كلمة التحرير

اختلاف الفقهاء، وتخريج الفروع على الأصول والوضع المعاصر للنظريات الفقهية

العدد 180 /181

أولاً- اختلاف الفقهاء:

(أ) إن الصلة الوثيقة بين المذاهب الفقهية المختلفة – سواء في ذلك مذاهب أهل السنة الأربعة أو المذاهب الأخرى كالجعفري والزيدي والإباضي والظاهري – صلة واضحة لا تنكر، ويكفي للتعرف إليها تصفح مراجع الفقه في كل مذهب حيث يبدو واضحاً التشابه بين مخططاتها وطرق عرض المسائل الفقهية في كل منها.

ولا يعنى هذا أن الخلافات بين هذه المذاهب منحصرة في المسائل الفرعية وأن الحلول متقاربة في منطلقاتها الأساسية، فالواقع أن المذاهب الفقهية تختلف في تصورها للحكم الشرعي وفي منهج الاستدلال عليه بل وفي المصطلحات الفقهية ذاتها، وأن الخلافات بينها تصل في بعض المسائل إلى مدى لا يمكن تجاهله، وأن هذه الخلافات هي التي تعطى كل مذهب طابعه الأصيل.

ومن دراسة هذه الخلافات بين المذاهب – بل بين الفقهاء من نفس المذهب الواحد – نشأ منذ عصر مبكر منهج الدراسات المقارنة في الفقه تحت اسم (علم الاختلاف) أو (اختلاف الفقهاء).

ورغم أن معظم المذاهب قد نشأ قبل تبلور علم أصول الفقه إلا أن مبادئ هذا العلم لم تكن غائبة عن أذهان مؤسسي المذاهب، فالمنهج الذي تبلور إليه علم أصول الفقه نشأ مبكراً في حياة الرسول r نفسه، حيث مارسه وأرشد إليه صحابته.

لذلك كانت نشأة علم (اختلاف الفقهاء) تكملة ضرورية لهذا البناء الفقهي لدراسة وتفسير مظاهر وأسباب الخلاف بين الفقهاء.

(ب) ويمكن استعراض نشأة وتطور هذا العلم في عدة مراحل:

