المبحث السابع
علم الأصول بعد الشافعي –رضي الله عنه– يجد بوضوح إرضاء جمهور العلماء للمبادئ والأسس التي قررها، وسيطرة هذه المبادئ والأسس على المناهج الأصولية لفترة طويلة؛
حتى إن ما كتب بعدها إلى أوائل القرن الرابع لم يكد يخرج عنها، فهو – كما سيأتي – بين عائد إليها بالتأييد، أو عليها بالاعتراض، ولقد ذكرت كتب التراجم أن كثيرا من العلماء من مختلف المذاهب كتبوا في مواضيع مفردة من علم الأصول كـ”القياس” و”العموم والخصوص” و”خبر الواحد”.
فقد ذكر ابن النديم في الفهرست: أن للإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – المتوفى سنة 233هـ كتاب “الناسخ والمنسوخ”، و”كتاب العلل”.
كما ذكر أن لداود الظاهري المتوفى سنة 270 هـ كتاب “الإجماع” وكتاب “إبطال التقليد” وكتاب “إبطال القياس”، وكتاب “خبر الواحد”، وكتاب “الخبر الموجب للعلم” وكتاب “الخصوص والعموم”، وكتاب “المفسر والمجمل” وكتاب “الكافي في مقالة الطبي” – يعني الشافعي – وكتاب “مسألتين خالف فيهما الشافعي”.
وكذلك ذكر أن لأبي سهل النوبختي من علماء الشيعة الإمامية في القرن الثالث كتاب “نقض رسالة الشافعي”، وكتاب “إبطال القياس”، وكتب في الرد على ابن الراوندي في بعض آرائه الأصولية.
ومن الشيعة الزيدية كتب أبو على محمد بن أحمد المعروف بابن الجنيد كتاب “الفسخ على من أجاز النسخ لما تم شرعه وجل نفعه”، وكتاب “الإفهام لأصول الأحكام”.
وكذلك كتب علماء الحنفية في هذه الفترة بعض الكتب؛ فكتب عيسى بن أبان بن صدقة المتوفى سنة 220 هـ في “خبر الواحد”، وكتاب “إثبات القياس” وكتاب “اجتهاد الرأي”.
وكتب أبو عبد الله محمد المعروف بابن سماعة المتوفى سنة 233هـ كتبا لم تذكر أسماؤها وإنما ذكروا له كتبا مصنفة في أصول الفقه.
وصنف منهم في الرد على الشافعي فيما خالفهم فيه علي بن موسى القمي؛ حيث نسب ابن النديم له كتاب: “ما خالف فيه الشافعي العراقيين في أحكام القرآن” وكتاب: “إثبات القياس”، وكتاب “الاجتهاد” وكتاب “خبر الواحد”.
أما الشافعية فيبدو أن الكثيرين من علمائهم قد عكفوا في هذه الفترة على دراسة ما كتبه الإمام الشافعي، وبسط ما قرره، والرد على اعتراضات المخالفين، وظهرت لعلمائهم في سنين متأخرة من هذه الفترة بعض كتب مثل: كتب أبي العباس أحمد بن عمر بن سريح المتوفى سنة 305 هـ. فقد ألف في الرد على عيسى بن أبان وناظر محمد بن داود الظاهري ومثل إبراهيم بن أحمد المروزي صاحب المزني الذي ألف كتابي “العموم والخصوص” و”الفصول في معرفة الأصول”.
وهذه الكتب التي ذكرناها لا وجود لها – في ما نعلم – في الوقت الحاضر، ولا نستبعد أن تكون قد أدرجت في غيرها وضاعت أسماؤها الأولى، ويبدو من عناوينها أنها رسائل صغيرة، في جزئيات محددة من علم الأصول، وأنها – كما أشرنا – لا تعدو أن تكون رسائل مبنية على ما كتب الشافعي سواء أجاءت مؤيدة له أم مخالفة.
أما الكتب الشاملة لمختلف المواضيع الأصولية فلم تسجل كتب السير والتراجم شيئا منها – فما أطلعنا عليه – لعلماء هذه الفترة.
المبحث الثامن
علم الأصول في القرن الرابع الهجري
يعتبر الربع الأول منه أيضا امتدادا للفترة السابقة من حيث خلوها من كتاب جامع لأهم مواضيع أصول الفقه غير ما كتب الشافعي، ومن حيث عكوف العلماء على ما كتب الإمام فيه، وفي هذه الفترة ظهرت أهم شروح “الرسالة” كشرح: محمد بن عبد الله أبي بكر الصيرفي المتوفى سنة 330 هـ. قال الشيرازي عنه: إنه أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي.
وشرح أبي الوليد النيسابوري وهو حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي الأموي المتوفى سنة 349 هـ:
وشرح القفال الشاشي الكبير محمد بن على بن إسماعيل المتوفى سنة 365 هـ أو (336) هـ كما في طبقات الشيرازي. ونقله عنه ابن السبكي أيضا ولكنه رجح ما أرخه الحاكم لوفاته وهو الأول. ووافقه على ذلك ابن هداية أيضا، ولعل ما في طبقات الشيرازي مصحف عن (363) إذ لا يعقل أن يكون كل هذا الفرق في تحديد سنة الوفاة.
وشرح أبي بكر محمد بن عبد الله الشيباني الجوزكي النيسابوري – الإمام الحافظ المتوفى سنة 388.
وشرح والد إمام الحرمين – أبي محمد الجويني: عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 438 هـ.
وهناك خمسة آخرون أيضا قد شرحوا “الرسالة” هم: أبو زيد الحزولي، ويوسف بن عمر، وجمال الدين أفقهسي، وابن الفاكهاني، وأبو قاسم عيسى بن ناجي، ولم نستطع أن نترجم لهؤلاء الشراح الخمسة.
وهذه الشروح لا ندري ما إذا كانت كلها قد فقدت أو بعضها، فإن ما حفظته كتب الأصول منها لا يعدو أن يكون نقولا مختصرة من شرح الصيرفي، وبعض نقول أخرى وردت استطرادا من شروح غيره.
وعدا شروح الرسالة حفظت لنا كتب التاريخ أسماء بعض الكتب التي تشير أسماؤها إلى أنها كتب جامعة لمواضيع الأصول، إضافة إلى كتب كثيرة في مواضيع مفردة منه: كالقياس، والإجماع، وغيرهما بأقلام الشافعية وغيرهم.
وهذا الذي كتب في هذه الفترة من خلال ما ذكرته كتب السير والتراجم لا يمكن الاعتماد عليه لتسجيل تطور لعلم الأصول يذكر، بعد ما كتبه الإمام الشافعي فما أشرنا إليه مما كتب – سواء أكان جامعا أم في مواضيع مفردة – قائم على ما كتب الإمام كما هو ظاهر، إذ هو لا يعدو في الغالب أن يكون شرحا لما جاء به الإمام وتثبيتا له من أتباعه أو ردا ونقضا عليه من المخالفين، أو ردا على ما أورد عليه، ولذلك فإن رسالة الشافعي والمباحث الأخرى التي كتبها بقيت هي محور الدراسات الأصولية في هذه الفترة دون كبير تطور، كما بقي أسلوبه والمبادئ التي قررها لهذا العلم هي السائدة.
المبحث التاسع
علم الأصول في القرن الخامس
ذهب معظم الكاتبين في تاريخ علم الأصول إلى أن التطور الحقيقي لعلم أصول الفقه – بعد الشافعي – حدث على يدي القاضيين: أبي بكر الباقلاني المتوفى سنة 403هـ وعبد الجبار الهمداني المعتزلي المتوفى سنة 415هـ.
قال الزركشي في البحر المحيط (حتى جاء القاضيان قاضي السنة أبو بكر الطيب وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وفصلا الإجمال، ورفعا الإشكال. واقتفي بآثارهم، وساروا على لاهب نارهم).
ومن هنا لقب القاضي الباقلاني بـ”شيخ الأصوليين”.
وقد ألف القاضي كتابه “التقريب والإرشاد” ويبدو أن كتابه هذا فقد في عصور متأخرة، ذلك لأن ابن السبكي نقل ما يشير إلى أنه اطلع عليه – حيث قال: وقد كنت أغتبط بكلام رأيته للقاضي أبي بكر في التقريب والإرشاد..
وقد اختصر كتاب القاضي المذكور إمام الحرمين أبو المعالي المتوفى سنة 478 هـ بكتاب سماه (التلخيص) أو (الملخص)، وأخذ الأصوليون ينقلون آراء القاضي الأصولية عن “التلخيص” إمام الحرمين.
كما ألف على نهج القاضي كتابه “البرهان” الذي اعتبر من أهم كتب الأصولية للشافعي والمتكلمين في هذه الفترة: فقد اشتمل على مباحث الأصول عامة في أسلوب بليغ وعبارة عالية لا يفهمها إلا من له قدم في اللغة العربية.
وكان حرا في منهجه يسير مع الدليل حيث كان، حتى إنه خالف إماميه: الأشعري -الشافعي- في مسائل كلامية وأصولية وفقهية ولعل هذا هو السبب الذي جعل علماء الشافعية ينصرفون عن شرحه وإن كانت كتبهم تكثر النقل عنه. بينما شرحه عالمان من المالكية هما الإمام أبو عبد الله المازري، ولهم يتم شرحه، وأبو الحسن الأنباري ثم جمع بين الشرحين أبو يحي، وكل هؤلاء قد تحاملوا على إمام الحرمين لما رأوا من جرأته في الرد على الإمام الأشعري في ما خالفه فيه وعلى الإمام مالك في مسألة “المصالح المرسلة”. وللبرهان. نسخ خطية قليلة.
