إن الدعوة الى التجديد في الفقه الإسلامي ليست جديدة، فقد سبق الى ذلك بل والى تحقيقه جزئياً بعض الأساتذة الكبار في العصر الحاضر أمثال الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والأستاذ عبد القادر عودة، والدكتور صبحي محمصاني وغيرهم. إلا أن بحثنا هنا يتركز على الملامح المنشودة للتجديد الفقهي، وقد حصرتها في اثنى عشر ملمحًا رئيسياً، وسنرى أن خمسة ملامح هي (3، 5، 9، 10، 11) قد أصبحت أموراً مقبولة ومتداولة من حيث المبدأ وتم تطبيقها بصورة ما في بعض الكتابات المعاصرة.
الملمح الأول: وهو يتعلق بالمادة الفقهية وماهية التجديد المطلوب فيها:
أ- ولعل أول ما نحتاجه في هذا الصدد هو تقديم اجتهادات جديدة في المسائل القديمة، بما يتفق مع تغير الظروف الزمانية والمكانية، وهذا حدث كثيرًا في تاريخ الفقه الإسلامي، بل في حياة الفقيه نفسه كما حدث مع الإمام الشافعي، فالاجتهاد حركة دائمة مستمرة والآراء الاجتهادية أياً كانت منزلة أصحابها من الفقهاء لا يجوز إسباغ صفة الثبات عليها، فالثبات لنصوص الكتاب والسنة دون غيرهما، أما الاجتهاد فينبغي أن يساير الواقع المتغير دوماً حتى يحقق مقاصد الشريعة، أما تجميده واقتصار الدراسات الفقهية على نقل أقوال السابقين وحفظها وتكرارها فهو من أهم أسباب توقف النمو في حياة الأمة الفكرية عموماً والفقهية خاصة.
والاجتهاد من فروض الكفاية أي إن من واجبات الأمة أن يكون فيها دائماً مجتهدون يقومون بهذه الفريضة، وحينئذ – فقط – يسقط الإثم عن الأمة، وإلا كان الجميع آثمين. والمقصود هنا هو وجـود المجتهد الحي الذي يعرف الواقع، ويجتهد له، ولا يغني وجود كتـب المجتهدين الذين سبقوا إلى الدار الآخرة عن وجود هذا المجتهد الحي، ومن هذا المعنى قولهم بعدم جواز خلو عصر من مجتهد. وواجب المجتهد الحي هذا لا يقتصر على الاجتهاد في المسائل المستحدثة كما لا يقتصر بالنسبة إلى المسائل القديمة على ما يسميه بعض الفقهاء المعاصرين بالاجتهاد (الانتقائي) أي من بين الآراء القديمة، فهذا الانتقاء إنما يكون عند التقنين باختيار أحد الآراء والإلزام به. أما الاجتهاد فطبيعته مطلقة غير مقيدة بالاختيار من بين آراء الأقدمين، الذي هو تطبيق لفكرة أن الأقدمين لم يتركوا للمتأخرين شيئاً، تلك الفكرة القاتلة للإبداع، والتي لم يقل بها المتقدمون أنفسهم وإنما هي من دعاوى الكسالى الطفيليين.
أنا لا أنكر وجود اجتهادات معاصرة، ولكنها بقيت خارج جسم الفقه، فلا تُدرَس في كليات الشريعة ولا تدخل في الكتب الفقهية المتداولة للثقافة الجماهيرية، وتظل كتب الفقه التراثي هي وحدها التي تدرس وهي وحدها الرائجة في المكتبات ومعارض الكتاب.
كما أني لا أقلل من قيمة تراثنا الفقهي العظيم، الذي يفوق أضعافاً مضاعفة ما تفتخر به أمم أخرى، بل وأدعو المتخصصين إلى هضمه والإفادة منه، وإنما أتكلم هنا عن كيفية هذه الإفادة، وهي في رأيي من شقين، شق للمتخصصين مفاده أن نقلد أسلافنا العظام في أنهم عاشوا عصرهم وأبدعوا، لا أن نقلدهم في التقيد بآرائهم والانصراف عن الإبداع لعصرنا، وشق لغير المتخصصين مفاده أن نضيف إلى كتب التراث عند إعادة طباعتها حواشي بالاجتهادات الجديدة، في المواضيع التي تختلف فيها هذه الاجتهادات عن آراء الفقهاء الأقدمين([1]). وذلك حتى نعين القراء غير المتخصصين على معرفة الفقه المعاصر وتمييزه عن الفقه التقليدي، ونسهم بذلك في توعيتهم بحركة التاريخ ومقتضيات هذه الحركة حتى يواكبوهـا ولا يتخلفوا عنها.
