1- مدخل
من قريب جاءتني دعوة ندوة عن حقوق أهل الذمة في الإسلام.
كانت الدعوة من زميل عزيز له جهود في حياتنا الفكرية والأدبية المعاصرة وكانت مناسبة ألقى زملاء طال العهد بلقائهم.
ولكنى – وقتئذ كنت موزع النفس بين الحضور والاعتذار – وكتبت إليه خطابا أقتبس منه ما يلي:
شكراً على دعوتك للحديث عن حقوق أهل الذمة .. والذي عاقني عن الرد الباكر طول تفكيري في الموضوع لقد سألت نفسي، وأود أن أشركك الفكر:
هل الأولى بالدراسة الآن، حقوق وواجبات المسلمين في ديارهم؟ أليس أهل الدار أولى بأن يعرفوا ما لهم وما عليهم؟
وامتد ذهني إلى الشرق الأقصى وقد كنت هناك في خريف 1980.
وفي شبه القارات ثلاث دول : اثنتان مسلمتان، باكستان وبنغلاديش وثالثة أغلبيتها غير إسلامية: الهند.
عاشت الهند بنظامها البرلماني وحكمها الدستوري منذ قيامها حتى الآن، والأمر كما ترى في الجارتين.
ما علاقة الإسلام بذلك والأعراق في شبه القارة واحدة؟ ومد نظرك إلى عالمنا الإسلامي كله وانظر إلى طبيعة العلاقات فيه ولا أريد أن أحدد قطرا فلكل ميزانه الذي يرضى عنه أو يعيش في ظله.
بل حاول أن تقوم بإحصائية عن العلاقات الدامية بين الشعوب الإسلامية والحكام وما بين الشعوب الإسلامية المتجاورة، التي تجمعها قبله الصلاة وتمزقها الصراعات كم حاكما صرعه مقعد الحكم؟ وكم ساعيا إليه قتله الطريق، أو حصده الرفيق؟
هل نحن في حاجة إلى فترة تكوين جديدة، تنشأ فيها مؤسسات دستورية، تعبر أصدق التعبير أو أقربه عن هموم شعوبنا؟ هل نحن في حاجة إلى معابر جديدة بين الحاكم والمحكوم وما بين الشعوب الإسلامية ينيرها الوحي ينيرها الوحي والعلم والفهم الواعي للحياة من حولنا؟ وما السبيل غير التربة الواثقة الصبور؟
هل رجال الفكر عندنا في حاجة إلى نوع من “الحصانة الفكرية” بأمنون معها القول، والحياة بعد القول؟
هذا بعض ما تموج به نفسي الآن فهل تصلح هذه النفس أن تحضر معك اللقاء؟ إن كان فيسعدني أن ألقاك دائما وأنت تعلم ذلك، وإلا: فأحاول أن اكتب الآن ما اعتقد فائدته وفي حدود طاقتي وفي ضوء من الحديث الشريف “إذا قامت القيامة على أحدكم وفي يده فسيله، واستطاع أن يغرسها في الأرض فليفعل”
ويأتي رد الصديق:
ميادين العمل واسعة وما لا يدرك كله لا يترك جله (والتعبير كما يقول الصديق على هذه الصورة أحب إلى) وتحقيق أي عمل إيجابي في أي ميدان هو خطوة إلى الأمام.
ثم تحول ظروف العمل دون الحضور فأكتب إليه.
“دائما… آمالنا أوسع من أوقاتنا . ولن تستطيع أجنحتنا التحليق إلا في بعض الأفق دون أن تحرمنا السعادة برؤية من يعمرونه بالعطاء المتجدد، وفي بعض الأفق أحاول التحليق. ونسأل الله العون.
2- اتجاهات ثلاثة
ولنبدأ بأهل البيت المسلمين في ديارهم: وأمامنا ثلاث اتجاهات تختار مناه واحدا ولما نختاره؟
من المنطقي أن نبدأ بهم: ما حقوقهم وما واجباتهم؟
وإذا كان القرآن في أوائل ما نزل – قال الله فيه لرسوله : “وأنذر عشيرتك الأقربين”
(الشعراء : 214)
فليكن – والقرآن لنا نور – أن نتذاكر مع أهل الإسلام وما لهم وما عليهم .. وتتسع الدائرة بعد هذا لتشمل غيرهم فالمسلمون إذا كانوا لحقوقهم وواجباتهم حافظين كانوا كذلك مع غيرهم، فهذا جزء مما يأمرهم به ربهم:
( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) (الممتحنة)
ومع تعدد الاتجاهات التي تدرس الحقوق والواجبات تبدو منها ثلاثة:
- الاتجاه المناقبي الذي يبرز ما في الإسلام من فضائل وحقوق ويعني بتأصيله من مصادر التشريع الأساسية: القرآن والسنة النبوية وما يفتحانه من اجتهاد ثم يختار من تطبيقات الإسلام ما يوضح ويؤيد هذه الحقوق وهو يعني بتأكيد الجوانب الإيجابية فيما كان دون أن يفتح الطريق لما ينبغي أن يكون وأقصد بالطريق تفصيل القول في إطار ممكن التنفيذ.
- اتجاه المرائي: الذي يمجد الماضي ويرفع من شأنه إلى مستوى يحس معه السامع أو القارئ أنه ينظر إلى وافق لا يمكن الصعود إليه وأن الحاضر في هبوط وضياع وكأن كل دار من ديار المسلمين أندلس نسمع فيها قصيدة أبى البقاء الرندي وهو يبكي رحيل الإسلام عنها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
ويذكر انهيار الحكم الإسلامي:
يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم جور وطغيان
فلو تراهم حياري لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
وكثيرا ما نسمع هذا في مساجدنا ومن وعاظنا مدحا لما كان ثم رثاء له وبكاء عليه بعد ضياعه.
