النسق المفهومي لمقولة “لا حكم إلا لله” بين الدلالة المركزية والهامشية
The Conceptual Composition of the Statement of “The Rule Is for None but Allah” between Central and Marginal significance.
مقدمة:
ارتبطت عبارة “لا حكم إلا لله” بمرحلتين تاريخيتين متباعدتين في الزمن: فقد استشهد بها الخوارج في زمن علي بن أبي طالب t، ثم تحولت- بعد ثلاثة عشر قرناً- إلى مفهوم عُرف باسم الحاكمية الإلهية عند أبي الأعلى المودودي وسيد قطب. ثم تبنت هذا المفهوم حركاتٌ وتيارات إسلامية جهادية، وجعلته أصلاً من أصول فكرها التنظيمي والدعوي، ومعياراً في تقييم النظم السياسية القائمة والمجتمعات الإسلامية.
أثار مفهوم الحاكمية المعاصر جدالاً فكرياً واسعاً ما بين مؤيد ومعارض. فهو – في رأي البعض- مفهوم أصيل في الشريعة([1])، و-عند آخرين- مصطلح مستحدث لم يَرِد لا في القرآن ولا في السنة([2])، وإنما أفرزته أوضاع وظروف تاريخية وسياسية خاصة، أو هو تعبير لا يقدم جديداً في الواقع([3])، أو يهيمن عليه التفسير السياسي([4]). وهناك دراسات تجاوزت الأفكار المسبقة للحاكمية، وحاولت تأصيل المفهوم عبر دراسة أبعاده ودلالاته السياسية والمنهاجية، وسياقاته التاريخية، والوقوف على ملامح العلاقة بين الحاكمية والاستخلاف، وبين الحاكمية والجاهلية([5]). ويرى محمد حاج حمد أنّ الحاكميّة، كما صاغها المودودي وقطب، تسوق إلى عطالة الإنسان وسلبيّته؛ إذ تقود إلى المذهب الجبري، ويميز-بناءً على استقراء المنهجية المعرفية القرآنية- بين الحاكميّة الإلهيّة، وحاكميّة الاستخلاف (كانتا في بني إسرائيل، ولا تنطبقان على المسلمين، كما يعتقد الكاتب)، وحاكميّة البشر، التي ابتدأتها الدعوة المحمدية([6]).
في سياق مختلف، تركز هذه الدراسة على بيان الدلالة المركزية والهامشية لمقولة (لا حكم إلا لله/ الحاكمية) وكيف أن المعنى المركزي للحكم في المرحلتين التاريخيتين (وبخاصة المرحلة الثانية) قد زحزحته ظلالُ المعنى الهامشي، فقادت إلى لبس في فهم المصطلح، واضطراب في الرؤية والتشخيص على صعيد الفكر السياسي الإسلامي.
استخدم الباحث في معالجة الموضوع المنهج التاريخي للكشف عن الخلفيات التاريخية لمقولة “لا حكم إلا لله” التي تبدت مظاهرها وآثارها في المفهوم المعاصر للحاكمية. كما استخدم أيضاً المنهج التحليلي على المستويين اللغوي والشرعي للوقوف على الدلالة المركزية والهامشية لهذه المقولة التي شغلت العلماء والباحثين قديماً وحديثاً.
الإطار النظري:
لا شك أن اللغة ظاهرة اجتماعية، شديدة الارتباط والتأثر بالظروف الاجتماعية والفكرية والثقافية التي أنتجتها([7]). ولا يتم تحليل معنى اللفظ أو النص إلا بمراعاة فكرتي المقال والمقام معاً([8])، لأن الاقتصار في استجلاء معنى النص على المستوى الوظيفي (الصوتي والصرفي والنحوي)، والمستوى المعجمي، إنما يفسر الجانب المقالي فقط. لكن يبقى النص معزولاً عن مضمونه الذي انبثق عنه، وهو القرائن أي المقام والسياق([9]).
علم الدلالة semantics فرع عن علم اللغة يتناول نظرية المعنى([10]). فهو يدرس تلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني، ويعاين الجانب التطوريّ للألفاظ اللغوية ودلالاتها([11]). يولي علمُ الدلالة اهتماماً خاصاً بالعوامل الخارجية (الإنسانية والاجتماعية) المؤثرة في الألفاظ([12]).
يقسم الدكتور إبراهيم أنيس، من رواد الدراسات اللغوية واللسانيات، الدلالةَ إلى قسمين: