أولاً- خلفية تاريخية:
بدأ القرن العشرون وقد أصبح للأزهر في حياتنا الثقافية ما يجعله ينساب في نسيجها كله، لم يعد مجرد قلعة للعلم والدين، ولا مجرد سياج يحمى حقوق الأمة ويعبرعن إرادتها ويصل بصوتها إلى الحكام والأمراء، بل أصبح الأزهر -إضافة إلى ذلك كله- يرى نفسه قائد العقل المسلم، وتهيأت في داخله منذ أواخر القرن التاسع عشر حركة إصلاحية سعت إلى تطوير مؤسساته، وتعديل مناهجه، وبدأت قوانين تنظيم الأزهر يتتابع صدورها، ومن أبرزها في نهاية القرن التاسع عشر القانون الذي وضع في يوليو سنة 1896، وأشرف على تنفيذه مجلس إدارة يضم طائفة من كبار علماء مصر والإسلام، خلصت نيتهم وتوافرت لديهم وسائل التنفيذ وإصرارهم عليه، وهم المشايخ: حسونة النواوي، ومحمد عبده، وسليم البشرى، وعبد الكريم سلمان، وسليمان العبد. وكان لكل واحد من هؤلاء جهوده العلمية وإنتاجه الفكرى في مجال إصلاح العقل، محمد عبده في «رسالة التوحيد» وتقاريره الإصلاحية، وسليمان العبد في «باكورة الكلام»، وغيرهم ممن تصدروا للتدريس في الجامع الأزهر ومدرسة دار العلوم.
وقد جاء قانون تنظيم الأزهر على أيدى هؤلاء ليضم من وجوه الإصلاح ما رأوه كفيلاً بإنهاض الأزهر، ولأول مرة وضعوا شروطاً للانتظام في سلك الجامع الأزهر، فقرروا ألا يعتبر من طلبة الأزهر إلا من بلغ الخمس عشرة سنة على الأقل، وأن يكون له دراية بالقراءة والكتابة، وحافظاً نصف القرآن الكريم. وقسمت العلوم إلى قسمين: مقاصد ووسائل.
القسم الأول: ويضم مواد التوحيد والأخلاق الدينية والفقه وأصوله، والتفسير والحديث.
والقسم الثاني: ويستوعب النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق، ثم الحساب والجبر والعروض والقافية.
وشجع القانون الطلبة بوضع مكافآت لمن يتفوق في تاريخ الإسلام، أو يبرز في الإنشاء قولاً وكتابة، واللغة متنًا ومبادئ، والهندسة وتقويم البلدان. ومنع القانون التقيد في الدراسة بكتب دون أخرى، ومنع الطلبة من الاشتغال بعلوم المقاصد إلا بعد تحصيل وسائلها، وحرم قراءة التقارير والحواشي في السنوات الأربع الأولى وأجازها بعد ذلك، وجعل أقل مدة للدراسة اثنى عشرة سنة، وأكثرها خمس عشرة سنة، وجعل الامتحان على مرحلتين، الشهادة الأهلية، وهي لمن قضى ثماني سنوات فأكثر، والشهادة العالمية وهي لمن قضى اثنى عشرة سنة فأكثر، وجعل لحامل كل شهادة أهلية وظائف معينة.
لقد فتح هذا القانون أبواب الأزهر كلها وضرب في كل واحد منها بسهم من الإصلاح، ولفت الذهن إلى أن هناك خيرًا غير الذي عُرف إلى يوم وضعه، وأن التمسك بما كان عليه من قبلنا لا معنى له ما دام لا يطابق الواقع ولا يتفق مع حاجات العصر. ولا شبهة في أن الأزهر قد تغير بعد القوانين الإصلاحية، إن لم يكن من جهة العلم وتحصيله، فمن جهة قابلية أهله للرقي، فقد أصبحوا طلاب إصلاح بعد أن كانوا لا يطيقونه إلا مغلوبين على أمره.