وقد يضيف البعض إلى هذا توسيع الفجوة بين المأمول والممكن ثم بين الواقع والممكن فتمتلئ النفوس رغبة في مجهول لم تتحدد أبعاده إلا قليلا ويكون من وراء ذلك: إما انصراف عن العمل للإسلام يأسا منه أو اندفاع محموم فيه يؤدي إلى انفجارات شبابية لها نظائر في أكثر من قطر إسلامي وكم ضاع فيها من زهرة شباب عاشوا الظهر واختلفت بهم الطرق وغام عليهم الأفق فأوردهم مصارعهم في نزاعات داخلية مع حكوماتهم او خارجية بين أقطار إسلامية يحكمها شباب أو كهول وشيوخ في اندفاع الشباب.
- تخطيط المستقبل: ولك أن تسميه صناعة المستقبل وهو الذي يدرس الماضي على هدى وبصيرة ولا يقف عند الإعجاب به ولا الحزن على ما أصاب الإسلام والمسلمين من فرقة وإنما يحاول جاهدا أن يخطط للمستقبل وأن يسلك إليه السبيل الواعي رغم ما يلقى من عقبات الطريق وعنده القدرة على مراجعة الذات والإفادة من التجارب حوله وعلى هذا المنهج يحاول هذا البحث أن يحدد مراحله.
3- بين الأصول والتطبيق
والحجة الأساسية في الإسلام كتاب الله والسنة المظهرة وتلي هذا مصادر تشريع ارتضاها المسلمون يقابلون بها حاجات العصور المتجددة وقد تصلح لعصر وتحتاج إلى تعديل في عصر لاحق أو تحتاج إلى ابتكار صيغ جديدة في الإطار العام للأصول الإسلامية وهي في هذا مرنة وجاءت بحكمة من الله.
- مجملة لا تشمل قيدا على حرية الحركة وتغير الأزمنة والأمكنة.
وأحيانا يعني بعض الكتاب من الغرب – أكثر ما يعنون – بتطبيقات مختارة في المجتمع الإسلامي ويطلقون على هذا الإسلام التطبيقي.
وعند عرض ما يدرسون من موضوعات يفسحون في بحوثهم لممارسات لا يرضاها الإسلام بينما يكتفون في عرض المصادر الأساسية بمساحات محدودة مما يعطي صورة فيها تشويه وإلقاء ظلال تحجب سمو المصادر أو تحمل العين على سرعة الانصراف عنها ليتركز الضوء على العيوب وليست الممارسات حجة عليه.
- – بين الإسلام والمسيحية
الدراسة المقارنة لهذا الموضوع – الذي نحن بسبيله – ونظائره تستوقفي ظاهرة: فلم تكن العلاقات بين عالم الإسلام والعالم المسيحي دائما قائمة على حسن الحوار كثير من الحروب اشتعلت بينهم: جيوش إسلامية وصلت قلب أوربا وجيوش مسيحية دخلت قلب العالم الإسلامي وكانت خطوط المقاومة والزحف الإسلامية الأساسية إلى شمال مهد الإسلام منطلقة من قلب الجزيرة العربية إلى أرض الفرس والروم واشتد الصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي:
ظهر هذا في الحروب الصليبية كما ظهر في موجات الاستعمار الأوربي التقليدي والحديث.
ولا زالت قطاعات من هذا الغزو باقية يمثلها العدوان على المسجد الأقصى وانتزاع فلسطين وما حولها من الأراضي العربية السلبية وتعرض أقطار أخرى للغزو المسلح كأفغانستان وما تلقاه شعوب إسلامية تحت حكم غير إسلامي كما في الفلبين.
وعلى المدى التاريخي الطويل للصراعات الإسلامية المسيحية كان جزء من الإنتاج الفكري لكل من الجانبين موجها نحوها.
واتخذ الطرفان من الدين وتصويره وقودا لهذه الصراعات صوروا الإسلام دينا قام على القهر وانتشر بالسيف وصوروا نبيه (عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام) وأصحابه قوما دفعهم الفقر من قلب الجزيرة إلى الغارة على ما حولها والاستمتاع بما فيها من غنى وثروة وكتبوا عن حياتهم اليومية بأسلوب ينضح بالحقد وأن تستر بالعلم(2).
وتوارث الأجيال هذا المنهج العدائي فكانت الكتابات المنصفة تظهر في ليلة كما تبدو النجوم في ظلام ثقيل.
- – وجاء فجر من الفهم الجديد
ومع التطور الجديد في الاتصال تقاربت المسافات وزاد الترابط بين الشعوب وزادت معه العناية بالحضارات القديمة في الشرق الأوسط والأقصى، وأخلى مركز الثقل الحضاري الأحادي في أوربا مكانه لمجموعة من المراكز تمتد على جبهة من اليابان شرقاً إلى أمريكا غربا وصحب هذا تطور جديد في الكتابة عن الإنسان وحضاراته وما لكل منها من خصائص وما بينها من خطوط مشتركة وبهذا زاد ما يستطيع أن يفيده حاضر كل منها في بناء مستقبلة عن طريق دراسة تجارب غيره والاستفادة بها في إطار خصوصيته الحضارية.
وفي أكثر من كتاب عن الديانات المقارنة كنت أحس العرض الموضوعي إذ كان المؤلف الغربي يكتب – كمثال – عن البوذية أو الهندوكية أو الكنفوشية أو التاويه، فهو يعتمد على مصادر أصيلة في موضوعه ويعرض أركان الدين ومدارسه الفكرية عرضا موضوعياً وقلما يتدخل بتعليق أو نقد، فإذا ما وصل إلى الإسلام رأيته يعتبر نفسه حكما بينه وبين المسيحية ويأخذ في نقده أو الافتراء عليه أو الاكتفاء بالاستناد إلى مراجع ليست أصلية فيه (3).
