يلاحظ المتأمل في حصيلة النتاج الفلسفي في النصف الأخير من القرن العشرين الميلادي سريان موجة التشقيق والتفتيت وتوزيع الألقاب والطوابع والنزاعات على معطيات الطاقات الفكرية للإنسان. وأوضح ما يلفت النظر حقا في مثل هذه الموجة ما يقع تحت اسم النزاعات حتى أصبحت أشبه ما تكون بسريان الحمى في أوصال هذا الفكر المسكين. فكان ما يسمى بالنزعة
العقلية، أو ما يسمى بالنزعة الصوفية أو النزعة الحدسية أو التجريبية إلى آخر هذه المصطلحات التي لا تعكس إلى السطحية في التناول والخواء في المضمون. وذلك في الأعم والأغلب المراجع إلى أن مصطلح “العقل” ذاته يستعمل لدى كثير من الأقلام الكبيرة والصغيرة على حد سواء بمفاهيم وأبعاد متباينة.
لقد أوغلت هذه الموجة في مسارها حتى تركزت أخيرًا على يد قلة من الكتاب والدارسين فيما يزعم “بالنزعة العقلية” التي يكيلون لها المدح والثناء، ويعقدون عليها الآمال في اصلاح الحال والمآل في الفكر الإسلامي أو العربي كما يفضلون أن يسموه. فإذا تمعنت في أقوالهم قلم تخرج منها إلا بمفهوم واحد بسيط وساذج يرتبط بقواعد المنطق كما تركها أرسطو، بالرغم من مشاركة بعضهم في اثبات عقمه وقصوره.
وقد جرى بعض تلامذة هؤلاء على نفس المنوال حيث كلفوا أنفسهم شططا في إثبات نزعة عقلية عند هذا الفيلسوف أو ذاك. وعملوا على ترويج هذه السمة حتى حرموا القراء قطف كثيرة من الثمار الفكرية اليت جادت بها قرائح الأعلام الذين كانوا موضع دراسة هؤلاء.
أن هؤلاء التلاميذ لم يفطنوا إلى أن أساتذتهم إنما نهجوا هذا السبيل بسبب الترجمة الرديئة لبعض المصطلحات الأجنبية هذه المصطلحات التي اكتسبت في بيئتها معاني محددة واضحة قد لا تجد نظيرها في اللغة المنقول إليها.
أن وصف فيلسوف معين بأنه ذو نزعة عقلية أشبه ما يكون بوصف الماء بأنه ماء، إذ من البدهي أن الفيلسوف لا يستخدم في فلسفته إلا عكازه التأملي الوحيد وهو العقل ولا سبيل إلى بحث مشكلة أو علاج مسألة أو فحص حقيقة إلا بالعقل، بل أن الأمر أخطر من ذلك وأعم إذ أن النشاط العقلي لا يقتصر على الإنتاج الفلسفي بل أنه يمتد إلى الانتاج اللغوي والعلمي بمعناه المتخصص الدقيق.
ومثل هؤلاء الذين يسمون فكرا معينا أو فيلسوفًا بذاته بأنه ذو نزعة عقلية قد فقدوا – للأسف – الرؤية الكاملة لأداء العقل ومشتقاته كما جهلوا الكيان الإدراكي المتكامل كما عرضه الإسلام في كتابه الكريم.
أن تصفح القرآن الكريم واستعرض الألفاظ التي تتصل بعملية الإدراك والتفكير وما يرتبط بهما يرينا أن مقومات الفكر والإدراك تشكل جهازًا متكاملاً مترابطا لا يكاد ينفرد العقل بجانب منه، ولا يكاد يخلو من جانب، وذلك بشرط أن نفهم من لفظ العقل معناه الواسع الذي تتيحه لنا النظرة الإسلامية الشاملة.
فهناك لفظ “اللب” والسر والفؤاد والقلب وهي ألفاظ وردت في بعض المواضع مرتبطة بالوجدانه، وفي البعض الآخر مرتبطة بالتعقل والتفهم الذهني، بل وردت في مواضع أخرى مرتبطة بالنزوع أو الإرادة أو الإيجابية الفعالة المؤدية أو المؤيدة للسلوك.
