1954 )(7) والطاهر ابن عاشور (ت 1973)(8) ومحمد الغزالي(9) وشوقي الفنجري(10) هذه الفئة رغم اختلاف الصيغ والتعابير فانها تعتبر أن الردة واحدة وأنه كما قاتل أبو بكر القبائل المرتدة فلا مناص من قتل من بدّل دينه اليوم حتى لا يتهاون أحد في الإسلام وحتى لا يوهم المرتد ضعاف العقول أنه جرّب الدين فوجده غير مرضي وحتى لا يكون الدخول في الدين من ذرائع التجسس على الأمة. أما الفئة الثانية فلها تحفظ على هذا الاطلاق وكأنها أدركت عدم جدوى هذا التوجه: يمثل هذه الفئة الثانية محمود شلتوت(11) وعبد الكريم عثمان(12) هذان الباحثان وان عادا إلى الفتاوى القديمة فإنهما نقلا عن قدامى آخرين ومن أبرازهم ابن القيم ( ت 751/ 1350م ) أراء معدّلة مؤكدين الفرق بين الردّة الجماعية، ولعل أهم ما أضافته هذه الفئة الثانية يتمثل فيما كتبه الشيخ شلتوت شيخ الإزهر سابقاً حين أكد أنه لا يوجد في القرآن عقوبة للردة وان ما أثبته الفقهاء من قتل المرتد إنما اعتمد على الحديث آحاد ثم يؤكد تحفظه فيقول (( وقد تغّير وجه النظر في هذه المسألة إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى آن الحدود لا تثبت من حديث الآحاد وان الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم، إنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم.. وان ظواهر القرآن تأتى الاكره على الدين(13).
المجموعة الثانية: سوف تطوّر توجه الشيخ شلتوت وبوضوح أكبر مع مواصلتها في اعتبار الردة جريمة سياسية تحتاج إلى كثير من التريّث في التعامل معها وبمثل هذه المجموعة حسن إبراهيم حسن(14) وعبد المتعال الصعيدي(15) ومحمد فتحي عثمان(16) وتتفق هذه المجموعة على أن معاقبة المرتد بالقتل أمر اقتضته سياسة الدولة أكثر من الحرص على الإسلام إذ كان أخوف ما تخافه الدولة هو الابقاء على هؤلاء المرّتدين أن ينقلبوا عيوناً عليها. فمحاربة أبي بكر لمن ارتد لم تكن سوى قمع لثورة داخلية حتى لا تتصدع أركان الوحدة العربية وتتفرق كلمة المسلمين. كذلك فإن هذه المجموعة ترفض القول بأن آيات حرية المعتقد منسوخة أو خاصة بل ترى أنها أصل ثابت كما تعتبر اننا بين أمرين فإما أن نخالف ما أجمع عليه القدامى وموافقة الرأي الخاص القائل بأن المرتد لا يُقتل ولكن يستتاب أبداً أو ان تتيح للناس فرصة لاعلان قبول الدين واعتناقه بعد الاقتناع به (( ما داموا سيفقدون رؤوسهم أن تركوه )). مع هذه المجموعة الثانية تتبلور أكثر مسألة حرية الاعتقاد في معالجة مسألة الردّة المعاصرة وهي المسألة التي ستتبناها المجموعة الثالثة.