وكل الذي نوده من العلماء غير المسلمين – إذا عرضوا الإسلام – أن يعرضوا كما جاء في كتبه وكما يؤمن به أهله وقبل هذا أن يفهموه من مصادره دون أن ينصبوا أنفسهم حكاما على دين لا يؤمنون به(4).
هذا هو المأمول وقد بدت طلائعه ورأينا من علماء الغرب المسيحي من يكتب عن الإسلام مستندا إلى مصادره الأصلية وبهذا تساهم جهودهم في مزيد من الفهم بين الحضارتين.
ولقد شهدت أكثر من مؤتمر إسلامي مسيحي وحاورت زملاء من علماء المسيحية في أقطار إسلامية ومسيحية وأشهد أنني لقيت من بعضهم سماحة وسعة أفق ورغبة صادقة في مزيد من فهم الإسلام وإعطاء أبنائه الفرص للتعبير عنه في جامعات الغرب وندواته وهذا هو الفجر الجديد الذي نود أن ينتشر نوره.
- المعرفة والتعبير حق وواجب
وبهذا يبدو أول الحقوق والواجبات: المعرفة والتعبير وكان أول أمر نزل به الوحي على المصطفي عليه الصلاة والسلام: “أقرأ” والقراءة معرفة وتعبير همل مدخل الإنسان إلى النفس والكون.
وكان أول ما أقسم الله به في كتابه وكرمه “القلم”.
- جاء ذكره في أول الوحي “ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) “العلق”
- وأقسم به الله في قوله “ن . والقلم وما يسطرون” (ن)
وتحت هذا تدخل حقوق وواجبات العلم والتعلم والتعاون العلمي بآفاقها المتجددة والممتدة.
ولا تزال المعرفة من أخطر أسلحة العصر الذي نعيش فيه وعالمنا ينقسم بين الذين يعرفون والذين لا يعرفون والذي لا يعرفون والذين يملكون والذين لا يملكون والشمال والجنوب.
وكل هذه التقسيمات تحمل في ثناياها فروق المعرفة والتقنية.
في تكريم المعرفة يلتقي الإسلام مع المسيحية:
كان أصحاب المسيح ينادونه بقولهم “يا معلم” وجاء في الحديث (إنما بعثت معلما)1، رواه الدرامي عن عبد الله بن عمرو ويقول عليه الصلاة والسلام: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”2
ولكن هل نحن نعيش عالماً أصبحت فيه أبواب المعرفة مفتوحة وطلبها ممكنا والاستجابة لها محل ترحيب؟
- تعدد المقاييس
لقد أصبحت المعرفة سلاحاً بعد أن كانت حقا، وأصبح رجال السياسة هم الذين يقررون للعلماء ما ينشرون من علمهم وما لا ينشرون وما يعتبر سرا وثروة قومية وما يمكن إشاعته بين الناس.
وموازين العلماء غير موازين رجال السياسة وهذان يختلفان عن موازين رجال الدين ورجال القضاء والأخلاق مع تعدد المقاييس وسيطرة رجال السياسة والحرب على غيرهم في العالم أصبح الحديث عن الحقوق والواجبات أقرب إلى الأماني والخيال منه إلى الحديث عن الواقع المعاش.
أن رجل الدين إذا قضى في أمر قال إنه خير أو شر وأعمال الإنسان أمامه أم طيبات وأما خبائث معروف أو منكر.
والقاضي يحكم بأن هذا حق وهذا باطل في ضوء القانون الذي أقسم على احترامه، ولو كان القانون جائرا، وكثيرة هي القوانين التي تشرع للظلم والقهر، والتي صاغها القادرون أو المسيطرون في مجتمع ليخضعوا بها المقهورين والمستضعفين من شعوبهم والنماذج أمامنا من قوانين التفرقة العنصرية الجائرة في جنوب افريقية وإسرائيل، لحرمان أصحاب الأرض والحق، ولازالت بقايا من قوانين التفرقة العنصرية – أو ممارساتها بالعرف دون القانون – مستمرة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
فالقانون وحقوق الإنسان قد يلتقيان وقد يختلفان.
والأمر في المجال العلمي يختلف: فالميزان عند أهله الصواب والخطأ هكذا يجرون تجاربهم ويزينون نتائجهم ويحاولون فتح آفاق جديدة من المعرفة.
إنه ليس ميزان الخير والشر ولا ميزان الحق والباطل ولا ميزان الصواب والخطأ ولكنه ميزان النجاح والفشل.
يلتقي في هذا القائد العسكري الذي تهمه من المعركة نتيجتها: هل انتصر أم أنهزم؟ والسياسي في معركته – داخليا أو خارجيا – يضع عينيه على النتيجة وكذا مرشح أي مجلس نيابي إقليميي أو رئيس دولة كبرى ومن هنا تبدو أهمية المقياس الذي نقيس به حقوق الإنسان.
وما دام مصير العالم الآن متوقفا على الصراع بين العملاقين وكان القرار الأعلى في يد رجال السياسة والحرب فإن قرارات رجال القضاء والعلم والدين والأخلاق كلها تأتي – عملياً – تابعة.
تماماَ .. كما حدث في إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي : الابتكار للعلماء، الصناعة ، للتقنين ، التدمير قرار سياسي عسكري والهدف حسم الحرب في الشرق الأقصى وبالتالي حسمها في كل ميادينها.
وتحولت الحرب إلى سباق علمي ويسجل فيه كل فريق انتصاراته العلمية وأصبح العلماء في معاملهم هم الجنود الحقيقيون في المعركة يأتمرون بأمر رجال الحكم والسياسة في العواصم الكبرى ومع كل كشف جديد خطر جديد.
