إن أي مناقشة لأشكال الغزو الثقافي الي تتعرض له البلاد الإٍسلامية ـــ سواء الممارسات الإٍقتصادية, أو العادات الإٍجتماعية, أو المؤثرات الفنية ـــ يتطلب أن نضع في اعتبارنا أربعة معالم مرتبطة بما بمثلة ها الغزو من تدفق في الأفكار والعادات.
وأول هذه المعالم وجوب وصف تلك العناصر الغازية؛ فمن الضروري أن نتعرف علىٰتلك المظاهر التي تنتسب إلىٰالحضارة (أو الحضارات) الأجنبية, والتي تقتحم الثقافة الإٍسلامية وتنشر فيها. وفي حالة الغزو الثقافي في مجال الفنون, فإن ذلك يتم فقط عن طريق التحقيق من السمات الحقيقية لتلك المؤثرات الفنية الوافدة والمقتبسة, لكي يكون من الممكن تقييم الفائدة المحققة من ها الغزو أو الخطر الكامن فيه.
وثانيها أنه يتحتم علينا أن نتحرى روافد الغزو الثقافي, وما هي الظروف الخارجية أو الداخلية التي تسهل هذا الغزو وكيف نقوم نحن المسلمون بإعداد التربة وتهيئة المناخ لإٍقتباس تلك الأفكار والأعراف الغربية عنا وإتباعها ؟ وتعالج هه التساؤلات سبل تأثير عناصر الغزو الثقافي علىٰالحياة اليومية للمسلمين ـــ في الجزائر ومصر, في باكستان وجنوب شبه الجزيرة العربية, في آسيا الوسطىٰونيجيريا ـــ كما نلمسها في الواقع.
وثالث هذه المعالم يشير إلىٰ تقييم الخطر الكامن في عملية تشرب الثقافة الغربية في الأذىٰالناجم عنها سواء أرتبط ذلك بالغزو الثقافي في مجال الفنون أو في أي مجال ثقافي آخر ـــ وهل هناك مبرر للقلق العميق أو أن التغيرات المعاصرة التي نراها من حولنا تشير حقيقة إلىٰنماء صِحي للكيان الكلي للثقافة المسلمة ؟ وهل من الواجب علينا أن نهتم لما نتعرض له من غزو ثقافي معاصر أو أن ذلك استعارات بريئة يمكن للكيان الإٍجتماعي الثقافي الإٍسلامي «هضمها» أي «أسلمتها» ؟
أما المعلم الرابع الذي يلزم أن نوجه إهتمامنا إليه فيتمثل في السبل اللازمة للتحكم في المؤثرات الغازية وتقصي أساليب مواجهة ما تمثله من تحدٍ سواء أقتصرت رغبتنا علىٰ ترشيد هذا الغزو وتحويل مسار تأثير بعض عناصره, أو كانت أكثر حسماً في حفز هذه المؤثرات الغازية أو وأدها, في تدعيمها أو إحباطها, في ترقيتها أو إيقافها. كيف نستطيع نحن المسلمون ـــ ونحن نتعرض حتماً للمؤثرات الأجنبية كل يوم من أيام حياتنا ـــ أن نمنع استنزاف نسغ جذورنا الثقافية وهويتنا الحضارية بما تحمله تلك الإٍستعارات التي تغمرنا بلا تمييز أو تحديد ؟ كيف نضمن أن استعارتنا لتلك الأفكار الغربية والعادات الدخيلة ستكون من خلال جوهر إسلامي قوي وهوية أساسية رصينة ؟ كيف يمكننا أن نمنع تلك الإٍقتباسات الشاملة التي تصيب هويتنا الإٍسلامية بالتميع ؟
ورغم كثرة وتنوع الإٍستعارات الفنية من الثقافات المجاورة, التي كان المسلمون علىٰ صلة بها, فإن اهتمامنا الرئيسي من هذا المقال سيقتصر علىٰ الغزو القادم من الحضارة الغربية ـــ سواء من أوربا الغربية أو من أميركا ـــ في مجال الفنون. ومن المؤكد أن هذا التحديد لا يبعث علىٰ الرضا التام, ولكننا أضطررنا إليه لسببين : أولهما الحيز والزمان المخصصين لمقال واحد. وثانيهما : الأهمية المعاصرة الكبيرة المعطاة للحضارة الغربية كمصدر للمؤثرات الغربية التي تنفذ إلىٰ العالم الإٍسلامي.
أولاً : مظاهر الغزو في النواحي الجمالية :
أ ) المنتجات الفنية : يأتي الفن العربي ذاته كمصدر من مصادر غزو الفنون الغربية واقتحامها العالم الإٍسلامي ونعني بذلك الأعمال الفعلية التي صنعتها أيدي الفنانين الغربيين لجمهورهم ومؤسسات مسلمة بشراء وتجميع هذه الأعمال الفنية بإعتبارها استثماراً أو وقاءً من التضخم, وكذلك لتجميل منازلهم ومكانبهم وحدائقهم ومدنهم, ولكي يحيطوا أنفسهم بسرادق الهوية الثقافية الغربية. ويتفوق علىٰ هذه الأعمال الفنية في أثرها أعمالٌ أخرىٰ تهيمن علىٰ ممارسات التسلية والمتعة, كأفلام السينما, والكتب, والمجلات, والتسجيلات الإٍذاعية. وسواء أكانت هذه الأعمال الفنية الغربية تماثيل منحوتة أو لوحات مرسومة أو نسيجاً مطرّزاً أو أثاثاً أو أوعية منزلية أو أفلاماً سينمائية أو أعمالاً أدبية أو موسيقىٰ مسجلة ـــ فكلها أعمال فنية يقصد بها إعطاء الزائر ـــ أجنبياً كان أو من أهل البلد ـــ إنطباعاً بأن مشتريها أو مقتنيها أو راعيها شخص ذو شخصية عالمية من نمط «الأفندية» تثقّف في فنون الحكام المستعمرين السابقين ـــ أو تابعيهم من المستعمرين الجدد ـــ وحَذّفها ـــ بل إنا نجد الحكومات تنفق ببذخ علىٰالمعارض وفعاليات الفنون الغربية ليستفيد منها ـــ في المقام الأول ـــ المقيمون من الأجانب وخفنة من المواطنين الذين يظهرون إهتمامهم بها. ومن الأمور التي تبذل لإٍقامة ودعم فرق الأوركسترا السيمفونية ومعاهد «الكونسرفتوار» للموسيقىٰ الغربية في العواصم العربية(1). ففي مصر في أثناء حكم عبد الناصر خُصصّت مبالغ حكومية كبيرة لشراء أجهزة «بيانو شتاين واي» وإستقدام فنانين أوربيين بالأجر ليعزفوا عليها ويعلموا الآخرين في المعهد العالي للموسيقىٰ «المونسرفتوار» بينما غجز المعهد العالي للموسيقىٰ العربية عن تدبير أية مبالغ لترقية أعضاء هيئة التدريس فيه أو لإٍستبدال الأجهزة المكسورة أو حتىٰ إصلاحها, ولم يكن لدىٰ عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة مقعد في مكتبه جلس عليه زائروه. وقد أدت أشكال الغزو هذه إلىٰ ظهور نماج من الإٍنطباعية والفنون الشعبية الغربية, وغيرها من نماذج الحركة الفنية الغربية المعاصرة, وذلك في أعمال الفنانين المسلمين. كما دفعت بالملحنين إلىٰ تأليف مجموعات مقلّدة من كل أنماط الموسيقىٰ الغربية الكلاسيكية في عصورها المختلفة كما أدت إلىٰ ظهور صور ذات طابع مسلم لكل إتجاه من إتجاهات الموسيقىٰ الشعبية في الغرب, ولكن هذه الفنون لم تكن يوماً ما فنوناً إسلامية, وإنما نسخ محلية من أعمال فنية غربية.
