الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على سيدنا محمد ،خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ،وعلى آله وصحبه أجمعين .
1 – الفكر الغربى وحركته الحديثة
تطمو على عالمنا اليوم موجة من الفكر الغربى انبثقت عما مر به من حركات فلسفية ماضية تتصف بما يلى :
إنها مبنية على مبدأ الشك ،كمبدأ عام للمعرفة . فالمدارس التى نشأت فى عصر التنوير أو تفرغت عنه واعتمدت العقل الانسانى وسيلة للوصول إلى الحقيقة تحطمت وأثبتت افلاسها أمام هجمات الرومانسية المعتمدة على الشعور والذاتية .
وغلت الحملات ضدها فى هذا القرن لا لاعتمادها على العقل بل لتطلعها إلى الحركات العقلانية المثالية – لاسيما هيجل – لتبرير موقفها كموقف تقدمى . فأصبح كل ما هو واجب الطعن يرمى بالمطلقية كتهمة كفيلة بدحره وإبعاده عن النظر والاعتبار .
ينفى مبدأ الشك إمكانية الوصول إلى الحقيقة ،أو طبيعة الأشياء ،سواء فى العلوم الطبيعية أو فى علوم الإنسان وممارساته ،أما فى العلوم الطبيعية فقد كان العلماء يؤمنون بأن هنالك حقيقة كامنة وراء المظاهر تؤدى افتراضاتهم إليها وتكشف عنها شيئاً . فكل افتراض جديد يزيد فى معرفتنا للشئ . اما بثبوته فى التطبيق وإما بعدم ثبوته وذلك بنفيه عن الشئ ما كان يفترضه وبدفعه الانسان للتقدم إلى حقيقة الاشياء وطبائعها وان لم يوصل إليها . لكن الفكر العلمى الفلسفى ظاهر هذا التفاؤل المعرفى منذ آينشتاين . وقد أخذ يؤكد الجانب النفعى فى الافتراضات العلمية إلى أن جعله غاية الفكر العلمى الأولى ،ثم ركن المعرفة ،ثم ساوى بينه وبين المعرفة العلمية نافياً بذلك عنها الكشف عن حقيقة الاشياء . وكأنه يقول فى مختبره : (( ليس هى كعالم للطبيعة الكشف عن حقيقتها والتوصل إلى كنهها حقاً . انما هى أن أحاور الأشياء لتصيد ما يؤهلنى للتعامل معها واستخدامها والانتفاع بها . فإذا افترضت فرضية ما قيمتها بما تجلبه إلى من ثمار نافعة فى استغلالى للطبيعة وقواها . وعندما يتعثر هذا الاستغلال ،أنبذ تلك الفرضية واستبدلها بغيرها . وكذلك دواليك إذا لا أنبغى من علم الطبيعة علما خالصا بحقائق الاشياء ،بل انفع الناتج عن حركة ذلك العلم . بل أكثر من ذلك ،فالنفع لا يعنيه أن تكون هنالك حقيقة كامنة وراء الظواهر ،وهو حاصل سواء وجدت أم لم توجد وهو قابل للنشدان سواء اخذت الحقيقة بعين الاعتبار أم لم تؤخذ )) . وعلى هذا سقطت الحقيقة من الفكر العلمى الحديث وأصبح العلم – فى حيز الفكر العلمى – سعياً وراء التقنية التى تؤتى ثمارها كل يوم . وأصبحت موضوعية العلوم الطبيعية ، وهى الصخرة التى حطم عليها الفكر الغربى كل ما لم يقم على المنهاج العلمى ،ضرباً من الذوق وركنا للنسبية المطلقة . وبلغ هذا الغلو ،على لسان كونت عالم الكيمياء ورئيس جامعة هارفارد ولسان أدورنو زعيم الحركة الفلسفية فى فرانكفورت بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ،مبلغاً نفيت عنده الحقيقة نفياً تاماً ،أهميتها ووجودها بالذات ،فى أى بحث علمى يجرى على الطبيعة .
أوجد هذا التأكيد على ثمار العلوم الطبيعية تركيزاً هائلاً على جنبها فاتسعت موارد التطبيق والتقنية أتساعا شاسعاً لا ينكر فضله على البشر . لكنه أدى أيضاً إلى انتشار النسبية . وسرعان ما تحالفت هذه النسبية مع مخلفات الماضى الغربى حيال الطبيعة : أى مخلفة عصر النهضة من ان الطبيعة يجب أن يقبض عليها ويناهض الاله بالتمكن منها رغم انفه كما فعل بروميثيوس ،ومخلفة المسيحية من ان الطبيعة بل الخلق برمته ساقط لا خير فيه ولا خلاص .فأدى ذلك التحالف إلى ما نشاهده اليوم من نهب واغتصاب وتدمير للطبيعة ،مما ادى بدوره إلى اختلال توازنها وتهديدها بالقضاء على الانسان والحياة . وها هو العالم الغربى اليوم ،يسارع إلى دراسة قوانين توازن الطبيعة بعلم جديد اسماه Ecology ،وإلى تنمية روح الاحترام والإجلال للطبيعة التى يراها رجال هذا العلم الجديد لا حقيقة فحسب ،لها ميزاتها وقوانينها وسننها بل كإله مقتدر يتنعم على من يصادقه ويدمر من يعصيه .