- أخطار وصلت بنا إلى القنبلة النيوترونية التي تقتل البشر ولا تهدم المؤسسات.
- إلى القنبلة فوق الصوتية القادرة على أن تشل العقل الإنساني وتفقد الإنسان قدرته على التفكير وتعود به – عمليا – إلى حيوان .. بل لعل الحيوان بغرائزه المنظمة أفضل منه.
- مليارات الدولارات ينفقها العالم المتقدم ليصل إلى سلاح يحول الإنسان إلى كائن معتوه ويذكر الأستاذ ماكبرايد في بحث خصصه لهذا الأمر كيف تشتري الولايات المتحدة الآلف الأجنة من عمليات الإجهاض في كوريا لتجري عليها تجارب في قدرة هذه الأسلحة الجديدة الفتاكة على تدمير الخلايا الإنسانية الحديثة التجميد (5).
- ولكي توفر هذه الدول الكبرى نفقات هذا السباق العلمي المحموم لا تجد أمامها إلا إرهاق دافع الضرائب المحلي من ناحية واستغلال المواد الخام في الشعوب النامية من ناحية أخرى وإيقاد نيران الحروب الصغيرة بينها وإغراقها بالسلاح وهي في أشد الحاجة إلى الطعام فإذا هذه الشعوب – مع تخلفها وفقرها – أكبر مستورد للسلاح في عالمنا المعاصر(6).
وللأسف يلتقي المعسكرات الشرقي والغربي على توفير السلاح في هذه الصراعات دون أي إحساس بجريمة أخلاقية ترتكب ولا بإضاعة الموارد ولا بتعطيل الإنتاج.
مرة أخرى نذكر أن أمر السياسة والحرب أمر نصر وهزيمة لا علاقة له موازين الخير والشر والخطأ والصواب والعدل والظلم في عالمنا المعاصر.
فلا أقل، ونحن بصدد حقوق الإنسان ، أن نربطها أولا بالمعرفة، أن نحدد مواقع أقدامنا في هذا العالم، ومواقفنا من الذين يسيرون دفة الأحداث الكبرى فيه.
- الدين وحقوق الإنسان
من أجل ذلك لا أحس الأمر مقارنة بين ما في الإسلام كدين، وما في المسيحية كدين، وأقصد من الإسلام ما جاء في الكتاب والسنة وفي المسيحية ما جاء في الأناجيل وأعمال الرسل، وما صورته حياة كل من المصطفي والمسيح عليهما وعلى جميع الأنبياء صلاة وسلام.
وأتصور الأمر بحثا عن نقاط الالتقاط والتعاون بين أهل الدينين من أجل حياة أفضل للإنسان، ذلك الإنسان الذي أصبح مهددا بحرب لا تبقى ولا تذر، ولا منتصر فيها ومهزوم، ودون دخول في تفاصيل علمية فإن الغبار الذري من أي موقع – بسبب قوى التفجير التي وصل إليها الإنسان – سيرتفع إلى مستويات تدفعه فيها الرياح العليا ليدور حول الأرض دون أن يستطيع الإنسان أن يسيطر عليه ليتساقط دون أي تحكم في أي مكان(7).
بعبارة أخرى : ستتكون فوق الأرض مظلة ذرية قاتلة تدور حولها دون سيطرة الإنسان عليها.
فما كنا نقرؤه كان من قصص الخيال عن المردة الخرافية المحبوسة في القماقم، أصبح حقيقة واقعة: استطاع العلم ابتكار المردة وهي الآن محبوسة في قماقم ذرية مفاتيحها في أيدي الساسة والعسكريين في الدول الكبرى وبعض هذه المردة في أيدي دول أصغر حجما.
وإذا كان امتلاك القوة يعرى أحيانا بمحاولة استخدامها وإذا كان التوازن النووي على هذه الدرجة التي نراها من الدقة والحساسية وإذا كان الغد يحمل الجديد دائما من كشوف التدمير فإن الحديث عن حقوق الإنسان – بل عن أبسط هذه الحقوق – يصبح قضية ينبغي أن يتعاون من أجلها كل من يأمره دينه باحترام الإنسان وحقوقه.
- نحو مسئولية مشتركة:
ففي عالمنا المعاصر تخطت مسئولية حقوق الإنسان وواجباته، الحدود بين الأديان والحضارات والقارات وإذا كان أصحاب كل دين يدرسونها ويعرضون ما جاء به دينهم فيها فإن ذلك من أجل هدف كبير: أن تصبح الحياة أكثر أمنا وتقدما وسلاماً وتعميقاً للخطوط المشتركة بين أهل الأديان.
وفي الإسلام: تكفي خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع دستورا لحقوق الإنسان.
تكفي ممارسته وسماحته مع تأييده الحق ودفاعه عنه بنفسه، وجمع أصحابه حوله، وصياغة المبادئ حياة نابضة كما جاء في حديث أبي عبد الرحمن السلمي: “حدثنا الذين كانوا يقرئونا، أنهم كانوا يستقرئون من النبي r وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل يه جميعاً”(8)
فكان الربط بين المعرفة والتنفيذ قائما من أول الأمر في الإسلام.
ولقد جاء الإسلام مصدقاً لما سبق به الأنبياء من خير ودعا القرآن إلى الإيمان بالله وبجميع من أرسل من النبيين:
“ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)” (البقرة)
والقرآن الكريم يعتبر هذا الإيمان دينا وفطرة:
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) (الروم)
فما جاء في القرآن والسنة من حقوق الإنسان: دين وفطرة.
والفطرة هنا، هي منة الله التي يركو بها وجه الحياة، وبهذا يجمع الإسلام بين المصدرين الأساسين اللذين يقوم عليهما الصرح القانوني: الوحي والفطرة وهي تجارب الإنسان في سعيه إلى الرقي والحياة:
فبعض المجتمعات تشرع لنفسها وتطور تشريعاتها عن طريق كفاح شعوبها والبعض يتخذ من الدين أساساً للتشريع.
