مقدمة التحرير:
طُبع هذا الكتاب لأول مرة عام 1898 تحت عنوان (تطبيق الديانة الإسلامية على النواميس المدنية)، ثم أُعيد طباعته عام 1904 تحت عنوان (المدنية والإسلام)، ويُعد من أهم أعمال المفكرين المسلمين دفاعاً عن علاقة الدين بالمدنية.
تعريف بالمؤلف: محمد فريد وجدي (1878- 1954) هو واحد من رموز عصر النهوض والتجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث. وصفه الأستاذ عباس محمود العقاد بأنه كان “فريد عصره غير مدافع”([1]).
ويُشكل المشروع الفكري لمحمد فريد وجدي مدرسة مستقلة في الفكر الإسلامي الحديث، من حيث الإطار الشكلي والمنهجي العام، فهو يتسم بموسوعية التأليف والاهتمامات، والتوازن بين الأصالة والمعاصرة في نموذج نادر، وأعلى درجات التسامح في الخطاب، كما أنه يتبنى الإسلام كنسق فكري قادر على التعاطي مع جميع مشكلات الحياة، حيث يرى وجدي أنه يمكن للإسلام – من خلال قيمه وأسسه العامة وأفكاره الاعتقادية وتطبيقاته التشريعية والعلمية والأخلاقية- حل إشكالية الصراع بين واقع الشرق المتخلف وواقع الغرب المتقدم. فيقوم بالانتصار لما أسماه المذهب الروحي وتفنيد أسس المادية والمذهب المادي. كذلك قام بمحاربة البدع والخرافات والسلوكيات الخاطئة الناجمة عن تفشي الأمية والجهل. وأخيراً قام بمحاولة وضع نظرية تثبت صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة بالرغم من كل التحديات التي تمثلها هذه الحياة الجديدة.
***
قد رأينا أن نمهد الكلام على الإسلام بمقدمات ضرورية جداً، تنشئ للمطالع فكرة عامة على حالة الإنسان وتكاليف الحياة ونواميس([2]) الرقي والتأخر الذي تتجاذبه، وطبيعة النظامات التي تنازعت السلطة على الإنسان من قديم الزمان إلى الآن، والخلاف الناشئ من زمان مديد بين العلم والدين وغير ذلك، حتى لا يكون مطالع كتابنا محتاجًا في فهم ما نرمي إليه إلى بحث ولا تنقير، وليستطيع أن يرى بعينه بطريقة حسية أن الإسلام روح المدنية الحقة، وأن لا مدنية إلا به أو ببعض نصوصه.
هذا وليغفر لي القراء الكرام كثرة استشهادي بأقوال علماء أوروبا؛ فإني لم أقصد بذلك أن أستدل بكلامهم على صدق الدين، كلا، فإن الإسلام أجلّ من ذلك وأعلا، بل قصدي أن أبرهن على أن كل النواميس المُمدْينة التي سادت على أوروبا في القرون الأخيرة فنقلتها من الظلمة إلى النور ليست بالنسبة لنواميس الإسلام إلا كشعاع من شمس أو قطرة من بحر، فأقول والله المستعان:
الإنسان:
ما هو الإنسان؟ هل هو ذلك الجسم المادي الذي يتناوبه التحليل والتركيب، فينمو ويقوى، ثم لما يدركه الضعف والهرِم يموت ويدفن فيستحيل إلى تراب تدوسه الأقدام؟ إن كان كذلك فليس هو إلا حيوانًا بسيطًا يَفْضُلُهُ الأسد بقوته، والفيل بعِظم جثته، والقرد بعدوه وسرعة حركته، ولما كان له من الأهمية في هذا الوجود ما يدلنا عليه ماضيه وحاضره، أما وأبيك لو كان الظاهر عنوان الباطن في كل شيء لكان شأن الإنسان في هذه الطبيعة الكثيرة العوامل شأن الريشة الخفيفة بين تيارات الأعاصير الشديدة، يدفعه تيار ويرده آخر، حتى ينتهي وجوده على أسوأ ما ينتهي إليه وجود الضعيف مع مغالبيه الأقوياء. كلا إن في الأمر لسِراً مكنوناً ورمزاً مصونًا، كم في العلم به من فائدة تهدينا في الاستقبال، وفي الجري عليها ضمانة لحسن المال!
ادرس الإنسان من مبدئه ثم انظر إليه في وقتنا الحاضر تر عجباً يذهب بالعقول، وسراً تعجز عن اكْتِنَاهه([3]) الفحول: ترى آيات تدهش الأفكار وتستوقف الأنظار. ترى ماذا؟ ترى كائناً عاري الجسم لين البشرة رقيق الحاشية ضعيف الساعد عديم السلاح أُلقِي به في هيجاء([4]) هذه الحياة وحيداً فريداً. وقُذِف به في تيار هذا الوجود طريداً شريداً، يرى بعينيه الجبال الشُم فيَفْرق([5]) من خيالها، والغابات الفيحاء فيذهل من تقلب ظلالها، والقبة الزرقاء بنجومها الزهراء فتهيبه سعتها ورفعتها، ويسمع زئير الضياغم في الغابات فيكاد يُصعق منه فرقاً أو يتميز([6]) رهباً، وهو بين تلك الدهشة والوحشة يخزه الحر بلفحه، والبرد بنفحه، ويؤلمه الجوع بحدته، والعطش بشدته. كان هذا حال الإنسان في مبدأ أمره، فماذا ترى من حاله الآن؟ ترى أن هذا الكائن الضعيف قد قاوم كل عوارض الطبيعة المسلطة عليه بجَلَد وثبات مدهشين، وصارعها على قوتها وبطشها مصارعة البطل المغوار بقوى ليس في زَنْده مستقرها، وجَلَدْ ليس في جسمه مركزه، حتى تغلب عليها وهو لم يكتف بذلك، بل أسرها أسراً واستخدمها لأمانيه وأماله كما يستخدم الملك المنصور أُسرَاء الحروب. ترى ذلك الكائن على ما به من لين وضعف قد أظهر من ذلك اللين صلابة واجهت الجبال الشم فنسفتها نسفاً، وَعَدَتْ على الصخور فسحقتها سحقاً، وتوجهت للحديد المتين فأذابته إذابة، وأبدى من ذلك الضعف قوة اقتادت القساور([7]) صاغرة بين يديه؛ فتراها تخضع إليه وتلعب عند قدميه لتقر عينيه!
هل بعد هذا التدبر العلمي يقال إن الإنسان هو ذلك الجسم المادي الضعيف؟ كلا، بل لابد أن يكون ذلك الجسم الطيني…….
———————————————————————————————————————-
([1])انظر إلى تعريف وافي للعلامة محمد فريد وجدي بقلم معتز شكري في تقديمه لكتاب المدنية والإسلام، في سلسلة في الفكر النهضوي الإسلامي. مكتبة الإسكندرية، 2012.