تحكيم قاعدتي المصلحة والعرف في دعوة المساواة في الإرث: دراسة في الشروط وضوابط التنزيل
العدد 175
مقدمة:
يُشكل علم أصول الفقه المنارة الوضَّاءة بين العلوم الشرعية، ويعتبر مَفخرة الأمة في حضارتها وعلومها، وهو المصباح الذي ورثته الأجيال، وحمَله العلماء على مر العصور، لبيان الأحكام الشرعية في كل جديد، ومعالجة المشاكل المستجدة والطارئة.
وإذا كان لقواعد أصول الفقه هذه المزايا فإن ما يلاحظه القارئ في واقعنا المعاصر أن هنالك بعض “الاجتهادات المعاصرة” المستندة إلى هذه القواعد الأصولية ظاهراً؛ إذ يرفع أصحابها شعار تطبيق المصلحة والعرف، ولا يدري الكثير ممن لهم إلمام بالثقافة الشرعية – فضلاً عن عوام الناس- مدى صحة هذه الاجتهادات في إطار هذه القواعد!
وقد اخترت من خلال هذه الدراسة تسليط الضوء على تحكيم قاعدتي المصلحة والعرف، في قضية مراجعة منظومة الإرث في الإسلام، بسبب اعتماد من ينادي بهذه المراجعة على هاتين القاعدتين أساساً؛ وخاصة بعد أن سمعنا أن بعض الأصوات المحسوبة على الحركات الإسلامية والدعوية، ومراكز الأبحاث([1])، قد أيدت الدعوة وانساقت وراءها؛ مما زادني تحفيزاً لخوض غمار هذا البحث، و دراسة شروط وضوابط تنزيل حكم المصلحة والعرف على هذه النازلة.
وقد قسمت هذا البحث – بعد هذه المقدمة- إلى أربعة مباحث أساسية، وخاتمة.
تناولت في المبحث الأول المصلحة المرسلة وحجيتها عند العلماء، ثم تطبيقاتها في اجتهادات العلماء الذين احتكموا إليها وفق ما وضعوه من شروط وضوابط لها.
وخصصت المبحث الثاني لقضية تأصيل الدعوة إلى المساواة في الإرث بالمصلحة المرسلة، ومدى ملاءمة شروط المصلحة المرسلة في تنزيل حكمها على هذه النازلة؟
أما المبحث الثالث فقد خصصته للعرف، وأثره في تغير الحكم عند العلماء، فتناولت فيه المفهوم، والحجية، والشروط، ومجالات الاحتكام إلى العرف عند العلماء.
وختمت هذا البحث بمبحث رابع تطبيقي لمعرفة مدى ملائمة قاعدة العرف في تأصيل الدعوة إلى المساواة في الإرث؛ من حيث الاستناد والاستدلال، وتمركز المبحث في تمحيص الدعوة أولاً، وتشخيصها وتحليلها، ثم مدى ملائمة شروط تنزيل حكم العرف على النازلة المطروحة هاهنا ثانياً؛ لأخلص أخيراً إلى استنتاجات مهمة في الموضوع.
* * *
المبحث الأول
المصلحة المرسلة وحجيتها عند العلماء
المطلب الأول: مفهوم المصلحة وأنواعها
المصلحة لغة: ضد المفسدة، وهي واحدة المصالح([2]).
واصطلاحاً: قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
المصالح المعتبرة: وهي المصالح التي جاءت الأحكام الشرعية لتحقيقها ومراعاتها من أجل المحافظة على مقصود الشرع في جلب المصالح أو دفع المفاسد والمضار([3])، مثل المصلحة في حفظ النفس، والمال، والعرض، التي شرع اللَّه لحفظها القصاص وحد السرقة وحد القذف.
المصالح الملغاة: وهي المصالح التي وردت الأحكام في إلغائها وعدم مراعاتها، لأنها مصالح في الظاهر فقط، وهي تُخفي وراءها أضرارًا ومفاسد دينية واجتماعية؛ مثل الربا، فإن فيها مصلحة ظاهرية آنية للمقرض بالفائدة وللمستقرض بالاستفادة من المال، لكنها تنطوي على الشر والفساد، وتخفي في طياتها الضرر والخراب، لذلك نص الشارع على إلغاء مثل هذه المصالح وعدم اعتبارها.
المصالح المرسلة: وهي المصالح التي لم ينص الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها، وهذه المصالح هي التي أخذ بها بعض العلماء صراحة، وأسموها بهذا الاسم، وأدخلها آخرون ضمن أصول اجتهادية أخرى([4]).
وتعد المصالح المرسلة من الأصول المعتمدة في المذهب المالكي والحنبلي، واعتبرها الشافعية والحنفية ليست دليلاً مستقلا للاحتجاج([5]). يقول……………..
———————————————————————————————-
([1]) تأتي هذه الدعوة أحياناً – كثيرة- من قبل غير المتخصصين في العلوم الشرعية والإنسانية بصفة عامة، وفي بعض الأحيان الأخرى تأتي من قبل بعض الأصوات المحسوبة سلفاً على بعض المراكز البحثية الشرعية، فيقع لها نوع من التحول على مستوى التصورات والقناعات، وقد كتبت في الأعوام السالفة (منذ 2015) مقالين في جريدة هسبريس الإلكترونية المغربية، رداً على هؤلاء، وتصحيحاً لبعض تصوراتهما:
– المقال الأول: الدعوة إلى المساواة في الإرث بين أزمة المفهوم وخلط للأوراق، رابط:
https://2u.pw/0v3fwu
- المقال الثاني: هل هناك آيات قرآنية تدعو إلى مساواة الرجل والمرأة في الإرث؟ رابط:
https://2u.pw/uWpIyv
([2]) ابن منظور، لسان العرب، جـ2ص، 517، مختار الصحاح، للرازي، ص187.
([3]) الغزالي، المستصفى، جـ1، ص: 286.
([4]) الشاطبي، الموافقات، جـ2، ص 3، الغزالي، المستصفى، جـ 1، ص 286، عبدالله ابن عبد المحسن التركي، المدخل إلى مذهب أحمد، ص: 136، مصطفى البغا، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 32، البوطي، ضوابط المصلحة: ص 330.
([5]) ينظر: مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي، جـ 1، ص: 76، مصطفى البغا، أثر الأدلة المختلف فيها، ص: 54، البوطي، ضوابط المصلحة، ص: 370، 380.