وما يذهب إليه الإسلام: أنه دين يلتقي فيه الإيمان بالعقل والشرع بمصالح الناس وأن المسلم فيه مأمور بالسير في الأرض والنظر في تجارب الأمم والتاريخ والإفادة من ذلك كله ما دام غير متعارض مع الأصول التي جاب بها القرآن والحديث الشريف.
وتاريخ الإسلام الحضاري شاهد على مجالات وإمكانيات التفاعل بينه ويبن غيره من الكيانات الحضارية التي سبقته أو عاصرته.
فمن الدين إذن أن يتفاعل الإسلام مع الحضارات والأديان الأخرى ما دام هذا التفاعل لخير الإنسان وتأكيدا لحقوقه وعونا له على أداء واجباته.
- التدريب على ممارسة الحقوق:
ومن الخير أن يبدأ المواطن – مسلماً أو غير مسلم – التدريب على ممارسة حقوقه وعلى أداء واجباته بدءاً من البيت ثم المدرسة ثم المنظمات العامة وبخاصة السياسية في داخل الوطن الواحد.
ومن الخير أن نعترف أن عددا غير قليل من الدول غير الإسلامية قد سبقت كثيرا من أقطار الإسلام في عالمنا المعاصر في مجال احترام الإنسان: حقوقه ووجباته وأن المواطن فيها يأمن على نفسه حين يقول الحق ويطالب به وانه يستطيع أن يثبت أقدامه في أرض وطنه وأن يرفع صوته مناديا بحقه ووراءه مؤسسات نابعة من الشعب ذاته تؤيده وتناصره.
ولقد دفعت هذه الشعوب أثماناً غالية حتى استقرت فيها هذه الأوضاع وابتعادا عن الحساسيات السياسية يمكن أن نبدأ بأمثلة من الدول الاسكندناوية وما فيها من احترام الإنسان وعلاقته بغيره من المواطنين ثم العلاقة بين الشعب والدولة واحترام الأفراد والحكومة معا القوانين التي ارتضوها تنفيذا وتطويرا.
ولقد عرضت في بحوث سابقة للصراعات بين الأفراد وأجهزة الحكم في العالم الإسلامي(9).
وفي نظرة إحصائية تستهدف حصر الأقطار الإسلامية التي انتقل فيها السلطان بين أربعة حكام متتابعين في نسق واحد دون انقلاب أو اغتيال أو عزل كان العدد يقل عن أصابع اليد الواحدة ويندر أن تجد حاكما أمضى مدة حكمه الرسمية وترك مقعد الحكم راضياً وعاش بين قومه في أمن وسلام.
وإذا كان العنف من سمات هذا العصر الذي نعيشه فإن كثافته في العالم الإسلامي تستوقف النظر.
ولن نستطيع – في حدود العمل العلمي والتربوي والثقافي – إلا التعاون على تدريب أجيال جديدة تؤمن بالحوار وتمارسه عمليا لتراه الأسلوب الأفضل في تسيير الأمور وتطويرها وأن يكون لتراه الأسلوب الأفضل في تسيير الأمور وتطويرها وأن يكون فينا الصبر على التجارب حتى يتأصل تطبيق أمر هو من أساس الدين.
ولقد دعا الله تعالى إلى الشورى في كتابه العزيز فجاءت وصفا للمؤمنين وجاءت امرا من الله لرسوله.
يقول الله تعالى:
- “ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)” (الشورى) وذلك وسط آيات كريمة تدعو إلى اجتناب كبائر الإثم والفواحش والانتصار للحق إذا أصابهم البغي.
- “ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)” (آل عمران)
ويستوقفنا في الآيتين أنهما تحددان “مسارات” الشورى في المجتمع:
فللشورى قداستهما كأمر إلهي وهي بهذا شعيرة من شعائر الله في المجتمعات وتسير ممارستها في اتجاهين رئيسين:
الأول : رأسي بين القيادة والقاعدة.
والثاني : أفقي فيما بين الأفراد.
الحركة الأولي الرأسية صاعدة نازلة في المجتمع والثانية دائرة فيه ويكونان معا نسيجا من الحوار المتماسك الذي يستهدف الوصول إلى أفضل الآراء.
ثم يأتي التنفيذ بعد المشورة في جو من العفو والمغفرة دون غلظ ولا فظاظة وهذا ما يحبه الله ويدعو إليه.
ولقد عدل الرسول r من بعض خطوط غزواته، واستمع إلى آراء من حوله ممن تمرسوا بأمور الزراعة – كمثال – في المدينة، ودعا أصحابه إلى الاستزادة من معارف ولغات وخبرات يحتاج إليها المجتمع وكان الحوار مستمرا يستهدف الأفضل دائما.(10)
- نماذج من الشرق والغرب
وأذكر هنا نماذج لأسلوب الحوار وعلاقة المواطن بأخيه وبالدولة وكلها تدور حول المحافظة على الحقوق وأداء الواجبات والإحساس بالمسئولية المشتركة نحو الحاضر والمستقبل.
أولاً: من السويد:
قص على صديق له ارتباط وثيق بالسويد أن أحد أصدقائه هنام خرج في رحلة إلى الريف مع أهله.
الطرف هادئ والخضرة من حوله والسيارات تجرى متتابعة كأنها سرب منتظم من الطير وفجأة أحس سيارة تسابقه وتسابق من أمامه في اندفاع غريب وغير مألوف يهدد حياة الراكبين والسائرين على السواء.
وفي سرعة التقط رقم السيارة حدد اتجاهها وقدر سرعتها، وغير يعبد عنهم كان يوجد جسر يبدو أن السيارة المسرع ة كانت تحاول الوصول إليه قبل إغلاقه لتتحرك منه عبارة تحمل ركابا وسيارات إلى جزيرة قريبة.
