يقول أحد العلماء المعاصرين – محقاً- إن التغير في الواقع هو الذي يقود التقدم في التنظير؛ وتقدم التنظير هو الذي يكسب الحقل الذي ينتمي إليه صفة العلم([1]). فـ”التغير” في الوقت الذي يمثل فيه تحدياً للتنظير ولقدرته على متابعة الواقع بالوصف والتفسير والتنبؤ، إلا أنه يمثل في ذات الوقت دافعاً ومحفزاً له، فمن دون التغير تتجمد القدرات العملية للتنظير، ويفقد القدرة على النمو الإبداعي([2]).
ومن المفهوم أنه لا داعي للقلق من أن يختفي التغير، فالتغير هو أحد أبرز حقائق الوجود البشري ثباتاً، وهو رفيق أصيل ودائم للأوضاع والظواهر البشرية والطبيعية. القلق الحقيقي ينبع من جنوح بعض اتجاهات التنظير ناحية إهمال التغيرات، واقتصارها على تقديم مقولات تفترض الثبات الدائم، أو تتعامل مع استمرار الأوضاع (على ما هي عليه) على أنه الوضع الطبيعي، وتتعمد النظر للتغير بوصفه شذوذاً يطرأ على القاعدة، وليس بوصفه القاعدة التي لا تشذ.
المدهش أن التنظير الذي يسلك هذا المسلك يعتبر أن ذلك يأتي ضمن مقتضيات “الاستدامة المنهجية”، ولكن هذا الادعاء لا يخفي حقيقة انطلاق هذا النوع من التنظير – عادة- من أغراض سياسية معينة، تستهدف المحافظة على أوضاع ملائِمة لأطراف دون غيرها، وتغلف ذلك بعبارات تضخم من أهمية الاستدامة والنسقية في مواجهة الفوضى والعشوائية([3]).
صحيح أن الاطراد هو من الضرورات العقلية، كما هو مكون من مكونات الوعي الإنساني العام، الذي لا يتعلق بتشكيل حضاري دون آخر. إلا أن البحث عن الاطراد لا ينبغي أن يكون بديلاً لفهم أنماط وطبيعة التغير، لأهمية التغير في ذاته من ناحية، ولأن الوقوف على نمط وطبيعة التغير مؤد لمعرفة نمط الاطراد وشكل الثبات الكامن فيه من ناحية أخرى. التنظير السليم في مجال العلوم الاجتماعية، إذن، يتعين ألا يهمل التغير، حتى وإن كان يدرسه بغرض البحث بداخله عن معنى الاطراد، وعن العلاقات التي تحمل معنى الاستمرار عبر الزمن.
وعلى أية حال فإن القدرات التفسيرية للنظريات لا تُختبر إلا من خلال احتكاكها بجدلية الثبات والتغير، فمن خلال ملاحظة التغير، وخروج الأوضاع عن مألوفها يبدأ التفكير في علة التغير، وكيفيته، ومن ثم يتحرك العقل إلى محاولة استشراف أنماط التغير ومساراته. وما نظريات حقل “العلوم الاجتماعية” سوى محاولات متنوعة لسبر غور ثنائية الثبات والتغير، ففي إطار هذا الحقل تتعدد المقولات ويختلف مضمونها كما تتعدد النظريات وتتباين وظائفها، ولكنها تدور بشكل أو بآخر حول البحث في هذه الثنائية، ووضع المقولات الملائمة لدراستها.
على أن ملاحظة أنماط ………………..
———————————————————————————————————————-
([1]) فيكتور كوماروف، طرائف علم الفلك، ترجمة: عبد الله حبه (موسكو، دار مير، 1985)، ص 17.
([2]) ولهذا ذهب الأصوليون إلى أن التغير ضروري بمستوى ضرورة وجود الثبات في الشريعة، وعدمه يعد نقصاً، ووجوده كمالا، وضرورته ليست لنقص في التقنين يمنعه من الثبات، بل لمواكبة الزمان وتغيراته، ولعدم تحجيم الشريعة بزمان خاص. انظر: محمد كمال الدين إمام، نحو نظرية عامة في الزمن الفقهي: تأصيل وتحليل، مجلة المسلم المعاصر، السنة 42، العدد 166، 167 (2021).
([3]) انظر على سبيل المثال الدراسة التي أعدها لمركز راند الأمريكي: مايكل مازار وآخرون، فهم النظام الدولي الحالي (كاليفورنيا، RAND، 2016).