  1. فأقدم من صنف في الاختلاف الإمام أبو حنيفة (م ١٥٠هـ)، فإنه ألف كتاب (اختلاف الصحابة).
  2. ثم صنف تلميذه الإمام أبو يوسف (م ۱۸۲هـ) (اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى)، وكذلك كتاب (الجوامع)، ذكره ابن النديم في الفهرست.
  3. وصنف الإمام محمد بن الحسن الشيباني (م ۱۸۹هـ) كتاب (الحجة على أهل المدينة) مقارناً آراءهم وأحياناً آراء الإمام مالك برأي أستاذه أبى حنيفة([2]).
  4. وقد تضمن كتاب الأم للإمام الشافعي (م ٢٠٤هـ) عدة كتب أخرى في الاختلاف مثل (اختلاف أبى حنيفة والأوزاعي) و(اختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن)، و(اختلاف الشافعي مع مالك).
  5. وصنف أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي (م ٢٥٦هـ) (اختلاف يعقوب وزفر).
  6. وألف محمد بن نصر المروزي (م ٢٩٤هـ) كتاب واختلاف الفقهاء، ذكر فيه ما خالف فيه أبو حنيفة عليا وعبد الله رضى الله عنهما.
  7. وألف زكريا الساجي (م ۳۰۷هـ) كتاب (اختلاف الفقهاء).
  8. وألف أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (م ٣١٠هـ) كتاب (اختلاف الفقهاء).
  9. وألف أحمد بن الحسين الأشروسني الحنفي المعتزلي (م ۳۱۷هـ) كتاب: (مسائل الخلاف).
  10. وألف أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر الشافعي (م ۳۱۹هـ) كتاب (الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف)، وكتاب (اختلاف العلماء)، وكتاب (الإشراف على مذاهب أهل العلم).
  11. وصنف أبو جعفر الطحاوي الحنفي (م ۳۲۰هـ) كتاب (اختلاف الفقهاء)، وكتاب (شرح معاني الآثار).
  12. ولابن الوراق أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد الجهم المروزي (م ۳۲۹هـ) كتاب (مسائل الخلاف) ويقال: إنه ألف خمسين كتاباً عن المذهب المالكي.
  13. ولأبي على الطبري (م ٣٥٠هـ) كتاب (المحرر) وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرد.
  14. ولأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (م ۳۷۳هـ) كتاب (مسائل الخلاف) (مختلف الرواية) وهو في الخلاف بين مالك والشافعي وأبي حنيفة.
  15. وللقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني المعتزلي (م ٤١٥هـ) كتاب (الاختلاف في أصول الفقه). ويحتمل أن يكون هو نفس كتاب (العمد).
  16. وللقدوري أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين الحنفي (م ٤٢٨هـ) كتاب (التجريد) ويقع في سبعة أجزاء وهو عن الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه.
  17. وللدبوس الحنفي أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى البخاري (م ٤٣٠هـ) كتاب (تأسيس النظر).
  18. وللقاضي أبي يعلى الفراء (م ٤٥٠هـ) كتاب (الخلاف الكبير).
  19. ولابن حزم الظاهري (م ٤٥٦هـ) كتاب (المحلى) في الفقه المقارن.
  20. وللحافظ البيهقي الشافعي (م ٤٥٨هـ) كتاب (الخلافيات) يقول عنه السبكي: “لم يسبق إلى نوعه ولم يصنف مثله وهو طريقة مستقلة حديثية، لا يقدر عليها إلا مبرز في الفقه والحديث قيم بالنصوص”.
  21. وأول من ألف في علم اختلاف الفقهاء من الشيعة الإمامية على ما يظهر الشيخ أبو جعفر الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (م ٤٦٠هـ) حيث ألف كتاب (الخلاف في الفقه)، ذكر فيه آراء فقه الشيعة مقارناً إياها بآراء غيرهم ومشيرا إلى وجه الاستدلال غالبًا([3]).
  22. ولأبي إسحق الشيرازي الفيروز آبادي (م ٤٧٦هـ) كتاب (التبصرة في أصول الفقه)، وهو من كتب الخلاف في أصول الفقه، وهو مطبوع بتحقيق د. محمد حسن هيتو.
  23. ولإمام الحرمين الجويني (م ٤٧٨هـ) مجلد ضخم في وسائل علم الخلاف هو (الكافية في الجدل) منشور بتحقيق د. فوقية حسين محمود، وله أربعة كتب في مسائل علم الخلاف هي (الأساليب في الخلافيات) و(العمد) و(غنية المسترشدين في الخلاف) و(الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية). والأخير منشور بتحقيق د. عبد العظيم الديب.
  24. ولابن جماعة الشافعي (م ٤٨٠هـ) كتاب (الوسائل في فروق المسائل).
  25. ولأبي المظفر السمعاني (م ٤٨٩هـ) كتاب (البرهان في الخلاف)، يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية. كان أبو المظفر حنفيًا كأبيه ثم انتقل إلى المذهب الشافعي وترك طريقته التي ناظر عليها أكثر من ثلاثين سنة.
  26. وللإمام أبي حامد الغزالي (م ٥٠٥) أربعة كتب في علم الخلاف والجدل هي (مآخذ الخلاف) و(لباب النظر) و(تحصين المآخذ)، و(المبادئ والغايات). قال عن الرابع منها: “هو الغاية القصوى في البحث الجاري على منهاج النظر العقلي في ترتيبه وشروطه وإن فارقه في مقدماته”.
  27. ولأبي بكر محمد بن أحمد الشاشي القفال المستظهري الشافعي (م ٥٠٧هـ) كتاب (حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء) طبع قسم العبادات منه بتحقيق د. ياسين داردكة.
  28. وللنسفي الحنفي (م ٥٥٣٧) كتاب (الخلافيات).
  29. والقاضي أبو بكر بن العربي الإشبيلي المالكي (م ٥٤٣) كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف)، يقع في عشرين جزءاً.
  30. ولرضى الدين السرخسي الحنفي (م ٥٤٤هـ) كتاب (الطريقة الرضوية).
  31. ولعلاء الدين السمرقندي الحنفي (م ٥٥٢) كتاب (مختلف الرواية).
  32. وللوزير ابن هبيرة الحنبلي (م ٥٦٠هـ) كتاب (اختلاف الأئمة العلماء)، ويسمى أحيانًا (الإفصاح) أو (الإيضاح)، وهو جزء من كتابه (الإفصاح عن معالى الصحاح)، وله أيضًا (الإشراف على مذاهب الأشراف).
  33. وللكاساني (م ٥٨٧هـ) كتاب (بدائع الصنائع) في الفقه الحنفي مع المقارنة بالشافعي.
  34. ولابن رشد (م ٥٩٥هـ) كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد).
  35. ولابن قدامة (م ٦٢٠هـ) كتاب (المغنى) في الفقه الحنبلي والمقارن.
  36. ولمحمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف ابن جزى بن سعيد الكلبي أبو عبد الله من أهل غرناطة (م ٧٥٨هـ وقيل ٧٥٦) كتاب (القوانين الفقهية)، في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنابلة، وهو تأليف جيد يذكر المسألة ثم يوضح آراء الفقهاء فيها ويعد من فقهاء الفقه المقارن.
  37. كما عالج ابن السبكي (م ۷۷۱هـ) في القسم السادس من كتابه (القواعد والأشباه والنظائر) مسائل الاختلاف.
  38. ولأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي الشافعي (م ۷۸۰هـ) كتاب (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة).
  39. كما خصص ابن رجب (م ٧٩٥هـ) ملحق كتابه في (القواعد) لبيان مسائل الاختلاف ذكر فيه ۲۱ مسألة خلافية مشهورة في المذهب الحنبلي.
  40. وللشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني (م ۹۷۳هـ) كتاب (الميزان الكبرى).

هذا وقد استقصى د. عبد العظيم الديب في مقدمة تحقيقه لكتاب الدرة المضية لإمام الحرمين كتب اختلاف الفقهاء فوصلت معه إلى أكثر من ثمانين كتابًا، كما سبق إلى محاولة الاستقصاء المستشرق الألماني كرن في مقدمته لاختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري.

  • وقد كان الطابع الغالب للمؤلفات في هذا العلم في مرحلته الأولى دفاعيًا يستخدمه الفقيه في الدفاع عن آراء مذهبه، ولا يشير إلى آراء المذاهب الأخرى إلا للرد عليها، ومن هنا لا تتسم هذه المرحلة بسمة المقارنة بمعناها الاصطلاحي المعروف الآن التي تفترض حداً أدنى من الموضوعية والحياد في الحكم والحرص على الحقيقة وهو ما تفتقده الطريقة الدفاعية.
  1. وفي مرحلة تالية ظهرت كتابات تتسم بسمة المقارنة حيث يعرض الفقيه عدة آراء دون أن يتخذ موقفاً من إحداها، وإن كانت ميوله تظهر أحيانا من خلال العرض والمناقشة.