وذهب السويدي إلى السائق المسرع – وكان سائحا أجنبيا – ينبه إلى أنه تخطى السرعة المقررة وأنه هدد حياة الراكبين والسائرين وفي يوم عطلة هو لهم جميها راحة.
فما كان من السائح إلا أن أجابه بجفوة:
- لا علاقة لك بهذا الأمر هذه مهمة رجل المرور.
فقاتل له المواطن السويدي:
- يا سيدي أنت ضيف وعليك أن تعرف نظام حياتنا، هذا الطريق ليس فيه شرطي مرور اكتفاء بتعودنا على النظام واحترامنا له، إن ما يأخذه الشرطي من أجر يأتي من دافع الضرائب وما توفره من أجور الشرطة يذهب إلى مصاريف أفضل ولا تظن- لأنك سائح تملك المال – أنك تفعل ما تشاء في بلادنا وتخالف نظامنا، أنني استطيع الآن أن أكتب عنك تقريراً ويشهد عليه من سابقتهم بسيارتك وهذا الشرطي الواقف على الجسر، وأنك عرضت حياتنا للخطر وهذا يكفي لإلغاء زيارتك إلا إذا اعتذرت وأعطيت كلمتك على احترام نظامنا وحدود حرياتنا.
- ونظر الزائر – وكان من العالم الجديد – إلى الوجود حوله فرأى فيها التصميم وأحس أن الرجل يتكلم بلسانهم جميعا فاعتذر وقبلوا اعتذاره.
- وتستطيع تحليل هذا الموقف، فترى فيه الحرص على الحقوق وأداء الواجب ومقاومة الانحراف وتماسك المواطنين أمام أي عدوان، ونظامهم في تأكيد حقهم والدفاع عنه وهذا نتاج تربية متكاملة.
- وعد إلى حديث النبي r الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري:
- إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا : يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا في الطرقات، قالوا: يا رسول الله r : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا : وما حقه؟ قال : غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
مثال ثان من السويد أيضا:
فعندما أظهرت البحوث الطبية ضرر السجائر على الصحة قامت حملة عالمية للتعريف بأخطارها.
فماذا كانت صور التطبيق؟ أخذ صورتين أحداهما من دول الشمال والثانية من حياتنا.
يقول صديقي زائر السويد:
- كان من عادتي صيفا أن أخذ السجائر هدايا لأصدقائي هناك وعندما ذهبت وقدمت هدية لأول صديق نظر إلي وقال:
- ما هذا؟
قلت هدية تعودت أن أقدمها إليك كل عام.
قال : ألم تقوموا في بلادكم بحملة ضد السجائر بعد أن ثبت ضررها؟ لا يا صديقي. خذ هديتك.
فقال الصديق: تستطيع أن تهديها إلى أي صديق.
قال: لا أكون سببا في أذى. عد بها إلى ديارك يبدو أن الأمر عندكم ليس كما عندنا.
وسأله الصديق عما فعلوا فقال:
- كان الأمر كله بالإقناع والتعاون: الجامعة، المدرسة، الإذاعة، التليفزيون، الصحافة، الندوات، والحوار، معاونة المدمن على الإقلاع، منع الدعاية بأي طريق للسجائر، حملة إعلامية علمية مكثفة آتت ثمارها.
- أما عندنا: فأكتب وأمامي أكثر من جريدة تدعو إلى التدخين : “نسبة منخفضة من القطران والنيكوتين “وبعدها” نقدم سيجارة جديدة فاخرة لم يسبق لها مثيل لإعطاء نكهه طيبة في التدخين”
- إعلان على ربع صحيفة وفي أسفله بخط نحيل تحذير حكومي: التدخين سبب رئيسي للسرطان وأمراض الرئة والقلب والشرايين.
- وفي الصيف الماضي وفي ميناء عربي كانت إعلانات السجائر تستخدم الطائرات والقوارب والقمصان الملونة في حملة مكثفة تحاول بها شركات السجائر أن تفتح لها أسواقا جديدة في عالمنا الثالث بعد أن فقدت أسواقها في العالم المتقدم، ما علاقة هذا بحقوق الإنسان؟ وأين يذهب صوت الناصح أمام الحملات المكثفة التي استطاعت بها شركات السجائر شراء صفحات من الجرائد ومساحات من المساء وشاشات التلفزيون؟
أنها صور من الاستعمار الجديد وقيود من المكيفات الخطرة على الصحة يمارسها العالم المتقدم في ديارنا مستعينا – للأسف – بمن يهمهم ربح قريب ولو على حساب حياة مواطنيهم وصحتهم.
وهي صور تبدو فيها سيطرة رأس المال الأجنبي وتهاون بعض حكوماتنا ومؤسساتنا الدستورية ورجال الفكر في الدفاع عن لاحق الطبيعي للإنسان في ألا يقع تحت تأثير ضار أو إغراء فكري مكثف يؤذيه أو يؤدي بنيه وهو غير قادر على رد طغيانه الإعلامي.
ألا يتعارض هذا مع نصح الرسول r ودعائه:
- اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ول من آمر أمتي شيئا فرفق بهم فأرفق به.
- رواه مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة عن عائشة رضي الله عنها.
وهنا تأخذ المحافظة على حق المواطن صورا من الدفاع الفكري والصحي عنه، يمارس حريته في اختيار الموقف السليم دون إغراء ولا ضغط.