أما فى علوم الانسان وممارساته ،فيقوم مبدأ الشك على اعتبار الرغبات الانسانية – الفردية والجماعية – المعطيات الوحيدة . ذلك انها وحيدة فى كونها مرئية ،محسوسة ،قابلة للفرز عما سواها ،كما هى قابلة للقياس والتقييم الكمى . وعلى هذا المعطى كأساس ،يمكن للعلوم الانسانية والاجتماعية ان تقوم كعلوم موضوعية . وليس الشك اى فاعل آخر فى تفسير الظواهر السلوكية . فالسلوك البشرى كان يفسر من قبل بإرجاعه إلى مبادئ وقيم صدرت عن الدين والثقافة واعتبرت خارجة عن الانسان وضابطة لميوله وسلوكه . لذلك كان ينظر إلى السلوك الانسانى بأنه مجال الاوامر الالهية أو الجاذبات القيمية القائمة بنفسها ،تعمل فيه مادة ومسرحاً فيصدر سلوك الانسان ظاهرة لها ليس الا ،يوزن بوزنها ،يُسعد بخيرها ويَشقى بشرها .
لكن حركة الاصلاح الدينى التى تزعمها لوثر أودت بسلطة الكنيسة وتعاليمها وأبعدتها كل البعد عن السلوك الانسانى . وهى أخضعت السلوك للمعطيات التى يستخلصها الانسان المسيحى من الكتاب المقدس فى عهديه القديم والجديد مقتفياً آثار الاجداد دون التقيد بها . وحاولت حركة التنوير فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر ارساء هذه المعطيات على مبادئ عقلانية سعياً فى تعميمها وتبرئتها من النسبية الدينية . ولم تفلح . ذلك ان مبدأ التعميم إذا ما أدخل فى الحساب ،أدى إلى انهيار القيم الدينية المسيحية لانها منبثقة عن اركان عقدية لا تمت إلى العقل بصلة ،بل يكرهها العقل ويحط منها كما حطت منه على لسان القديس بولس فى الاصحاح الأول من رسالته الأولى إلى أهل قورنتس . لذلك ثارت الرومانسية على التنوير والعقلانية لما أملتاه عليها من العالمية والتعميم وأعادت النسبية القائمة على العاطفة والشعور . وبهذا كتبت لمعطيات المسيحية حياة جديدة بلورها شلايرماخر . وسرعان ما تحالفت النسبية الجديدة مع النزعات القومية الاوروبية فعاضدت الواحدة الأخرى كما دفعت الاوروبيين إى الاعتداء على بعضهم البعض وعلى العالم الاسيوى والإفريقى والأمريكى الذى مكنت الاكتشافات والاختراعات العلمية من الوصول إليه .
وقامت العلوم الاجتماعية على مبدأ الشك فى تأكيداته ومنفياته ،معتقدة أن المرغوب إطلاقا هو المرغوب فيه فعلاً ،وأن ما بنى على غير المرغوب فيه فعلاً ليس حقيقة بل منية تمنى ،وان السبيل إلى معرفة الحقيقة السلوكية هو نفس السبيل إلى المعرفة الطبيعية ،أى استقراء المحسوس وافتراض النظرية المفسرة له والمثبتة به . اما المحسوس فهو الرغبات الكامنة فى تحركات الانسان المرئية الخاضعة للقياس الكمى . وأما العلوم الانسانية فلا حقيقة فيها أصلاً فهى ليست علوماً بل آداباً تجمع ما يدور فى قلب الانسان وذهنه من تمنيات دون الاعتماد على الظواهر المحسوسة .
لم تتعدى العلوم الاجتماعية فى الغرب ما وصفه لها أوجوست كونط من أسس بالرغم من تعدد النظريات المفسرة للإنسان وسلوكه التى جاء بها العلماء الاجتماعيون .
فهذه النظريات جميعاً تؤكد علمية نفسها وتتفهم تلك العلمية كاعتماد على المحسوس دون غيره . كما تتفهم المحسوس كتجسيد لرغبة ذاتية شخصية متأصلة فى الانسان بعينه ،اى فى زمان ومكان معينين .
وإذا نظرنا إلى دعوى العلوم الاجتماعية الحديثة فى الغرب ،وجدناها ماسخة للحقيقة ،ومعتمدة شطراً منها هو المحسوس الكمى ،ومقصية الشطر الآخر الغير محسوس ،سواء كان أمراً إلهياً أو جاذبية قيميه مطلقة فى حد ذاتها . أما العلوم الانسانية فقد رضيت ان تبقى مغلوبة على أمرها ،محكوم عليها من قبل العلوم كافة انها ليست علوماً ،وإن لا منهج علمى تتمسك به وتقوم عليه ،وإن كلاهما وإن حسن سمعه كما فى الشعر والأدب إنما هو مجرد تعبير عن مشاعر ذاتية ذوقية لا سبيل لقولٍ فصل فيها . وذلك لبعدها عن القياس الكمى الحسى.