وجاء علىٰ الفنانين المسلمين والموسيقين منهم أوقات أدركوا فيها عدم الإٍتساق الكائن في جهودهم السابقة التي بذلوها في تقليد الغرب, وجاهدوا للعودة إلىٰ جذورهم الجمالية ـــ فعلىٰ سبيل المثال تجد فناناً مثل سليمان عيسىٰ في الأيديولوجية الإٍسلامية التي تشكل العنصر الأساسي في هوية الثقافية الماليزية(2). ومثال آخر نجده في الأعمال الموسيقية لأبي بكر خيرت في مصر. ففي عام 1959 قام بعزف تسجيلات تمثل الكثير من محاولاته الأولىٰ لتأليف موسيقىٰ علىٰ نمط المؤلفين المختلفين للموسيقىٰ الغربية الكلاسيكية عبر العصر المختلفة, ولكنه عندما إلتقىٰ بنا كان قد نضج فيناً وبدأ يستخف بمحاولاته الأولىٰ تلك, ويحط من قدرها علىٰ أساس أنها أمساخ ساذجة من الفن الموسيقي الغربي. وانصب إهتمامه بعدها علىٰ المؤلفات الصوتية الموضوعة علىٰ نمط الموشحً الذي يعتبر نمطاً أصيلاً في بلاد المسلمين, وكان يحس أن هذا النمط سوف يقوده إلىٰ تعبيرات تعتبر جديدة ومعاصرة, وفي الوقت ذاته تمتد بجورها في التراث المصري الإٍسلامي, ولسوء الحظ إنقطعت بوفاته محاولاته في هذا الإٍتجاه.
ومرة أخرىٰ نجد مثالاً حديثاً علىٰ غزو الأعمال الفنية القادمة من الغرب في ما يسمىٰ بمشروع تجميل مدينة جدة. حيث تمت صناعة نماذج ممسوخة من الفن الغربي خالية من الصبغة الإٍسلامية أو العربية, ثم نُثرت في حدائق المدينة وأماكنها العامة, ثَم ترىٰ العيون وتعجب من غياب الوعي الجمالي الإٍسلامي عند هؤلاء المسلمين الذين أنفقوا أموالهم علىٰ إنشاء تلك النماذج الغربية من الفن الغربي المعاصر, أو عند هؤلاء الذين أوصوا بها, أو يسّروا إقامتها في مدينة داخل المملكة العربية السعودية.
فهذه الأعمال الفنية في مجملها تشهد علىٰ أنها أجسام غربية تنتمي قلباً وقالباً إلىٰ الإطار الأوربي أو الأمريكي المعاصر, ولكٰنهم إستعاروها إلىٰ حيث وقفت في الصحراء دليلاً صارخاً علىٰ التنافر مع البيئة التي غزتها, بل وزاد من شدة هذا التنافر ما أستحِدث حولها من «صحراء جمالية». ورغم أن بعض الدول المسلمة قد بدأت تدرك المشكلات التي تصحب هذه الأنماط من الغزو الجمالي في مجال الفنون المرئية, إلا أن مجلّاتها وأفلامها وتسجيلاتها المرئية وكلك برامج إذاعتها المسموعة والمرئية, كلها مازالت مشربة بالمستورد من الغرب بل وأكثر من ذلك, خاضعة له.
ب ) ما يتعلق بالفن من أفكار : ولم تكن الأعمال الفنية الجمالية التي أفرزها الغرب هي وحدها التي غزت عالمنا الإٍسلامي, وإنما نجد ما يتعلق بالفن من أفكار هي الأخرىٰ تتغلغل في المجتمع المسلم وتسري في ثقافته بكثافة متزايدة, وفي شمولية مطردة, حتىٰ أنه لن يكون بإمكاننا إلا أن نذكر فقط القليل من تلك الإٍقتحامات الفكرية الجمالية التي سيكون لها آثار جوهرية, إذا ما إستطاعت أن تُزيد من أتباعها من بين أفراد الأمة المسلمة.
1 ـــ ومن بين هذه الأفكار التي تتعلق بالفنون إعتبار الفن ممارسة وُجدت أساساً لتزين القاعات وجدران المتاحف, أو لتُسمع في قاعات الحفلات الموسيقية؛ وتلك الفكرة مرفوضة تماماً في الثقافة الإٍسلامية. فالفنون الإٍسلامية تستمد وجودها دائماً من قيامها بدور مفد في حياة الشعوب المسلمة إلىٰ جانب تحقيقها وظيفة جمالية في الوقت ذاته. ورغم أننا الآن نجد بعضاً من هذه الفنون معروضاً في المتاحف أو معزوفاً في حفلات موسيقية ؤسمية ـــ وخاصة في العالم الغربي إلا أن الأعمال العظيمة الحقّة التي تنتسب إلىٰ الفن الإٍسلامي لم تُوجد أساساً لكي تكون من بين مقتنيات المتاحف أو برامج قاعات الحفلات الموسيقية, أو لكي يقتصر الهدف منها علىٰ ذلك. فقد كانت دائماً أشياء مفيدة وممارسات نافعة, ترتبط بأحداث أو مناسبات هامة, يشارك فيها أفراد المجتمع مشاركة فعالة. فتجدها في لباس يرتدونه, أو كتاب يقرأونه, أو درع يتدرع به المحاربون منهم أو تُرس يحملونه, أو نشهدها علىٰ جدران أفنية الدور الخاصة أو العامة, أو أدوار نسمعها في حفلات العرس, أو المؤتمرات السياسية, أو التجمعات الدينية. فمن تعاليم الإٍسلام أن أي أمر ندركه أو نمارسه يكتسب أهميته إذا ما جرّ نفعاً أو بُني عليه عمل. والفن بإعتباره مظهراً أساسياً من مظاهر الثقافة ـــ عليه أن يدلل علىٰ هذه العلاقة النافعة مع الأنشطة الأخرىٰ.