ويعتبر الطبري (م ۳۱۰هـ) أول من استخدم هذه الطريقة في كتابه (اختلاف الفقهاء).

كما اتبع هذه الطريقة أيضًا ابن رشد (م ٥٩٥) في كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)، حيث نجح في استخراج طريقة استدلال الفقهاء من خلال مقارنته لأحكام المذاهب المختلفة، وإن كانت المقابلة المستمرة للآراء المختلفة في كل مسألة لا تدع مجالًا للتعرف على أسباب الاختلاف في كل منها.

وقد اتبع نفس الطريقة فقيهان شافعيان هما الدمشقي (م ۷۸۰هـ) في كتابه (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) حيث بيّن – في مختصر مفيد – كثيرا من مسائل الاختلاف والوفاق مجردة عن الدليل والتعليل، ولم يقتصر على خلافات الأئمة الأربعة بل شمل غيرهم كذلك في أسلوب سهل، ثم الشعراني (م ۹۷۳هـ) في كتابه (الميزان الكبرى)، حيث أرجع اختلاف الآراء بصورة أو بأخرى – إلى فكرة التوازن، حيث تتجمع الآراء المتشددة في كفة بينما تتجمع الآراء الميسرة في كفة أخرى، ومن هنا كان اسم الكتاب. وقد استند بعض من لا يرون الأخذ بفكرة الدراسة المقارنة إلى ما في كتاب الشعراني من مقابلات لانتقاد هذه الطريقة.

  1. أما المرحلة الثالثة من علم الاختلاف فتتمثل في تناول الفقه من وجهة نظر مذهب معين مع عدم الإشارة إلى غيره من المذاهب إلا حيث تدعو الحاجة – إما لأصالة الرأي المخالف أو خصوصيته- الى توضيح رأي المذهب موضوع البحث. وتمتاز هذه الطريقة بعدم الحاجة إلى استمرار مقارنة آراء المذاهب في كل مسألة مهما صغرت. وقد بدأ استخدام هذه الطريقة مبكرًا الطحاوي (م ۳۲۱هـ) في (المختصر)، ولكنه اقتصر على الخلافات داخل المذهب الحنفي. كما أن الموسوعة الحنفية (بدائع الصنائع) للكاساني (م ٥٨٧) لا تخلوا من المقارنة المستمرة مع الفقه إلى الشافعي.

غير أن الكتاب الذى يمثل هذه الطريقة أحسن تمثيل هو المغنى لابن قدامة (م ٦٢٠هـ) حيث استخدم المنهج المقارن بصورة بارعة، فهو وإن كان يعرض أساسًا للفقه الحنبلي من خلال شرحه لكتاب الخرقي (م ٣٣٤هـ) إلا أن تعرضه لآراء المذاهب الأخرى وللآراء السابقة على نشأة المذاهب لا يحدث إلا حيث تدعو الحاجة ويكون أساس الخلاف راجعًا إلى مبدأ جوهري في كل مذهب، وتختلف الإشارة حينئذ إلى الرأي المخالف حسب الظروف، فقد يكتفي بكلمة وقد تطول إلى صفحة كاملة. كما يهتم ابن قدامة ببيان الاتفاق بين المذاهب وبذلك تتميز طريقته في المقارنة ببيان وجوه الخلاف ووجوه الاتفاق

وقد سبق المغنى في ذلك كتاب (المحلى) لابن حزم (م 456هـ) غير أنه يتسم بالحدة في مناقشة آراء مخالفه.

وقد استمر استعمال هذه الطريقة فنجد كتاب (الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير) وهو مرجع في فقه الزيدية لمؤلفه السياغي (م 1221هـ) يستعمل هذه الطريقة، وكذلك كتاب (شرح النيل وشفاء العليل) لمحمد بن يوسف أطفيش وهو من مراجع الفقه الإباضي.

  1. ومع تركز انتشار المذاهب في المناطق المختلفة من ناحية (الحنفي في تركيا والهند، المالكي في شمال أفريقية، الشافعي في إندونيسيا، الحنبلي في شبه الجزيرة) ووقوف حركة الاجتهاد من ناحية أخرى، تركز اهتمام الفقهاء منذ القرن التاسع الهجري في دراسة مذاهبهم الخاصة وبحث وجوه الاختلاف داخل المذهب الواحد إما بين صاحب المذهب وتلاميذه أو بين التلاميذ أنفسهم، وتطور هذا البحث إلى وضع قواعد الترجيح داخل المذهب الواحد للوصول إلى تحديد الرأي الراجح في كل مسألة والذى على أساسه يكون الإفتاء والقضاء. وأصبح السائد مثلا في مختلف بلاد الدولة العثمانية الرجوع إلى الراجح من مذهب أبى حنيفة، والمرجع الرئيسي في ذلك هو (رد المحتار) لابن عابدين، وما يستتبعه ذلك الاتجاه من اهتمام الدراسات الفقهية بالمذهب السائد في كل دولة.

(د) ونورد فيما يلى نموذجا لطريقة عرض مسائل الخلاف – داخل المذهب الواحد – مما كتبه الدبوسي في (تأسيس النظر) تحت قسم الخلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه أبى يوسف ومحمد بن الحسن:

الأصل عند أبى حنيفة أن ما يعتقده أهل الذمة ويدينونه يُتركون عليه. وعندهما لا يتركون. وعلى هذا مسائل:

منها أن الذمي إذا تزوج امرأة ذمية في عدة زوج ذمى يتركان عند أبي حنيفة، وعندهما يفرق بينهما.

ومنها إذا تزوج الذمى ذات رحم محرم منه لا يفرق بينهما، ما لم يترافعا إلى حاكم المسلمين عنده، وعندهما إذا رفع أحدهما يفرق.