وربما كان الدرس المفيد الذيب أراد الإسلام أن يعلمه للإنسان أنه وحدة متكاملة تتعاون ملكاته وقدراته وطاقاته في أبراز ردود فعله فكرا ووجدانا وسلوكا، أو أبراز ثمرات إبداعه في صورة منسجمة منسقة، تتم عن وحدة الذات وتماسك الكيان وعمق النظرة وشمولها وتراثها وقيمتها.
أما هؤلاء فيظهرون الإنتاج الفكري لهؤلاء الفلاسفة مبتورًا لا يظهر منه إلا ما تراه عقولهم التي صبت في قوالب معهودة مما أسمية الفكر المتنقل discursive الذي يولع بالجزئيات وترتب بعضها على بضع في عملية تكاد تكون آلية، ضمانا لما يظنون من العصمة وسلامة النتائج، ولكن ما يحصلون عليه بعد هذا العناء الطويل هو مسخ مشوه من النتائج الذي ينطق بتوزع النفس وتقسمها على ذاتها، وانفصال روابط الحقائق بين ثمارها.
وحتى لا يكون حديثنا أقرب إلى الأغراق في التجريد والأمعان في التفلسف فإننا نشرح ما نعنيه بالأمثلة التي نسوقها تباعا.
لقد جرت أقلام كثيرة على وصف فرقة المعتزلة في الفكر الإسلامي مثلا بأنها ذات نزعة عقلية وأنهلا تمثل الحرية والعقل في هذا الحقل الكبير. ولم يكلف أصحاب هذه الأقلام أنفسهم مشقة التمعن في حقيقة الفكر المعتزلي، وأنه يقوم كما يقوم فكر غيرها من الفرق الأخرى على الإيمان والتسليم بصحة النص وإذا كان للبحث العقلي من دور فإنما يؤديه في إطار هذا الإيمان، وفي ضوء هذا النص بالذات بحيث لا ينبغي أن يؤدي هذا البحث العقلي إلى رفض النص القاطع أو تكذيبه.
وقد وصف هؤلاء بعض الفلاسفة بأنهم ذوو نزعة عقلية كالكندي وابن رشد مع حصر مفهوم العقل فيما سبق أن أِرنا إليه من تأسيس الفكر على قواعد المنطق الصورية حتى وأن أدى ذلك إلى تطبيق الشاهد على الغائب في القضايا أو المبادئ الغيبية، مع أن العيب الأٍساسي في هذا المنطق – كما يدعون هم أنفسهم – هو الإنطلاق من العموم إلى الخصوص أو من الكلى للجزئي بناء على التسليم ببدهيات لم تعد الآن موضع تسليم.
لقد نسى هؤلاء أن أسلافنا كانوا أذكى منا حين حددوا لكل موضوع أداته المناسبة ومنهجه الملائم فحيث لا يجدي إلا الحس استخدموا الحس واقتصروا عليه وسجلوا ما أعطاهم الحس من تجارب تقارب ما يجري الآن من تجارب علمية موضوعية.
وحيث لا يفيد إلا العقل بمعناه القاضي القدرة على التجريد والجمع والتفريق والتصنيف والحكم – استعملوا العقل في حدود معطياته وفي نطاق قدراته، وحيث يقف العقل بالمعنى السابق عند حدود منطلق مشكلة أو موضوع، استنفروا طاقة أخرى – ربما أسماها البعض بالبصيرة أو الحدس أو الكشف أو الأشراق أو الوجدان أو ما شاءوا من ألفاط مشعرة بأنها تتجاوز حدود العقل بالمفهوم السابق وأن كانت لا تتناقض مع معطياته. وربما فضلت أن أسمي هذه الطاقة الثانية بالعقل في مرتبته العليا أو في مرحلته الناضجة التي لا تغني فيها مرحلته السابقة.