وقد سمى هذا القانون بإصلاح الشيخ محمد عبده، وقد ظل مطبقًا عشر سنوات، ثم انفرط منهجه، وغاب أثره بخروج الشيخ محمد عبده من مجلس الإدارة، ثم وفاته سنة 1905، إلا أن القانون وضع تلاميذ الأستاذ الإمام على درب جديدة، ومسالك مستحدثة، تمثلت في الثورة على ما كان في الأزهر من مناهج للدرس ومراجع الدراسة. وأظهرت كوكبة من تلاميذ الإمام محمد عبده مقدرة فائقة في النقد المنهجي كان في مقدمتهم حسين والي في كتابيه «التوحيد» «وكلمة التوحيد»، والشيخ بدر الدين الحلبي في كتابه المهم «التعليم والإرشاد»، والعلامة طنطاوى الجوهرى في مؤلفاته وتفسيره، والشيخ محمد مصطفى المراغي -أستاذ العلامة محمود شلتوت- في أعماله وأقواله. ولقد كان هذا التطور عظيمًا إذا قيس بالقرن التاسع عشر الذي تراكمت فيه العصبية المذهبية في رحاب الأزهر على نحو أرهق العقل وشوه النقل، حتى يروي صاحب التعليم والإرشاد: «لقد كان أهل المذاهب في مصر من نصف قرن – الكتاب صادر سنة 1906- مضى كالدول المتحاربة، لا يتأخر صاحب مذهب عن أذية صاحب مذهب آخر متى لاحت له فرصة وأمكنته. ولقد سمعت الشيخ عبد الرحمن البحراوى يقول: «كنا إذا خرجنا من الأزهر للحضور على السيد أحمد الكتبي مفتى الحنفية بمكة آخر عمره بزاوية العيني بقرب الأزهر، خرجنا وكل واحد منا قد جعل عباءته على رأسه يدارى بها شخصه عن الناس، وكان من يسمع بحالنا، يسمعنا من القول ما كنا لا نجد بدًّا من تحمله والصبر عليه». يضاف إلى ذلك الاعتماد في الدرس على كتب المتأخرين، وهي عصية على الفهم، لا يتسع بها عقل ولا ينمو من خلالها فكر، وأصبحت قراءة المقررات الدراسية والامتحان فيها من أشد الأمور؛ حتى ليذكر الشيخ بدر الدين الحلبي أنه في سنة 1317هـ كان الناجحون في امتحان الكفاءة من طلبة الأزهر في فقه أبى حنيفة ثلاثة طلاب، اثنان من سوريا والثالث من مصر، وذلك من جملة عدد من دخلوا قاعة الامتحان وكانوا أكثر من ثلاثمائة. لقد كان توجيه الأستاذ الإمام إلى تعديل المناهج وإصلاح المؤسسة الأزهرية عملاً رائدًا، صحيح أنه لم يسر به إلى نهاية الشوط ولكن جاءت أجيال من مدرسته لتعمل على إكمال رؤيته وإنجاز رسالته، ويعد الانفتاح على المذاهب الأربعة من أهم حصاد غرسه، وهو ما نادى به في مذكراته وفي كتابه «الإسلام والنصرانية»، بل إنه دعا إلى الانفتاح على الفقه الإسلامي كله بمذاهبه المختلفة، وهذا الإنجاز جاء بعد عصور ورث فيها الأزهر روح التعصب المذهبي حتى يروي الكمال بن الهمام عن أحد علماء الحنفية منع المناكحة بين أهل السنة والاعتزال، وكان الشيخ محمد مصطفى المراغي -المدرس والقاضي وشيخ الأزهر بعد ذلك- هو الذي أكمل المسيرة، ونزل بالأفكار إلى أرض الواقع في قوانين المحاكم وفي مواد الدراسة، والمراغي -كما وصفه محمود شلتوت- ما خرج بروحه وعلمه وعقله وتفكيره عن أن يكون تلميذًا للإمام محمد عبده.
لقد تحركت مياه كثيرة في عالم الفكر والتشريع، وأفرز الواقع جبهات لمقاومة التبشير ومجابهة الاستجلاب التشريعي، وأصبح الانفتاح المذهبي ضرورة لأمرين:
الأول: الإيمان بصحة الأصول التى تنتمي إليها كل المذاهب الإسلامية، وهي أصول واحدة ومشتركة.
الثاني: الواقع المتحرك الذي يحتاج في صناعته على عين الشريعة إلى الفقه الإسلامي كله، باعتباره وحدة متكاملة لا تفاريق مذهبية، يقول أحد تلاميذ الإمام -مؤكدًا دعوته إلى تعليم يستوعب كل المذاهب، وإلى تشريع يتعامل مع كل المذاهب-: «ولو ذهبنا نستقرئ أفراد المضار التى تنشأ من التقيد بمذهب واحد في المحاكم الشرعية لخرجنا إلى حصر ما لا يبلغه الحصر، وعد ما لا يستوعبه العد».
لقد كانت الدعوة إلى الانفتاح الفقهي على المذاهب الأربعة فكرة راودت بعض رجال الإصلاح من قبل، أشار إليها الكواكبي في «أم القرى»، وظهر لها دعاة في المغرب العربي، ولكنها في مصر بعد عصر الأستاذ الإمام تحولت إلى تيار فاعل في الحياة الفقهية والتشريعية، له أسبابه ودواعيه، ونادى الكثيرون بكتاب جامع للفروع الفقهية في المذاهب الأربعة، يضم ما هو أيسر على الناس في العبادات، وأضبط لأمورهم في المعاملات. بل هي دعوة ذات شقين: