في التعلم وأقسامه
التعلم هو الوسيلة العظمى التي يكتسب بها الإنسان معرفة ما يجهله بالكُلية، أو ما بقي له من تكميل علمه ببعض أشياء جزئية. فالتعلم جزء من التربية المعنوية التي هي تهذيب العقل وترويض الذهن، وهذه التربية المعنوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تربية النوع البشري، يعني تربية الإنسان من حيث هو إنسان، يعني تنمية مواده الجسمية وحواسه العقلية.
القسم الثاني: تربية أفراد الإنسان، يعني تربية الأمم والملل.
القسم الثالث: التربية العمومية لكل إنسان في خاصة نفسه وهي تربية الإنسان الخصوصية، فالقسم الأول طبيعي، ويكون غالبًا في أيام الصبا وزمن الشبيبة التي بفواتها يفوت المرام وتضيع الأيام، فينبغي أن لا تخلو أيام الصبي والصبية من إفادة واستفادة ليتحصل للذكور والإناث من صغر السن أسباب السعادة والسيادة، ولا يزال كل منهما بتوفيقه تعالى محصلاً للزيادة حتى لا يتأسف أحد منهم عند الكبر على ما مضى من الأيام وانقضى من الأعوام بدون الحصول على المراد من أحوال المعاش والمعاد. وكان الشافعي – رضي الله تعالى – عنه ينشد ليقتدي به من يسترشد:
أَلَيْسَ مِنَ الْخُسْرَانِ أَنْ لَيَالِيًا تَمُرُّ بِلا عِلْمٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي
وقد تأسف على زمن الشبيبة أقوام كثيرون من الأفاضل ورجال أفضلون من الأماثل، وسعوا في كبر سنهم أن يجبروا خلل ما فات فتعلموا بقدر ما استطاعوا، ولذلك قيل:
إِذَا مَا أول الخطي أخطا | فَلاَ يُرْجَى لأَخِرِهِ انْتِصَارُ | |
إِذَا بَلَغَ الْفَتَى عِشْرِينَ عَامًا | وَمَا بَلَغَ المَرَامَ فَذَاكَ عَارُ |
وبالجملة، فالتعلم يكون في سن الشبوبية لكل فرد من أفراد المعارف البشرية ويقوى العلم بالممارسة إلى ما شاء الله. قال الشاعر:
فَإِنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ فِي الصَّبَا | كَالْعُودِ يُسْقَى المَاءَ فِي غَرْسِهِ | |
حَتَّى تَرَاهُ مُورِقًا نَاضِرًا | بَعْدَ الَّذِي أَبْصَرْتَ مِنْ يُبْسِهِ |
والقسم الثاني لا يحصل إلا بتعليم أحكام الدين – الواجب معرفتها على كل إنسان – وحقوق القرابة، ولا يكون ذلك إلا في الجمعيات التي ابتدأت في التمدن والعمران كتربية العشائر والعائلات، وهذا القسم إنما يكون بالهدى الذي أنعم الله به على الخلق كافة، بعضه بالعقل، وأسباب الهدى بهذا المعنى الكتاب والسنة وبصائر العقول، وكلها مبذولة لا يمنع منها إلا الحسد والكِبر وحب الدنيا والتعلق بالأسباب التي تعمي القلوب، وإن كانت لا تعمي الأبصار، ومن جملتها استصحاب المألوف والعادة والعرف المعروف، وعنه العبارة بقوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) [الزخرف: ۲۲]. كما أن العبارة عن الكِبر والحسد بقوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمِ) [الزخرف: ٣١] وبقوله: (أَبْشَرًا مَنَا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ) [القمر: ٢٤]، ويعبر عن الهدى بشرح الصدر كما في قوله تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن ربه) [الزمر: ۲۲]، وله نتائج شريفة أجلها معرفة الله تعالى التي بها سعادة الدارين وسائر الخصال التي تتفاضل بها الرجال والمتصف بالهدى متصف بالعقل المحمود، والذي يرشد إلى تزكية النفس هو سياسة الشرع وصدق متابعة الرسول في سائر ما جاء به من الأحكام والآداب التي نصبها الشارع وجعل مرجعها الكتاب العزيز، الذي هو الآية الكبرى والنعمة العظمى في بيان ما لا تهتدي إليه العقول، وفي الاعتصام من الفتن، ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قيل: فما النجاة منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلَكُم، وخبر من بعدكم، وحُكْمُ ما بينكم، وهو فَصْل ليس بالهزل”، فهو الجامع لأنواع المطلوب من المعقول والمنقول مع ما اشتمل عليه من بيان السياسات المحتاج إليها في نظام أحوال الخلق، كشرع الزواجر المُفضِيَة إلى حفظ الأديان والعقول والأنساب والأموال، وشرع ما يدفع الحاجة على أقرب وجه يحصل به الغرض كالبيع والإجارة والزواج وأصول أحكامها، فكل رياضة لم تكن بسياسة الشرع لا تثمر العاقبة الحسنى، فلا عبرة بالنفوس القاصرة الذين حكموا عقولهم بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها تحسينًا وتقبيحًا، وظنوا أنهم فازوا بالمقصود بتعدي الحدود، فينبغي تعليم النفوس السياسة بطرق الشرع لا بطرق العقول المجردة، ومعلوم أن الشرع الشريف لا يحظر جلب المنافع ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسَنة التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة.
وأما التربية العمومية المسماة أيضًا بالتعليمات العمومية فهي ما يتعلمه الذكور والإناث في المكاتب والمدارس، وفي سائر مجامع المعارف التي يجتمع فيها للتعليم عدد مخصوص من المتعلمين، وهذا القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تعليم أوَّلي ابتدائي، وتعليم ثانوي تجهيزي، وتعليم كامل انتهائي.
فالتعليم الأوَّلي ما يكون فيه أهل المملكة على حد سواء؛ فهو عام لجميع الناس يشترك بالاشتغال فيه والانتفاع به أبناء الأغنياء والفقراء، ذكورهم وإناثهم، وهو عبارة عن تعلم القراءة والكتابة في ضمن تعليم القرآن الشريف وأصول الحساب والنحو، فالكتابة مندوب إليها في حديث استعن بيمينك – أي بالكتابة بيدك اليمنى – بأن تكتب ما تخشى نسيانه إعانة لحفظك. ومن لطفه تعالى بعباده أن ألهمهم الكتابة؛ حيث منحهم ما يعينهم على أداء ما ائتمنوا عليه مما يزيل عنهم الريب. ومنافع الكتابة لا يحيط بها إلا الله تعالى، فما دُوِنت العلوم ولا قُيدت الحِكم ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم إلا بها، ولولاها ما استقام أمر الدين، والظاهر أن الكتابة قديمة جدًا، وإن قال بعضهم إن أول من اتخذ القراطيس وكتب فيها يوسف u، وكان يكتب للعزيز صاحب الرؤيا، ويقال هو أول من بيع من الأحرار.