2 ـــ وهناك فكرة أخرىٰ ترتبط بالناحية الجمالية, جاءت من الغرب في العقود الأخيرة, وتشير تلك الفكرة إلىٰ تصنيف فنون الشعوب المسلمة إلىٰ ما يسمونه «بالفنون الجميلة» مقابل «الفنون الحرفية» وإعتبارهما أمرين مختلفين. وعلىٰ هذا فهم يضعون «الفنون الجميلة» علىٰ نقيض من «الفنون الحرفية» أو «الفنون الشعبية» فيعتبرون «الفنون الجميلة» أصيلة في مظهرها, متميزة فيمن يمارسونها, وليست للغوام من الناس, مصقولة, ليس بها فجاجة, راقية في أسلوبها, ليس فيها بساطة, ولا تعتمد علىٰ الرخيص من الأشياء في إنتاج موادها .. إلخ. وقد يكون لهذا التقسيم الفاصل بين النمطين مصداقيته عندما نعرض لوصف الفنون الغربية, وإن كان هناك من يعارضه بشدة حتىٰ في الغرب(3) إلا أنه من المؤكد أن هذا التقسيم لا يناسب فنون الشعوب المسلمة. فالفنون الإٍسلامية لا يمكن أن تنقسم إلىٰ فنون جميلة وفنون شعبية علىٰ أساس هذا المعيار. ومثل هذا التقسيم يعتبر عارياً من الصحة خالياً من المعنىٰ. فمن الصعب ـــ إن لم يكن من المستحيل ـــ أن نقيم حدوداً فاصلة بين نماذج الفنون, حيث تشير الفنون الإٍسلامية إلىٰ وحدة واضحة في الأسلوب والمحتوىٰ والشكل, فلا نستطيع أن نفرّق بين المبادئ التي تقوم عليها الزينة في واجهة مسجد ما, وفي النسخة الخطية من القرآن, وبين ما نجده في تصميم بوابة خارجية, أو في زخرفة الأرابيسك علىٰ غطاء مائدة, أو حصيرة للاستعمال المنزلي.
صحيح أنه قد تكون هناك بعض القطع أكثر إبداعاً في تعبيرها عن الإٍسلام, أو علىٰ درجة عالية من الإٍتقان, أو أكثر رقياً في تصميمها, أو استخدمت مواد ثمينة في إنتاجها, ولكن مثل هذا التنوع لا يؤدي بنا إلىٰ تصور فئات منفصلة داخل نظام عام يشمل مجموعة هذه الفنون. وإنما قد يكون من المناسب بدرجة أكبر أن ننظر إلىٰ هذه التنوعات بإعتبارها نقاطاً تحدد مواقع مختلفة علىٰ محور متصل دون أن نرىٰ فيها قواطع حادة تشير إلىٰ فئات منفصلة. فالفن الإٍسلامي تربطه وحدة مميزة تجمع بينه في الأسلوب والمحتوىٰ بغض النظر عم منشئه أو الغرض من وجوده, ومن ثم فإننا حين نفرض عليه ذلك التقسيم الفئوي المقتبس من تراث فني غريب, نوقع أنفسنا في مزالق خطيرة, ونضل عن سواء السبيل. وواقع الأمر أننا بذلك نشير إلىٰ أن مفهوم الفنون الجميلة غير موجود في منظومة الفنون الإٍسلامية, وأنها أي الفنون الإٍسلامية ـــ بإعتبارها فنوناً تنتمي إلىٰ الشعب : وذات جدوىٰ وظيفية ـــ كلها فنون شعبية.
3 ـــ أما الفكرة الجمالية الثالثة التي غزت أفكارنا ـــ رغم أن السياق الإٍسلامي لا يقرها ـــ فمضمونها أن الإٍنتاج الفني هدفه الإٍمتاع الجماليّ, وليس بإعتباره إنتاجاً جميلاً يُستفاد منه ـــ وعلىٰ الرغم من أن بعض الغربيين سوف يجادلون بأن العمل الفني من الممكن أن يكون له بالإٍضافة إلىٰ قيمته الفنية قيمة إجتماعية أو سياسية أو أخلاقية, ولكن تأتي قيمته في الإٍمتاع الجماليّ في قمة الأهمية القيمية, بإعتبارها وظيفته الأساسية. وقد أدت المغالاة في هذه الفكرة في الغرب إلىٰ ظهور المدرسة الفلسفية التي تنادي بمبدأ الجمالية, والتي ترىٰ بأن الحكم علىٰ الانتاج الفني يجب أن يكون متحرراً من أي اعتبارات أو قيود غير جمالية, وقد حيكت حول هذه الفكرة نفسيرات متطرفة راجت في أوروبا في القرن التاسع عشر, وظلت بقايا آثارها واضحة في أعمال بعض الفنانين والنقاد في القرن العشرين, رغم مالاقته في الغرب من صدود بين الفنانين الجماليين ومؤرخي الفن. ومن المحزن أننا نجد إخوة لنا من المسلمين والمسلمات يتبنون هذه الفكرة رغم أفولها في الغرب.
وهه الفكرة تتساوىٰ في عدم مناسبتها للثقافة الإٍسلامية مع الأفكار التي سبقت الإٍشارة إليها. فلا يمكن للمسلم الملتزم أن يتخيل فكراً أو قولاً أو عملاً لا يشارك ـــ فعلاً أو إقتراضاً ـــ في الوحدة الثقافية القائمة علىٰ دين التوحيد. فالدين يحدد لنا ـــ كمسلمين ـــ إيماننا كنسق عقائدي, ويبين لنا عباداتنا من فروض ومناسك, وكذلك يحدد لنا أساليب حياتنا مع بعضنا البعض (مؤسساتنا الإٍجتماعية) والأساليب التي تحكمنا (مؤسساتنا السياسية) وطرق لبسنا وتبادلنا التحية (عاداتنا الإٍجتماعية) وعلينا أن نلتزم بهذت التحديد. ومن المؤكد أن أساليبنا في الترفيه والاستمتاع الجمالي وكذلك الطريقة التي نعبر بها عن أنفسنا بصيغة جمالية ـــ كلها يجب أن تخضع بدرجة متساوية لعقيدة التوحيد.
والفن عند الفرد المسلم ليس هو الفن ابتغاءً للفن, كما يرىٰ أصحاب مبدأ الجمالية, بل هو دائماً الفن ابتغاءً لوجه الله؛ إنه الفن الذي يعين خلق الله علىٰ أن يحققوا ما أراده الله لهم بنجاح أكثر؛ إنه الفن الذي مهما تكن صورته ـــ مرئياً أو أدبياً أو موسيقياً ـــ فإنه يقوم بدور رئيسي في تكير الفرد المسلم بصفة دائمة بعقيدته ومسئولياته؛ وهو دائماً معه في منزله وفي عمله وفي المسجد, يحيطه بتلك المناظر الخلابة والأصوات الجميلة التي تقربه من دينه, وتقوي صلته بثقافته. وهكذا فإنا نجد الفن يقوم بدور رئيسي في المجتمع المسلم؛ إنه ترجمة دقيقة وعميقة لعقيدة التوحيد, ترجمة باللون والشكل, بالحجارة والبناء, بأبيات الشعر وأصوات الموسيقىٰ.