المجموعة الثالثة: يمثلها جمال البنا(17) ومحمد الطالبي(18) وهما يدعوان إلى ضرورة تأسيس جديد للإيمان ذلك أن التحولات التي شهدتها الإنسانية اليوم بلغت حدًا لا يسمح اطلاقاً بقبول الطرح القديم لمسألة الاعتقاد. (( لقد كان اليهودي الذي يعتنق ديناً آخر يَّعدُ مغادراً للمجموعة الوطنية) ( Communauté بشكل آلي ويعتبر عمله خيانة عقابها الموت. والمجموعة اليهودية تشبه من أوجه عديدة الأمة في البناء الإسلامي وكان ظهور المسيحية ثورة على هذا المفهوم القديم الذي لا يريد الفصل بين الدولة والدين ولا يريد ضمان حرية الاعتقاد. لكن كان لابد من انتظار القرن التاسع عشر كي نشهد تحولات نوعية متعلقة بحرية الإنسان في الاعتقاد )) ( م. الطالبي ). لهذا كان لزاماً أن نعتبر أن الإيمان يقوم على الإرادة الشخصية وان الله (( أراد الأختلاف والتعدد ولذا وجب إبعاد كل صور القسر والإلتزام بل حتى التدخل في دائرة الاعتقاد الديني وأن تقوم كل معالجة في هذا الأمر بأسلوب الدعوة والحوار الذي وضعه الله للأنبياء ويسري هذا الحكم على الناس جميعاً دون تفرقة بين مسلمين وغير مسلمين )) (ج. البنا ). مع هذين الباحثين تصل قضية الردّة في الفكر الإسلامي المعاصر إلى تطوّر نوعي يحسم مع تلك النظرة للمرتد من (( الداخل ))، داخل دولة المسلمين المحاطة بالأعداء والمهددة بالجواسيس والتي تسّتبيح نسخ آيات من القرآن والافتاء بالقتل مع عدم توفر ما يدّعم ذلك في نص القرآن وروحه- النظرة التي يقترحها الطالبي والبناء نظرة ديناميكية (( داخلية- خارجية )): داخلية إذ هي تفهم الأسباب التي دعت فقهاء الماضي إلى صدار فتاواهم في خصوص المرتد لكنها لا تبررها ولا تعتمدها في مواجهة مشكلة الإيمان في عالمنا المعاصر بل تقترح عوضاً عنها تقسيماً جديداً فائماً على مبدأ حرية الأعتقاد القادر وحده على مواجهة فعّالة لظاهرة الردّة وخارجية لأنها تدرك التحولات العميقة التي تجتاح العالم الإسلامي والفكر الانساني وتعتبر انه لابد من تأسيس إيمان جديد لهذا العالم الجديد لا يتعامل مع الردّة من زاوية الاعتبارات القانونية بل يطرحها من منظور الوعي والفهم إيمان يسمح بالحوار بين الله والمرتد ولا يجيز لأحد أن يتدخل فيه. خظ عودة الخلافة: هذه جملة محاولات الخط الأول التي اعتبرت الردّة مشكلة حقيقية لا مفر من بحثها ان أراد المسلم مواجهة العصر وتحدياته- لكن يجب ألايغيب عنا أن هذه المحاولات وإن كانت عديدة فهى ذات تأثير محدود إذا ما قورنت بتأثير دراسات الخط الثانى أو خط عودة الخلافة، فى أدبيات هذا الخط إغفالًا لردة المسلم؛ ذلك لأنها تعتبر مشكلة مغلوطة تخفي أصل الأنحراف وهو غياب الحكم الإسلامي الذي (( مكّن من انسلاخ المجتمع عن الإسلام ووقوعه في الجاهلية )). والكتّاب الذين تنالوا القضية من هذا المنظور قلّة تعود تأليفاتهم إلى المنظّر الهندي أبو الأعلى المودودي(19) الذي