ولما كان أبو المعالي واحدا من مشايخ – حجة الإسلام – الغزالي المتوفى سنة 505 هـ فقد أثر منهجه فيه، ولما كتب “المستصفى” بعد خروجه من خلوته كتب له مقدمة أتى فيها على معظم مباحث علم المنطق، وأفاض فيها خصوصا ما يتعلق بالحد وشروطه، والدليل وأقسامه. ثم تناول الأقطاب الأربعة التي حصر فيها مباحث الكتاب، ولم يترك شيئا من مباحث علم الأصول التي عني بها المتأخرون. إلا القليل كما فعل شيخه أبو المعاني في البرهان، ومن قبله الباقلاني في التقريب والإرشاد وإذا كان لشيخه أبي المعالي آراء خاصة خالف فيها الأشعري، والشافعي، فإن له هو الآخر آراء خاصة في بعض المسائل لم يرتضها المتأخرون وتناولوها بالنقد والتمحيص، ثم تتابع الأصوليون بعد الغزالي سائرين في الطريق الذي سار فيه منتهجين منهجه في كتابة المقدمة الأصولية، وقد كانت أكثر المباحث تأثرا بالمنطق الأرسطي المقدمات المنطقية، ومباحث الألفاظ.
ولقد سار المعتزلة جنبا إلى جنب مع الأصوليين المتكلمين من الشافعية في كتابة الأصول، ففي الوقت الذي كتب فيه الباقلاني (التقريب والإرشاد) كتب معاصره القاضي عبد الجبار المعتزلي كتابيه “العهد”، و”العمدة” كما خصص للأصول في كتابه “المغني” الجزء السابع عشر.
وكما لخص إمام الحرمين ما كتبه الباقلاني، وكتب إضافة إليه “البرهان” و”الورقات” فقد شرح أبو الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة 435 هـ كتاب “العهد” ثم شعر بطول شرحه هذا فلخصه في كتابه “المعتمد” وكتب إضافة إليه تصانيف أخرى.
وقد سارت كتب الفريقين – الشافعية والمعتزلة – على نمط واحد من التأليف وطريقة واحدة في التبويب والتنظيم غلب عليها اسم طريقة المتكلمين وقد أصبحت هذه الطريقة طريقة من عدا الحنفية من الأصوليين.
وقد يظن البعض أن جر المباحث الكلامية إلى علم الأصول يرجع إلى القاضيين الباقلاني وعبد الجبار. ولعل هذا الظن عائد إلى أن إنتاج من سبقهما لم يكتب له البقاء، ومع التسليم بأن أثر القاضيين بكثير: فقد نقل ابن السبكي عن القاضي الباقلاني في “التقريب” والأستاذ أبي إسحاق في “التعليقة” قولهما: “علم أن هذه الطائفة – من أصحابنا -: ابن سريج وغيره، كانوا قد برعوا في الفقه وغيره، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة، فاستحسنوا عبارات وقولهم: يجب شكر المنعم عقلا، فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة”.
والمعروف أن ابن سريج توفى سنة 305هـ، بل إن هناك من ظن بأن الإمام الشافعي –رضي الله عنه – قد تأثر في كتابه الرسالة بعوامل غير إسلامية كالمنطق الأرسططاليسي.
ويرى الدكتور على سامي النشار أن مما ساعد على هذا الظن، انتشار المنطق في العالم الإسلامي قبل عصر الشافعي بكثير، ومعرفة الإمام الشافعي للغة اليونانية. واعتباره القياس الأصولي وهو: التمثيل عند أرسطو ظنيا.
وقد ناقش النشار هذا ودفعه بأنها: أدلة غير واضحة في الدلالة على تأثر الرسالة بمنطق أرسطو وذلك – على حد قوله -: لكون المنهج الأصولي قد تكون إلى حد كبير، ولكون الشافعي نفسه كان له موقف إيجابي من منطق أرسطو يتمثل في هجومه الشديد عليه إلى درجة وصلت به حد التحريم.
تأثر الأصول بالمباحث الكلامية:
هذا ويعتذر أهل السنة عن إقحام بعض المباحث الكلامية في علم الأصول بأن المعتزلة كانوا هم البادئين بذلك فإنهم أضافوا إلى علم الأصول قواعد بنوها على قواعدهم الكلامية فكان لا بد من تناول هذه المباحث فيه لعلاقتها بهذه القواعد.