ثانياً : روافد الغزو الثقافي :
وهناك العديد من الأحداث والمواقف التي مهدت السبل وهيأت الدوافع للغزو الثقافي في مجال الفنون.
أ ـــ وعلىٰ قمة هذه الأحداث وتلك المواقف يأتي التأثير المدمّر الذي خلّفته فترات الإٍستعمار بشكليه القديم والجديد, والذي لم يقتصر أثره علىٰ النواحي السياسية والإٍقتصادية وإنما إمتد ليشمل النواحي الجمالية, فقد فرضت القوىٰ الغربية سيطرتها علىٰ حكومات الشعوب الإٍسلامية وجيوشها إمتداداً من غرب أفريقيا إلىٰ الفلبين. وكذلك فرضت سيطرة مماثلة علىٰ مؤسساتها التعليمية وبرامجها التدريبية وكافة أجهزة التنمية الخاصة والعامة علىٰ السواء. ولا عجب أن تأتي تلك القوىٰ الإٍستعمارية بما لديها من فنون وأفكار جمالية وتفرضها علىٰ الشعوب المستعمرة. وكان إظهار التذوّق لها دليلاً علىٰ التوحد مع الحاكم المستعمر, مما دفع كثيراً من المسلمين أن «يؤدوا اللعبة» في الأمور الفنية مثلما يؤدونها في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية, يحدوهم الأمل في تحقيق الرفعة؟
ب ـــ وتأتي عقدة النقص الثقافي بإعتبارها دافعاً آخر أوجد السبيل للغزو الجمالي. تلك العقدة التي إنتشرت بين الشعوب المسلمة, وهم يرون أقدارهم السياسية والإٍقتصادية في أيدي القوىٰ الأجنبية تتحكم فيها وتسيّرها حسب هواها. وقد أدت سيطرة الأمم الغربية علىٰ حاضر المسلمين يتشككون في كل مظهر من مظاهر ثقافتهم الإٍسلامية الأصيلة وأفرز لديهم ميلاً إلىٰ رفض جورهم, إ بدا من الظروف الكعاصرة أن تلك الجور قد أصبحت دون التقوىٰ الغربية في تحقيق النجاح. وامتد ها الإٍحساس بالنقص في مواجهة الحاكم الإٍستعماري ليشمل الأفكار والأعمال الجمالية, كما شمل الرؤية السياسية والإٍعتبارات الإٍقتصادية.
ج ـــ أما السبب الثالث الذي أدىٰ إلىٰ تبني الأعمال الفنية والأفكار المتعلقة بالفن التي تقف في خندق التضاد مع الروح الإٍسلامية؛ فيكمن بصفة رئيسة في أن المسلمين لم تتح لهم فرصة كافية لإٍكتساب أي معرفة أو تذوق لفنونهم, فقد لا نجد أي مقررات في الفنون الإٍسلامية تقدم في المدارس الإٍبتدائية أو الثانوية في بلادهم علىٰ تنوعها, كما إستبعدت الجامعات والكليات كل الفنون من بين ما تقدمه من مقررات دراسية.
د ـــ ومن المؤكد أن المستعمرين قد أدركوا غياب التربية الفنية في المؤسسات التربوية في بلاد المسلمين, فحاولت مدارسهم التبشرية أن تملأ ذلك الفراغ فقامت بتقديم برامج تدريبية تهدف أساساً إلىٰ أن تغرس في نفوس الشعوب المستعمرة تقديراً لفنون أوربا. وكانت برامج هذه المدارس نسخة مطابقة لبرامج الموسيقىٰ والفنون التي تقدم في إنجلترة وفرنسا وأمريكا, ولم تفعل إلا اليسير لإٍثراء المعرفة بتراث الفن الأصيل, أو تنمية التذوق له ـــ وهكذا شكّلوا ـــ في الحقيقة ـــ سبيلاً أخرىٰ لإٍنفاذ الغزو الجمالي.
هـ ــ كما دلف الغزو الفني القادم من الغرب من باب آخر فتحته العناصر المحافظة في المجتمع الإٍسلامي بإهمالها للفنون بل وإستنكارها لها. فعندما قامت تلك القوىٰ بإعتبار كل أشكال المتعة النفسية أو الإٍمتاع الجمالي, أمراً منكراً أو حراماً, فإنها استبعدت بذلك دور الفنون الأصيلة وتركت فراغاً لا يملؤه إلا ما يأتي من الخارج. وبدلاً من أن تمايز تلك القوىٰ بين ما هو مناسب وبين ما هو غير مناسب من الفنون الإٍسلامية, لجأت لسوء الحظ إلىٰ تضخيم مبدأ الجمالية فإبتعدت عن التعليمات القرآنية بدلاً من أن تقترب منها(4), وبدلاً من اتباع سنّة الرسول محمد ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فيما ذهب إليه للحكم علىٰ أي عمل أو أداء فني طبقاً لخصائصه الداخلية, وكذلك سياق فعله ـــ لجأت إلىٰ التركيز فقط علىٰ تلك الأحاديث التي ورد فيها النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أنكر عملاً فنياً معيناً أو أداءً بعينه. فمن المؤكد أن سنة النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ تحوي مناسبات أقرت فيها بعض النماج من الفنون كما حوت مناسبات أْنكرت فيها نماذج أخرىٰ(5). وذلك لا يشير إطلاقاً إلىٰ التناقض أو التذبذب من جانب النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وإنما يعتبر دليلاً واضحاً علىٰ أن الموافقة غير المشروطة أو الانكار المطلق للفنون كلاهما أمر غير ممكن. ألا يجدر بنا أن نكون ذوي عقول مفتوحة وقدرة علىٰ تمييز الحاجات الجمالية لكافة البشر وتحديد ما تقوم به الفنون نت أدوار هامة في مجتمعاتنا, مثلما كان نبي الإٍسلام ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ !!
و ـــ وهيأت حكومات الشعوب المسلمة سبيلاً آخر, جاء منه الغزو الغربي لفنوننا الإٍسلامية عندما فشلت في تذوق القيم الجمالية في عمارتنا الإٍسلامية الأصيلة, الذين غرر بهم ناصحوهم لعدم درايتهم بالناحية الجمالية فاستأجروا مهندسين معماريين من الغرب ملأوا المدن الجديدة والمجدّدة في بلاد المسلمين بإنشاءات تجارية وأهلية نقلوها من باريس ولندن, ولم يغفل هؤلاء المهندسون عن الشخصية الجمالية للناس الذين سيستخدمون هذه الأبنية والذين ستتأثر نفسيتهم بها فحسب, وإنما بدت هذه الأبنية تتحدىٰ كل المبادئ التي تمليها مواءمة الظروف المناخية لذات الإٍقليم. فالمباني تشكل مجموعات مصمته من الخرسانة خالية من عناصر التلطيف, وهي بذلك تمتص أشعة الشمس نهاراً بينما تكون بطيئة التبريد ليلاً. وتجاهلوا في بنائها أبراج الرياح وتوجيه منافذ المبنىٰ من أجل الأفنية المكشوفة وسط المباني, واستبدلوا بها أنظمة التكييف المركزي التي نراها في الإٍنشاءات الغربية المعاصرة, وعندما يحدث أي عطب تقني تجد هذه المباني غير صالحة للسكنىٰ.