ثالثاً: مثال من ألمانيا:
حدثني صديق عاش في ألمانيا فترة طويلة وشغل فيها مناصب في السلك السياسي وعنده متابعة واعية للحياة هناك وكنت أسأله عن العلاقة بين الشباب والدولة قال:
تأخذ نموذجا من الحزب الحاكم الآن ، أن الشباب فيه لهم اتجاه يختلف عن اتجاه القيادة السياسية، هناك نقاط التقاء ستعرض لها بعد قليل ونقاط اختلاف تتعلق بمدى الأخذ بجوانب من الفكر الاشتراكي، هذه النقاط يدور حولها حوار “داخل الحزب”: وتحدث لقاءات بين الشباب والقيادة السياسية ويبدى كل قرد رأيه بكل حرية وشجاعة وبعد دراسة واعية، فالحزب مدرسة للتربية السياسية في الجامعة والمراحل التي تسبقها، حتى وفي المراحل الأولى : يدور الحوار بين المدرسة والمنزل بين الحي والمدرسة في لقاءات بين الآباء والمدرسين والطالب في المدرسة لا يلقى مصادرة على رأيه ولكن يتعود من أول أمره أن يبدى الرأي المدروس وان يحترم القرار الذي تنتهي إليه الأغلبية وان يقوم بتنفيذه، ويقودنا هذا إلى أمرين هامين في بناء ألمانيا الحديثة:
الأول : هو الشعور بالانتماء، أن الوطن ملك لجميع أبنائه وعليهم جميعا مسئولية المحافظة عليه أمنا وعلما وعملا وإنتاجا
والثاني: هو العناية بالطفل وتربيته على هذه المبادئ عن طريق الأسوة الحسنة.
هذه بكل اختصار هى “المعجزة الألمانية” وأن كان الألمان لا يحبون هذا اللفظ فالأمر عندهم جهد ونظام وعرق وممارسة استطاعوا به أن يبنوا هذه الدولة من حطام الحرب العالمية الثانية حتى تصبح قوة صناعية لها وزنها العالمي.
ولك أن تربط بين هذا وبين جهود ألمانيا وفرنسا وغرب أوروبا في إقامة السوق الأوربية المشتركة والبرلمان الأوروبي ومحاولة بناء غرب أوروبا لتقف بين القوتين العظميين: الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وما برهن به غرب أوروبا على وعى القضايا العالمية:
أولاً: من خلال العمل والنظام وادخار الجهد لما هو أجدى.
وثانياً: من خلال مقاومته الواعية للخطر الذي يتهدد من أن يصبح غرب أوروبا ميداناً للحرب النووية بين القوتين العظميين.
وثالثاً: بالجهد الدائب في مقاومة المنافسة العتيدة لصناعات بعض أقطار الشرق الأقصى كاليابان وتايوان وكوريا حتى أطلق بعض الألمان على اليابانيين اسم “الروسيين الصفر” كأنهم ألمان الشرق الأقصى دقة ونظاماً، وما ندرى: هل سنطلق على بعض شعوب غرب أوروبا اسم “اليابان البيض” بعد التطور الكبير الذي حدث هناك.
رابعاً: من اليابان:
ذكر لي صديق زار اليابان قريباً والتقى بعدد من كبار المسئولين عن الصناعة هناك وسألهم عن إضرابات العمال ونظر بعضهم إلى بعض:
- لماذا يضربون؟ أنهم شركاء في المصنع. أى زيادة وتطوير في الإنتاج يعود خيره على كل العاملين فيه:
من رئيس مجلس الإدارة إلى أصغر العاملين. الوقت حياة. رأس مال. الحرية أن تعمل وتنتج وتحصل على ثمار عملك متعاوناً مع زملائك.
وقال الصديق:
- كان سن معظم الجالسين معنا فوق السبعين وقابلت منهم عالماً وضع خطة تأليف معجم ياباني – عربي. وقدر المدة التي يستغرقها العمل بثماني سنوات مضى منها ثلاث وكان الرجل في نحو الخامسة والسبعين هكذا أملهم في العمل والإنتاج.
وتستطيع أن تتصور عطاء مجتمع: شبابه لا يؤمن بالإضراب وشيوخه في هذا الحماس للإنتاج.
خامساً: من الولايات المتحدة:
ففي دراسة نشرتها “كريستيان ساينس مونيتور” بقلم سارة تيرى (1980): ذكرت كيف يحول النضال الطلابي “من المظاهرات إلى المذكرات” وذلك عن طريق الاتصال والحوار مع أعضاء الكونجرس وإدارات الجامعات وكيف أستطاع الحوار الطلابي الواعي في عام 1979 أن يقنع الكونجرس بالموافقة على قانون الطلاب متوسطي الدخل فارتفعت بذلك – إلى الضعف – قيمة المساعدات المالية الفيدرالية المقدمة إلى طلاب الجامعات والتي كانت تبلغ نحو مليار دولار. وذكر المقال نماذج أخرى من حوار الطلاب مع السلطات وتصعيده من مستوى إلى مستوى أعلى إلى الصحافة والرأي العام والقضاء بحيث أصبحت المظاهرات تشغل المكانة الأخيرة في سلم الوسائل.
وأكتفي بهذه الأمثلة الخمسة: من أقصى الشرق ومن غرب أوروبا وشمالها ومن العالم الجديد لأبين مكانة أسلوب الحوار الواعي وتطور العلاقة بين الشباب والسلطة وممارسة الحريات بطرق حوار أفضل تحل محل الصدام بين الشباب والسلطات.
12- المؤسسات الدستورية
وإذا كانت النماذج السابقة ترتبط بالتربية وآثارها فأن أولى ما يحتاج إليه العالم الإسلامي كما يحتاج إليه العالم المسيحي والإنساني بعامة أن تقوم المؤسسات الدستورية التي تعبر عن رأى الشعب في إيمانه بربه واحترامه للإنسان وسعيه إلى غد أفضل.
وهذه المؤسسات في العالم الإسلامي تتحرك – دينا – في إطار المبادئ العامة التي جاء بها الإسلام.