ومثل هذه المراحل أو المراتب أو الطاقات أو الملكات مثل المراحل المتتابعة التي نشاهدها نحن في دائرة الحس. فنحن نرى بالعين المجردة لمسافة معينة ولحجم معين، فإذا أردنا أن نمد البصر إلى أبعد مما سبق، استخدمنا آلة تمد الأبصار إلى المدى الذي نريده مثل “التليسكوب”، وإذا أردنا أن نرى ما هو دون حجم الجسم المعين، كان علينا اللجوء إلى استخدام مكبر لها الجزء الصغير حتى يصل إلى مدى رؤيتنا وأبصارنا. ونحن في مثل هذه الأمثلة لا ندعي أن المرحلة الولى تكذب الثانية أو أنها تناقضها بل اننا نقول أن المرحلة الثانية تعضيد وتأييد للمرحلة الأولى، وأننا في جميع هذه المراحل، لم نخرج عن دائرة الحس.
فإذا انتقلنا إلى عالم المعقولات والمدركات الفكرية واجهنا نفس الموقف: فهناك أمور وحقائق يستطيع العقل الذي يستخدم قواعد المنطق المحددة أن يصل إليها وأن يبرهن عن صحتها بما يرضيه ويطمئنه ويجعله متيقنا مما يدرك ومما يرى. وهناك أمور وحقائق يحوم حولها هذا العقل الذي تدرب على هذا النمط من التفكير دون أن يستطيع استيعابها أو إدراكها إدراكا واضحا يستطيع البرهنة عليه كما استطاع في السابق. وهو في هذا الموقف يسلك أحد سبيلين. إما أن يكذب بهذه الحقائق أو الأمور على أساس عجزه من اراكها إدراكا واضحا يستطيع البرهنة عليه كما استطاع في السابق. وهو في هذا الموقف يسلك أحد سبيلين. إما أن يكذب بهذه الحقائق أو الأمور على أساس عجزه من ادراكها وهو في هذا غير محق، وإما أن يستنجد بوسيلة أخرى تعينه أو تمده بالإشارات اللازمة التي تكفل له الطمأنينة واليقين، وهو في هذا يعتبر عقلا بمعنى الكلمة. والوسيلة التي قد يستنجد بها العقل لابد أن تنتهي في آخر المطاف بالإيمان.
وهنا ينبغي ألا يفهم من لفظ الإيمان إلا قرار والتسليم والتصديق بلا برهان وبلا تعيين وبلا اقتناع بل يجب أن يفهم من الإيمان قرار اليقين ووضوح الحقيقة وانكشافها لدرجة لا نحتاج معها إلى بيان أو استدلال، وهذا اللون من الإيمان تكتنفه العناصر العقلية من كل جانب.
فمثلا إيماننا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو بالوحي الإلهي للقرآن أو باليوم الآخر ليس تصديقا بلا برهان أو يقين أو استدلال، ولكنه تصديق مؤيد مدعم بأوثق البراهين وأقوى الأدلة، فقد طولب محمد صلوات الله عليه بأدلة على صدقه لم تطلب من أي فيلسوف أو مفكر مهما أغرق في التفلسف أو التفكير، لقد طولب بأدلة حسية – وهي المعجزات – وطولب بأدلة معنوية مختلفة من طرق الاستدلال على أحقيته بالرسالة أو أحقية الله بالوحدانية والعبادة.
فإذا ما قر هذا الإيمان في القلب بعد هذا الاستيقان الذهني والوجداني يكون العقل قد اكتسب بذلك نصيرًا ومؤيدًا ومرشدًا يمنحه من نوره كلما أظلمت عليه الشبهات، ولا سبيل للعقل إلا هذا السبيل، فإذا ما استضاء بنور الإيمان لم يخرج عن كونه عقلاً ولم يخرج صاحبه عن نزعته الأساسية التي لا يمكن أن نسميها نزعة عقلية بالمعنى الضيق الذي يريده هؤلاء.
تخيّر أي علم من أعلام الفلسفة أو الكلام أو التصوف فسنجد في تراه سريان الطابع العقلي إلى جانب التيار الوجداني أو الحدسي أو الإيماني في خطين متوازين متعاونين، غاية ما في الأمر أنه قد يغلب أحد الطابعين على الآخر من غير أن يفقد الفكر وحدته، أو الكيان تماسكه.
فالكندي الفيلسوف مثلا ترى في فكره طابعا عقليا وتيارا حدسيا أون إيمانيا أو وجدانيا في صورة قد تميل إلى التوازن والاعتدال والتناسق.
والفارابي – وهو فيلسوف – لا تخطئ في تراثه الطابع العقلي بالمفهوم السابق والتيار الصوفي – أما كمقدمة للسابق – وأما كنتيجة له. لكنه لا يحق لي أن أصف نزعته بأنها نزعة عقلية، أو أنها نزعة صوفية وإنما أصفها بأنها اتجاه متكامل متضافر يدل على النضج والموسوعية والشمول ورحابه الأفق.
وأن هذا ما أقره على الأقل الفيلسوف الإنجليزي الراحل برتراند رسل – وكون رسل يؤكد هذا بالذات له دلالة بالنسبة لهؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم شراحا وسدنة لفلسفته.
والجنيد بن محمد – وهو صوفي – يفترض أن تتسم نزعته بالتصوف أو الحدس أو الوجدان أو البصيرة لا تعدم في تراثه دور الطابع العقلي بأدق خصائصه، وأحكم حلقات براهينه، حتى في المأثور من الأحاديث والأقوال.
والأشعرية – وهم كلاميون – تتكامل في تراثهم، العناصر العقلية والنقلية والحدسية وأن غلبت الوسطى عليها.
وابن رشد الذي ظلمه كثير من الباحثين وخسوا تراثه – من حيث أرادوا اعلاء شأنه – ابن رشد هذا يتأصل فيه تكامل الطوابع العقلية والحدسية والنقلية ويوزع هذه الطوابع بتنوع المستويات التي كان يوجه إليها انتاجه. وهو في هذا السبيل لم يفعل شيئًا إلا النسج على منوال الإمام الغزالي رغم مخالفته له في موقفه من الفلسفة والتفلسف.
أن الناقد البصير لا يغيب عنه أن الإمام الغزالي في نقده وهجومه على الفلسفة كان فيلسوفا أو متفلسفا كما أنه في نقده للمتكلمين كان متكلما. وربما كان الغزالي فريدا من محيط الفكر الإسلامي من حيث شرحه لمثل هذه المواقف والطوابع والأطوار من خلال عرضه لأزمته العقلية والروحية، هذه الأزمة التي سجل أعراضها وخصائصها ومراحلها حتى حلت في نطاق التصوف، وظن بعض الدراسين – خطأ- أن العزالي تنكر للعقل حين رسى على ميناء التصوف فحطم القارب والمجداف، وما درى هؤلاء أن الغزالي قد اكتسب بالتصوف عونا جديدا وأفقا بعيدا ما كان للعقل عدوا بل كان حميما ونصيرا.
والغريب المذهل حقا أن هذه الأحكام الكاسحة التي أطلقها هؤلاء الدارسون أغفلت تماما هذا الوصف الدقيق وهذا الشرح الواضح الذي قدمه الغزالي لأزمة طالب الحقيقة في إخلاص وتجرد، ومن ثم صدروا جميعا في أحكامهم عن أفكار مسبقة وعن عقول قد صبت في قوالب جامدة لا تقبل مرونة أو انفساحا، وهم أشبه بالقاطرات اليت لا تسير إلا على قضبان حديدية حتى وأن أدت القضيب إلى طريق مسدود.
أن منشأ هذه المحنة والعقم الفكري هو التقوقع في صيغ Formle وقوالب ومصطلحات مستوردة Forms لم تنبع من ذواتهم ولم تنشأ صريحة النسب إلى تراثنا الأصيل. ومع ذلك فهم يريدون أن يفسروا فكرنا عليها ويتكلفون من تعبئته في هذه القوالب حتى وأ، لم يقبل مثل هذه التعبئة المفتعلة.
وهذا ما جعل بعضهم يزهي بالقول بأن لفظ علم حين يرد في التراث الإسلامي فلا ينبغي أن يفرح به الدارس حتى يقول إن إسلامنا عرفوا كلمة علم المقابلة للفظ الأجنبي Science، وذلك لأن مفهوم العلم في التراث لم يرد به إلا العلم بالله وصفاته إلى آخر هذا الكلام الذي يتهافت ويتبدد تحت ضوء التراث.