ولكن في النفس ميلا إلى القول بأن هذا التوافق بين الشافعية والمعتزلة في كتابة الأصول راجع إلى انتقال بعض علماء الاعتزال إلى مذهب الشافعي بعد انتشاره مثل: أبي بكر القفال الشاشي الكبير – قال ابن عساكر: وبلغني أنه كان مائلا عن الاعتدال، قائلا بمذهب الاعتزال.
ويقول ابن السبكي بعد أن نقل قول ابن عساكر المذكور: قلت: وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة، وحسيكة في الصدر جسيمة وذلك أن مذاهب تحكى عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة. وطالما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي فإذا علم أن أهل العلم اتفقوا على أن القفال أعلم الشافعية في الأصول فيما وراء النهر، وأن مذهب الشافعي عنه انتشر فيما وراء النهر.
يمكن حينئذ تقدير الأثر الذي يتركه مثله في هذا التوافق لا سيما وأنه شرح الرسالة، وكتب غير شرحه هذا مصنفات أخرى في الأصول.
هذا وقد اعتبرت الكتب الأربعة – “البرهان” لإمام الحرمين، و”المستصفى” للغزالي – من الشافعية – و”العهد” للقاضي عبد الجبار، وشرحه “المعتمد” لأبي الحسن البصري – من المعتزلة – قواعد هذا العلم وأركانه.
دور الحنفية:
أما عن دور الحنفية في تطوير علم الأصول فيقول علاء الدين في “ميزان الأصول”: اعلم أن أصول الفقه فرع لعلم أصول الدين فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب، وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع ولا اعتماد على تصانيفهم.
وتصانيف أصحابنا قسمان: قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان لصدوره ممن جمع الأصول والفروع مثل (مأخذ الشرع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما وقسم وقع في نهاية التحقيق في المعاني، وحسن الترتيب لصدور ممن تصدى لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع غير أنهم لما لم يمهروا في دقائق الأصول، وقضايا العقول أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول. ثم هجر القسم الأول إما لتوحش الألفاظ والمعاني، وإما لقصور الهمم والتواني.
وبقطع النظر عما في هذا القول من مجال للمناقشة فإنه قريب جدا من الواقع في بيان دور الحنفية في تطوير الأصول وكتابته.
فإن كتبهم بعد الماتريدي لا يكاد يعرف من بينها كتاب أصولي بالمعنى المعروف قبل كتاب أبي زيد عبد الله بن عمر الدبوسي المتوفى سنة 430هـ المرسوم بـ “تقويم الأدلة” فإن أقدم من كتب في هذا العلم منهم بعد الماتريدي معاصره أبو الحسن الكرخي المتوفى سنة 333 كتب فيه رسالة سميت “أصول الكرخي” وهي صفحات قليلة طبعت ملحقة بتأسيس النظر للدبوسي تشغل الصفحات من 82 وما بعدها ويمكن أن تعتبر من باب قواعد الفقه الكلية فهي إليه أقرب منها إلى أصول الفقه.
ثم جاء أبو بكر الرازي الجصاص فكتب (أصول) أيضا كمقدمة لكتابه “أحكام القرآن”.
وكتب أبو زيد الدبوسي “تأسيس النظرة” مستفيدا من بعض قواعد سابقيه الكرخي والجصاص. موسعا ومفصلا فيها، كما تطرق بإشارات موجزة إلى ما اتفق فيه الحنفية مع غيرهم في الأصول، فقد تناول فيه المباحث الأصولية التي يتناولها الأصوليون من المتكلمين، ولكن على طريقة الأحناف الخاصة التي سنأتي على إيضاح خواصها، وقد اهتم به الأحناف كثيرا وكتبوا عليه أكثر من شرح، وأهم شروحه وأحسنها شرح (كشف الأسرار) للإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي المتوفى سنة 730هـ وهو مطبوع بالأستانة.
وذكر صاحب كشف الظنون أن أبا المكارم أحمد بن حسن الجاربردي الشافعي المتوفى سنة 746 قد شرحه أيضا.
كما كتب شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة 483هـ أصوله المطبوع في جزأين في مصر. كان له مثل بيان كتاب البزدوي ولكنه أوسع عبارة وأكثر تفصيلا، وهو عالة على تقويم الأدلة حتى يعتبر وكأنه نسخة منه يظهر لك لمن يطالع الكتابين.
وقد انصرف علماء الأحناف إلى العكوف على كتابي البزدوي والسرخسي لفترة، وبخاصة الأول لأن أصول السرخسي كما قال في مقدمته لها: إن ما كتبه كان الغرض منه بيان الأصول التي استند إليها في شرح كتب الإمام محمد بن الحسن.