وأما النحو الذي هو من العلوم الأولية فهو لإصلاح اللسان كما قال بعضهم:
كَلامُ بِلا نَحْوٍ طَعَامُ بِلا مِلْحٍ وَنَحْوٌ بِلا شِعْرٍ ظَلامٌ بِلا صُبْحِ
وقال آخر:
يَا طَالِبَ العِلْم لا تَجْهَلَنَّ | وَلُذْ بِالْمُبَرِّدِ أَوْ ثَعْلَبِ | |
تَجِدْ عِنْدَ هَذَيْنِ عِلْمَ الوَرَى | فَلا تَكُ كَالْجَمَلِ الأَجْرَبِ | |
عُلُومُ الخَلائِقِ مَقْرُونَةٌ | بِهَذَيْنِ فِي الشَّرْقِ وَالْمَغْرِبِ |
وأما مبادي الحساب والهندسة فنفعهما في المعاملات معلوم، وهذا التعليم الأولي متى تعلمه الأحاد([2]) حَسُنَ حال الهيئة الاجتماعية، وجَمُلَ كامل الرعية وأرباب الكَارَات([3]) والحرف الصناعية، فإن الصانع مثلاً إذا تعلم ذلك سهل عليه بقراءة كتب صنعته أن يشتغل أشغالاً جيدة بالمراجعة، وأن يخرج من ورطة مجرد السماع من فم أستاذه، وسهل عليه أيضًا أن يكمل صنعته التي تعلمها من أستاذه، ويدخل فيها تحسينات جديدة وتكميلات مفيدة، وأن يقيد جميع ما رأه وسمعه، ولا يكون أسيرًا لما نقله عن أستاذه الناقل أيضًا عن آخر إلى ما لا نهاية، فبقراءة الصانع كتب الصناعة المتنوعة تتكامل فيها براعته، وتحسن وتجود صناعته، ويكون أيضًا أهلاً للتعليم، وتسلك تلامذته هذا المنوال القويم؛ فترقى الفنون والصنائع على تعاقب الأجيال إلى درجة التحسين والكمال .
فالتعليم الأوَّلي الذي هو عبارة عن المبادي التي تقدم ذكرها ضروري لسائر الناس، يحتاج إليه كل إنسان كاحتياجه إلى الخبز والماء، فينبغي للأستاذ المعلم أن يتخذ في تعليم الصبيان أقرب الطرق وأسهلها للتعلم، وكذلك ينبغي للأستاذ الماهر في الفنون والصنائع أن يسلك سبيل السهولة، وينهج أقصر المناهج في تعليم غلمانه؛ لأن العادة جارية بأن من يتعلم الصنائع والكارات وحِرَف المهنة إنما هم أولاد الفقراء والمتوسطين، وأن زمنهم محسوب على آبائهم الذين هم في الغالب مساكين؛ فلا ينبغي تطويل الزمن في تعليم الصنائع والمهن.
وأما التعليم الثانوي الذي درجته أعلى من درجة ما قبله فهو في الغالب لا يلتفت إلى البراعة فيه غالب الأهالي لصعوبته، فينبغي للحكومة المنتظمة ترغيب الأهالي، وتشويقهم فيما يخص هذا النوع، فهو ما يكون به تمدين جمهور الأمة، وكسبها درجة الترقي في الحضارة والعمران. وأنواع هذا القسم التعليمي كثيرة، فما ينبغي أن يشتغل به أبناء الأهالي منها المهم فالأهم كالعلوم الرياضية بأنواعها والجغرافية والتاريخ والمنطق وعلم المواليد الثلاثة والطبيعة والكيميا والإدارة المِلكية وفنون الزراعة والإنشاء والمحاضرات وبعض الألسنة الأجنبية التي يعود نفعها على الوطن، وأما درجة العلوم العالية فهي اشتغال الإنسان بعلم مخصوص يتبحر فيه بعد تحصيله علوم المبادي والتجهيزات، كعلم الفقيه والطبيب والفلكي والجغرافي والمؤرخ من كل علم يجب تعلمه وجوب كفاية، ويريد صاحبه أن يجول في أصوله وفروعه غاية الجَوَلان حتى يكون كالمجتهد فيه، فهو عبارة عن بعض أفراد في مملكة من الممالك، يكون لهم استعداد وقابلية لبلوغ أقصى نهاية المعارف التي بها نظام المملكة ليكونوا كالمجتهدين المجدّدين فيها.
وكما أن التعليمات الأولية والمعارف العمومية يجب أن تعم جميع أولاد الأهالي فقيرهم وغنيهم؛ يجب أيضًا أن يكون التعليم الثانوي كثيرًا منتشرًا في أبناء الأهالي القابلين له الراغبين فيه، فيباح لهم التعليم والتعلم ليكونوا من الدرجة الوسطى بخلاف درجة العلوم العالية المعدة لأرباب السياسات والرئاسات وأهل الحل والعقد في الممالك والحكومات فإنه ينبغي أن يُقتصد في تعليمها، والتضييق في نطاقها، بحيث يكون عدد تلامذتها محصوراً، وعلى أناس قلائل مقصوراً، بمعنى أن كل من طلب الاشتغال بالعلوم العالية لابد من أن يكون صاحب ثروة ويسار، ويكون يساره مقيدًا بقيود خاصة في الغنى والاعتبار، بحيث لا يضر تفرغه للعلوم العالية بالمملكة، فمن الخطر على من له صناعة يتعيش منها وينتفع به الناس أن يترك هذه الصناعة ليدخل في دائرة معالي المعارف التي لا تصلح أن تكون له بضاعة، فلا ينبغي أن يرخص للتلامذة المتعلمين العلوم الأولية والثانوية أن ينتظموا في سلك أرباب المعارف القصوى إذا كانت في حقهم قليلة الجدوى.
فمتى انتهى تعليم الشبان العلوم الابتدائية والتجهيزية، وظهر ميلهم إلى خصوصيات تناسب أحوالهم من الصنائع والفنون، وجَبَ على أهلهم أن يضعوهم فيها، فإذا كان ميلهم إلى أشياء تضاد أحوالهم الحقيقية ولا منفعة لهم فيما تميل إليه أطماعهم الشهوانية منعهم أهلهم منها، ووضعوهم في لياقتهم من كل ما ينتج لهم المنافع في الفنون والصنائع لينالوا بذلك الوظائف اللائقة بحالهم، وينبغي لأهل الخير أن يساعدوا من يخرج من محال التعليم ببضاعة رابحة على نيل الوظائف الأهلية العمومية الكافية لقوام معاشهم وانتعاشهم؛ لأن رب المعارف الراغب للاستخدام في وظيفة عمومية إذا لم يكن له مساعد ومعين وكان له حق واستعداد في التقلد بها ولم يتقلد؛ سقط اعتباره، وضعف افتخاره، وظهر بمظهر الفقر والمسكنة، وربما أهلكه اليأس والقنوط بخيبة أماله وعيشته الخشنة، ورأى أنه ضيع في طلب العلم ماله وزمنه.