لقد كان لفظ علم في التراث العربي الإسلامي أو في المصطلحات بالدلالة على وحدة الكيان البشري وترامى أطرافه عبر عالمي الغيب والشهادة على السواء. ما في الأمر أنك مطالب بأن تضيف إلى لفظ “علم” الميدان الذي يعمل فيه فعلم اللغة مثل علم الطبيعة مثل علم الآخرة من حيث أن كل علم من هذه العلوم كان يقصد منه البحث في حقائق الميدان الذي أضيف إليه. وبذلك دخلت التجربة الشخصية، والتجربة المعملية، والتجربة التحليلية التأملية في مفهوم هذا اللفظ، ويتوقف نوع التجربة على نوع الموضوعات التي يشملها هذا الميدان أو ذاك.
فعلوم اللسان مثلا لها ميادينها المتميزة وأداتها الخاصة ومنهجها المناسب وطرائقها الملائمة التي لم يدخر الأجداد وسعا في تطويرها ونقدها وتعديلها كلما استبان جديد، وعلوم الجنان هي الأخرى ذات ميادين مستقلة وأدوات ومناهج بحث ملائمة، وعلوم الظواهر الطبيعية بمختلف فروعها وتذوع دروبها ومسالكها لها ميادينها وطرق بحثها ونتائجها، وعلوم القرآن وعلوم الحديث والتاريخ والسياسة والاجتماع والأخلاق والكلام كلها علوم ذات ميادين وأساليب ومناهج متميزة وكلها تلتقي في أنها ثمرة الإنسان بما هو إنسان قد وحدته عقيدة تضرب بجذورها في أعماق الأرض “أصلها ثابت وفرعها في السماء”.
وخلاصة ذلك في سطور أنه لا يحق لدارس يتوخى الحقيقة في عمقها وأصالتها أن يمزق أوصال انتاج المفكر أو الفيلسوف أو العالم ليبديه من جانب دون جانب، مدعيا أنه ينقل إلينا حقيقة تراث هذا المفكر أو ذاك، كما لا يحق لباحث أن يدعي أن هناك انفرادا بنزعة ما في تراث أي مفكر أو أي فيلسوف مسلم.
فابن طفيل مثلا في قصته حي بني يقظان يعرض ثمرة الفنان العالم والفيلسوف الذي تلتقي في قصته تلك طوابع الوجدان وعناصر التجربة ودلائل العقل وثمرات الكشف في صعيد واحد وفي تناسق عجيب.
وابن عربي في تراثه الضخم من نثر وشعر يعرض ثمرة العقل والوجدان والبصيرة والتجربة والخبرة وتتفاوت هذه الثمرات بتفاوت الموضوعات التي طرقها، فإذا ما عارض أرسطو في فكرة ما أو مبدأ بعينه كنقده فكرة أرسطو عن المادة، أو مبدأ الحركة بدأ ابن عربي في هذا المقام عقلانيا صلى الله عليه وسلمأن صح هذا اللفظ) إلى أبعد الحدود، وهو في نفس اللحظة يثنى بعرض فكرته عقليا مكسوا بثياب وجدانه تارة، أو مدعما بتجارب الحسية تارة أخرى.
أن الخطأ الذي يقع فيه الدارسون اليوم أشبه بالخطأ الذي تردى فيه بعض المستشرقين بالأمس حين لجأوا إلى تصنيف أعلامنا الآجلاء إلى صنفين: صنف يعرض جانب العاطفة أو الوجدان أو الشعور – وغالبا ما يكون هذا الطابع طابع الحب وهؤلاء هم الصوفية، وصنف يعرض جانب المعرفة أو العلم أو العقل وهؤلاء هم الفلاسفة، وعلى هذا الأساس استبعدوا من نطاق التصوف كل من ظهر في انتاجه ما أسموه بطابع العلم أو المعرفة كابن عربي والجيلي ومن إليهم.
وخطأ هؤلاء المستشرقين نابع من أنهم طبقوا على تراثنا مقاييس ابتدعوها لتراثهم هم. فقد وجدوا في تراثهم أن متصوفيهم لا يعرضون إلا العاطفة والوجدان الممثل في المحبة، ومن ثم قالوا لابد للصوفي أن يمثل هذا الطابع. فإن مثل غيره لم يعد متصوفا وذلك بناء على تقديرهم لمبدأ المحبة كأساس لفهم قضية الخلق وشرح إمكان الاتصال بالله.