فعلى الصعيد الفردى ،دعت هذه العلوم الانسان إلى الاعتماد على الذات وتقويتها لأنها منبع القيم المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده . وأصبحت الحرية فى نظر الغرب كافة متساوية مع الممارسة التى لا تخضع لمبدأ أو قانون بل تصدر عن الإرادة الشخصية مجردة . كان دعا إلى هذه الأخلاق الممركزة على الأنا الفيلسوف نيتشه على أساس أن الوجود كله نزعة إلى القوة والسيطرة ،بعد أن قرأ على شوبنهاور أن الوجود نزعة إلى الحياة والوجود والبقاء . ولحقتهما الوجودية العدمية على لسلن سارتر وكامو تمجد الممارسة الحرة كأعلى ما يمكن أن يصبو إليه الوجود الإنسانى . ودعوا جميعهم إلى أن تعارض الممارسات الشخصية لا يؤذيها ولا يقلل من قيمتها ،وإن أدى فى معظم الحالات إلى المجابهة والتعدى على الغير ،أو إلى تمادى النفس فى استهوائها لنفسها وهبوطها إلى العدم . وأنى لهم جميعاً التمييز بين الخير والشر طالما أن الرغبات جميعاً متساوية من حيث انها رغبات ، وبالتالى متساوية القيمة . ولا يجوز التمييز إلا بين رغبة ورغبة أقوى منها . اما كونها رغبة فهى أبداً متساوية ،وبالتالى متساوية المرغوبية .
لذلك تدهورت الأخلاق فى الغرب تدهوراً فظيعاً منذ أن عمت النظرية وتبناها العالم وغير العالم وأخذ الفرد يؤمن ان كل رغبة تحمل جوازها بيدها حيث هى رغبة . وبما أن رغبتى المال والجنس أقوى الرغبات الإنسانية انحدرت الحياة فى الغرب إلى المستوى الذى نشهده اليوم . وقد تأثرت نظرية التربية فأصبحت ترى غايتها إحداث التجانس فى الرغبات بين أفراد المجتمع الواحد . أما إذا تجانست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك فى خيرها أو شرها . وعلى المستوى الجماعى ،وجدت العصبية القومية حجتها لتبرير استكبارها على شعوب الدنيا واستعمارها للضعيف منها . فالإدارة القومية تعلو ولا يعلى عليها ،وكل ما تمارسه حق لكونه أرادة قومية .
سبق أن رأينا اتفاق المسيحية مع الفكر الغربى الحديث فى موضوعين : عزل العقل وإحلال الشعور مكانه كمنهج للمعرفة . ذلك أن العقل لا يسوغ التثليث والتجسيد وصلب الآله وموته وإعادته إلى الحياة وتخليص البشر بتعذيبه ،أنما الشعور المسيحى يسوغ ذلك لدى المسيحيين المؤمنين بهذه الأركان . وثانياً ،أن الخطيئة الأصلية وسقوط البشر أجمع بالضرورة الناتج عنها أفسد جبلة الإنسان بحيث أصبحت لا يرجى منها خير وعجزت بالكلية عن الاتيان به حتى لزم أن يتجسد الآله ويكفر عن الإنسان خطيئته ويحدث له خلاصه . وبالتالى فالزمان والمكان ،بل الخلق كله مسود وساقط لا يستغرب من قيامه على تعارك جميع القوى والعناصر والمخلوقات التى يتألف منها بعضها مع بعض دون جدوى أو نهاية فإذا ساير الدين المسيحى الفكر الغربى الحديث فى تحليله للسلوك البشرى ،هل يسايره فى النتائج التى يؤدى إليها هذا السلوك ؟ على هذا السؤال أقام الفكر الدينى الحديث بناءه ،وتبعه الفكر الفلسفى الدينى .
عندما أصطدم الفكر الدينى بالحرب العالمية الأولى ،دعا إلى الانسحاب من المعمعة والانعزال عن العالم ورأى الخلاص فى القفزة العمياء إلى المسيح والسكون إليه وفيه وجودياً ،وذلك حسبما رآه المفكر الدينى الأول كيركجارد . ولكنه عند صدمته بالحرب العالمية الثانية اضطر إلى التدخل وقال (( لا )) فى وجه الفاشستية على لسان كارل بارط الذى هجر وطنه – المانيا – وحمل لواء المعارضة من أرض سويسرا المحايدة .ولكن ،ما وضعت الحرب أوزارها حتى قام مفكرو الغرب يدعون أن الههم الذى سمح بتعذيب اليهود وقتل الملايين من الناس الابرياء وتدمير مدن برمتها اله ميت ،وإن الدين لابد له من التخلص من كل عنصر ما ورائى مطلق إذا يمكن الشر والاستبداد فى الماورائية والإطلاق بالذات . وأخذ المفكرون ينشرون الكتب بالعشرات داعين إلى تطبيق ما أوصى به رودلف بولطمان من ضرورة ال demythologization – أى انتزاع المعانى الواقعية من المبادئ الدينية وذلك بتجريد الخرافات والأساطير عنها – مؤكدين ان كل ما هو ما ورائى ،فوق الطبيعة ،خرافة وأسطورة فشاعت مؤلفات ويزل الذى أنب إلهه أشد تأنيب لتعذيبه لليهود على يد الألمان وغيرهم ،ومؤلفات هاملتون وكوكس وفان بورن ضاربة بعرض الحائط الأخلاق المسيحية التقليدية . وقام راينهولدنيبور يدعو إلى أن المسيحية ليست دين سلام واستسلام لقيصر . هذه الدعوى ،على رأيه ،منوطة بالفرد فقط ،لا بالجماعة ،وأن الجماعة المسيحية لها أن تحارب وتكره وتدمر كيف تشاء ودون وازع . وتبنى تفسير نيبور الجديد للمسيحية وزير خارجية أمريكا – دالاس – لتبرير الحرب النووية التى شنتها أمريكا على اليابان وفرضت سيطرتها على العالم بعد ذلك بسياسة التهديد النووى .