طرح الموضوع سنة 1939 ثم عاد إليه بالحاح في الخمسينات وقد تبنى عنه سيد قطب (20) نظرية جاهلية المجتمع ثم ورثها من بعده جماعات إسلامية من أهمها جماعة الجهاد في مصر(21) ومسألة المرتد بالنسبة لهذا الخط الثاني تطرح بشكل مغاير لما رأيناه من قبل فهي مرتبطة بطبيعة تقييم هذا الخط للوضع الحضاري العالمي انه وضع كوارثي بلغت عملية هدم الحياة الانسانية ذورتها.. (( فالنوع البشري يتخبط في هوته السحيقة القائمة وينتظر الجماعة المؤمنة بنظرية الإسلام كما قدمها الأنبياء عن الإنسان والعالم.. نظرية متماسكة الحلقات منطقية الترابط )) (المودودي).. ثم أن المجتمعات (( المسلمة المعاصرة)) كالعالم كله تعيش في جاهلية كاملة فهي تعتدي على سلطان الله في الأرض وأخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. أنها تسند الحاكمية للبشر ويتمثل ذلك في ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزْل عن منهج الله للحياة )) ( قطب ). هكذا يصبح الهدف الرئيسي هو (( إقامة الدول الإسلامية فرض ديني لأن لله فرض علينا فرائض وأوجب علينا أحكاماً يستحيل اقامتها في غيبة الدولة الإسلامية… ولن يتحقق ذلك إلا (( بإعادة الخلافة الإسلامية )) عن طريق القتال ( جماعة الجهاد ). إن المدى الذي وصله (( فكر )) هذا الخط الثاني كما عبّرت عنه جماعة الجهاد ليس إلا خطة الأرض المحروقة التي لا ترى من حلّ لإعادّة الإسلام إلى الأمة
(( إلا بالمواجهة والدم ))- وهذا لأن الردة – عند هذا الخط – إنما هي (( ردة حكام يهيمنون على المسلمين، وأنهم العدو القريب المستند إلى الاستعمار: العدو البعيد )). والجواب عندهم لا يكون بغير إقامة الخلافة الإسلامية القادرة وحدها على إعادة المسلمين إلى إسلامهم الذي سُلب منهم. عبر هذين الخطين المتباينين اللذين تناولا مسألة الردًة في الكتابات الإسلامية المعاصرة ترتسم طبيعة المصاب التي تواجه مسألة الإيمان اليوم وطبيعة العلاقة بينه وبين العدل في مستقبل قريب. اننا ندرك من خلال هذين الخطين التّمزق الذي يعيشه المسلم المعاصر: أنه يتجه من جهة تدريجياً للوعي بأن الإيمان لا يمكن أن يزدهر إلا من البيئة الحرة لأن للحرية دينا ميكية قادرة على إحداث تفاعل بين فرقاء المجتمع الواحد يمكّن من تجاوز عيوب المؤمنين مرتقياً بحسّهم وفكرهم وطرق عملهم إلى مستويات متطورة من النمو مصححاً بذلك معظم حالات الانحراف والارتداد. من جهة ثانية فإن المسلم لا يستطيع أن يلغي من اعتباره العوامل المناهضة لمبدأ حرية الاعتقاد والمتمثلة في:
أ- موروث ثقافي يعتبر أن للإيمان مهمة في الحقل السياسي يقيم بها العدل الإسلامي.
ب- تشابك عنيف للصراعات والمصالح الدولية في البلاد الإسلامية مما لا يسهل الدعوة للحرية.
جـ- سهولة الانحراف بمفهوم حرية الاعتقاد إلى اللامبالاة والتحلل القيمي كما تثبته التجارب الأوروبية الحديثة.