ولكن تراثنا يختلف تماما عن تراثهم قبل أن ينتقل إليهم. إذ أن في تراثنا تتصافح العاطفة مع العقل ويتضافر الوجدان والحب مع العلم والمعرفة بل إنهما يتبادلان النمو والزيادة، فزيادة العلم والمعرفة توجب زيادة المحبة والوجدان، وزيادة المحبة والوجدان تستلزم زيادة المعرفة، ولذلك لا عجب أن نرى في تراث الأسلاف من فلاسفة وصوفية وعلماء كلام وعلماء أصول ازدواج الطابع أو ثنائية المشرب أو تآزر العاطفة مع العقل. وهذا أيضًا هو السر في أنك لا تعدم في إنتاج أي فيلسوف مسلم كالكندي وابن مسرة والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد والبغدادي والطوسي مسحة صوفية وأن كانت عند هذا أوضح منها عند ذاك.
وهذا أيضًا هو السر في حيرة كثيرة من الباحثين في تراث أعلامنا الموسوعيين من أمثال الشيرازي والغزالي وابن عربي على وجه الخصوص.
فإذا قرأت بعض السطور في إحدى مؤلفات ابن عربي هممت أن تمنحه النزعة العقلية، ثم لا تلبث بعد قليل أن تمنحه النزعة الصوفية أو الوجدانية، ثم لا تلبث أن تمنحه النزعة النصية أو النقلية وذلك لأنه حر الارتياد موحد النفس طيع الملكات مسترسل العطاء، تتعاون ملكاته في الإنتاج الذي يحمل هذه الشمولية المعبرة عن ثراء الإنسان ومرونته العقلية والروحية.
إن هذا هو السر أيضًا اعتزاز ابن سيناء بما كتبه عن مقامات العارفين – هذا الجزء الذي يمر عليه كثير من الدارسين مر غير الكرام تحكما مشينا لكرامة البحث والباحث، وكأنما يريدون أن يحجروا على هذه الطاقات المبدعة. وأن يسجنوها في كهفهم المظلم الذي لا يرى الإنسان فيه إلا ما تحت قدميه باسم النزعة العقلية، أو النظرة الوضعية أو الاتجاه العلمي.
إن من الاستهانة بجدية البحث، والإزراء بقيمة الباحث فرض المقاييس الضيقة التي تحجر فيها هؤلاء على إنتاج هؤلاء العمالقة الذين تحسسوا الذرة، وامتدت أعناقهم إلى المجرة. الذين جابوا الوجود طولا وعرضا، وجادوا بالآراء إثباتا وفرضا. وتنوعت في تراثهم مسالك البحث وتعددت في إنتاجهم مواطن الاهتمام حتى شملت عالم الكلم، وآفاق النغم، ومجالي الطبيعة ومناطق المجردات، ومعارض الأفعال وأنماط السلوك. الذين تفجرت طاقتهم في كل ميدان، دون أن تعوق طاقة أختها، بل كانت في كل مجال عونا لها.
أهؤلاء خير أم هؤلاء الذين قبعوا في أخبيتهم التي صنعوها أو صنعت لهم. يلوكون ما يقرأون ما يلوكون دون أن يفجروا طاقة أو يوقظوا همة، أو يصححوا سلوكا، أو يمدوا أمتهم بما هي في حاجة آلية من الجديد والبناء.
أهؤلاء أفضل أم هؤلاء الذين يبثون النعاس في نفوس وعقول هذه الأمة بأقوالهم المهمومة المحموة وآرائهم المخنثة حول الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي لقد عميت بصائرهم حيث لا يرون في زعمهم أن بالفكر الإسلامي ما يصح أن يكون زادا، أو أن الأمة قد أقفرت من المفكرين والفلاسفة وكأنهم أرادوا أن يقولوا ليس هناك مفكرون إلا نحن وليس هناك فلاسفة إلا نحن.