وزاد الطين بلة انتشار الفكر الوضعى وتحديه للتراث الفلسفى كله بدعوى أن مسائل الفلسفة كلها مسائل لغوية لا جوهر لها سوى تواضع عليه المتكلمون من معانٍ ألصقوها بالكلمات التى يتفوهون بها . وبالفعل عم فكر إير وفيتجنشتاين طريدى (( حلقة فيينا )) اليهوديين فى انجلترا ،جميع دوائر الفلسفة فى العالم الغربى ،فأصبحت الوضعية المجردة – اى التقنية – مدار البحث العلمى فى الطبيعة وهدفه الأول والأخير ، والوضعية المنطقية مدار البحث فى الفلسفة فى جميع حقولها ،وفى العلوم الإنسانية والاجتماعية ،وأخيراً فى الفكر الدينى نفسه . وكأن رجل اللاهوت المسيحى وصل به التحول عن تراث المسيحية هى ما توحى به إليه ميولة ورغباته . وبلغ أثر هذا الانحلال الفكرى درجة اضطرت الكنيسة الكاثوليكية – وهى أشد الفئات المسيحية تحفظاً – إلى الرضوخ إليه فى مؤتمر الفاتيكان الثانى وما تلاه من رسائل بابوية . وذلك بتمييع العقيدة وتبديل الفكر الكامن فى مناسك الدين إن لم تفلح بتبديل النظم .
هذا ما وصل إليه الفكر الفلسفى فى الغرب والسؤال الذى يجب على المفكر المسلم طرحه هو : أين نحن من هذا الفكر ؟
2 – الفكر الإسلامى وحركته الحديثة
- فى ميدان العلوم الطبيعية
بدأت المواجهة بين الفكريين ،الغربى والإسلامى ،فى هذا العصر باحتلال نابليون لمصر . إذا جوبه علماء الأزهر لأول مرة بالعلوم الطبيعية الحديثة ،وبتطبيقاتها الحربية التى هزمت المسلمين وأنزلت بهم خسائر فادحة . فكان طبيعياً أن رموا تلك العلوم بالشيطنة أولاً ،ثم ما لبثوا أن تمنوا أن تكون للمسلمين مثلها فتعيد لهم مجدهم . لقد أعجب المسلمون بتطبيقات تلك العلوم دون أن يفهموا النظريات المعرفية والكونية المترتبة عنها . واندفعوا منذ ذلك الحين يبتعثون أبناءهم لتعلمها فى الغرب . وهم مازالوا يفعلون نابغة كتب فى فلسفة اعلوم شيئاً يذكر . بل هم فى جميع اقطارهم غلوا فى الميل إليها والدفاع عن ميلهم بنفس الحجج التى تقولها الغربيون فى كفاحهم ضد الكنيسة المسيحية ومعتقداتها .
هذا من أشد غرائب المسلمين غرابة . ولا يفسر الا بتنازل أولئك العلماء المسلمين عن الإسلام كوجهة نظر شاملة ،والتخلى عنه إلى ما هو شخصى بحت ،بل وعزل الإسلام إلى نطاق الضمير تماماً كما عزلت المسيحية فى الغرب . وليس اشنع قولاً من عالم الطبيعيات المسلم الذى درس فى الغرب وعاد يردد قوله : (( لا علاقة للعلم الطبيعى بما يعنى به الدين والأخلاق . فالعلم محايد . أما تطبيقه فيخضع للأخلاق . لكن الأخلاق لا تعنينى كعالم . إذا أنشد الحقيقة العلمية فى ذاتها ،وهى لا تتأثر لا بالدين ولا بالأخلاق . ولقد دفع العالم الإسلامى بخيرة أبنائه الأذكياء إلى معابد العلوم الطبيعية فى الغرب عن جهل مطبق بأرباب المعبد العلمى وشياطينه ،بل محرضاً إياهم على عدم الربط بين ما يتلقونه من تلقين وبين دينهم . لذلك خسروا الاثنين معاً . الدين والعلم.
فمن جهة أولى ،انحط وعيهم الحضارى وانعدمت ميزتهم كحملة رسالة ،فدك أساس الإدراك فى نفوسهم بحيث لم يعودوا قادرين على التمييز بين ما يتلاءم مع حضارتهم وما ينقضها كل النقض . وهذا الأساس هو ما يبنيه الدين الإسلامى فى النفس إذا ما نشأت وترعرعت عليه . ومن جهة ثانية ،لم يفلح المسلمون فى أية جامعة من جامعاتهم بتنمية العلوم الطبيعية لدرجة التعادل مع الغرب . فهاهم حتى اليوم يبتعثون البعثات للتتلمذ على الغرب ،أى للاقتيات بما يذره الغرب من فتات مائدته بل قل إن الهوة بين مستوى العلوم الطبيعية عندهم ولدى الغرب تزداد اتساعاً جيلاً بعد جيل .