وعلى هذا: فيمكن القول بأن التطور الحقيقي لأصول الفقه على طريقة الحنفية كان على يد البزدوي. ولسنا بحاجة إلى التدليل على تأثر البزدوي، ومعاصره السرخسي بالمتكلمين، لأن ما نقلناه من علاء الدين الحنفي يكفي مؤنة هذا فهو قد قال: عن مثل السرخسي والبزدوي بأن كتبهم في نهاية التحقيق في المعاني، وحسن الترتيب،… إلا أنهم أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول.
ومما تقدم يظهر أن أصول الفقه بوصفه علما مخصوصا قد تكامل نموه واتضحت مباحثه، وانحصرت مسائله في أواخر القرن الرابع، وعلى امتداد القرن الخامس، وفي هذا القرن دون علماء كل مذهب أصول مذهبهم، وتركوها لمن بعدهم ليشرح أو يختصر ويلخص أو يخرج على هذه الأصول.
كما يتضح أن كل من كتب في الأصول من مختلف المذاهب كان بين ملتزم لطريقة الشافعي سائر على نهجها، وبين متأثر بنهج الشافعي تأثرا لا يكابر فيه إلا أنه اختط لتقرير أصوله سبيلا آخر.
ومن الفريق الأول المالكية والحنابلة، فالمالكية قبلوا أصول الشافعي، وارتضوا منهاجه، وزادوا عليه ما خالفهم فيه: من إجماع أهل المدينة، والمصالح المرسلة والاستحسان، وكذلك الحنابلة ساروا على نهجه، وأضافوا ما خالفهم فيه وذكروا أصولهم له.
وأما الحنفية فقد تأثروا بنهجه أيضا وأخذوا مما أخذ وزادوا ما خالفهم فيه مثل العرف والاستحسان وإن كانوا قد ساروا في تقرير الأصول وكتابتها على غير الأسلوب الاستدلالي الذي سلكه الشافعي ومتابعوهم، وسنأتي على خصائص كل من الأسلوبين تفصيلا.
المبحث العاشر
علم الأصول في القرن السادس
بعد أن ألف الغزالي “المستصفى” وكتب أبو الحسين “المعتمد” على طريقة المتكلمين وحرر البزدوي والسرخسي أصولهما على طريقة الأحناف. وقف علم الأصول عند حدود ما تكون منه من مباحث الشطر الأول وما جاء من الكتب بعد ذلك دائر بين تلخيص وشرح ووضع له في قوالب مختلف.
وأبرز من قاد هذه الحركة فحلان من فحول المتكلمين – هما: الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي صاحب المتكلمين – هما: الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي صاحب كتاب “المحصول في علم الأصول”. والذي قام بشرحه واختصاره والتعليق عليه عدد كبير من العلماء.
وسيف الدين الآمدي فقد فحص الكتب التي لخصها الفخر في كتاب سماه (الإحكام في أصول الأحكام). وقد حظي الإحكام أيضا بالشرح والاختصار فقد اختصره الآمدي نفسه في “منتهى السول” كما اختصره ابن الحاجب المالكي المتوفى سنة 646 هـ. بكتابه “منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل” ثم اختصر ابن الحاجب مختصر، هذا بكتاب آخر سماه (مختصر المنتهى). وخير شروح المنتهى شرح عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 756هـ وكتب عليه السيد والسعد كتابة مفيدة.
المبحث الحادي عشر
علم الأصول في القرن السابع وما بعده
في هذا القرن اتجه العلماء إلى الكتابة بأسلوب الجمع بين الطريقتين – طريقة المتكلمين، وطريقة الحنفية – حيث ساروا على أسلوب: تحقيق القواعد الأصولية بالأدلة النقلية والعقلية – على طريقة المتكلمين – وتطبيق ذلك على الفروع الفقهية – على طريقة الأحناف -.
وأشهر الكتب التي افتتحت بها هذه الطريقة: كتاب الساعاتي مظفر الدين أحمد بن علي المتوفى سنة 694 (بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والإحكام وهو مطبوع).
وتلاه صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المتوفى سنة 747هـ، فألف كتابه المسمى (التنقيح) ثم شرحه بـ (التوضيح) وقد لخص فيه أصول البزدوي ومحصول الفخر الرازي، ومختصر ابن الحاجب، وقد وضعت عليه حواش كثيرة أشهرها كتاب (التلويح) لسعد الدين التفتازاني. وهو مطبوع أيضا.
كما كتب تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 771هـ كتابة: “جمع الجوامع” ذكر في مقدمته أنه جمعه من زهاء مائة مصنف، وهو الذي اهتم العلماء المتأخرون بشرحه وباختصاره، وممن شرحه برهان الدين الزركشي وقد طبع الجزء الأول من شرحه في القاهرة بحاشية للشيخ بخيت – رحمه الله – وأجل شروحه وأهمها “شرح الجلال المحلي” الذي طبع منفردا ومع حواشي عدة مشهورة.