وقد بلغت بهم الجسارة غير الملتزمة أن يجندوا من ليس أهلا للتعرض لهذا الأمر ليكتب بأسلوب مستهتر لا يقدر المسئولية ولا يحترم النزاهة والجد حول المفكرين أو الفلاسفة أو الصوفية المسلمين وكأن الأرض لم تقل غير سيادته وكأن الزمان لم يجد إلا بمثله.
أن الأزمة التي يحياها هؤلاء – ويريدون أن نشاركهم إياها – تنبع من خواء ذاتهم وجدب حصيلتهم من التراث الإسلامي وجهلهم الفاضح بالقرآن الكريم الذي لا يعرفون منه إلا آيات يقرأونها بالرسم عن طريق القواميس والفهارس وتعاملهم من الأوراق والأحبار، دون أن تتمثل مداركهم وأفئدتهم الغذاء الإسلامي، دون أن تشرق في نفوسهم أنوار المعرفة المؤيدة المثبتة التي يعشها تأمل القرآن في حضور ذهن وانفتاح بصيرة.
ومن ثم نقلوا إلينا هذا التباين المفتعل بين العلم والإيمان أو بين العقل والتصوف أو بين الفلسفة والدين، وكل ذلك ناشئ من ضيق النظرة والتقوقع في أصداف القوالب الجامدة التي استوردوها، وإلا فليأتني أحدهم بشاهد واحد من التراث الإسلامي لدى فيلسوف أو متكلم أو صوفي يشتم منه أي تناقض أو تباين بين العلم – حتى بالمفهوم الحديث – وبين الإيمان أو الدين، أن هؤلاء ينقلون إلينا مشكلات لم تنبع من ذواتنا ولم تنشأ في تراثنا. وما كان ولعهم بالتبويب أو التقسيم أو التصنيف لأعلامنا إلا استجابة لتدريب علمي مردوا عليه وتخرجوا ولم يستطيعوا من أسرة فكاكا. والغريب المضحك أن كثيرا من أساتذة هؤلاء قد تركوا هذا النهج لأنهم اكتشفوا عدم جواه، ولكن هؤلاء ما يزالون ولن يزالوا في غيهم سادرين لأنهم لا يملكون غير ذلك ولا يحسنون سوى ذلك.
لقد آن لهؤلاء أن يخجلوا من نتائجهم وأوصافهم التي يخلعونها على أعلام فلسفتنا بعد أن تبين لسادتهم أن العنصر العقلي والطابع التأملي والاستنباطي لا يخلو منه مجال من مجالات البحث العلمي منهما كمان طابع البحث تجريبيا، وإلا منينا بأكداس من التجارب التي لا معنى لها. أن التفريعات الأوروبية لوسائل المعرفة هي المسئولة عن ضلال هؤلاء لأنهم استعاروا هذه النزعة ظنا منهم أنها السبيل إلى التجديد أو الدخول على أمتهم – خطأ – بما هو جديد فهم يقولون نزعة حسية ونزعة عقلية ونزعة تجريبية وهي في الأصل منسوبة إلى مدارس ومذاهب أوربية ولا تدل على الطابع الشمولي الذي تمنحه الثقافة الإسلامية الناضجة، وأنا لنعد أن للقراء تكامل النزاعات والطوابع في تراث أعلامنا من فلاسفة وصوفية ومتكلمين وأصوليين لنثبت بالدليل الحاسم تفاهة آراء هؤلاء وعدم جدارتها بالاعتبار والتقدير. ولنؤكد في الوقت نفسه على هذه الحقيقة:
لا يمكن أن يوصف تراث علم من أعلامنا بأنه ذو نزعة عقلية منفردة فليس ذلك من الطابع الذاتي لتراثنا الأصيل.
إننا نريد أن نثبت أيضًا لهؤلاء بالمثال والشرح والبرهان أن استحياء الإسلام وكتابة الكريم يمد الباحث بعطاء فكري لا حد له، وأنه لا يعوق مسيرة العلم التجريبي بل أنه يعضده ويعززه ويلقي أمامه كثير من الأضواء التي قد تمده بالفروض التي لا تلبث أن تصير قانونا أو حقيقة ولله عاقبة الأمور.