ومنها إذا تزوج المجوسي أمه ودخل بها ثم أسلم وقذفه إنسان بالزنا يحد قاذفه عند أبي حنيفة لأنهما عنده كان يقران على ذلك فلم يكن الدخول بها زنا فيحد قاذفه، وعندهما لا يحد.

ومنها أن المجوسي إذا تزوج ذات رحم محرم منه لزمته النفقة عنده لأنهما يقران على ذلك، وعندهما لا نفقة عليه لأنهما لا يقران على ذلك العقد.

ومنها إذا تزوج ذمية على أن لا مهر لها جاز العقد عنده ولا مهر لها وإن أسلما، وعندهما يجب لها مهر مثلها إذا أسلما، وإن طلقها قبل الدخول وجب لها المتعة([4]).

(هـ) ونورد مثالا آخر مما كتبه ابن رشد في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) كنموذج لطريقة عرض (اختلاف الفقهاء) في مرحلة تالية، وذلك ضمن باب (الهبة):

ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب جواز الاعتصار في الهبة، وهو الرجوع فيها.

فذهب مالك وجمهور علماء المدينة أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث دينا أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق الغير، وأن للأم أيضاً أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا، وقد روى عن مالك أنها لا تعتصر؛

وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه؛

وقال أبو حنيفة: يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وهب لذى رحم محرمة عليه.

وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة أي وجه الله أنه لا يجوز لأحد الرجوع فيها.

وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض الآثار؛

فمن لم ير الاعتصار أصلاً احتج بعموم الحديث الثابت، وهو قوله r: (العائد في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيئِهِ).

ومن استثنى الأبوين احتج بحديث طاوس أنه قال r: (لا يَحِلُّ لِوَاهِب أن يُرْجِع في هبَتِهِ إلا الوالد)، وقال الأم على الوالد؛

وقال الشافعي: لو اتصل حديث طاووس لقلت به؛

وقال غيره: قد اتصل من طريق حسين المعلم، وهو ثقة.

وأما من أجاز الاعتصار إلا لذوى الرحم المحرمة، فاحتج بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب t أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على جهة صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بها فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يُرض منها. قالوا وأيضاً فإن الأصل أن من وهب شيئا عن غير عوض أنه لا يقضى عليه به كما لو وُعد، إلا ما اتفقوا عليه من الهبة على وجه الصدقة.

وجمهور العلماء على أن من تصدق على ابنه فمات الابن بعد أن حازها فإنه يرثها. وفي مرسلات مالك أن رجلاً أنصارياً من الخزرج تصدق على أبويه بصدقة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل، فسأل عن ذلك النبي r فقال: (قَدْ أَجِرْتَ فِي صَدَقَتِكَ وَخُذْها بميراثك) وخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن امرأة أتت رسول الله r فقالت: كنت قد تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة، فقال r: (وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَجَعَتْ إِلَيْكِ بالميراث).

وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاعتصار لأحد لعموم قوله r لعمر: (لا تشتره في الفرس الذي تصدقَ بِهِ – فإن العائد في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئهِ)، والحديث متفق على صحته.

قال القاضي: والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق، والشارع r إنما بُعث ليتمم محاسن الأخلاق([5]).

* * *

ثانيًا – تخريج الفروع على الأصول

(أ)

  1. إذا كان علم اختلاف الفقهاء يهدف إلى الرد على السؤال: لماذا اختلف الفقهاء في حكم مسألة فرعية معينة؟، والرجوع إلى الأصول التي اعتمد عليها كل رأى لتفسير الخلاف في الفروع، فإن علم تخريج الفروع على الأصول يهدف إلى الرد على السؤال: ما هو أثر الأصول في الفروع؟.
  2. وبقليل من التأمل يتبين أن العملية التي تتم في الحالتين واحدة، وهي الجمع بين الأصول والفروع لبيان أثر الأولى في الثانية.
  3. وهذه العملية تخرج بالأصول من البحث النظري إلى الواقع العملي.
  4. وهي مفيدة لدارسي كتب أصول الفقه التي صنفت على طريقة المتكلمين إذ أنها كتب عقلية محضة تبحث في القاعدة الأصولية من حيث ثبوتها وعدمه وتستدل عليها أو على بطلانها دون النظر لأثرها، فهي جافة عن المادة الفقهية في غالب مباحثها ومسائلها، فالدارس بحاجة إلى كتب تخريج الفروع على الأصول لمعرفة آثار القاعدة الأصولية على الفروع.

وقد حاولت بعض كتب أصول الفقه المؤلفة على طريقة المتكلمين إيراد أمثلة فقهية للبحوث التي تعرض لها، وذلك مثلما فعل الغزالي في كتابه (شفاء الغليل)، وابن السبكي في كتابيه (رفع الحاجب عن ابن الحاجب) و(الإبهاج بشرح المنهاج).

  1. ويبقى بعد ذلك أن الفرق بين هذه الكتب المؤلفة على طريقة المتكلمين وتخللتها الفروع الفقهية، وبين الكتب التي صنفت على طريقة الفقهاء وتخللتها هذه الفروع أيضًا، أن الأولى تذكر الفروع لتبين أثر القاعدة لا للاستدلال عليها أو على صحتها، والثانية تذكرها لإثبات القاعدة الأصولية أو للاستدلال على صحتها.

٦. وهذه الثانية – أي كتب الأصول على طريقة الفقهاء – تعتبر من أوائل الكتب التي تعرضت لأثر الأصول في الفروع.