كما كتب أبو إسحق الشاطبي، إبراهيم بن موسى المتوفى سنة 790هـ كتابه (الموافقات) تناول بالبحث فيه مقاصد الشارع بإسهاب إضافة إلى مباحث أصولية أخرى، وكتابه هذا وإن كان قد لاقى الكثير من الاهتمام حتى لا يكاد يعد في كتب الأصول، إلا أنه يعتبر بحق معرضا حسنا لما تضمنه التشريع الإسلامي من حكم ومصالح، إدراكها يعتبر على جانب من الأهمية كبيرة.
ثم ألف محمد بن عبد الواحد الشهير الهمام المتوفى سنة 861هـ، كتابا سماه (التحرير) وشرحه تلميذه محمد بن محمد أمير حاج الحلبي المتوفى سنة 879هـ بشرح سماه (التقرير والتحرير) وهما مطبوعان، وهناك شرح آخر له مطبوع اسمه (التيسير) لمحمد أمن المعروف بأمير بادشاه.
وفي القرن الثاني عشر كتب محب الله بن عبد الشكور البهاري الحنفي المتوفى سنة (1119هـ) كتابه (مسلم الثبوت) وهو من أدق وأجل وأجمع ما كتب متأخرو الحنفية، وقد طبع منفردا كما طبع مع شرح له في الهند، وطبع مع شرحه: فواتح الرحموت مع مستصفى الغزالي في مصر طبعات عدة.
وهذه الكتب في جملتها كانت تسعى إلى إقرار مذاهب أصحابها وإبطال آراء مخالفيهم. ولولا هذا لكانت أهم رصيد ثقافي تشريعي مقارن.
وفي القرن الثالث عشر الهجري ظهر كتاب قيم في علم الأصول هو كتاب “إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول” لكاتبه القاضي محمد بن علي بن عبد الله الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ. كان يمكن أن يكون أساسا لنوع من الدراسات النقدية في علم الأصول، فقد قصد مؤلفه استعراض مختلف الآراء في المسائل الأصولية، مع استدلالات أصحابه، وعمد إلى ترجيح ما رآه راجحا من غير تقيد بمذهب من المذاهب، ولم يتناول من المقدمات الأصولية التي اعتاد سابقوه تناولها في أوائل صفحات كتبهم إلا ما رآه ضروريات، وكل ذلك بأسلوب حسن واضح، وقد طبع عدة طبعات إلا أنه لم يحظ بالاهتمام الذي يجعله في مصاف كتب الأصول المقروءة في معاهد العلم.
وقد لخصه محمد صديق خان بهادر المتوفى سنة 1307 في كتابه “حصول المأمول من علم الأصول” مع حذف ما لم يرتضه وإلحاق بعض ما لم يكن فيه من مسائل الحروف.
وبعد أن عرفنا بأهم الكتب الأصولية التي كتبت على الطريقتين – طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية، لا بد من تلخيص أهم مزايا وخواص كل واحدة من الطريقتين.
المبحث الثاني عشر
طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية
طريقة المتكلمين:
سميت بذلك لأنها قائمة على ما يسير عليه المتكلمين من الاستدلال العقلي ولأن أكثر الكاتبين على هذه الطريقة كانوا من علماء الكلام سواء أكانوا من الشافعية أم من المعتزلة، وتسمى بطريقة الشافعية أيضا لأن الشافعية هم الذين سبقوا للكتابة على هذه الطريقة، ولأن مؤسس علم أصول الفقه جملة هو الإمام الشافعي.
وعلى هذه الطريقة كتبت كتب جميع المذاهب الأصولية عدا الحنفية وأهم خصائص هذه الطريقة:
1 – إن القواعد الأصولية في هذه الطريقة تقرر وفقا للأدلة والبراهين بقطع النظر عن الفروع الفقهية المذهبية المتعلقة بهذه القواعد، وإذا تناولوا الفروع الفقهية فإنما يتناولونها للتمثيل، لا لبناء القواعد عليها.
2 – في هذه الطريقة يتناول الكاتبون مواضيع كلامية هامة كالتحسين والتقبيح العقليين، ووجوب شكر المنعم بالعقل أو بالشرع، وعصمة الأنبياء وتتدرج في التدليل على الآراء المختلفة كثير من المباحث الفلسفية، والحجاج المنطقي.
ومن أهم فوائد كتابة الأصول بهذه الطريقة: أن القواعد الأصولية فيها تدرس دراسة عميقة فاحصة تستهدف تقريرها وإثباتها، لتحكم الفروع الفقهية ولتكون أساسا لاستنباطها. فهي التي تخضع لها الفروع ولا يخضع في تقريرها للفروع.