ز ـــ وهناك سبيل آخر سلكته الفنون الأجنبية في إقتحامها بلاد المسلمين, نجدها في ذلك العدد الكبير من الفنانين المسلمين الذين يذهبون إلىٰ الغرب لينالوا تدريبهم حيث لا تتوافر في العالم المسلم فرص تربوية مناسبة للمهنيين والفنانين الجماليين ومؤرخي الفن ـــ فأين يذهب ذلك الإٍنسان الي يطمح في أن يكون متخصصاً في العمارة الإٍسلامية ـــ أين يذهب في بلاد المسلمين ليجد تدريبه بينما يعامل الفن معاملة الجسد الميت يفحصونه ويحللونه تحت المجاهر في قسم الآثار ؟ وكلك الأمر في الغرب نادراً ما نجد. مقررات تدريبية في العمارة بصفة عامة تزود الطالب المسلم بقدر من الخبرة التقنية وبعض التذوق لأعمال فرانك لولويد رايت, لوكوربوزييه ولوي خان, بينما لا نجد في هذه المقررات إلا القليل من المعرفة أو التوق للمظاهر التي حققها المعماريون المسلمون بل وقد لا نجد أياً منهما.
وإذا كانت العمارة الإٍسلامية في نظر القائمين بالتخطيط التربوي في بلاد المسلمين ليست علىٰ قدر من الأهمية يسمح بتخصيص برامج تدريبية لأنصارها في المستقبل, فماذا عن الفنون الأخرىٰ من الرسم والأشغال المعدنية والسيراميك والموسيقىٰ ؟ فتلك أصبحت من «ربائب» الثقافة التي ترعاها نتيجة تضاؤل الإٍهتمام بالفنون في العقود الأخيرة, وإهمال التخطيط السليم لكافة هذه المناشط, إلا في حاجات البشر المادية والآنية منها.
ثالثاً : تبرير الإٍهتمام :
ولسوف يرىٰ كثير من المسلمين أن هذه الحالة المحزنة التي وصلت إليها الأمور ليست فقط في حدود المتوقع بل ربما تكون داخل نطاق المرغوب, حيث يعتقدون بأن الفنون ما هي إلا أشياء وأنشطة هدفها إدخال المتعة في ساعات الفراغ وليست مظهراً هاماً من مظاهر الثقافة والحياة عند الشعوب المسلمة.
وإذا ما رأينا بأن الفنون ما هي إلا عنصر من عناصر المتعة فمن المؤكد أننا سنقرُّ بأنها لا ترقىٰ إلىٰ مصاف الإٍهتمامات الرئيسة خاصة في ظل الظروف التي تعيشها الشعوب المسلمة في الثمانينات والتي تبعث علىٰ اليأس والقنوط. وأن علىٰ حكوماتنا أولاً أن توجّه أولويات إهتمامها إلىٰ مجالات توفير الغذاء والكساء والإٍسكان لمواطنيها. وعندما تتوفر بين يديها الحلول لهذه المشكلات هنالك فقط يمكن أن توجه الجهود وتقدّر المخصصات لفعاليات أوقات الفراغ ومناشط الإٍمتاع الحياتية.
ولكن هل تقتصر وظيفة الفنون علىٰ تلك المظاهر السطحية من الإٍمتاع والتسلية ؟ إن الإٍجابة حتماً ستكون واضحة وبالنفي. فالفنون ـــ في الواقع ـــ تعتبر عنصراً هاماً من عناصر ثقافتنا, وبالطبع فإن الفنون لا تعبّر عن هذه الأفكار بالكلمات أو العبارات أو في جمل تحويها فقرات من الكلام المنثور, فذلك أمره موكول إلىٰ المفكرين والكتّاب في ميدان الفلسفة الإٍسلامية وأصول الدين. ولكن الفنون تستخدم الجميل من الخطوط والأشكال والألوان والأصوات, ومن خلال هذه «المواد الخام» تُقدم «ترجمة» لرسالة التوحيد ذاتها.
إن كافة الثقافات المعروفة في تاريخ الجنس البشري قد أنتجت تراثاً فنياً يربط بمعتقداتها الجوهرية في العمق, في كثير من الوسائل التي تتسم بالوضوح والدقة. فالأساس الثقافي لأي شعب يكمن في آرائه حول عالم ما وراء الوجود المادي, أو في معتقداته حول الإٍلهٰ, كما يشمل هذا الأساس آراء هذا الشعب في الكون وآراءه في دور البشر في الخلق. ويُشكل ذلك النسيج المعقد المنفرد من رؤية العالم ورؤية الإٍله ـــ يُشكل الجوهر المحدد لأي ثقافة ويؤلف مساهمتها في الحضارة, وتلك هي الإٍجابات الأساسية علىٰ تساؤلات البشر الأبدية بحثاً وراء المعرفة والفهم, وهذه الإٍجابات هي التي تقوم تدريجياً بتشكيل وتكوين ما تحمله هذه الثقافة من آراء سياسية, ومطامح اقتصادية, وما ينشأ بها من مؤسسات إجتماعية. وبدون هذه القرارات الأساسية لا يمكن أن نضمن تحقيق أي إجماع حول أي سعي جماعي أو جهد مجتمعي. وبالإٍضافة إلىٰ ذلك فإن هذه القضايا الهامة والأساسية هي التي تدفع بالمشاركين في أي ثقافة إلىٰ أن تكون إستجاباتهم في الجانب الجمالي ذات طابع خاص(6). والتأكيد علىٰ جوهر الثقافة, والإٍنسجام معه, والتذكير به, وإشراب الجماهير بمسلّماته يجعلنا نقر بأهمية هذه القضايا الدقيقة التي تشكل الثقافة, ونعتبرها أساسية لقيام هذه الثقافة والحفاظ علىٰ كيانها. وهذه القضايا هي فنون تلك الثقافة. ومن ثم فإن الفنون تشكّل دعامات جوهرية للهوية الثقافية لأي شعب.