ب- العنصر الثاني من مادة التجديد الفقهي يتمثل في حاجتنا إلى تقديم اجتهادات في المسائل المستحدثة، وهذا أمر أصبح مقبولاً في الحس الإسلامي العام منه والعلمي، لأنه النتيجة الحتمية لقاعدة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، المنبثقة عن كونه الدين الخاتم، وكونه للناس كافة، ولقاعدة إن النصوص متناهية والأحداث غير متناهية التي تكلم فيها كثير من العلماء، والتي عبر عنها بشكل صريح سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ: فإن لم تجد؟ ورد معاذ t “أجتهد رأيي..”، وإقرار الرسول له.
وفي تراثنا الفقهي الكثير من التطبيقات في هذا الصدد، والتي أثرت التراث على مر الأيام، سواء في فترة نشاط الاجتهاد، أو حتى في فترة الركود التي تلت ذلك.
والفقهاء المعاصرون لا ينكرون من الناحية النظرية ضرورة الاجتهاد فيما يستجد من مستحدثات، ولكنهم لا يجرؤون من الناحية العملية على اقتحام هذا الباب متعللين بشتى الأعذار مثل عدم توفر شروط المجتهد المطلق في زماننا (مع أن في الاجتهاد الخاص الكفاية)، أو خشية الوقوع في الخطأ، (مـع ورود التشجيع بإعطاء المخطئ أجراً، مما جعل البعض يعبر عن ذلك بأن الإسلام يعطي المجتهدين الحق في الخطأ ويثيبهم على ذلك). ومَن يتجاوز منهم هذه التعلاّت، نجد بعضهم يطلق الفتاوى دون بيان منهجه في الاجتهاد، أو دون بيان دليله الشرعي، وبعضهم يقيس على أقوال الفقهاء الأقدمين في مسألة مشابهة أو غير مشابهة (مع أن القياس يكون على نصوص الكتاب والسنة وليس على نصوص الفقهاء)، أو يهرب من مواجهة المشكلة، مستعيناً بحيل ومصطلحات، مثل قولهم بالتسليم الحكمي والتنضيد الحكمي. ولا أتجاهل بطبيعة الحال وجود بعض الاجتهادات في المسائل المستحدثة المبرأة من هذه العيوب، خاصة الفتاوى والاجتهادات الجماعية التي تصدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات العلمية والرسائل الجامعية، ولكنها شأن الاجتهادات المعاصرة المشار إليها في البند السابق، تبقى خارج جسم الفقه، فلا تدرّس في كليات الشريعة، ولا تقدم للجماهير المتلهفة إلى حكم الشريعة في هذه الأمور.
والأمثلة على المسائل المستحدثة كثيرة، مثل الشخصية الاعتبارية عموماً، وبعض صور الشركات المستحدثة، والمؤسسة الفردية، ومعاملات البنوك، والتأمين، والبورصات، والممارسات الطبية الحديثة كنقل الأعضاء، والحمل بغير طريق المعاشرة المشروعة، والاستنساخ…
ج- العنصر الثالث من عناصر هذا الملمح يتمثل في أمرين:
1- ربط الأحكام بعضها ببعض، وربط الأحكام الجزئية بالمقاصد الكلية العامة للشريعة ولرسالة الإسلام، فإن الإسلام كلٌ لا يتجزأ: فالذي يتحدث عن نظام “العاقلة” في الديات، الذي يحمل العاقلة أي العصبة دية قتل الخطأ وشبه العمد ينبغي أن يذكر بنظام: “النفقات بين الأقارب ونظام المواريث”، حتى تتضح الصورة الكلية ويتقابل جانبا الغنم والغرم معًا، وبذلك ترتبط الأحكام بعضها ببعض([2])، وهذا يدعونا إلى الاهتمام بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية.
2- ضرورة التوسع في مفهوم (الفقه)، بحيث نعود إلى المفهوم اللغوي له أو نقترب منه. ونعني بالمفهوم اللغوي للفقه الاستعمال القرآني لكلمة الفقه والتي كانت تطلق على مجموع العقائد والأخلاق إلى جانب العمل والمعاملات.
وحيثما نشأت العلوم وانقسمت واستقلت علـــوم العقائد والأخلاق والتصوف، اقتصر إطلاق كلمـة (فقه) علـى مـا يتعلق بالأحكام العملية، وقد كان هذا مبرراً كافياً لإخراج العقائد والأخلاق من الفقه، ولعلنا نعلم أن كلمة (الفقه) بالمفهوم الواسع لهـا قد استخدمها الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- في كتاب (الفقه الأكبر)، وهو كتاب في العقائد. كما أن الاستخدام القرآني لها استخدام واسع ويتفق مع المعنى اللغوي لها.
وفي مرحلة تالية انقسمت المادة الفقهية المتعلقة بالأحكام العملية بدورها إلى قسمين: قسم بقي تحت عنوان (الفقه) وقسم آخر استقل بعنوان (السياسة الشرعية)، وكان معيار هذا التقسيم هو الأدلة الشرعية نفسها، فإذا كانت الأدلة تعتمد بالدرجة الأولى على النصوص، فإنها تبقى تحت مظلة (الفقه)، أما إذا كانت تعتمد علـى النصوص بصورة غير مباشرة، فإنها تندرج تحت ما نطلق عليه (السياسة الشرعية). فالأدلة المستخدمة في (السياسة الشرعية) هي المصلحة المرسلة وغيرها من الأدلة غير المباشرة.
وتحت مفهوم (السياسة الشرعية)، يندرج ما نسميه الآن بـ (القانون العام) كنظام الحكم، والمسائل المتعلقة بالنواحي الاقتصادية والمالية والعلاقات الدولية. ومن مظاهر استقلال هذه المسائل أنها لم تدرج في كتب الفقه التقليدية الكبيرة، واستقلت بها مؤلفات أخرى، مثل كتب الأموال والخراج والأحكام السلطانية والسير، وغير ذلك من العناوين التي حملتها هذه الكتب.
والجديد الذي أقترحه هنا هو أن نعيد هذه الفروع مرة أخرى إلى حظيرة الفقه:
والصورة المقترحة بالنسبة إلى العقيدة هي ربطها بالأحكام وبيان أثرها فيها، على نحو قريب من ربط الأحكام بالمقاصد، دون إدخال بحوث علم الكلام ضمن الفقه.
أما الصورة المقترحة بالنسبة للأخلاق والآداب الشرعية والمقاصد والقواعد، فإدخالها ضمن الفقه بشكل كلي وجزئي حسب الأحوال.
أما بالنسبة إلى السياسة الشرعية، فتدخل – في رأيي – برمتها ضمن الفقه، وفقاً للتقسيمات الحديثة في القانون العام، والاقتصاد، والمالية العامة، والقصد هنا هو ضبط موضوعات السياسة الشرعية بالأحكام والعقيدة والأخلاق والآداب.
د- العنصر الرابع من عناصر هذا الملمح هو أن نوضح الأحكام الشرعية الضابطة لكل علم من العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية المعاصرة، سعيًا إلى ربط هذه العلوم – المتفلتة حاليًا من ضوابط الشريعة – بمظلة الفقه، وليس المقصود طبعاً أن نضع الجوانب الموضوعية لهذه العلوم من نظريات وقوانين ودراسات ميدانية وتطبيقية داخل الفقه. والعلوم المعنية هي علوم النفس والتربية والإعلام والاجتماع والاقتصاد والسياسة والطب والطبيعة وغيرها. وأتصور أن تكون هذه بداية لتطوير هذه الضوابط ونشأة علوم بينية جديدة نتيجة الربط بين هذه العلوم وعلوم الشريعة.
الملمح الثاني: وهو يتعلق بمصادر المادة الفقهية، فالواقع أن مراجع الفقه التقليدية يرجع إليها الباحثون، كما أن مراجع السياسة الشرعية معروفة، ولكن بالإضافة إلى ذلك هناك مجموعتان ………….