والذي أود تأكيده وتوسيع آفاق التعاون عليه في هذه الدراسة أمران:
الأول: مجموعة الحقوق المتعلقة بكرامة الإنسان كانسان: حياته، حريته في التعبير عن رأيه. الأمن قبل وعند وبعد إبداء الرأي. معاملته – كانسان – إذا تعرض لاعتقال أو سجن أو تحقيق.
وعميقة نبؤه المصطفي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف الذي يرويه الإمام مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه: يوشك أن طالت بك مدة، أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله.
الثاني: تكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع: في الرعاية الصحية والعلمية بحيث لا يقف وضع الفرد الاجتماعي عائقاً دون تحصيله العلمي وتنمية فدارته ثم قيامه بعد ذلك بخدمة مجتمعه عرفانا منه بجميله عليه.
خاتمه
أن الذي نحتاج إليه في ممارسة هذه الحقوق والواجبات أن نصبر على مسئوليات التطبيق ولا نضيق به.
ذلك لأن هذا الضيق يفتح الطريق إلى صور من الفردية والاستبداد وأن حملت مؤسساتها اسم الشعب وصدرت منها القوانين باسمه.
وميزة هذه المسئوليات في الإسلام أنها دين ومنهج حياة، نسعى إليها في تدرج ورفق ويلتقي فيها ثواب الدنيا بحسن ثواب الآخرة ويشعر الفرد – كما تشعر الجماعة – عند ممارستها أنها من صور عبادة الله وعمارة الحياة بالعمل الصالح.
الهوامش والمراجع
- كنموذج أذكر البحث التالي:
Bernard Lewis: Race and color in Islam, Harper Torch books London 1971.
فهو يمر على مصادر التشريع مروراً سريعاً في ص 6، 7 لينتقل مسرعاً إلى تطبيقات مختارة من عهود ما قبل الإسلام وما بعد قيامه ويخصص لقصيدة المتنبي في كافور ص 87 – 80 أكثر ما يخصص لنصوص القرآن في قضية اللون. والبحث يمتلئ بنماذج مناظره.
- في عرض هذه الشبهات والرد عليها يرجع إلى:
Muhammed Asad: The Road to Mecca.
منشورات دار الأندلس طنجة 1974 والكتاب رحلة فكر أوروبى صور فيه ما يقال في الغرب عن هذا الدين وما لمسه بنفسه في الحياة الإسلامية وما درسه عن الإسلام حتى آمن به.
- أنظر في هذا:
John B. Noss. Man’s Religions, Macmillan Camp. New York, 1965
وتقرأ فيه الموضوعية في عرض الأديان الأخرى فإذا درس الإسلام أخذ في إبداء رأيه والمقارنة والاعتماد على مصادر غير موثقة ولا أصيلة.
- عبد العزيز كامل: الإسلام من مصادره.
بحث من كتاب: مع الرسول والمجتمع. مؤسسة الصباح. الكويت 1980
وقد سبق أن نشرته هيئة اليونسكو في مجلتها: ثقافات، المجلد الرابع، العدد الأول يناير 1977 – باريس.
- Sean Mac Bride: Brain Washing with a Good Clean Bomp, pp. 89-93
“غسيل المخ بقنبلة طبية نظيفة” منشور في : UNESCO: Suicide or Survival? وهو بحوث مائدة مستديرة عقدتها هيئة اليونسكو عن تحديات عام 2000 ونشرتها عام 1987- باريس
- تقرير لجنة ويلي برانت : الشمال – الجنوب : برنامج من أجل البقاء – الفصل السابع: نزع السلاح والتنمية ص 104-110، الطبعة العربية – الكويت 1981.
- يراجع في كتاب اليونسكو : الانتحار أم البقاء ؟ (1987) بحث فيليب نوبل بيكر وعنوانه: وحش الأسلحة فوق الذرية.
Philip Noel-Baker: The Monster, pp 76-80
8- تفسير ابن كثير 1: 3 ط التجارية . القاهرة
9- عبد العزيز كامل: التغيير في المجتمع بين الفرد والدولة : ص 280-323 وهو الفصل الحادي عشر من كتاب: مع الرسول والمجتمع- (1981).
10- والنماذج على ذلك كثيرة من تاريخ الإسلام : حفر الخندق. تعلم صناعة المجانيق والعرادات (من آلات الحرب)- تعلم اللغات التي يتعامل بها المجتمع الإسلامي مع الأمم حوله (نموذج من زيد بن ثابت وتعلمه لغة يهود عندما أمره بهذا الرسول قائلاً: إني والله ما آمن يهود على كتابي).
11- خصصت مجلة العربي (الكويت) في عددها رقم 278- يناير 1982 جزءاً خاصاً بموضوع: قضية التطرف الديني شارك فيه ثمانية من الكتاب لهم تجاربهم الذاتية واتصالهم بهذا الأمر.
والأمثلة الواردة هنا مقتبسة من بحث للكاتب عنوانه: الوسيط الغائب بين الشباب والسلطان: ص 48-51.
12- مشكلة المصابيح للتبريزي 2: 276 حديث رقم 3523 ط. المكتب الإسلامي. دمشق وبيروت.
13- الاتجاه الحديث في التربية يعني عناية كبيرة بتوفير فرص النجاح للطالب “بعد” دخول المدرسة، دون الاكتفاء بمجرد الدخول. ذلك لأن قدرته على الاستفادة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروفه الاجتماعية والاقتصادية كما ترتبط بمستواه العقلي وصدق الله “وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق وأجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً” (الإسراء: 80) ولا شك في أن “حق” الفرد أن تتوفر له فرص النجاح وتتكافأ، هذه هي مشكلة مدخلات ومخرجات المدرسة التي يقابلها عالمنا المعاصر.