ولعلالفنون الإٍسلامية أكثر تكاملاً من فنون أي ثقافة أخرىٰ وأكثر تأثيراً بجوهرها الديني من تأثر فنون أي ثقافة بنظامها الديني. ولقد ذكرنا آنفاً هيمنة «التوحيد» علىٰ كل جوانب الحياة, وهو المعنىٰ الحقيقي لكلمة «الدين». فلا يعترف المسلمون بوجود تفرقة بين ما هو ديني وما هو دنيوي. بل يمكننا القول بأنه ليس في الإٍسلام ما هو دنيوي مائة بالمائة, فالدين يتشعب ليصل إلىٰ كل زاوية من زوايا الحياة الإٍنسانية, ومن ثم فإن الأعمال الفنية الإٍسلامية تعتبر «قضايا» دينية وثقافية عميقة, تخضع لإٍستيعاب الحواس, وذلك بغض النظر عن مجال استغلالها. وغالباً ما يتم عرض القضية بطريقة تتسم بالدقة والرقة, من خلال شكل ومضمون العناصر المكونة للعمل الفني ولكن تحليلنا للفنون يكشف لنا أن دين الإٍسلام وعقيدة التوحيد فيه هي التي أعطت الفنون الإٍسلامية كيانها. بل إنه من الممكن إظهار أن عناصر الشكل والمضمون التي يزخر بها القرآن الكريم هي تلك العناصر التي استخدمتها الشعوب المسلمة وأكّدت عليها في الأعمال الأدبية الأخرىٰ, وكذلك في الفنون التي تستخدم الصوت والصورة.
وهكذا جاءت هذه الفنون ـــ عفواً أو عمداً ـــ متـأسية بالقرآن, فهل تستطيع أن ندعي بعد ذلك أنها مجرد أداة للمتعة. إنها حقا ممتعة, فكل مسلم سيجد متعته في أي شيء أو نشاط يذكّره برسالة القرآن وجماله, ولكن الفنون المتضمنة في إطار الثقافة الإٍسلامية تعني أكثر من ذلك بكثير, فهى وسيلة لتعليم الناس رسالة التوحيد وأن الله واحد أحد متعال وأن محمداً ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ رسوله, وأداة لنشر هذه الرسالة, ومناصرتها, والتذكير بها, والإٍصرار علىٰ تأكيدها. وعندما تنحسر الفنون الإٍسلامية فإنها تترك فراغاً سرعات ما تشغله بدائل من الفن الغريب, كما لا يخفىٰ علينا نحن الذين نعيش هذه الحقبة من التاريخ. وهكذا تشيع الأعمال الفنية الغربية بين المسلمين وكذلك ما وراءها من أفكار وعقائد غريبة(7).
والفنون الإٍسلامية يجمعها الهدف إلىٰ تحقيق رسالة واحدة, وتلك الحقيقة تجعل أشكال التعبير فيها متماثلة؛ وسواء كان فن العمارة أو فن التزيين والزخرفة أو فن السيراميك وأشغال المعادن, أو فن الدمسق والسجاد, فإن تلك الفنون الإٍسلامية كلها تؤكد علىٰ محتوىٰ مجرد تنقله بطريقة غير روائية, ونُظهر صوراً مقتبسة من الطبيعة أو وفق نموذجها مما يؤدي إلىٰ التركيز علىٰ فن الخط, وعلىٰ الأنماط الهندسية, والأشكال النباتية المنذجة وفق ما في الطبيعة. وبغض النظر عن شكل التعبير الفَني أو وسيلته فإن الفنون الإٍسلامية يلزمها لتحقيق ذلك وجود تكوينات نماذجية موحدة ذات طبيعة قياسية, تجمع فيها وحدات التصميم المختلفة بطريقة تراكمية. ففي القصة والقصيدة, وفي المزهرية الأعمال الخشبية, وفي القصر أو تخطيط المدن الكاملة ـــ نجد ما يعطينا إنطباعاً بالإٍستمرارية الأبدية. وكل هذه الفنون نرىٰ فيها كافة الأنماط التي يتحدث عنها مؤرخو الفنون. كما أن أي عمل فني إسلامي لا يمثل تركيباً يقتصر علىٰ إهتمام واحد يتمركز حوله ويتأثر به, وإنما نجد فيه تنظيماً تراكمياً يجمع الأجزاء المكونة له, أو النماذج الدالة عليه, فكل الأعمال التي تنشأ في مجال الفنون الإٍسلامية تشكّل فيما بينها حلقة في سلسلة من الحلقات الكاملة بذاتها المتكاملة مع بعضها؛ كل منها ينقل رأياً واحداً ونمطاً واحداً وفكرة واحدة, ورواية واحدة عن الكيان الكليّ. وأي نموذج من هذه النماذج نستمتع به بمفرده أو مع واحد أو أكثر من النماذج الأخرىٰ تشابهت معه أو تباينت. كما أن ذلك الإٍرتباط مع باقي النماذج والتزامل معها في إحداث التذوق بجمال الكل لا يلغي ما يحدثه العمل الفني بذاته مع تأثير جمالي, أو ينتقص من قدر هذا التأثير, فكل نموذج يحمل هويته الخاصة به ونسقه الذاتي في إحداث التوتر أو تخفيفه وتتسم تفاصيل العمل الفني الإٍسلامي بالتعقيد المتماسك فهو يشد أسماعنا وأبصارنا ويأخذ بألبابنا من خلال سلسلة متشابكة من الأحداث والحركات والخطوات والفراغات.
وكل هذه السمات المميزة للفنون الإٍسلامية هي ذاتها التي تميز الصفات الأدبية للقرآن الكريم, ولذا فإنه من الواضح أن أفضل ما أبدعته الشعوب المسلمة من فنون قد تشكل علىٰ هدىٰ من البناء الأدبي للقرآن, ومن الأفكار الواردة به. وعندما نستطيع من خلال التحليل والبحث المتمعن أن نوضح مدىٰ تغلغل أثر القرآن بإعتباره كتاباً مقدساً, وكذلك بإعتباره إعجازاً أدبياً فإننا عندئذ سنكتشف أن الإٍهتمام بالفنون الإٍسلامية أمر يحتمه القرآن ذاته. وذلك لا يعني بالطبع أن كافة الفنون فن إسلامي, وأن تكون تلك هي القضية التي يجب أن تشغل بالنا وتستحوذ علىٰ إهتمامنا, فهناك أعمال فنية كثيرة أفرزتها بيئات أخرىٰ لها طبيعتها الثقافية الدينية المخالفة, وهذه الأعمال الفنية لها رسالتها غير الإٍسلامية وكذلك لها بنيتها المخالفة. كما أن ذلك لا يقتضي بالضرورة أن تكون كل الفنون التي بيُدعها المسلمون فناً إسلامياً فقد نجد من بين المسلمين من تأثروا بثقافة غربية وجاءت أعمالهم لا تعبر عن الرسالة الإٍسلامية, وفي الوقت ذاته قد نجد من بين غير المسلمين من طَعِموا الثقافة الإٍسلامية وشاركوا فيها حتىٰ أنهم صاروا مبدعين للفن الإٍسلامي متذوّقين له مع جيرانهم المسلمين, وتتجلىٰ هيمنة المعيار القرآني لدىٰ الناس من كل عرق وجنس وفي كل زمان ومكان.