ويعود عدم الفلاح هذا إلى سببين : أولهما ،عدم هيمنة الطالب المسلم على تاريخ ومنهجية وإنجازات وتطلعات ومبادئ ومشاكل العلم المعنى والاكتفاء بالأقل القليل الذى يتضمن الحصول على شهادة التخرج . إذا لا فتح ولا تقدم فى أى علم من العلوم إلا بالإحاطة بمرافق ذلك العلم كله وإدراك منطقة وغايته ومنهجه . وثانى السببين ،أن الطالب المسلم غالباً لا يجد فى نفسه ما يطالبه بالهيمنة الكلية على العلم الذى جاء يطلبه . إذا لا مطالبة بهذه الهيمنة إلا لمن جاء إلى العلم بمنظور عام شامل حى يحثه على إيجاد مكان للعلم الجديد ضمن فكره ووعيه العام فى إطار الحضارة التى ينتسب إليها . وأنى للطالب المسلم أن يطالبه وعيه بالهيمنة على العلم ككل وهو معدوم الوعى الحضارى الذى يعطيه الدين الإسلامى ،فهو جاء إلى الغرب لا سفيراً للحضارة الغربية ومتبيناً سيرتها وسيرة العلم المعنى فيها ،بل سائلاً ذليلاً أفعمه الشعور بضعة نفسه وضعة أمته وضعة حضارته ،جاء ينشد الانتفاع الشخصى والوصول إلى وظيفة عالية أو مهنة مربحة عن طريق تعلم تطبيقات العلوم الغريبة ؟
أليس من المستغرب حقاً أن هيئة كبار العلماء (فى مصر أو فى أى عاصمة إسلامية أخرى ) ثم المجلس الأعلى للبحوث الإسلامية ،ثم معهد الدراسات العربية العالية والبحوث – وهى المنظمات الثلاث الكبرى الناطقة والراصدة للفكر العربى والإسلامى على أعلى مستوى – لم تتعرض قط لموضوع فلسفة العلوم (طبيعة كانت أم اجتماعية أم إنسانية ) طيلة حياتها ،ولم تُعنبها أية عناية ؟ ذلك أن العرب أبعدهم وعيهم القومى عن الإسلام وعطل فيهم منظوره الشامل للفكر والحياة . فالقومية مجرد عصبية وشعور ليس إلا . وهى تعمى صاحبها عن علاقة المادة بالروح وتدفعه إلى خدمة الأولى دون الاهتمام بما تجره هذه الخدمة على الروح من نقص وبلاء . ومازال العرب يعمهون فى خذلانهم أمام الحضارة الغربية . وهل من غرابة بعد ذلك أن تأتى بوادر الوعى الحضارى الإسلامى من غير العرب ؟ نعم ،لقد أتت هذه البادرة فى أول مؤتمر أختص بمعالجة موضع العلوم الطبيعية والتقنية من منظور الإسلام الذى عقد فى الباكستان فى تشرين ثانى 1983((Science and technology in an Islamic Polity)) وما من دولة عربية شعرت بالحاجة إلى مثل هذا الاجتهاد فدعت المفكرين الإسلاميين إلى القيام به .
ومن العار للمسلمين جميعاً أن مؤتمر الباكستان لم يأت قبل سنة 1404 ،أى بعد احتلال نابليون لمصر بقرنين كاملين .
( ب) فى ميدان العلوم الجتماعية والإنسانية
ينقسم المسلمون الذين واجهو الفكر الغربى فى هذا الميدان إلى نوعين : المقلدين والتحديين .
- ينقسم المقلدون فى هذا الباب إلى نوعين : أصحاب التجنى الفكرى وأصحاب المسايرة المؤدبة .
فأما النوع الأول فيتمثل فى أمثال زكى نجيب محمود فى كتابه خرافة الميافيزيقا ،وطه حسين فى نقده للأدب الجاهلى وتصوره لمكانة مصر بين الشرق والغرب بل وأقرب إلى الغرب منها إلى الشرق ، وذلك فى كتابيه نقد الأدب الجاهلى ،ومستقبل الثقافة فى مصر ،وكذلك على عبد الرازق فى اتخاذه طوماس هوبز وماكيافلى أساساً لتحليل الفكر السياسى الإسلامى فى كتابه الإسلام وأصول الحكم ، وخالد محمد خالد فى تهجمه على ما أسماه بالحكومة الدينية فى كتابه من هنا نبدأ ،وصادق العظم فى نقده للفكر الإسلامى عن جهل تام به فى كتابه نقد الفكر الدينى ،وعدد كبير من الشعراء المحدثين ،مثل صلاح عبد الصبور وأدونيس وفدوى طوقان ،وبدر شاكر السياب وسميح القاسم ونزار قبانى وغيرهم . هؤلاء جميعاً تأثروا بالفكر الغربى وحده ،دون وعى بالحضارة الإسلامية وجوهرها – أى التوحيد مبدأ معرفياً أخلاقياً وكونياً وأجتماعياً ،وبالتالى دون ولاء للإسلام وحضارته ،بل دون انتماء . كلهم أرتكبوا خطأ فاحشاً هو الحكم بأن نقد الغربى للدين المسيحى وأثره فى الحضارة الغربية مطبق لا محالة على الدين الإسلامى وأثره فى الحضارة الإسلامية دون علم بما بين الدينين والحضارتين من تفاوت وفروق . وهو ،أى الحكم ،من التهافت الوقح بمكان . ومن المؤسف أننا لم نعط هؤلاء حقهم فى الإجابة عليهم وتقريع مذاهبهم إذا مازالت آراؤهم السقيمة متفشية بيننا ولم نفلح باقتلاعها من جذورها برغم أساءتها إلى ديننا وثقافتنا وحضارتنا وتراثنا.
وأما النوع الثانى فيتمثل فى المسايرين للفكر الغربى وحضارته عن حسن ظن ،إذا تحلوا بالإيمان الصحيح وإن كان ساذجاً والولاء الشديد للإسلام ديناً وفكراً وحضارة . لقد ظنوا أن الحضارة الغربية قابلة للفرز الميسر إلى مواد ومبادئ . فهم يأخذون بالأولى ويتركون الثانية معتقدين ببراءة الأولى ومشككين فى صلاح الثانية . ويشمل هذا النوع معظم المفكرين الإسلاميين . فالمكتبة الإسلامية حافلة بالكتب التى نحت هذا المنحى فقد شكلت تراثاً ابتدأ بخير الدين والطهطاوى وجمال الدين ومحمد عبده وأمير على وسيد أحمد خان ومحمد إقبال وغيرهم وضم عدداً كبيراً من حاملى الدعوة الإسلامية فى الوطن العربى منذ أن رفع لواءها المرحوم حسن البنا . ولا عجب أن ليس للدعوة الإسلامية حتى الآن معهداً يرعى الجانب الفكرى أو يخطط على مستواه ، متبيناً موقف الإسلام الدقيق مما يحدث فى العالم من فكر وعمل .
أما فى العلوم الاجتماعية فأن العالم الإسلامى لم يحرز أى أنتاج . فأقسام الجامعات التى تعنى بعلوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والجغرافية والإنثروبولوجيا مازالت تعيش على ما نقله اساتذتها من فكر غربى ،وهى مجالات زعامتها فى الغرب ومادتها غربية ورجالاتها غربيون وليس للمسلمين فيها باع . ولم نذكر التاريخ ضمن هذه العلوم لأن المسلمين اعتنوا بتاريخهم وألفوا فيه الكثير وإن كان مازال يتعرضوا المنهج العلمى النقدى ،ولم يتعرضوا لموضوع فلسفة التاريخ تعرضاً يحدد موقف الإسلام بوضوح من الفلسفات والنظريات الشائعة فى الغرب . هذا بالرغم من أن المسلمين أجدر الناس قاطبة بالاهتمام بدراسة المجتمعات الإنسانية – بثقافتنا وأديانها وأنظمتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفنية – وذلك تبيناً لسنن الله فى خلقه وتحضيراً للدعوة الإسلامية الواجبة عليهم تجاه هذه المجتمعات .
- التحديون . وهم القلة القليلة ،ممن وقف على ناصية الشرق الإسلامى والغرب المسيحى وأدرك جوهرى الحضارتين وتبين علاقة كل جوهر بظواهر الحضارة فى مجالات الفكر والحياة التى أدى إليها ذلك الجوهر . أولئك وعوا التوحيد كجوهر الإسلام ،ديناً وحضارة ،وتبينوا كيف نشأت الإنجازات الإسلامية القديمة عن المنظور الذى يضفيه التوحيد على من تحلى به عقيدة وفكراً . لكنهم وعوا ذلك فطرة وحدساً إذ هم لم ينقلوا لنا حدسهم إلا بكلمة مختصرة أو محاضرة عابرة . والمطلوب هو أن يقدموا لنا تراثنا تقدمة جديدة تبدى خوافى التوحيد القائمة فى كل فتح فكرى فتحه أجدادنا وكل إنجاز حضارى أتموه . فالرؤية التوحيدية مازالت ملك الأقلية ،على تناقض مع نفسها لأنها بالطبيعة تدعو إلى تعميمها وإباحتها وتمليكها للبشر أجمع . ولن يتم تعميمها إلا بتقديمها عبر ما أنجزته محللاً تحليلاً يبرزها فى مكانة الجوهر منه ،وهذا هو لازمة التعليم الإسلامى فى كل مكان . فكل ما يعطى على غير هذا الأساس فيفوت الطالب إدراك الجوهر.
ولابد بعد ذلك من التعرض لحضارات العالم وكل ما يجول فيه من حركات فكرية وتحديد موقفنا منه من هذا المنظور. ولنا فى موقف أجدادنا من الحضارات اليونانية والفارسية والهندية خير مثال نحذوه ويعنى هذا أنه لابد لنا من هيمنة تامة على الفكر العالمى فى كل حقل من الحقول ،فلا تعدياً لحدود ذلك الحقل ولا تفهماً صحيحاً لما يجرى فيه إلا إذا كانت هيمنتنا عليه كاملة غير منقوصة . ومن المؤسف أننا لم نحصل على تلك الهيمنة فى أى علم من العلوم . فنحن نعتمد على جامعات الغرب نسعى إليها سعى الفلاح إلى الماء النظيف فى العين التى يجرى ماؤها بعيداً عن منزله .