* * *
في أنه ينبغي لطالب العلم المشتغل به
أن يصفي ذهنه بأكل طيبات الرزق
قال القاضي عياض: كان لمالك بن أنس t في كل يوم في لحمه درهمان، قال مطرف: لو لم يجد مالك في كل يوم درهمين يشتري بهما لحمًا إلا أن يبيع في ذلك بعض متاعه لفعل، وقال مالك: لو قيل لي إن دقَّ الجوهر يعينك على هذا الأمر – أي طلب العلم – لدققته. ويقال إن يحيى بن يزيد كتب إلى الإمام مالك ابن أنس t: “بلغني أنك تلبس الرقيق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطيء، وتجعل على بابك حاجبًا، وقد جلست مجلس العلم، واتخذك الناس إمامًا، ورضوا قولك، فاتقِ الله يا مالك، وعليك بالتواضع، كتبته إليك كتاباً بالنصيحة ما اطلع عليه إلا الله تعالى والسلام”. فكتب إليه مالك: “وصل إلىَّ كتابك فوقع مني موقع النصيحة في الإشفاق والأدب، متعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيرًا، وأما ما ذكرت من أني آكل الرقاق وألبس الرقيق وأحتجب وأجلس على الوطيء، فنحن نفعل، علم الله ذلك، ونستغفر الله، وقد قال U: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: ٣٢]، وإني لأعلم أن ترك ذلك أفضل من الدخول فيه، ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام”.
قال بعضهم: ومما يحسن جواباً عن أكل مالك للأشياء الرقيقة أن أكلها يولد الخلط الجيد، ويصفي الذهن، فيحسن الفهم بأكل الطيبات لاسيما اللحم. والمطلوب لطالب العلم البُلْغة التي يتبلَّغ بها وهي إحدى وسائل طلب العلم المحصورة في قول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
أَخِي لَنْ تَنَالَ العِلْمَ إِلَّا بِسِتة سَأُنْبِيكَ عَنْ أَسْمَائِهَا بِبَيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْتِهَادٌ وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ
وقال آخر:
شُرُوطُ العِلْمِ أَرْبَعَةٌ | فَأَوَّلُها التَّفْرُغُ لَه | |
وَثَانِي شَرْطِهَا شَيْخٌ | يُمهَدُ لِلْفَتَى سُبُلَه | |
وثَالِثُهَا وُجُودُ فَتًى | يُبَلِّغُ رَبَّهُ أَمَلَه | |
وَرَابِعُهَا مُجَالَسَةُ السـ | ـراة السادة الكمَلَه |
ومع أنه ينبغي لطالب العلم أن يبحث عما به صفاء ذهنه وعقله، فلا ينبغي له أن يدقق النظر في الطيبات لينتخب أطيبها، قال الإمام الغزالي: قرَّب عابد إلى بعض إخوانه رُغفانًا ليختار أجودها، فقال له العابد: من أي شيء تصنع؟ أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه كذا وكذا حكمة وعمل فيه كذا وكذا صانع حتى استدار، فَمِنْ ذلك السحاب الذي يحمل الماء، والماء الذي يسقي الأرض، والرياح، وبنو آدم والبهائم حتى صار إليك، وبعد ذلك تُقلِبه ولا ترضى به. وفي الآثار لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعًا ما بين روحاني وآدمي وعنصر وآخر ذلك الخباز: (وإن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: ٣٤]. فعلى طالب العلم أن يرضى بما يسَّره الله له، فكل شيء يسُرُّه ويُفرحه، قال بعضهم: لا سرور يوازي سرور العلم، ولا لذة تساوي لذته، فإن أنواع السرور كثيرة؛ سرور الأبد الجنة، وسرور الدهر العلم، وسرور السنة العمارة الجديدة، وسرور نصف السنة الثوب الجديد، وسرور الشهر الزواج، وسرور الأسبوع غسل الثياب، وسرور اليوم الحمام، وسرور الساعة الاجتماع للأنس المنزلي ومسامرة الأحباب، وما أشبه ذلك، وحيث إن من لذات الدنيا لذة أنس الزوجية؛ كان لابد في حسن هذه المسرات من المناسبة والملايمة بين الزوجين حتى في درجة المعرفة والفطنة وكمال الامتزاج، وهذا لا يكون إلا بالمشاكلة بين الزوجين والمجانسة بين القرينين، لاسيما في الممالك المتمدنة التي يعد فيها تعليم النساء من الشيم المستحسنة، فالمرأة على هذا محتاجة للتعليم لإرشادها في أمور الزوجية والعشرة، وفي تربية الأولاد إلى الطريق القويم.
* * *
في تشريك البنات مع الصبيان
في التعلم والتعليم وكسب العرفان
ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب، ونحو ذلك، فإن هذا مما يزيدهن أدبًا وعقلاً، ويجعلهن بالمعارف أهلاً، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم، ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لمرأة مثلها، وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء، وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مَذَمَّة عظيمة في حق النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون وفيما عندهم وعندها وهكذا، وأما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة وأنها مكروهة في حقهن ارتكانًا على النهي عن بعض ذلك في بعض الآثار فينبغي أن لا يكون ذلك على عمومه، ولا نظر إلى قول مَن علَّل ذلك بأن من طبعهن المكر والدهاء والمداهنة، ولا يعتمد على رأيهن لعدم كمال عقولهن، فتعليم القراءة والكتابة ربما حملهن على الوسائل الغير المرضية ككتابة رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمرو وبيت شعر إلى خالد ونحو ذلك، وأن الله تعالى لو شاء أن يخلقهن كالرجال في جودة العقل وصواب الرأي وحب الفضائل لفعل، فكأن الله تعالى خلقهن لحفظ متاع البيت ووعاء لصون مادة النسل، فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات الذميمة، ولا تنطبق على جميع النساء، وكم من نهي وردت به الآثار كحب الدنيا ومقاربة السلاطين والملوك والتحذير عن الغنى، فقد حمل على ما يعقبه شر وضرر محقق، وتعليم البنات لا يتحقق ضرره فكيف ذلك، وقد كان أزواجه r من يكتب ويقرأ كحفصة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم وغيرهما من نساء كل زمن من الأزمان، ولم يعهد أن عددًا كثيرًا من النساء ابتذلن بسبب آدابهن ومعارفهن، على أن كثيراً من الرجال أضلهم التوغل في المعارف وترتب على علومهم ما لا يحصى من شبه الخروج والاعتزال. وليس مرجع التشديد في حرمان البنات من الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيًا ما كانت في ميدان الرجال، تبعًا للعوائد المحلية المشوبة بجمعية جاهلية ولو جرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة، فإننا لو فرضنا أن إنسانًا أخذ بنتًا صغيرة السن مميزة، وعلمها القراءة والكتابة والحساب وبعض ما يليق بالبنات أن يتعلمنه من الصنائع كالخياطة والتطريز إلى أن تبلغ خمس عشرة سنة، ثم زوجها لإنسان حسن الأخلاق كامل التربية مثلها، فلا يصح أنها لا تحسن العشرة معه، أو لا تكون له أمينة، ومثل ذلك سائر البنات، فإن تعليمهن في نفس الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول النساء على ملكة القراءة والكتابة وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة والاطلاع على المعارف المفيدة هو أجمل صفات الكمال وهو أشوق للرجال المتربين من الجمال، فالأدب للمرأة يغني عن الجمال لكن الجمال لا يغني عن الأدب؛ لأنه عَرَض زائل. وأيضًا آداب المرأة ومعارفها تؤثر كثيراً في أخلاق أولادها، إذ البنت الصغيرة متى رأت أمها مقبلة على مطالعة الكتب وضبط أمور البيت والاشتغال بتربية أولادها جذبتها الغيرة إلى أن تكون مثل أمها، بخلاف ما إذا رأت أمها مقبلة على مجرد الزينة والتبرج وإضاعة الوقت بهذر الكلام والزيارات الغير اللازمة؛ حيث تتصوّر البنت من الصغر أن جميع النساء كذلك فتأْلف ذلك من صغرها، فشتان ما بين هذه وبين من تعتمد على معارفها وآدابها، وتفعل ما فيه إرضاء بَعْلها وتربية أولادها؛ لأنها شبت على ذلك كما قال البوصيري رحمه الله:
وَالنَّفْسُ كَالطَّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمُهُ يَنْفَطِمِ
وقد قضت التجربة في كثير من البلاد أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل إنه لا ضرر فيه أصلاً، فقد روي في كتب الأحاديث روايات عن النساء كثيرة، وقد كان في زمان رسول الله r من يعلم القراءة والكتابة من النساء للنساء كالشفاء أم سليمان فقد ورد أن رسول الله r قال لها: “عَلْمِي حَفْصَةَ رُقْيَةَ النملة كما علمتها الكتاب” أي الخط والهجاء، وخرج أبو الدرداء t عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علي النبي r وأنا عند حفصة فقال: “أَلا تعلمين هذه رُقْية النَّملة كما علمتها الكتابَ”. والنملة بُثور صغار مع ورم يسير ثم يتقرح فيتسع وتسميه الأطباء الذباب، وهذا الحديث دليل على أن تعلم النساء الكتابة جائز، وأن اشتراكهن مع الرجال لا بأس به؛ حيث اشتركن معهم في أصل الطبائع والغرائز، وورود النهي عن تعليمهن ينبغي أن يكون ليس على إطلاقه بدليل ما يعارضه بإباحة التعليم، فليتمسك كل من الفريقين الذكور والإناث بالأحاديث الواردة في فضل التعلم والتعليم، ويَتَشَبُّثُوا جميعًا بأذيال المدارسة والمطالعة ليقتطفا من أثمار العلم منافعه.
* * *
في المدارسة والمطالعة
الدراسة هي تمرين العقل على مطالعة عدة علوم أو علم واحد منها، ولما كانت فضيلة التعلم والتعليم والقابلية لذلك مشتركة بين جميع الناس لا يستغني عنها إنسان، وكان الاحتياج إليها ناشئاً من كراهة النفس للجهل الذي لا يمحوه إلا المواظبة على الاطلاع وكثرة الدراسة المستمرة التي يحصل بها التمكن من المعارف، وكانت مدة الحياة قصيرة لا تكفي في الحصول على شطر له وقْع من المعارف البشرية؛ وجب على الإنسان أن يتشَبَّثَ بالعلوم الضرورية له كما قال الشاعر:
مَا حَوَى العِلْمَ جَمِيعًا أَحَدٌ | لا وَلَوْ مَارَسَهُ أَلْفَ سَنَهُ | |
إِنَّمَا العِلْمُ عَمِيقٌ بَحْرُهُ | فَخُذُوا مِن كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهُ |
والأولى لطالب العلم أن يتشبث بما يلايم الفن الذي يتخذه له فنًا يختص به، فدراسة العلم في حد ذاتها أفضل ما يشتغل به الإنسان، وأحلى ما يصرف فيه أوقات حياته، وأفضل لذات الدنيا، فلا سرور يوازي سرور العلم، والاشتغال به يحْسُن في جميع الأوقات، وشتى الأعمار، وفي جميع الأمكنة والبلدان؛ لأن مطالعة الكتب لا يضيق منها صدر الإنسان في مدة عمره، وفي مبادي وأواخر أمره؛ لأنها تُصلح حال الشبان، وتنفع في حال الكهولة، وتخفف الآلام، وتفيد الصبر على نوائب الأيام حتى إن الإنسان المنهمك على القراءة لا يذوق طعم الفاقة([4]) وإن كان فقيراً، وإن كان غنيًا أغلت قيمة غناه وسعادته، فما كأنها إلا غذاء الأشباح والأرواح في الإمساء والإصباح وهي لأهل المدن فكاهة ورفاهة، ولأهل الريف مشْغلة ونباهة، وفي الأسفار تخفف وعثاء السفر كما تلطف أحوال أهل الحضر، وهي وقاية تحفظ من القلق والوساوس، وينتصر بها الإنسان على القلق والأرق، فهي خير واقٍ وحارس؛ لأن القلق داء وَخِيم وصاحبه سقيم، فهو كالنار يرعى بدن الإنسان ولو كان رفيع القدر عليّ الشأن، فعلاجه النظر في كتاب يزيل الأَوْصَاب([5]) عن الألباب([6]).
ومن فوائد الدراسة أنها تزين العقول بالمعارف الصحيحة، والعوارف الرَّجيحة، وتفيد النفس الزكية شرفًا ومَجَادَةً، وترقي الإنسان إلى أقصى درجات الفخر والسعادة، فيها يفقه الإنسان أحوال الناس على حقائقها، وما هم عليه أو ما كانوا عليه أو ما ينبغي أن يكونوا عليه بالوقوف على حسن طرائقها، وبذلك يكتسب التعود على الأشغال، وتلطيف النفس، وصفاء البال، ويقوى عقله، ويزول ما فيه من الخفة والطيش لرفاهة الحال ولذاذة العيش، ويغلب الإنسان نفسه، وهواه باجتناب البطالة والكسل والفتور، ولا يضيع زمنه سدى في سفاسف الأمور. ومن فوائد المطالع للكتب الجيدة المفيدة أن يصير ناقداً بصيراً وجميع أحواله حميدة، ولو لم يكن فضائل الدراسة إلا الألفة بين الفضلاء والنبلاء والتعارف من بعضهم لبعض لكان هذا كافياً لأهل العلى.
قال بعضهم: كان الناس فيما مضى إذا لقي العالم منهم من هو فوقه في العلم قال: هذه غنيمة، أي لكونه ينتهز فرصة التلقي عنه، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزدر([7]) عليه، واليوم يعيب الرجل من فوقه، ويظهر أنه ليس له به حاجة، ولا يذاكر مثله، ويزهو على من هو دونه، وهذا مما يُخِل بالعالم؛ حيث إنه يفضي به إلى جحد الحقوق لحب الرئاسة والتعظيم، ويجعله يتعرض إلى ستر الحسنات، ويتتبع السقطات لهدم ما شيدته الفضائل بفضوله لا بفضله.