طريقة الحنفية:
وتمتاز بما يلي:
1 – أن القواعد تقرير تابعة للفروع الفقهية المنقولة عن أئمتهم، فما كان من قواعد الأصول منبثقا عن هذه الفروع المقررة عن هؤلاء الأئمة رفضوه – ولعل هذا كما زعم البعض – فإنهم لو تركوا لمن بعدهم مناهج أصولية مقررة لما اضطروا إلى تتبع الفروع المنقولة عنهم ليستنبطوا منها أصولهم.
2 – ونتيجة لهذا فقد اتسمت كتب الأصول المكتوبة على هذه الطريقة بكثرة الأمثلة والشواهد من الفروع الفقهية. وأحيانا تعدل القاعدة الأصولية إذا ما خالفت الفروع.
المبحث الثالث عشر
علم قواعد الفقه الكلية
قد تبدو طريقة الحنفية لأول وهلة قليلة الجدوى ضئيلة الأثر، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، لأنه إذا كان الأحناف قد خرجوا أصولهم على الفروع فإن هناك الكثير من علماء المذاهب الأخرى وبعض الأحناف استفادوا من هذه الطريقة لتخريج فروعهم الفقهية على أصول مذاهبهم. وبذلك ظهر أسلوب متميز في دراسة الأصول ممتزجة بالفقه وبرزت دراسات خاصة (بقواعد الفقه الكلية) كان من الممكن لو طورت وحظيت بالعناية الكافية أن تكون علما خاصا مستمدا من علمي الأصول والفقه ومتميزا عن كل منهما.
ومن المؤلفات التي كتبت على هذه الصورة كتاب (تخريج الفروع على الأصول)، لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني – من الشافعية – المتوفى 656هـ فقد أخذ الزنجاني مجموعة من القواعد الكلية. وربط بين كل قاعدة وبين الفوارق الفقهية التي ترتبط بها وتخرج عليها بحيث جعل لكل باب فقهي قاعدة كلية تنتظم جزئياته:
ونحا نحوه شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي القرافي شارح المحصول وقد اختصر القرافي في تنقيح الفصول “المحصول والإفادة” للقاضي عبد الوهاب المالكي.
كما كتب جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الشافعي المتوفى (772 هـ) كتاب: “التمهيد في تخريج الفروع على الأصول” وقد قال في مقدمته: أذكر المسألة الأصولية بجميع أطرافها منقحة، مهذبة، ملخصة ثم أتبعها بذكر شيء مما يتفرع عليها ليكون ذلك تنبيها على ما لم أذكره… ثم قال: وقد مهدت بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب، فلتستحضر أرباب المذاهب قواعدها الأصولية، وتفاريعها، ثم تسلك ما سلكته فيحصل به إن شاء الله تعالى لجميعهم التمرن على تحرير الأدلة، وتهذيبها، والتبيين لمأخذ تضعيفها، وتصويبها.
وبعد منها: كتاب “المسودة” وقد كتبه ثلاثة من علماء آل تيمية الحنابلة الذين كان آخرهم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحيم بن تيمية المتوفى سنة 728هـ.
ومنها: كتاب “مفتاح الوصل إلى بناء الفروع على الأصول” في علم الأصول لأبي عبد الله محمد بن أحمد التلمساني المالكية.
ومنها كتاب “القواعد الفوائد الأصولية” للشيخ أبي الحسن علاء الدين على بن عباس البعلي الحنبلي المتوفى سنة 803.
ومنها: كتاب “المحقق في علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول” للشيخ عبد الرحمن بن إسماعيل الشهير بأبي شامة المتوفى سنة 665هـ.
ومنها كتاب “القواعد الفقهية الإسلامي” للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795هـ. الذي طبع في القاهرة سنة 1392هـ.
وكذلك كتاب “قواعد الأحكام” أو “القواعد الكبرى في فروع الشافعية للشيخ عز الدين عبد السلام المتوفى سنة 660هـ. وهو مطبوع متداول.
المبحث الرابع عشر
علم الأصول في عصرنا الحاضر
منذ القرن الثالث عشر لم يوضع – فيما نعلم – في علم الأصول ما يمكن أن يعتبر تطويرا في هذا العلم الجليل إذا استثنينا بعض الرسائل الجامعية التي كتبت بعد إنشاء أقسام التخصص في الأزهر لنيل درجة الأستاذية، وهذه الرسائل لم تؤثر في أسلوب تعليم الأصول أو تعلمه وإنما بقيت مراجع تنحصر الاستفادة منها في أضيق الدوائر. وفيما عدا ذلك فإن ما ذكرناه من الكتب الأصولية كشروح منها البيضاوي وجمع الجوامع، لغير الحنفية، وتوضيح صدر الشريعة للحنفية هي الكتب الأساسية لدراسة هذا العلم، ولما كانت هذه الكتب قد كتبت بلغة دقيقة، وعبارات مركزة لا يتأنى فهمها إلا لمن كان ذا إلمام بعلوم اللغة العربية، والمنطق وأدب البحث والمناظرة، والتوحيد، ولديه من الإلمام بقواعد هذا العلم ما يساعده على ذلك، وهذه كلها أمور لما تعد متيسرة في ظل ومناهج الدراسة الحديثة فقد أصبح هذا العلم من العلوم التي تستعصي على الطالب فهما، وقراءة، وإدراكا، فأدى الجهل به إلى إهماله.