ثم تأتى بعد ذلك كله القفزة المبدعة ،أى التحرك من واقعنا الكائن إلى ما يجب أن يكون ،ومما يجب أن يكون إلى الواقع الجديد المنشود ،حسب ما يمليه المنظور الجوهرى – أى منظور التوحيد . هذا هو هم الفئة القليلة التي نأمل أن تصبح الفئة الغالبة بإذن الله وتوفيقه فى المستقبل القريب .
ويحق لنا أن نقف هنا لنتساءل : يبدو أننا ندعو إلى قفزة هائلة ،من التوحيد كجوهر ومنظور ُترى من خلاله حقائق الأشياء إلى المنشود فى جميع مرافق الحياة ،مع الانتفاع بكل ما جاء به الغرب من علم صحيح نافع . لكن ألا يجدر بنا أن نبين كيف القفز إلى التوحيد كجوهر ومنظور مقولى . وهل لنا أن ننتفع بما قدمه السلف ؟ كما يبدو مما سبق لنا قوله ؟
الجواب هو أن إحصاءنا للعلوم تأثر تأثراً شديداً بأبى نصر الفارابى . فهو الذى قسم علومنا إلى عقلية ونقلية كأن الأولى ليس فيها للنقل مجال وكأن الثانية ليس فيها للعقل دور . وكلا الفرضين خطأ . كأن الأولى ليس فيها للعقل دور . وكلا الفرضين خطأ . كان مراد الفارابى ومن تبعه من المفكرين المتأثرين بمنطق الإغريق بما فيهم أبن خلدون الدفاع عن الفلسفة ،وذلك بالطعن بالعلوم الدينية أنها لا تقوم على اعتبارات عقلية بل على معطيات مستمدة من الوحى والدين . وبما أن هذه المعطيات لا يجوز الشك فيها فهى إذاً غير عقلية ،غير منطقية ،غير نقدية وغير لازمة ،وكل ما بنى عليها مشكوك فيه . أما العلوم العقلية فهى لدى الفارابى ومن نحا نحوه تقوم على معطيات العقل أو الحس . وكلاهما نقدى ،قابل للشك وبالتالى للمراجعة والتصحيح . وأهم هذا النوع من العلوم العقلية هو طبعاً الفلسفة .
فالدفاع عن الفلسفة كان هو بيت القصيد. ذلك أنها كانت منذ البداية متهمة من قبل الإسلاميين بأنها تتناقض مع ما أجمع عليه السلف من اعتقاد بالله والقدر واليوم الآخر والخلق والقرآن الكريم ،وأنها تأخذ بآراء ميتافيزيقية مستهجنة . ومنهم من رمى الفلاسفة بالزندقة أو الكفر . لذلك نشأت صناعة فى عالمنا الإسلامى فى منأى عن التيار الجامع للفكر الإسلامى الذى اضطلعت به الجماعة الإسلامية فزاد ذلك فى استهجان العلماء للفلسفة وإنجازاتها .
ولما جاء العصر الحديث ،وجدنا على جهل مطبق بتراثنا الفكرى مما فتح الباب على مصراعيه للمستشرقين ليصولوا فيه ويجولوا . وبالفعل هم الذين قدموا لنا تراثنا وعرفونا به بعد أن درسوه . وكان من الطبيعى أن يخضعوه للمقولات الفكرية التى عرفوها ،أو توصلوا إليها فى تراثهم لاسيما ما طرأ عليه من تطور فى القرن التاسع عشر الميلادى حيث تم انقطاع الفكر الدينى ن الفكر العلمى والاجتماعى والإنسانى . لذلك قدم المستشرقون تراثنا مقسوماً إلى أطراف متباعدة عن بعضها البعض إن لم تكن متناقضة . ووجدوا فى إحصاء ابن خلدون للعلوم دعماً لإحصائهم . وأنى لهم الجمع ،كما يتطلبه الفكر الإسلامى الأصيل المتمسك بوحدة المعرفة ووحدة الحقيقة ووحدة المنهج ،بين الفلسفة والدين ،وهم يؤمنون أن لكل منهجه الخاص ومادته .
لذلك نشأ معظم مفكرينا فى العصر الحديث يرددون ما تعلموه من أساتذتهم الغربيين دون وعى أو نقد يفرقون بين الدين والعلم احتقارا للأول واحتراماً للثانى . وهم يعرفون الفلسفة أو الفكر المجرد فى العالم الإسلامى بأنه هو التراث المبتدئ بالكندى والقائم بالفارابى وإخوان الصفا وابن سينا وابن طفيل وابن باجًه والمنتهى بابن رشد . بل هم يحطون من قدر ذلك التراث الذى رفعوه فوق الدين إمعاناً فى تقليد الغرب . فالغرب ،انتهج منهج الفلسفة الإسلامية فى القرون الوسطى لكنه لفظ ذلك المنهج فى العصر الحديث مبتدئاً بديكارت وكل ما بنى عليه من فلسفة وبذلك ثبت عدم صلاحها لهذا العصر وعدم مسايرتها للنقد والتحليل . فهى ،فى حكمهم ،لا فائدة ترجى منها إلا لمن أبتغى البحث التاريخى المحض . أما طالب الفكر الحديث فعليه الابتداء من حيث ابتداء الفكر الغربى وذلك ابتغاء الوصول إلى ما وصل إليه الغرب من سمو ورفعة .
ويكمل شعور هؤلاء المنهزمين فكرياً عندما تذكر العلوم الطبيعة والاجتماعية . فالأولى مطوية صفحتها بطبيعة الحال لأنها لم تتقدم عن القرون الوسطى . وأما الثانية فلا إلا فى ما أنجزه ابن خلدون ،فهو العلم الوحيد . وتأتى الطامة الكبرى عندما يذكرون بأن ما تبقى من التراث الفكرى الإسلامى ليس إلا أدباً ،على سبيل التقليل . ذلك أن الأدب مجال الشعور فحسب ،لا يرتجى منه علم صحيح ولا حقيقة عقلية نقدية ،أو ديناً عقدياً Dogmatic لا علاقة له بالعلم والحقيقة بالضرورة .
ولم يتصد أحد من المسلمين لهذا الهجوم المكشوف على تراثنا الإسلامى كله ،سواء من قبل المستشرقين أو أذنابهم من المسلمين ،سوى مصطفى عبد الرازق . فقد نحى التراث العلة عن مكان الصدارة الذى وضعه فيه المستشرقين وأرجعه إلى المكان الثانوى الذى يستحقه بالنسبة إلى التراث الفكرى ككل . ثم تناول نقد ابن تيمية للفلاسفة – أو بالأحرى للمناطقة – فعرف به وأقام حججه على الفلاسفة من جديد . ووضع العلوم الشرعية فى مكان الصدارة بعد أن ميز بين ناحيتيها الأصولية والتطبيقية . فعلم أصول الفقه وعلم أصول الدين علمان عقليان ،نقديان ،يتحريان الحقيقة ويوصلان إليها ،لا تقل عقلانيتهما ونقديتهما عن أية فلسفة ،عن أى علم طبيعى أو رياضى . وتراثهما هو التراث المنهجى المجرد فى الفكر الإسلامى . وهو الأجدر والأعظم والأكبر والأنفع .
ومن المؤسف حقاً أنه لم يتخرج على يد الشيخ مصطفى عبد الرازق إلا عدد قليل من التلاميذ كان أغزرهم إنتاجاً الأستاذ على سامى النشار . لكنه يكاد يكون وحيداً فى متابعته لمنهج مصطفى عبد الرازق فى إحصاء العلوم ونقد المنطق الأرسطى الفكر الأصولى بمثابة الرأس والمنهج للتراث الفكرى الإسلامى كله . ومما يرئى له أن إنحطاط التعليم الجماعى فى العقدين الأخيرين حال دون تمكين الأستاذ النشار من السير بالمنهج الجديد إلى الأمام وتعميمه على المفكرين .
وفى أيامنا قام المعهد العالمى للفكر الإسلامى بأمريكا يدعو لاستئناف المسيرة التى باشرها مصطفى عبد الرازق وعلى سامى النشار ولكن على جبهة أوسع ،بل على جبهة عالية استقبلت جميع حقول التراثيين الغربى والإسلامى . أنشأ هذا المعهد مفكرون إسلاميون هم ،بحكم كراسيهم الجامعية فى الغرب ووظائفهم الأكاديمية التى يمارسونها فيه هيمنوا على التراث الغربى وخبروه فى تفوقه وانخذاله فلم يغررهم بل وجهوا إليه نقدهم من منظور الإسلام فأخذوا يبلورونه ويعيدون تقديمه تمهيداً لهضمه للنافع من التراث الغربى ،وهو ما يسمونه بأسلمة المعرفة . وعلى رجال المعهد ومن يتعاون معهم من مفكرى الإسلام يعقد الأمل فى إحياء الفكر الإسلامى وسيره إلى الأمام هاضماً للفكر الغربى ومتخطباً حدوده وآفاقه المنهجية وتطلعاته (1) . والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير البشر وسيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الهوامش
- راجع للمزيد كتب المؤلف : Islamization of kuowledge
Genral principles and work plan
Tawhid : Its Implications for thougbt and life وكلاهما من نشر المعهد العالمى للفكر الإسلامى بواشنطن سنة 1403 / 1983 The Social and Natural Sciences تعاونا مع عبد الله عمر نضيف ،نشر دار Hodder and Stoughton سنة 1981 فى لندن . ومقالاته فى مجلة المسلم المعاصر فى الكويت ومنها (( نحن والغرب )) (رجب 1397) ،(( صياغة العلوم الأجتماعية صياغة إسلامية )) (العدد 20) ،(( أسلمة المعرفة )) (العدد 32 ) ، (( حساب مع الجامعيين )) (العدد 31 ) ،(( نحو جامعة إسلامية )) (العدد 32 ) ، (( الإسلام والمدنية : قضية العلم )) (العدد 36 ) .