ومما يُحكى أن الشعبي دخل على عبد الملك بن مروان وبين يديه كتاب ينظر فيه، فقال: يا أمير المؤمنين إن الكتاب خير مُقارِن، وأنبل جليس، وآنس أنيس، وأصدق صديق، وأحفظ رفيق، وأكرم مصاحب، وأفصح مخاطب، وأبلغ ناطق، وأكتم وامق([8])، يورد إليك ولا يصدر عنك، ويحكي لك ولا يحكي عنك، إن أودعته سراً كتمه، وإن استحفظته علماً حفظه، إن فاتحته فاتحك، وإن فاوضته فاوضك، وإن جَارَيْته جَارَاك، وإن صَمَتْ عنه صَمَتَ عنك، ينشط بنشاطك، ويغتبط([9]) باغتباطك، ولا يرغب عنك عند رغبتك فيه، ولا يتخلف عنك عند حاجتك إليه، ولا يخفي عنك ذكرًا، ولا يفشي لك سراً، إن نشرته شهد، وإن طويته رَقَد، وإن سألته نطق، وإن انغلقت عنه انغلق، صامت متكلم، مستعرب مستعجم، يذاكرك بالفلسفة، ويبصرك بتقديم المعرفة، ويبدي لك أخبار الأول، ويشرح لك سير الدول، خفيف المؤنة كثير المعونة، حاضر كمعدوم، وغائب كمعلوم، لا تتصنع له عند حضوره في خلوتك، ولا تحتشم له في حال وحدتك، في الليل نعم السمير، وفي النهار نعم المشير، إن طويته انطوى، وإن نشرته احتبى، فقال له عبد الملك: لقد حببت إلى الكتاب وعظمته في نفسي وحسنته في عيني.
قال بعضهم:
نِعْمَ الْمُحَدِّثُ وَالنَّدِيمُ كِتَابُ | تَلْهُو بِهِ إِنْ فَاتَكَ الأَحْبَابُ | |
لا مُفْشِيًا سِرًّا إِذَا اسْتَوْدَعْتَهُ | وَيُفَادُ مِنْهُ حِكْمَةً وَصَوَابٌ |
لاسيما كتب التواريخ والسير، فقد قال بعضهم فيها لما فيها من العبر:
طَالِعُ تَوَارِيخُ مَنْ فِي الدَّهْرِ قَدْ وُجِدُوا | تَجِدْ خُطُوبًا تُسَلِّي عَنْكَ مَا تَجِدُ | |
تَجِدْ أَكَابِرَهُم قَدْ جُرِّعُوا غُصَصًا | مِنَ الرَّزَايَا بِهَا كَمْ فُتْتَتْ كَبِدُ | |
عَزْلٌ وَنَصْبٌ وَضَرْبٌ بِالسَّيَاطِ وَجر | سٌ ثُمَّ قَتْلُ وَتَوْرِيثُ لِمَن وُلِدُوا |
وبمزاولة المطالعة تتسع دوائر المعارف ونطاق الطرائف واللطائف.
* * *
في الروح والعقل والقريحة
الروح هي أصل الحياة والحركة وأصل الإحساسات والإدراكات والشهوات، تهدي الإنسان في حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله، وبها يمتاز عما سواه من باقي الحيوانات، وهي من أصل الفطرة في حد ذاتها طاهرة زكية وإنما تولدت عنها الشهوات واللذات لما اتصلت بالأجسام الطبيعية، ثم إن للروح استعدادات تتميز بها إلا أن كُنْهَها([10]) مغيب عن البشر لا يعرفون حقيقته، وإنما غاية ما يقال فيها إنها جوهر متميز عن الجسم ومباين له؛ حيث إن لها استعدادات على تنجيز عمليات ليس من خواص المادة تنجيزها؛ فهي التي تدرك الأشياء بما فيها من المشابهة والمشاكلة والمباينة والمضادة، وتحيل فيها الفكر وتقيم عليها الدليل، وتنتج النتائج الصحيحة وتتبصر في عواقب الأمور، وتقضي وتحكم بما يلزم وهذا لا يوجد في المواد الجسمية.
فهي مشتملة على أصل فعال يحملها على العمل أو الترك تبعاً لما تدركه من الملايمة، وهذا الأصل الفعال هو الإرادة التي تحمل على الاختيار، فتختار ما يليق لها من أسباب السعادة مما تظنه كذلك، ومن متعلقات الروح والعقل والقريحة، فالعقل قوة روحانية بها إدراك حقيقة الأشياء وقياس بعضها ببعض بما فيها من الجامع والحُكم عليها بما يقتضي، فالعقل في الإنسان هو الجزء الناطق المتفكر، وهو عبارة عن قوة روحانية نورانية تدرك ما له وجود في خارج العيان أو في الأذهان على حقيقته، وتدرك جميع العلاقات والمباينات في المخاطبات والمحاورات، فإذا أعرب المتكلم عما في ضميره تصور عقل السامع إذا كان سليمًا قويًا صحة الكلام أو فساده من أول وهلة، وبقدر إدراك الإنسان النسب والعلائق بين الكائنات التي حوله تكون جودة عقله على حسب قوة هذا الإدراك.
فالعقل هو الوسيلة الوحيدة في التصور والتصديق وتمييز الحقائق على وجه دقيق نميق، وإذا كان حاداً ذكياً متوقدًا([11]) يخترع ويبتدع كان قريحة، فالعقل الواسع يدرك العلاقات المتولدة بين الأشياء، ومن أول وهلة يحفظ فروعها ومتشعباتها وينسبها إلى أصل واحد، ومركز عمومي يجمعها حتى تصير بالنسبة للعقل معلومًا واحدًا ومستحضرة فيه بصورة واحدة، فتنتقش في مرآة العقل المعلومات تأصيلاً وتفريعاً في صورة جلية، فالمدرك لهذه الصورة هو القريحة، فلا يتصف بالقريحة إلا من اتصف بسعة العقل، ولكن قد يتصف الإنسان بسعة العقل ولا يكون متصفًا بالقريحة؛ إذ كل منهما ممتاز عن الآخر؛ لأن القريحة دائمًا نشطة شغالة فعالة ولادة متصورة بخلاف العقل ولو متسعاً، فإنه في الغالب مثله كمثل التاجر يعطي ويأخذ مع الفتور والكسل وقلة الحماس والسرعة، ولا مانع أن يقال إن القريحة هي أعلى درجات أفكار العقل البشري بقدر ما يستطيع أن يتفكر، فهي بهذا المعنى أجل نعم الباري سبحانه وتعالى، إذ بها يكون للإنسان ملكة الوقوف على الحقائق والدقائق والرقائق، وبها ربط التصورات المتجددة العجيبة التي تدركها النفس والاختراعات والابتداعات التي لا على مثال سابق، فالقريحة تجمع أطراف التصورات والتصديقات المتفرقة بما تدرك فيها من العلاقات وتتصرف التصرف التام في هذا الجمع .
وأكثر الناس ممن لا يُمعن النظر في القريحة يعتقد أنها حدة قوية في النفس، تهديها بالصدفة والاتفاق إلى صَوب أي شيء من الأشياء؛ فتخبط بها خَبْطَ عَشْوَاء([12]) كالدولاب([13]) الذي يتحرك بنفسه حركة قسرية([14]) حتى يصل بالصدفة والاتفاق إلى عمل يعمله بدون إرادة ولا اختيار، أو كمنبع ينصب ماؤه في أي محل كان ويتركه فلا يعيده إليه، وليس الأمر كما يعتقدون بل هو كما أسلفناه قوة فعالة تبرز عملها على الأشياء بفن مخصوص وإرادة مخصوصة تتحرى التصرف في مفعولها بجميع التصرفات المطلوبة وتشكله بأشكال حقيقية مرغوبة، فهي كالخبير بفن التشريح يميز أجزاء الأعضاء التي تبحث عنها وتنظر فيها وتقيس نسب أجزائها المؤتلفة، ولو تباعدت فهي كالمرآة الصقيلة التي تنطبع فيها صور الأشياء، أو كآلة عمومية نباشة ثاقبة في بحثها عن الأشياء، ومن أفضل وظائفها أنها لا تزاول البحث عن المستحيل الذي لا يتصوّر وجوده ولكن عن استخراج الجائز الممكن الوجود ولو متعاصيًا، فكل من اتصف بالقريحة المتصرفة هذا التصرف حكم له بقوة روحه واتساع عقله وسرعة حكمه وإنتاجه وأنه جوهري العقل.
وقد اقتضت الحكمة الإلهية إيداع القريحة العقلية في دماغ الإنسان لتكون كإيداع المعادن النفيسة في باطن الأرض، فإن المعادن في باطن الأرض غير مصقولة ولا متشكلة بأشكال منتظمة، بل مشوبة([15]) بأخلاط وأجزاء أجنبية فلا تنظف وتظرف إلا بالفن والصناعة، وكذلك القريحة فإن العلوم والفنون تعمل فيها ما تعمله تصفية المعادن النفيسة بإزالة ما خالطها من المواد الأجنبية، ولا يزيد في جوهرها بل يبرزها على ما أرادته الحكمة الإلهية، وإذا قويت القريحة في العلوم والفنون والصنائع وبلغت فيها درجة كمال كانت آلة للاختراع والابتداع حتى لا يكون لتصرفها نهاية ولا لحسن تدبيرها غاية، وقد سلف لنا أنها هي العقل الكامل الذي يدرك العلاقات بين الأشياء ومن هذه العلاقات ما يكون بين الفنون الأدبية والعلوم الحقيقية.
* * *
في ذكر الوطن وتمدينه وبيان أن أعظم أسباب ذلك التربية والتعليم واستكمال المعارف والتعميم في الكلام على الوطن
الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج([16]) ومنه خرج ومجمع أسرته ومقطع سرّته، وهو البلد الذي نشَّأته تربته، وغذاؤه هواؤه، ورياه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه، قال أبو عمرو بن العلاء: “مما يدل على حرية الرجل وكرم غريزته حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى متقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه”، والكريم يحن إلى أحبابه كما يحن الأسد إلى غابه، ويشتاق اللبيب إلى وطنه كما يشتاق النجيب إلى عطنه([17])، فلا يؤْثِر الحرّ على بلده بلدًا ولا يصبر عنه أبداً، قال الشاعر:
بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَائِمِي وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا
وقال آخر:
بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهَا الشَّبِيبَةِ وَالصَّبَا | وَلَبِسْتُ ثَوْبَ العَيْشِ وَهُوَ جَدِيدُ | |
فَإِذَا تَثْلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ | وَعَلَيْهِ أَثْوَابُ الشَّبَابِ تَمِيدُ([18]) |
وكان الناس يتشوقون إلى أوطانهم ولا يفهمون العلة في ذلك حتى أوضحها علي بن العباس الرومي في قصيدة لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه([19]) على رجل من التجار يعرف بابن أبي كامل أجبره على بيع داره واغتصبه على بعض جُدُرِها؛ فقال:
وَلِي وَطَنُ أَلَيْتَ أَنْ لا أَبِيعَهُ | وَأَنْ لا أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكَا | |
عَمَّرْتُ به شَرْحَ الشباب ونعمةً | بصحبة قومٍ أَصْبَحُوا في ظلالكا | |
وحَبَّب أوطان الرِّجَالِ إليهمُ | مآربُ قضاها الشباب هنالكا | |
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم | عُهود الصبا فيها فحنوا لذلك | |
فقد أَلْفَتْهُ النَّفْسُ حَتَّى كَأَنَّهُ | لها جسد إن بانَ غُودِرْتُ هَالِكا |
ولا يبعد العاقل عن الوطن إلا طلب العلى إذا لم يمكن فيه، قال صاحب لامية العجم:
إِنَّ العُلَى حَدَّثَتْنِي وَهْيَ صَادِقَةٌ | فِيمَا تُحَدِّثُ أَنَّ العِزَّ فِي النَّقَل | |
لو أن في شَرَفِ المَأْوَى بُلُوغَ مُنِّى | لم تَبْرَحُ الشَّمْسُ يَوْمًا دَارَةَ الْحَمَلِ([20]) |
وقال من تحير في الحل والارتحال:
وَبَقِيتُ بَيْنَ عَزِيمَتَيْنِ كَلاهُمَا | أَمْضَى وَأَنْفَذُ مِن شباة سنان([21]) | |
هَمٌ يُشَوِّقُنِي إِلَى طَلَبِ العُلَى | وَهَوَى يُشَوِّقُنِي إِلَى الأَوْطَانِ |
وقد جرت العادة أن البعيد عن الوطن الذي قضى فيه جزءاً من شبابه يتشوق إليه سواء كان من أهل البدو أو من أهل الحضر، فأهل البدو يتأسفون على فراق نجد ويحنون إليها حنين المتأسفين على غوطة([22]) دمشق وقصور مدينة السلام، وتحف الجزيرة، ومستشرف الخَوَرْنَق([23]) وجوسق سُرَّ مَنْ رَأَى من كل من بعد منهم عن بلده وطال مقامهم بغيره، فإذا أبدينا بعض محاسن أم الدنيا، والنعمة التي هي كنانة الله في أرضه ظهر لنا أنها تعد أول وطن من أوطان الدنيا يستحق أن تميل إليه قلوب بنيه وأنه أحق أن تحن إليه نفوس مفارقيه من ذويه.
ولا يشك أحد أن مصر وطن شريف إن لم نقل إنها أشرف الأمكنة؛ فهي أرض الشرف والمجد في القديم والحديث، وكم ورد في فضلها من آيات بينات وآثار وحديث، فما كأنها إلا صورة جنة الخلد منقوشة في عرض الأرض بيد الحكمة الإلهية التي جمعت محاسن الدنيا فيها حتى تكاد أن تكون حَصَرَتها([24]) في أرجائها ونواحيها بلدة معشوقة السكني، رحبة المأوى، حصباؤها([25]) جوهر، وترابها مسك أذفر([26])، يومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وثراها مري([27]) واسعة الرقعة، طيبة البقعة، كأن محاسن الدنيا عليها مفروشة وصورة الجنة فيها منقوشة، واسطة البلاد ودُرَّتَها ووجهها وغُرَّتها، بلد كم خرج منه من كبار ملوك وسلاطين وحكماء وأساطين، وكم نبعت منه عيون علوم وانجلى به من البلاد سحائب غيوم، فمن ذا يضاهي مصر في كمال الافتخار، أو يباريها في الجمال والاعتبار، أمتها أول أمة في المجد وعلوّ الهمة.
بَهَالِيلُ فِي الإِسْلامِ سَادُوا وَلَمْ يَكُنْ | كَأَوَّلهم في الجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ | |
هُمُ القَوْمُ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا | أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطُوْا أَطَابُوا وَأَجْزَلُوا |
موصوفة عند الجميع بالشجاعة والحماسة والكياسة([28]) والرئاسة فضلاً عن الذكاء والفطنة ولطافة العوائد والأخلاق مما سارت به الركبان بسيرتهم الحميدة في سائر الآفاق، فلها الحق في أن يحترمها جميع الأمم والملل وملوك الدنيا والدول، فكم اقتبسوا منها في الأزمان الخالية أنوار العلوم والمعارف التي طوقت أجياد الدنيا وصارت بها في الدرجة العالية.
ولم تزل إلى الآن فخار كل زمان كما لم تزل آثار محاسنها زينة لكل مكان، حظها من التمدن عظیم ورونق تاجها درّ نظیم، فهي الكنانة ذات المنعة والمكانة التي قيل فيها:
وَكِنَانَةُ اللَّهِ الَّتِي كَم فوّقت | منها وإِن بَعُدَ العَدُو سِهَامُ | |
وقديمة شابَ الزمانُ وحُسْنُها | باق ولم تَهْرَم([29]) لها أهرام | |
وإذا سطا حر الهجير([30]) فماؤها | وهواؤها برد به وسلام | |
وغنية بالنيل عن نَيْل الحيا | وله أَيَادٍ في الوفودِ جسَام | |
وعن المطيًّ([31]) المثقلات وحملها | بالمنشآت([32]) كَأَنَّهَا أَعلام | |
مِنْ كُلِّ باسطةِ الجناحِ([33]) كأنها | لما تسيرُ بالرياحِ غَمَام([34]) | |
تسري بمن فيها وهم في غَفْلَة | وكذا ليالي الدَّهْر والأيام | |
وعزيز مصر على السرير تَهَابُهُ الدُ | نيا ولم يَبْعُدْ عَلَيْهِ مَرَامُ |
يقال إن من خصائص مصر كثرة الدنانير بها، وإن من دخل بها ولم يستغن فلا أغناه الله، ولا عبرة بما قاله بعضهم في تفضيل بغداد عليها:
يَقُولُونَ مصرُ أَخْصَبُ الأرضِ كُلِّهَا | فقلتُ لهم بغداد أخصب من مصر | |
وما مصر إلا بلدة مثل غَيْرِهَا | تَعَاقَبُهَا الأَيامُ بالعسر واليسر | |
ولكنكم تُطرُونَهَا([35]) بهواكم | ولم تَخْلُ أَرْضُ مِن مُحِبُّ وَمِنْ مُطْرِي | |
وإلا فأين الخصب عن معشرٍ بها | يُقَاسُون أنواع العذاب مِنَ الفَقْرِ | |
وما خير قوم تجدب الأرض([36]) عندهم | بما فيه خصب العالمين من القطر | |
إذا بُشِّرُوا بِالغَيْثِ رِيعَتْ([37]) قُلُوبُهُم كما | رِيعَ فِي الظُّلْمَاءِ سِرْبُ القَطَا الكُدْرِي([38]) |
وقال بعضهم: من خصائص مصر أن المصري لا يرى مستوطناً في غيرها إلا في الذل، وكانت تحية ملوكها وعظمائها «أيها العزيز» كما نطق به القرآن الشريف، وبالجملة فالبلاد تمدح وتذم، فقد كان يقال: الدنيا بصرة، ولا مثلك يا بغداد. وكان الحجاج يقول: الكوفة جاريةٌ جميلة لا مال لها؛ فهي تخطب لجمالها، ونحن نقول: مصر جارية عروس مُحَلاّة بالمال والجمال، فهي تخطب لمالها وجمالها؛ فهي الآن مجمع التَّالد والطَّارِف، ومعدن المحاسن واللطائف، وبها منافع أرباب النهايات في كل فن باديه وهي حاضرة إفريقه وما عداها بادية.
قال بعض من سكن سواها وهو يهوى سكناها: فَاهًا على الديار المصرية وأوقاتها، وسُقياً لمعاهد أُنْسِهَا لِنَفْسِهَا وَلَذَّاتِهَا، لِذَاتِهَا،
ورَعْيا لتلك المنازل التي:
*لا تَخْرُجُ الأَقمَارُ عَنْ هَالاتِهَا *
وحفظا لتلك الوجوه التي:
*للشمس أضواء على جَبَهَاتِهَا *
وشكراً للنفوس التي:
*المَجْدُ يَغْلُبُها عَلَى شَهَوَاتِها*
ذُكِرَ الأَنَامُ لَنَا فَكَانَ قَصِيدَةً أَنْتَ الْبَدِيعُ الْفَرْدُ مِن أَبْيَاتِهَا
شعر:
قَضَيْتُ أَطِيبَ لَيْلَتِي مُنَعَمًا | فِيمَا يَلَذُّ بِهِ فُؤَادُ العَاشِقِ | |
فِي لَيْلَةٍ قَمَرُ السَّمَاءِ مُغَازِلِي | وَبِلَيْلَةٍ قَمَرُ الزَّمَانِ مُعَانِقِي |
فكيف وهي على ممر الليالي والأيام منبع السعادة، ووارثة دار السلام، وزينة بلاد الإسلام، مليكها عزيز، وأهلها أهل كرامة وتعزيز، محبوبة من أبناء الأوطان متمسكة بحديث حب الوطن من الإيمان، وهي إن شاء الله تعالى في أمان واطمئنان من حوادث الزمان؛ حيث إن عزيزها:
أَقَامَ مَنَارَ الْحَقِّ حَتَّى اهْتَدَتْ بِهِ | وَأَبْصَرَهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ أَبْصَرَا | |
وَعَادَتْ عَلَى الدُّنْيَا عَوَائِدُ فَضْلِهِ | فَأَقْبَلَ مِنْهَا كُلُّ مَا كَانَ مُدْبِرًا |
* * *
في أبناء الوطن وما يجب عليهم
قد اقتضت حكمة الملك القادر الواحد أن أبناء الوطن دائما متحدون في اللسان، وفي الدخول تحت استرعاء ملك واحد، والانقياد إلى شريعة واحدة وسياسة واحدة، فهذا مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى إنما أعدهم للتعاون على إصلاح وطنهم، وأن يكون بعضهم بالنسبة إلى بعض كأعضاء العائلة الواحدة، فكأن الوطن إنما هو منزل آبائهم وأمهاتهم ومحل مَرْباهم، فليكن أيضًا محلاً للسعادة المشتركة بينهم، فلا ينبغي أن تتشعب الأمة الواحدة إلى أحزاب متعددة بآراء مختلفة لما يترتب على ذلك من التشاحن والتحاسد والتباغض وعدم أَمْنيَّة الوطن، فلا يتمنى بعضهم سعادة نفسه وشقاوة غيره لاسيما وأن الشريعة والسياسة سوت بينهم، وأوجبت عليهم أن يكونوا على قلب رجل واحد، وأن لا يعتقدوا لهم عدواً إلا من يوقع بينهم الفشل بخداعه ليختل نظام ملكهم وينحل انتظام سلكهم، فهذا هو العدو المبين الذي لا يحب أن يكون أهل الوطن على وطنهم آمنين، ولا بحريتهم متمتعين.
ثم إن ابن الوطن المتأصل به أو المنتجع إليه الذي توطن به واتخذه وطناً ينسب إليه تارة إلى اسمه فيقال مصري مثلاً، أو إلى الأهل فيقال أهلي، أو إلى الوطن فيقال وطني، ومعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده؛ وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقادًا لقانون الوطن، ومعيناً على إجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية والتَّمَزي([39]) بالمزايا البلدية، فبهذا المعنى هو وطني وبلدي يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة، وقد كان أهالي غالب الأمم محرومين من تلك المزية التي هي من أعظم المناقب، وكان ذلك في الأزمان التي كانت فيها أوامر ولاة الأمور جارية على هوى أنفسهم يفعلون ما شاءوه، وقد كانت الأهالي إذ ذاك لا مدخل لها في معارضة حكامهم، ولا محاماة لهم عن أحكام الشريعة، فكان لا يمكنهم أن يخبروا ملوكهم بما يرونه غير موافق، أو يكتبوا شيئًا فيما يخص السياسات والتدابير، ولا يُبْدُوا آراءهم في شيء، فكانوا كالأجانب في أمور الحكومة، وكانوا لا يتقلدون من الوظائف والمناصب إلا بما هو دون استحقاقهم، والآن تغيرت الأفكار وزالت عن أبناء الوطن هذه الأخطار؛ فالآن ساغ([40]) للوطني الحقيقي أن يملأ قلبه بحب وطنه؛ لأنه صار عضواً من أعضائه.
فالوطني المخلص في حب الوطن يفدي وطنه بجميع منافع نفسه ويخدمه ببذل جميع ما يملك، ويفديه بروحه ويدفع عنه كل من تعرض له بضرر كما يدفع الوالد عن ولده الشر، فينبغي أن تكون نية أبناء الوطن دائماً متوجهة في حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف ولا يرتكبون شيئًا مما يخل بحقوق أوطانهم وإخوانهم؛ فيكون ميلهم إلى ما فيه النفع والصلاح، كما أن الوطن نفسه يحمي عن ابنه جميع ما يضره لما فيه من هذه الصفات، فحب الأوطان وجلب المصالح العامة للإخوان من الصفات الجميلة التي تتمكن من كل واحد منهم في جميع أوقاته مدة حياته، وتجعل كل إنسان منهم محبوباً للآخرين، فما أسعد الإنسان الذي يميل بطبعه لإبعاد الشر عن وطنه ولو بإضرار نفسه.
فصفة الوطنية لا تستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضًا أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه، فإذا لم يُوفِّ أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه.
وقد كان الرومانيون في قديم الزمان يجبرون الوطني الذي بلغ من العمر عشرين سنة أن يحلف يميناً أنه يحامي عن وطنه وحكومته فيأخذون عليه عهدًا بذلك وصيغة اليمين: أشهد الله على أني أحمل سلاح الشرف لأمانع به عن وطني وأهله كلما لاحت فرصة أتمكن فيها من مساعدته، وأشهد الله على أني لحماية الوطن والدين أحارب منفرداً أو مع الجيش، وأشهد الله على أني لا أُكَدّر صفو وطني ولا أخونه ولا أغدر به، وأني أركب البحار أياً ما لزم ذلك في جميع الغزوات التي تأمر بها الحكومة، وعلى أني أحافظ على امتثال القوانين والعوائد المقبولة في بلادي الموجودة في الحال وما يتجدد منها، وأشهد الله أن لا أتحمل أحداً يجسر أن يُخل بها وينقص انتظامها. انتهى.
فمن هذا يفهم أن أمة الرومانيين كانت متشبثة بحب وطنها؛ ولهذا تسلطت على بلاد الدنيا بأسرها، ولما انسلخت([41]) عنها صفة الوطنية حصل الفشل بين أعضاء هذه الملة، وفسد حالها وانحل عقد نظامها بتعدد اختلاف أمرائها وتعدد حكامها، فبعد أن كانت محكومة بقيصرة واحدة انقسمت في المشرق والمغرب بين قيصرين: قيصر رومة وقيصر القسطنطينية، وكانت الشوكة لباع([42]) طويل فصار أمرها إلى باعين قصيرين فآل أمرها في جميع الحروب إلى الانهزام ورجعت بعد كمال الوجود إلى الانعدام.
* * *
([1]) سلسلة الفكر النهضوي الإسلامي، مكتبة الإسكندرية. دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني- 2012. طُبع لأول مرة عام 1872.
([3]) الكارات: مفردها كار، وهي الحرفة والصنعة. (م).
([4]) الفاقة: الفقر والحاجة. (م).
([5]) الأوصاب: الأسقام والأوجاع. (م).
([7]) لم يزدر: لم يحفر ولم يستخف. (م).
([9]) يغتبط: يبتهج وتتحسن حالته. (م).
([10]) كنهها: الكنه: حقيقة الشيء. (م).
([11]) متوقدًا: نشيطاً لامعاً سريع الفهم. (م).
([12]) فتخبط بها خبط عشواء: تتصرف على غير علم ولا بصيرة. (م).
([13]) الدولاب العجل من خشب وتحمل عليه الأثقال. (م).
([14]) قسرية: مقهورة مغلوبة. (م).
([17]) النجيب: الناقة، والعطن: مبرك الإيل، والمقصود أن الإيل تشتاق لأوطانها. (م).
([18]) تميد: تنثنى وتتبختر. (م).
([19]) يستعديه: يستعين بالمساعدة للنصرة على شخص ما. (م).
([20]) دارة الحمل: مدار الحمل. (م).
([21]) شباة سنان: حد الرمح. (م).
([22]) غوطة: الأرض المنخفضة المستقرة. (م).
([23]) مستشرف الخورنق: أعلاه. (م).
([24]) حضرتها: حددتها وقصرتها. (م).
([25]) حصباؤها الحصباء: الحصى. (م).
([26]) مسك أذفر: مسك شديد ذكاء الريح. (م).
([28]) الكياسة: الظرف والذكاء واللباقة. (م).
([29]) تهرم: تصل لأقصى الكبر. (م).
([30]) الهجير: شدة الحر عند انتصاف النهار. (م).
([31]) المطي: جمع مطية، وهي الناقة التي تركب. (م).
([32]) المنشآت السفن مرفوعة الشراع. (م).
([33]) باسطة الجناح المقصود بها السفينة. (م).
([34]) غمام: جمع عمامة وهي السحابة. (م).
([35]) تطرونها تجاوزون الحد في مدحها. (م).
([36]) تجدب الأرض: تصاب بالقحط. (م).
([38]) القطا الكدري: القطا طائر ثقيل المشية، والكدري نوع من أنواعه قصيرة الأذناب. (م).