سؤال التجديد في علم الكلام بين الصورية والوظيفية (دراسة نقدية لعلم الكلام الموروث)
The Question of Renewal in Islamic Theology Between Formalism and Functionalism: A Critical Study
مقدمة:
من بين العلوم الشرعية التي جَذبت سؤال المراجعة من قِبَلِ الباحثين وأهل الاختصاص؛ علم الكلام([1])، وقد اشتدت الدعوة إلى تجديده في العقود الثلاثة الأخيرة([2])، وذلك لتراكم الوعي بأهميته في المنظومة الإسلامية والثقافة الإنسانية المعاصرة، ومركزيته في بناء التّصور وردِّ الشبهات والمقالات العقدية المنحرفة من أصحاب الملل والنحل المختلفة، وقد تَبَوأ منزلة عظيمة في السلم التراتبي للعلوم الشرعية بما يكتنزه من قواعد منطقية وآليات منهجية في الاستدلال والمناظرة([3])، كما أنه يتمحور حول بيان العقيدة والإيمان، محرك الاستقامة وتشكيل عقلية المسلم والإنسان الواعي بمهام الاستخلاف وفعله العمراني “فالعقيدة أقوى دافع للأمم إلى التسابق للغايات المدنية، وأمضى الأسباب بها إلى طلب العلوم والتوسع في الفنون والإبداع في الصنائع”([4]).
من هنا فقد شغل هذا العلم حيزاً مهماً ضمن اهتمامات المشاريع الإصلاحية، فلم تنفك قضايا الإحياء والإبداع في الفكر الإسلامي عن إشكالية تجديد علم الكلام، لارتباطه بالتراث العربي الإسلامي، ومناهج قراءته، وتحليله، ونقده. كما أن السجالات التي وقعت في التداول الإسلامي حول مراجعة علم الكلام وتجديده، نابعة من كونه آلية مهمة لتأطير أفعال المكلفين أفراداً وجماعات بمقتضيات الوحي الإيمانية، في زمن أصبحت فيه العقيدة حبيسة الأذهان، وعبارة عن إيمان وجداني منفصل عن الفعل السلوكي العملي، وما ذلك إلا لضُمُورِ الوازع الديني المحفّز على التطبيق في حياة الناس اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية.
هذه الإشكالية تقتضي طرح مجموعة من الأسئلة وتلمس الإجابة عنها لصياغة محددات قرآنية تجديدية لعلم الكلام، نتوسل بها إلى إصلاحه وإرجاعه لحالته التفاعلية مع مقومات الاجتماع البشري، فما هي العلل التي أوقعت الدرس الكلامي في الصورية والبعد عن الوظيفية؟ وهل حقاً يفتقر علم الكلام التقليدي إلى ركائز الإحياء حتى نَدَّعِي القطيعة معه أم أنه يحتاج فقط إلى مراجعة موضوعية تستهدف نموذجه الإرشادي ([5])(paradigme) الموروث وبَعْثِه من قَبرِ الاجترار والتقليد؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول مقاربتها ضمن المحورين الآتيين:
المحور الأول: أزمة الصورية في علم الكلام تدريساً وبناءً.
المحور الثاني: أثر منهج الوحي في تحقيق وظيفية علم الكلام.
* * *
——————————————————————————————————————
([1]) يسمى أيضًا بالفقه الأكبر كما عبر عن ذلك أبو حنيفة، وأصول الدين وإن كان هناك مُشغِّباتٍ من قبل البعض حول هذه التسمية على اعتبار أنه إذا كانت الأصول لا تتغير، فكيف نفسر الاختلاف بين الطوائف الكلامية حول أصول محددة، بل هناك من العلماء من قال بأن علم الكلام حقيق به أن يسمى بـ”علم المناظرة العقدي” لحضور منطق المناظرة وتقليب الرأي العقدي في مباحثه، انظر طه عبد الرحمن، أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 2000م/1401هـ، ص: 70.
([2]) من المحاولات الأولى التي استهدفت تجديد علم الكلام والحديث عن علم الكلام الجديد، ما أبدعه العالم الهندي شلبي نعمان في كتاب وسمه بـ”علم الكلام الجديد” وقد ضمنها جملة من القضايا من بينها: علاقة الدين بالعلوم الحديثة، ومسألة حقوق الإنسان والميراث (…) لكنه قاربها بمنهج كلامي قديم قد لا يسعف في مناظرة الإنسان المعاصر وتطلعاته الفكرية.
([3]) لقد أجاد الدكتور طه عبد الرحمان في بيان الطابع المنهجي والآليات العلمية الموضوعية التي تضمنها علم الكلام وأربابه ونسف بالأدلة والحجج الدامغة، مآخذ المعاصرين الرامية إلى نسف الدرس الكلامي، وبيّن أن علماء الكلام استوعبوا مناهج زمانهم وآليات الاستدلال بما يعسر على بعض المعاصرين ضبطه بله نسفه” أنظر كتاب أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص 71 وما بعدها.
([4]) عبد المجيد، الشرفي، الإسلام والحداثة، دار الجنوب للنشر، تونس، ط3، 1998م، ص: 33.
([5]) يعتبر المفكر الأمريكي، توماس كون (Thomas Kuhn) أول من استعمل هذا المصطلح في كتابه “بنية الثورات العلمية” الذي نشره عام 1962م وألحق به حاشية تنقيحية، عام 1969م ليدل به على الأطر المفهومية ورؤية العالم عند جماعة علمية متعددة، كإطار مرجعي تستمد منه تصورها ونظرتها للمعرفة، وتفسر به الظواهر العلمية. انظر توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ص: 244.