(ب)

  1. وأول كتاب يلفت النظر هو كتاب (تأسيس النظر) للدبوسي الحنفي (م ٤٣٠ هـ) وهو وإن كان قد وضع لبيان الأصول التي اليها يرجع الخلاف بين فقهاء المذهب الحنفي وبينهم وبين مالك والشافعي، ولم يوضع لبيان أثر الأصول في الفروع خاصة، إلا أنه لم يخل عن جملة يسيرة من القواعد الأصولية التي يرجع إليها في الخلاف.
  2. ثم كتاب (تخريج الفروع على الأصول) للزنجاني (م ٦٥٦هـ) وهو الكتاب الذي يعتبر بحق أول كتاب صنف في أثر الأصول في الفروع كفن قائم بذاته، وهو خاص بأصول الأحناف والشافعية وفروعهما المبنية عليهما فقط، دون التعرض للمذاهب الأخرى.
  3. ثم (مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول) للإمام الشريف أبي عبد الله محمد بن أحمد المالكي التلمساني (م ۷۷۱هـ) تعرض فيه للمسائل الأصولية التي وقع فيها الخلاف، ومن ثم عرض لأثرها في الفقه بين المذاهب الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي، وهو وإن كان صغيراً مختصراً إلا أن فيه من الفوائد الجمة ما لا يخفي على الباحث البصير، ولا سيما أنه يتناول أثر القواعد الأصولية في فقه الأئمة الثلاثة.
  4. كما خصص ابن السبكي (م ۷۷۱هـ) القسمين الرابع والخامس من كتابه (القواعد والأشباه والنظائر) للمسائل الكلامية والأصولية والنحوية التي تنبني عليها فروع فقهية.
  5. كما أفرد الإسنوي (م ۷۷۲هـ) كتابين لتخريج الفروع على الأصول أحدهما: (الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية)، والثاني (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول).
  6. ولأحد الشيعة – غير معروف الاسم – كتاب أسماه (كشف الفوائد من تمهيد القواعد) مخطوط بدار الكتب المصرية، ذكر في مقدمته أنه ألفه في تخريج الفروع على الأصول وفق الإسنوي، وفي ذيله رسالة تفهرس للمسائل حسب أبواب الفقه، وقد فرغ من تأليفه سنة ٩٦٨هـ([6]).
  7. ولمحمد بن عبد الله الثمرتاشى الحنفي (م ١٠٠٤هـ) كتاب أسماه (الوصول إلى قواعد الأصول)، مخطوط ذكر في مقدمته أنه سار به سيرة الإسنوي في التمهيد([7]).
  8. ومن جيد ما كتب في الموضوع من المعاصرين (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء) للدكتور مصطفي سعيد الخن.

(ج)

  1. و(كتاب تخريج الفروع على الأصول) للزنجاني محاولة منهجية ناجحة ونموذج رائع لمخطط يرسم علاقة الفروع والجزئيات من أحكام الفقه بأصولها وضوابطها من القواعد والكليات ضمن إطار لتقييد الاختلاف بين المذهبين الشافعي والحنفي، وبيان الأصل الذي ترد إليه كل مسألة خلافية فيهما.
  • والكتاب غير مستوعب لفروع الفقه، ولا الكثرة منها وإن كان مستوعبًا لأكثر الأبواب، وقد صرح بذلك في مقدمته واعتذر عنه إذ يقول: “فبدأت بالمسألة الأصولية التي ترد إليها الفروع في كل قاعدة، وضمنتها أكبر الحجة من الجانبين ثم رددت الفروع الناشئة منها إليها، فتحرر الكتاب مع صغر حجمه حاويًا لقواعد الأصول جامعًا لقوانين الفروع. واقتصرت على ذكر المسائل التي تشتمل عليها تعاليق الخلاف، رومًا للاختصار، وجعلت ما ذكرته أنموذجًا لما لم أذكره..”.
  • وقد ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أن القدرة على التفريع لا تكون إلا بمعرفة وجه الارتباط بين الأحكام الفرعية وأدلتها “فالذي لا يهتدى إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأدلتها – التي هي أصول الفقه – لا يتسع له المجال ولا يمكن التفريع عليها بحال”.
  • لذلك كان طبيعيًا أن لا يقصد إلى أن يكون كتابه مصنفًا في أصول الفقه، أو كتابًا في القواعد أو الفروع، وإنما أراده كتابًا يجمع بين الأصول والفروع في مسلك متميز – لم يجد من سلكه من قبل – يبتغى الدلالة على الطريق، طريق معرفة بناء فروع الأحكام على أصولها، وذلك برد الجزئيات إلى الكليات ليتسنى التفريع وإمكان إيجاد الحلول لما يجد من حوادث لا تتناهى مع الزمن.
  • هذا ويلاحظ أن المؤلف قد اقتصر في البحث على مذهبي الأحناف والشافعية، إلا ما كان من نقله مسألة في الطلاق عن الإمام مالك رحمه الله (ص ۱۲).
  • وواضح أنه لم يقتصر في الضوابط على مسائل أصول الفقه، بل كان للقواعد الفقهية عنده دور ملحوظ حتى أنه تجوز في استعمال كلمة الأصول في بعض الأحيان حتى شملت مع أصول الفقه قواعد الفقه.
  1. ولعله من المفيد أن نشير إلى أهم الفوارق بين طريقة الزنجاني وطريقة الدبوسي في كتابه (تأسيس النظر) الذي سبق أن أشرنا إليه:

أ- فالدبوسي كان ملاك الأمر عنده بيان الأصول التي إليها مرد الاختلاف بشكل عام، وأنه لم يلتزم السير وراء أبواب الفقه بحيث يضبطها بتخريج فروعها على الأصول، وإنما كانت مهمته أن يأتي بالأصل الذى يقوم عليه الاختلاف ثم يأتي بأمثلة مما يتفرع عليه من مسائل، غير حريص على أن تكون تلك المسائل منتمية إلى باب معين من أبواب الفقه، فقد تأتى متقاربة، وقد تأتى من عدة أبواب.