فهل يمكن حسم هذا التناقض بين خط إعادة تأسيس الإيمان وخط عودة الخلافة في البلاد الإسلامية؟ وما هي القوى القادرة عليه؟ أم أن الحسم مستحيل والممكن الوحيد هو تفاعل واع مع هذا التناقض عن طريق تعميق العشور بضرورة نظام إسلامي يقوم على التأصيل لحرية الاعتقاد؟ أم أننا سوف نواصل التارجح وحوار الصمّ الذي غرفناه طيلة عقود متوالية من هذا القرن؟ وإذا كان (( توفيق صدقي )) قد كتب سنة 1906 في مجلة المنار مقالاً تناول فيه من جملة ما تناول مسألة الردة مصرحاً أنه يعارض قتل المرتد(22) (( وإذا كان الجميع تجاهلوا موقفه هذا فلم يجبه أحد رغم كثرة الناقدين.. وإذا كنا لا نستطيع أن نجزم بالوجهة التي سوف تسير فيها الأمور في مستقبل قريب فإننا لا نستغرب أن يتواصل حوار الصمّ واختيارات التجاهل للقضايا الكبرى كقضية التغيير والاعتقاد أو الإيمان والعدل في عالم إسلامي لا يبدو أنه يملك لتنمية مستقبله إلا الفكر والثقافة- إن حصل هذا فستمضي سنوات طويلة دون أن نتمكن من روية نهاية النفق الذي طال تخّبط الفكر العربي الإسلامي الحديث فيه. وإن حصل العكس وتحقيق وعي التناقض فان ذلك مؤشر على يقظة المثقف والمفكر وتحمّله مسؤليته التاريخية في هذا العالم الذي يتاكد فيه دور المعرفة أكثر من أي وقت مضى في صناعة المستقبل والتحكم فيه.
الهوامش
(1) عبد المتعال الصعيدي- الحرية الدينية في الإسلام- دار الفكر العربي 1956 ص 70.
(2) انظر الآيات 92 سورة النمل/ و99 و 100 سورة يونس /21 إلى 26 سورة الغاشية و1 إلى 6 سورة الكافرون.
(3) تفسير المنار ج2 ص 318 ط3 1367هـ.
(4) محمد الطالبي- الحرية الدينية: نظرة إسلامية- مجلة دراسات إسلامية مسيحية عدد 11 سنة 1985.
(5) محمد الطالبي- الإسلام والغرب من خلال تجاوز الصدمات ومواطن الغموض- مجلة دراسات إسلامية مسيحية عدد 7 سنة 1979.
(6) فى خصوص المذاهب السنية يرجع إلى الفقه على المذاهب الأربعة الجزء 5 ص 426- ط 2/ 1927 وفي خصوص الشيعة الإمامية انظر أحمد ذكي تفاحة، الإسلام عقيدة وشريعة دارالكتاب اللبناني سنة 1979.
(7)عبد القادر عودة- الإسلام وأوضاعنا السياسية- فصل حرية الاعتقاد ط 1 سنة 1951.
(8) محمد الطاهر ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي الإسلامي فصل الحرية المنشودة الدار التونسية للنشر – 1972.
(9) محمد الغزالي- الإسلام والاستبداد السياسي- دارالكتب الحديثة ط 2 1961.
(10) د. شوقي الفنجري- الحرية السياسية في الإسلام- دار القلم الكويتية ط 2 1983.
(11) محمود شلتوت- الإسلام عقيدة وشريعة- دار القلم- مصر- دون تاريخ.
(12) د. عبد الكريم عثمان- النظام السياسي في الإسلام- دار الإرشاد 1968.
(13) محمود شلتوت المذكور سابقاً ص 293.
(14) د. حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام السياسي- طبعة حجازي القاهرة 1935.
(15) عبد المتعال الصعيدي المذكور سابقاً.
(16) د. فتحي عثمان- الفكر الإسلامي والتطوّر- الدارالكويتية ط2 1969، زمن أصول الفكر السياسي الإسلامي- مؤسسة الرسالة ط 2. 1984.
(17) جمال البنا- حرية الاعتقاد في الإسلام- المكتب الإسلامي ط 2. 1981.
(18) محمد الطالبي- الحرية الدينية- المذكور سابقاً.
(19) أبو الأعلى المودودي له عدة مؤلفات في هذا الموضوع أعتمدنا منها: الإسلام والجاهلية دار الفكر (دون تاريخ)، ونحو ثورة سلمية، دار العربية 1968.
(20) سيد قطب- معالم في الطريق 1965 دون دار نشر.
(21) د. محمد عمارة- الفريضة الغائبة- دار البرق- تونس- دون تاريخ.
(22) مجلة المنار- المجلة 9 ص 523 سنة 1906.