ويجب أن ندرك أن أي غزو في مجال الفنون سواء كان ذلك في مجال الآداب أو الموسيقىٰ أو العمارة أو الفنون المرئية يحمل معه تغلغلاً عقدياً, ومن ثم فإن إيجاد جمهور متيقظ للفنون الإٍسلامية وعلىٰ دراية بها أصبح أمراً ضرورياً. ففي غياب هذا الجمهور الواعي سيصبح الميدان مفتوحاً أمام الفنانين يدسون علىٰ الناس أي رسالة زائفة موهيمين إياهم أنها الحقيقة الأصيلة, وبالطريقة التي يبغونها بغض النظر عن تأثيرها علىٰ نفسية الجمهور أو رفاهيته الإٍجتماعية أو حضارة المجتمع. ولن يكون بإمكان أي فرد في مثل هذا الموقف أن يتذوق ما يعرض له من فنون أو أن يحكم عليها وسنكون غافلين عما وراء بعضها من منفعة أو ما تجره الأخرىٰ من ضرر.
رابعاً : إيقاف مد التغريب الديني والثقافي عن طريق الفنون :
ويتضح أمامنا عدد من الجهود التي يمكن أن تعالج آثار العناصر المدمرة المترتبة علىٰ الغزو الجمالي القائم, وتجعلنا نتحرز من أي آثار ضارة يمكن أن تحدث من غزو مستقبلي.
أ ) في البداية تبرز الحاجة إلىٰ استثارة الفخر بثقافتنا الإٍسلامية وبتراثها الفني حتىٰ نواجه عقدة النقص المسيطرة التي تسود بلاد المسلمين, ويستدعي ذلك إحياء المناسبات الوطنية والعالمية حيث تخلق المشاركة فيها لدىٰ الناس كافة وعياً بالجوانب الجمالية في الفن الإٍسلامي كما تعقد المسابقات وتقام العروض حيث توزع الجوائز علىٰ أولئك الذين يقدمون أفضل الأعمال الفنية وأكثرها إلتزاماً بالخطوط الإٍسلامية وفي الوقت ذاته نجد فيها نماذج القدوة الممتازة التي نستخدمها في التعليم في المستقبل, كما تعقد المسابقات في ترتيل القرآن لإٍستثارة التنافس في تجويده, وفي تحسين الخطوط, وتصميمات نقشها, وفي كتابة المقالات عن الفنون, ويجب أن تقدم الجوائز القيّمة لتشجيع مشاركة الفنانين المسلمين سواء منهم المقتدرين أو المبتدئين.
ب ) يجب أن تضطلع وسائل الاعلام بإقامة العروض النموذجية لكافة الفنون المعنيّة مما ينشئ لدىٰ الأجيال القادمة وعياً بالهوية الإٍسلامية, ذلك الوعي الذي يساعد الذين ينتمون إليها الإٍستجابة لها علىٰ مستوىٰ الإٍدراك الواعي والحساس بالفنون الإٍسلامية.
ج ) ويجب علينا أن نوجه أبناءنا اليوم إلىٰ دراسة الفنون بدلاً من تركهم يمرون عليها عرضاً, وذلك إذا ما كنا نتوقع من ذوّاقي الفنون في المستقبل أن يكونوا صادقين في انتمائهم إلىٰ هويتهم الإٍسلامية. ومن خلال هذه الدراسة يمكنهم أن يخبروا الأنواع المختلفة للفن الإٍسلامي وأن يمارسوها فعلاً عن طريق عمل نماذج بسيطة منها, وأن يقوموا بدراسات تحليلية تتناول الأعمال الفنية المشهورة سواء ما كان منها في الماضي أو ما كان في الحاضر, وأن يكتشفوا من خلال هذه الدراسات التحليلية علاقة هذه الأعمال الفنية بالتوحيد وبالقرآن.
د ) ويجب أن نهيء الفرص التعليمية للمدرسين والفنانين الممارسين إذا ما أردنا لهم أن يحسنوا القيام بدورهم الوظيفي في مجتمع إسلامي, حيث أن استمرار تدريبهم في الخارج وفي بيئة غريبة لن يؤدي إلا إلىٰ تدهور فنوننا وضياع هويتنا الثقافية.
هـ ) ويجب أن تؤلف الكتب الدراسية والمواد التعليمية الفعالية اللازمة لتدريس الفنون الإٍسلامية. ولا يعني ذلك مجرد ترجمة الأساليب والمواد الأوربية إلىٰ أي من لغات العالم الإٍسلامي, وإنما تعني استحداث أساليب ومواد تعليمية جديدة تناسب المواد الفنية التي ستقوم بتدريسها, فلن نستطيع أن ننافس الفنون الغربية الغازية, ولن نستطيع أن نستأصل مشاعر الوهن الخبيث التي يبثونها بمكر في حياة أطفالنا لتصيب روحهم الإٍسلامية ـــ إذا ما قصرنا التربية الفنية علىٰ تحفيظ بعض القصائد أو إستخدام الأقلام الملونة والأوراق. إننا بحاجة إلىٰ ابتكار تقنيات حديثة مثيرة وإلىٰ الاستفادة من التسجيلات المرئية, وإلىٰ أن يكون لنت ممثلين يساهمون بفاعلية في كافة الملتقيات الفنية, وألا يقتصر هذا التمثيل علىٰ حفنة من الموهوبين المتخصصين بل يكون بابه مفتوحاً أمام المسلمين عامة.
و ) لقد أصبح توفير المنح الدراسية أمراً لازماً لتشجيع الطلبة الأذكياء علىٰ إقتحام مجال ممارسة الفنون الإٍسلامية وتحليلها, فقد أدىٰ غياب الجوائز والحوافز في الماضي إلىٰ إحجام الأفراد عن دراسة تراث الفن الإٍسلامي, وتبَّط من عزيمة الدارسين الأكفاء, فمالوا عن المشاركة في هذا المجال.
ز ) وحيث أن قيام الفنون في المجتمع الإٍسلامي رهن بفائدتها سواء كانت أعمالاً أو ممارسات فإن علىٰ مجتمعاتنا أن تعمل علىٰ إيجاد الوسائل التي تكفل إلتحام الفنون بالصناعة, ونضرب مثالاً علىٰ ذلك في المشروعات الإٍنتاجية لصناعة القيشاني بأنواعه والأطباق والأواني الفخارية, وكذلك المنسوجات والسجاد. فهذه المشروعات يجب أن نوجه أنظار القائمين بها إلىٰ عمل تصميمات ورسوماتها بحيث تنمَّي الوعي الإٍسلامي الذي بدأت زهوره في التفتح لدىٰ الناس, فإن ذلك يمكن أن يساهم في إحداث نهضة في الوعي الجمالي الإٍسلامي, وكذلك إلىٰ زيادة الطلب علىٰ مبيعاتهم. وخلق إهتمام بمنتجاتهم للصناعات المحلية. لقد جاء علىٰ العالم زمن كانت فيه بلاد المسلمين تحتل مقدمة المولادين للمنتجات سواء منها ما كان للإٍستخدام الشخصي أو للإٍستخدام العام, وكانت تلك المنتجات نماذج رائعة من الفن الإٍسلامي. وكانت تجد مَنْ يُقبل علىٰ شرائها في غير بلاد المسلمين. فقد كان إتقان صنعتها وإمتياز تصميمات سفيراًلها إلىٰ قلوب غير أنفسهم, وكان الكثير من زعماء الكنيسة المسيحية برتدون ثياباً نسجتها أيدي المسلمين, ونالت السجاجيد التي صنعها المسلمون شهرة كبيرة في أوربا وحظيت بالتقدير هناك منذ القرن الرابع عشر, حيث نجدها مصّورة في اللوحات التي رسمها الفنانون الإٍيطاليون في تلك الفترة, وظلت لقرن أو قرنين من الزمان ـــ تحتل التجار بين بلاد الشرق وأوربا الغربية ـــ وكانت صناعات دمشق من المعادن والأدوات الزجاجية, وكذلك أعمال السيراميك التي اشتهرت بها بلدان شمال إفريقيا ـــ من بين الأشياء التي إعتز بها الأثرياء واكتنزوها في البلاد غير المسلمة والبلاد المسلمة علىٰ حد سواء. وفي الحقيقة فإن أغلب الأشياء التي شاع استخدامها في العالم كله مازالت تحتفظ بالأسماء العربية التي أطلقها عليها صانعوها الأوائل من المسلمين(8).