أما الزنجاني فقد قامت طريقته – كما تقدم – على السير وراء أبواب الفقه ملتزمًا تخريج فروعها على الأصول التي تنتمى إليها ضمن حدود المذهبين الشافعي والحنفي.

فإذا كان المهم عند الدبوسي أن تنسب المسائل المنثورة في أبواب الفقه المختلفة إلى الأصل الذي تفرعت عنه، فإن الزنجاني يسلك المنهج الذى يؤدى إلى ضبط فروع الكتاب أو الباب الفقهي بضوابط من الأصول أو قواعد الفقه بحيث تصبح الفروع منتظمة في سلك يردها مجتمعة أو على انفراد لتنطوي كلها تحت ذلك الكتاب أو الباب الذي كان عنوان تلك الفروع، لذا فقد تنتمى الجزئيات ضمن الباب الفقهي إلى عدة ضوابط، ولكنها – إلا في النادر – لا تخرج عن انتسابها إلى ذلك الباب.

وهكذا نجد أنفسنا أمام محاولة لضبط فروع الفقه في المذهبين من جهة، والتزام خط متساوق مع تقسيمات الفقهاء من جهة ثانية، ومحتوى كتاب التخريج أمثلة لذلك.

  • ثم إن الزنجاني قد أكثر من مسائل أصول الفقه بينما لم يأت الدبوسي إلا بعدد يسير منها.
  • كما أن الدبوسي لا يُعنى بتحرير مسألة الأصول أو القاعدة الفقهية من ناحية الاحتجاج لها وتأييد المعنى الذي قامت عليه بل يكتفي – إلا نادرًا – بإيراد تلك المسألة أو القاعدة وكأنه يعتبرها من المسلمات، وعلى العكس من ذلك صنيع الزنجاني([8]).

(د)

وقد تنوعت طرق التأليف في هذا العلم:

  • فالدبوسي – كما رأينا – لم يلتزم أبواب الفقه، ولكنه قسم كتابه إلى ثمانية أقسام بحسب الفقهاء الذين اختلفوا في الأصول:

فقِسم للخلاف بين أبى حنيفة وبين صاحبيه محمد بن الحسن وأبي يوسف،

وقِسم للخلاف بين أبي حنيفة وأبى يوسف وبين محمد بن الحسن

وقسم للخلاف بين أبى حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف،

وقسم للخلاف بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن،

وقسم للخلاف بين محمد بن الحسن والحسن بن زياد (وثالث) وبين زفر،

وقسم للخلاف بين الحنفية ومالك،

وقسم للخلاف بين محمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر وبين ابن أبي ليلى،

وقسم للخلاف بين محمد بن الحسن والحسن بن زياد و زفر وبين الشافعي.

  • أما الزنجاني فإنه – كما رأينا – قد صنف كتابه وفقًا لأبواب الفقه.
  • ثم جاء التلمساني المالكي (م ۷۷۱هـ) والإسنوي الشافعي (م ۷۷۲هـ) فصنفا كتابيهما على مباحث أصول الفقه، إذ تتبعا القواعد الأصولية وفقًا لترتيبها من علم أصول الفقه وبيَّنا الخلاف فيها وأثره في الأحكام الفرعية.

(هـ)

ونتناول كتاب الإسنوي بشيء من التفصيل:

  • يعتبر (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) للإسنوى من أهم الكتب التي صنفت في تخريج الفروع على الأصول، لكونه لم يترك قاعدة أصولية مهما كانت إلا وتعرض لها، وحاول أن يذكر لها فرعًا فقهيًا، إلا أنه يفقد كثيرًا من أهميته هذه لأنه محصور فقط على الخلاف في القواعد الأصولية عند الشافعية، دون التعرض لمذاهب الغير فيها إلا نادرًا، بينما نجد الزنجاني في (تخريج الفروع على الأصول) يتعرض لمذهب الشافعي وأبى حنيفة في القاعدة الأصولية، وكذلك فعل ابن التلمسانى في (مفتاح الوصول) وزاد فيه التعرض لمذهب الإمام مالك، ولذلك كان أثر القواعد الأصولية في الفروع الفقهية أوضح في كتابيهما منه في كتاب الإمام الإسنوي حيث حصر نفسه على مذهب الشافعي.
  • ويجد المتتبع (للتمهيد) أن معظم الفروع الفقهية التي يذكرها كأثر للقاعدة الأصولية تدور حول الطلاق وألفاظه، وقد بلغت ما يقارب الثمانين بالمائة من مجموع الفروع الفقهية التي ذكرها، ولذلك لا يجد الباحث فيه أثر الأصول جليًا واضحًا كما لو كانت الأمثلة عامة لجميع أبواب الفقه الإسلامي الواسع والذي تأثر وبدون شك في جميع أبوابه بالقواعد الأصولية، وبنى عليها.

بينما نجد الزنجاني يذكر الفروع الفقهية المختلفة من العبادات والمعاملات والأنكحة، وغيرها مما جعل لكتابه رونقًا يظهر فيه أثر القواعد واضحًا، بل رتب كتابه – كما أشرنا من قبل – على أبواب الفقه، ليظهر أثر الأصول في جميع أبوابه، وهذا عمل عظيم وجهد كبير نافع لم يسبق الزنجاني به أحد. وكذلك فعل ابن التلمساني إذ ذكر أمثلته من فروع الأبواب المختلفة، إلا أنه رتب كتابه حسب ترتيب القواعد الأصولية.