وهذا الإهمال: بدأ أول ما بدأ في الحقيقة يوم أغلق باب الاجتهاد لدى أهل السنة والجماعة. فاكتفى العلماء بدراسة ما وصلهم من كتب أسلافهم ولم يشعروا بالحاجة إلى تطوير هذا العلم وجعله مهيئا في كل عصر لإمداد من آتاه الله القدرة على الاجتهاد بوسيلته الأولى والأساسية ألا وهو: علم الأصول.
حتى إذا دخل هذا القرن الأخير وامتدت أيدي الكفار إلى ديار الإسلام وغزيت ديار الإسلام فكريا وثقافيا فعسكريا وسياسيا: ألغيت الشريعة الإسلامية كنظام يحكم حياة المسلمين واستبدل بها نظم وقوانين وضعية مستوردة من ديار الغزاة الكفرة” وبذلك تحولت علوم الشريعة من علوم تدرس لتطبيق ويعمل بها إلى علوم يدرسها الراغبون -وقليل ما هم- للدرس والتعلم النظريين فقط.
أما الأجيال الأخيرة من المسلمين فقد وجدت أن الواحد من متعلمي هذا العلم يفني أهم سني عمره ثم لا يجد بعد ذلك مجالا لعمل يتناسب وما بذله من جهد، ويرون أن ما أفنى هؤلاء العلماء أعمارهم فيه لم يفسح لهم من مجالات العيش الكريم ما أفسح لمن هم دونهم في كل شيء، لذلك انصرفوا إلى تعلم علوم أخرى تعود عليهم بالنفع الدنيوي، وتهيئ لهم عيشا لائقا، ولقد كان المفروض أن ديار الإسلام التي تتحرر أرضها من ربقة الكافر المستعمر: تستعيد شريعتها بعد استعادتها لأرضها، وتبني شخصيتها الإسلامية المتحررة من كل الرواسب التي خلفها الكفرة المستعمرة، ولكن ذلك مع الأسف لم يتحقق لأن العدو كان قد نجح في إحلال الفصام النكد بين المسلمين والإسلام وتخرجت على يديه أجيال من المسلمين بأسمائهم، المطبوعين بثقافة الكافر في أدمغتهم وعقولهم، محقرين لماضيهم وتراثهم، ولما رحل بعساكره وجيوشه بقيت ثقافته، وحضارته، وقوانينه، وأنظمته في ديار الإسلام يقوم على حراستها وتنفيذها رجال من أبناء الإسلام أنفسهم، وبقيت الشريعة الإسلامية معزولة عن الحياة إلا ما كان من مواد الأحوال الشخصية، وهذه أيضا لم تسلم من أيدي بعض الحاكمين على المسلمين.
ومن أسباب إهمال هذا العلم أيضا:
أنه كان للمسلمين نظام للتعليم يعتبر مفخرة من مفاخرهم وبهذا النظام للتعليم تخرج فطاحل العلماء الذين لا زالت آثارهم تتحدى الزمن، فلما استبدل بهذا النظام نظام التعليم الحديث، وأصبحت هذه العلوم توزع على ساعات ودقائق لا تغني في دراسة هذا العلم كثيرا: اضطر القائمون على مناهج التعليم في كليات ومعاهد الشريعة في مختلفة أنحاء بلاد المسلمين إلى اتخاذ أسلوب الاختزال في تعليم علوم الشريعة عام وفي علم أصول الفقه خاصة، فاقتطعوا الكثير من مباحث العلم وأهملوها، ثم عمدوا إلى المبحث الواحد، فاختزلوا الكثير من مسائله، وما يفي منه يحار المدرس في تعليمه الطلاب بين عجزه عن إفهامهم والساعات المحددة له لتعليمهم، فكان من الطبيعي أن تكرس النفرة في نفوس طلابه منه.
يضاف إلى هذا شغب بعض الجاهلين ولغطهم على هذا العلم بأنه علم لا يتعلم منه إلا اللسن والجدل والمناقشات التي لا تعود بطائل وذلك جهل محض نسأل الله – تعالى – أن يزيله عنا وأن يهيئ لنا سبيل العودة إليه، والتمسك بدينه وإعلاء كلمته، وتطبيق أحكام شريعته، وتعلم علومها إنه سميع مجيب.