إن لدينا الكثير من المبررات التي تجعلنا نأسىٰ علىٰ ما أحدثه الغزو الجمالي الذي تعرضنا له حديثاً ـــ من تميع في الروح الإٍسلامية أوْهَنها. ولكن الإٍكتفاء بالأسىٰ علىٰ هذا الغزو وعلىٰ آثاره يعتبر نوعاً من المقاربة السلبية للمشكلة, وما نحتاج إليه هو رد إيجابي يتمثل في : (1) تنمية الوعي الجمالي التي بدأت بلاد المسلمين تشهد صحوته, (2) تشجيع الإٍنتاج الفنيٰ علىٰ أيدي شعوبها, (3) القيام بدراسات تحليلية جديدة للأدوار المناطة بالفنون الإٍسلامية وما نتوقع تحقيقه منه في المجتمع الإٍسلامي.
***
· Al- árúqi, Lois Lamyá. Cultural Invation in The Art.
الهــوامــش
(1)أنظر بحث سلوىٰ الشوان «السياق الاجتماعي السياسي للموسيقىٰ العربية في القاهرة :
El-Shawan, Salwa, The Socio Political Context of Al Músiká Al- Arabiyyah in cairo, Egypt : Policies, Patronage, Institutions, and Muslical Change (1927 – 77), Aslan Music, Vol. XII, No. 1, pp. 86 – 128.
(2)للحصول علىٰ تاريخ موجز لتطور الفن الجمالي عند سليمان عيسىٰ, يرجىٰ الرجوع إلىٰ :
-Sabapthy, T.K., and Piyadasa Redza, Modern Artists of Malaysia. Kuala Lumpur : Ministry of Education, Malaysia. 1983, pp. 21 – 24.
– Al- Faruqi, L. Islamic Literary principles and the Visual Arts : A Case Study from Malaysia, Un- published paper delivered at Seminar Kesenian Islam, kuala Lumpur, August 1, 1984.
– Mohamed, Aminah syed. «Sulaiman Hj. Esa- Towards An Islamic Concept in Contemporary art». In the brochure of an exhibition of Sulaimanʼs works entitled «Kearah Tauhid», April 1984.
(3) أنظر ما قام به باندورا هوبكنز من مراجعات للمقالات التي كتبت عن الموسيقىٰ في بلاد وسط أوربا ـــ المنشورة في كتاب :
– Sadie, Stanley (ed.). The New Grove Dictionary of Misic and Musicians. London : Macmillan Publishers, New York : Groveʼs Dictionaries of Music, Inc., 1980 والمنشور في :
Ethnomusicology, Vol. 24, No. 1 (winter, 1985).
(4)}قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيَنةَ الله التي أْخْرَجَ لِعِباَدِهِ وَالطَّيّبات مِنَ الرَّزْقِ, قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الَحَيَاةِ الدُّنْيا خَالِصَةً يَوْمَ الِقَيَامَةِ, كذلِكَ نُفَصَّلُ الآيات لِقَوْم يَعْلَمَوُنَ, قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبَّيَ الفِوَاحِشَ مَا ظَهَر مَنها وَمَا بَطَنَ وَالإٍثْمَ وَالبَغْيَ بَغيْر الحَقَّ وَأَنْ تُشْرِكْوا بالله مَالَمْ يُنَزَّلْ بهِ سُلْطَاناً وَأنْ تقولوا علىٰ الله مَالا تعلَمون{الأَعْرَاف 32 ـــ 33.
(5) أنظر فتوىٰ شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت عن الموسيقىٰ في كتاب «الفتاوىٰ» القاهرة : دار الشروق 1960 ص ص 355 ـــ 359, وفتوىٰ يوسف القرضاوي عن الفنون المحتلفة في كتاب الحلال والحرام في الإٍسلام, الفصل الثامن من الباب الثاني, الفصل الثالث من الباب الرابع, ومقال لويز لمياء الفاروقي الموسيقىٰ والموسيقيون في ميزان الشريعة (مترجم مجلة المسلم المعاصر السنة 11 عدد 43 ابريل 1985 ص ص 111 ـــ 140 خاصة صفحات 131 ـــ 134. وكذلك :
Al – Fárúqi, Lois Lamyá «An Islamic Perspective on Symbolism in the Arts : New Thoughts on Figurol Representation. In Diane Apostolos – Cappadona (ed.) Art, Creativity and the Sacred : An Anthology in Religion and Art. New York : the Crossroad Publishing Co. 1984, PP. 164 – 178.
(6) «.. لقد بدأنا نعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك فن عظيم أو عصور عظيمة للفن دون أن تكون هناك صلة قوية بين الفن والدين. حتىٰ عندما يبدع الفنانون الكبار أعمالهم الرائعة وهو يبدون في إنعزال تام عن أي عقيدة دينية, فإننا حين نمعن النظر في حياتهم أكثر وأكثر, نتبين وجود ما يمكن أن نسميه حِسّاً دينياً»
(Reed, Herbert. The Meaning of Art. New York : Praeger publishers, 1972 P. 83).
(7) المطابقة بين الرسالة الدينية الثقافية والعمل الفني أو التعبير الفني, أكد عليه هربارت ريد في كتابه «معنىٰ الفن» ]أنظر الحاشية السابقة[بقوله «إن ما يُوجد الإٍختلاف (بين إثنين من الأعمال الفنية ينتميان إلىٰ ثقافتين مختلفين) يكمن في تعبيرهما عن منظومة مختلفة من القيم الغيبية» وأن هناك «إختلاف في القيم المرتبطة بديانة كل ثقافة وليس في درجة الحس الفني فيهما» المرجع السابق ص 84.
(8) علىٰ سبيل المثال الدمسق والتمويج الدمسقي من «دمشق», الموسيلين من «الموصل» والقطن من «قطن» وكذلك الألفاظ الدالة علىٰ «الشراب» و «التفته»و «الكحول» و «الزعفران» .. الخ.