  • وقد شرح الإسنوي منهجه في مقدمة كتابه فقال : “أذكر أولًا المسألة الأصولية بجميع أطرافها، منقحة مهذبة ملخصة. ثم أتبعها بذكر شيء مما يتفرع عليها، ليكون ذلك تنبيهًا على ما لم أذكره. والذي أذكره على أقسام :

فمنه ما يكون جواب أصحابنا فيه موافقًا للقاعدة.

ومنه ما يكون مخالفا لها.

ومنه ما لم أقف فيه على نقل بالكلية، فأذكر فيه ما تقتضيه قاعدتنا الأصولية، ملاحظًا أيضًا للقاعدة المذهبية، والنظائر الفرعية.

وحينئذ يعرف الناظر في ذلك مأخذ ما نص عليه أصحابنا وأصلوه وأجملوه أو فصلوه، ويتنبه به على استخراج ما أهملوه، ويكون سلاحًا وعدة للمفتين، وعمدة للمدرسين، خصوصًا المشروط في حقهم إلقاء العِلمَين والقيام بالوظيفتين، فإن المذكور جامع لذلك، وافٍ بما هنالك لا سيما أن الفروع المشار إليها مهمة مقصودة في نفسها بالنظر، وكثير منها قد ظفرت به في كتب غريبة، أو عثرت به في غير مظنته، أو استخرجته أنا وصورته، وكل ذلك ستراه مبينًا إن شاء الله تعالى.

وقد مهدت بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذى مطلب، فلتستحضر أرباب المذاهب قواعدها الأصولية وتفاريعها، ثم تسلك ما سلكته، فيحصل به إن شاء الله تعالى لجميعهم التمرن على تحرير الأدلة وتهذيبها، والتبين لمأخذ تضعيفها وتصويبها، ويتهيأ لأكثر المستعدين الملازمين للنظر فيه نهاية الأرب وغاية الطلب وهو تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول، والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوى التخريج…”([9]).

* * *

الوضع المعاصر للنظريات الفقهية

الاتجاهات والسمات

(أ)

شهد القرن الرابع عشر الهجري بداية يقظة في العالم الإسلامي نتيجة الاحتكام العنيف بينه وبين العالم الغربي عامة والأوروبي خاصة، في ظل الاستعمار والاحتلال العسكري وحركات المقاومة والتحرير، وما تبعها من استقلال معظم البلاد الإسلامية وخروج المستعمر بقواته العسكرية تاركًا وراءه استعمارًا ثقافيًا وحضاريًا وسياسيًا ما زالت البلاد الإسلامية تحاول التخلص منه.

وفي اطار هذا الصراع وُجِدت ثلاث اتجاهات رئيسية لتحرك رد الفعل لدى المسلمين:

  1. اتجاه اقتنع بالغرب ثقافة وحضارة ودعا إلى ضرورة الأخذ عنه في كل مظاهر الحياة خيرها وشرها، وبالتالي تضييق نطاق الثقافة الإسلامية إلى دائرة العقيدة والعبادات والأحوال الشخصية وانحسارها عن باقي مظاهر الحياة، وإن كانت هذه المجالات الثلاث لم تنج من مخططات القضاء البطيء عليها كذلك.
  2. واتجاه رأى رفض الغرب كلية ثقافة وحضارة والتمسك بالتراث الإسلامي كما وصل إلينا، ودعا إلى المحافظة على صيغ الحياة ومظاهرها كما كانت تمارس في عصور النهضة الإسلامية، إلى جانب التمسك بقيم الإسلام ومبادئه، وانحصر خط التراث الإسلامي عند أصحاب هذا الاتجاه في إعادة طبعه وتحقيقه والعكوف على دراسته وجمع المسلمين حوله.
  3. واتجاه ثالث رأى أن الحضارة والتقدم اللذين أحرزهما الغرب في مجالات العلوم الطبيعية وتطبيقاتها العملية ليسا سوى امتداد للنهضة العلمية التي أخذتها أوروبا عن المسلمين في أوج حضارتهم وطورتها، بينما أهملها المسلمون وغرقوا في سبات عميق أدى إلى حالة الضعف التي مهدت لسيطرة الغرب على بلاد الإسلام واستعمارها، وبالتالي ينبغي أن يهتم المسلمون بهذه العلوم التي هي تراث عام للإنسانية، أما في العلوم الإنسانية وما تقوم عليه من قيم وأخلاقيات فينبغي المحافظة على التراث الإسلامي وتطويره ليتلاقى مع حاجات العصر، ويحقق مصالح المسلمين كما حققها لهم في نهضتهم الأولى.
  4. وكان الاتجاه الثاني قد عبر عن نفسه بعدد متزايد من المؤلفات والمقالات التي تتسم بطابع الدفاعية حيث تهدف إلى إبراز محاسن الإسلام والرد على مطاعن أعدائه من أنصار الاتجاه الأول الذين كونوا جبهة واحدة لتنفيذ مخطط إبعاد الإسلام عن مجالات الحياة.

وقد أدت هذه الحركة الدفاعية دورها في استعادة المسلمين ثقتهم بثقافتهم وحضارتهم والتمسك بدينهم وقيمهم، وأصبح الاستمرار في الإنتاج الذي يتسم بسمة الدفاعية تكرارًا لنفس المقولات.

  1. وفي نفس الوقت بدأ الاتجاه الثالث يكسب المزيد من المناصرين، وطُرحت القضية في عدة صور تدور حول مسألة أساسية -وإن تعددت الأسماء- فسواء دار الحوار حول التراث والمعاصرة، أو الثبات والتطور، أو فتح باب الاجتهاد، أو أسلمة العلوم، فالقضية المطروحة دائما هي كيف يجتاز المسلمون الفجوة الحضارية الناتجة عن توقف الاجتهاد وتوقف الحياة الإسلامية عدة قرون وكيف يستأنفون اليوم حياة معاصرة محكومة بالإسلام.

في إطار هذه القضية المطروحة منذ عشرات السنين، وفى محاولة لتحسس الطريق بدأت بعض الدراسات تجلي رأى الإسلام في المشاكل المعاصرة تارة في صورة كتابات عامة وتارة في صورة أبحاث جامعية.

  1. وقد أدت الكتابات العامة دورها كذلك في توعية المسلمين وتوضيح الخطوط العريضة والمعالم العامة للحياة الإسلامية كما يمكن أن تعاش اليوم، ونتج عن هذا الوعي تيار إسلامي يزداد قوة وعمقًا وانتشارًا يوما بعد يوم. ولكن الإنتاج في صورة الكتابات العامة أصبح تكرارًا لم يعد له ما يبرره.

(ب)

بقى أن نبحث أمر الكتابات الجامعية التي تهم موضوعنا (النظريات الفقهية) بالدرجة الأولى:

اتجهت معظم هذه الدراسات -والتي تمَت في إطار أطروحات جامعية للحصول على درجة الدكتوراه- اتجاهًا يتسم بسمات واضحة يمكن تلخيصها في: التحديث، والمقارنة، والتنظير، والتطوير:

  1. التحديث: باختيار موضوعات من واقع الحياة المعاصرة والمشاكل التي يواجهها المسلمون ومحاولة التعرف إلى وجهة نظر الإسلام فيها، وإذا كانت نتيجة هذه الأبحاث لا تصل إلى درجة الاجتهاد من جانب هؤلاء الباحثين لقصور استعدادهم عن أداء هذا الدور، إلا أن جهودهم في البحث في التراث الإسلامي واستخراج ما يتعلق بموضوع بحثهم من بطون عشرات بل ومئات كتب التراث قد أدى خدمة كبيرة في تيسير مادة التراث وتقريبها إلى غيرهم من الباحثين، ويشبه جهدهم في هذا المجال جهد ابن نجيم وغيره في فن (الجمع).
  2. المقارنة: بعقد المقارنة في الموضوع محل البحث بين آراء علماء الإسلام بمختلف مدارسهم الفقهية وبين النظريات الأخرى قديمها وحديثها في نفس الموضوع، وقد ساعد استخدام منهج الدراسات المقارنة الباحثين في اكتشاف الكثير من الكنوز التي لم تكن تخطر على بالهم لولا الحرص على توفية المقارنة حقها.
  3. التنظير: بتحاشي طريقة التأليف التي اتُبعت في معظم الكتب القديمة من جمع المسائل الفرعية، وتحديد النظرية التي تكمن وراء هذه المسائل، وذلك ببيان التعريفات والخصائص والشرائط والأركان والآثار وغير ذلك من الأمور العامة التي تأتي المسائل الفرعية كأمثلة تطبيقية لها.

وقد نجحت معظم الدراسات في هذا الأمر بحيث أصبحت – من هذه الناحية – إضافات حقيقية في مجال النظريات الفقهية.

  1. التطوير: لم يحظ اتجاه التطوير بمثل ما حظيت به اتجاهات التحديث والمقارنة والتنظير من اهتمام، ونقصد بالتطوير السير بالعلوم إلى الوجهة التي كانت ستتجه إليها لو لم يقف الاجتهاد والإبداع الفكري عمومًا عند العلماء في القرون الأخيرة.

والمثال الوحيد الذي يحضرنا ممن سار في اتجاه التطوير بهذا المعنى هو محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة) حيث حاول دفع الكتابة في علم مقاصد الشريعة خطوة بل خطوات بعدما وصلت إليه على يد العز ابن عبد السلام والشاطبي.

أما في مجال القواعد فنجد أن الكتابات المعاصرة في الموضوع على قلتها لم تتقدم بالموضوع كثيرًا عما فعله الأقدمون، واقتصر جهد المعاصرين على شرح القواعد التي نصت عليها مجلة الأحكام العدلية وذلك فيما عدا محاولة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء والأستاذ مصطفى أحمد الزرقا تصنيف القواعد بين أساسية وفرعية، وإضافة قواعد جديدة.

أما عملية الحصر والتصنيف الكاملين للقواعد، واستمداد نظريات عامة – من منطلق هذه القواعد – على مستوى الشريعة ككل ثم على مستوى كل قسم منها ثم كل باب من أبوابها والذي نتصور أن اتجاه كتابات الأقدمين في القواعد كان يسير باتجاهها فلم يتعرض له أحد بعد فيما نعلم.

* * *

———————————————————————————————————-

([1]) من كتاب “التنظير الفقهي” للأستاذ الدكتور جمال الدين عطية. الطبعة الأولى، 1987.

([2]) من مقدمة أبى الوفا الأفغاني لكتاب واختلاف أبى حنيفة وابن أبي ليلى، طبعة ١٣٥٧هـ.

([3]) المطهري ج ۳ ص ۹۰.

([4]) تأسيس النظر للديوسي ص ۱۹، ۲۰.

([5]) ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج ۲ ص ۳۳۲، ۳۳۳ طبعة الحلبي.

([6]) د. أديب ص ۲۰، ۲۱.

([7]) د. أديب ص ۲۰، ۲۱.

([8]) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: مقدمة د. محمد أديب صالح، د. محمد سلام مدكور ص ١٣ – ٤٣.

([9]) ص ٤٦ – ٤٧.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر