تمهيد:
إن الأمومة ولوازمها([1]) من أهم ما يكيف حقيقة الأنوثة ويميز بين الذكر والأنثى على المستوى البيولوجي والنفسي والاجتماعي. وقد اعتبرت نصوص الوحي الأمومة جانباً محورياً من أدوار المرأة الاجتماعية المتنوعة. إلا أن مسألة الأمومة ظلت أسيرة توجهات فكرية تهمش الأمومة وتقلل من شأنها في تحديد مفهوم الأنوثة ومكانة المرأة. فلا ترى للمرأة من ازدهار وشأن إلا في انخراطها وارتقائها في الوظائف المختلفة وتنافسها للرجال فيها، بل ترى الأمومة عائقاً في وجه المرأة، وأصبح التقدم العلمي والتكنولوجي يساعدها على تخطيه باستئجار رحم يحمل جنينها، بل أخذ العلم يتوجه إلى النظر في إمكان زرع الرحم للرجل!([2])
فأصبحت وظيفة المرأة البيولوجية تعتبر من مكبلات المرأة التي تحول دون ازدهارها ومشاركتها الاجتماعية، وبالتالي من أسباب دونيتها عن الرجل كما ذهبت إليه بعض الاتجاهات النسوية([3]). وهو مما يفسر تهميش قضية الأمومة في دراسات المرأة المعاصرة، حيث اعتُبرت مؤسسة ذكورية تكرس اضطهاد المرأة([4]).
وقد اعتبرت شولاميته فايرستون (Shulamith Firestone)، إحدى منظرات النسوية الراديكالية، أن المرأة مهما تبلغ من مساواة مع الرجل على الصعيد التربوي والحقوقي والسياسي، ومهما كان عدد النساء المنخرطات في المجال العام؛ لن يتغير شيء ذو بال في حقها ما دام التناسل الطبيعي هو السائد، وما لم يَسُد التناسل الاصطناعي أو التلقيح بالمساعدة. ورأت أن التناسل الطبيعي ليس في مصلحة المرأة ولا الأطفال، وأن متعة الولادة المزعومة، المروج لها، ما هي إلا أسطورة ذكورية. وما “الحمل، في الحقيقة، إلا شيء وحشي”، “وإنجاب الأطفال بالطريقة الطبيعية هو في أحسن الأحوال ضرورة تُتَحمل”، وفي أسوأها “كمن يتغوط يقطينة”([5]). ولقد تأثرت كثير من المجتمعات العربية ببعض جوانب هذا التصور بحكم تبعيتها الثقافية للغرب وإن تظاهرت بمظاهر الإسلام([6]).
وإذا صارت وظيفة الأبوين متماثلة في التصور الغربي السائد، مما جعل مقتضيات الأمومة والأبوة تتشابه، بل تتمازج، فتصبح الأمومة عديمة الأثر في حياة المرأة فضلاً عن أن تكون مما يميزها عن الرجل، فإننا نجد في المقابل بعض الفقهاء والعلماء المسلمين يختزلون الأنوثة في الحمل والرضاعة والتربية، وكأن مهمة المرأة في الحياة لا تتجاوز وظيفتها كأم. فبالغوا في تضخيم وظيفة الأمومة حتى اختزلوا فيها الأنوثة، فصاروا لا يرون للمرأة دوراً سوى مسؤوليتها تجاه الخلية الأسرية، مما أفضى إلى تصورات مغلوطة عن دور المرأة في الحياة. وهذا التضارب بين التصورات الغربية الحديثة ومآلاتها وتداعياتها الواقعية وبين بعض التصورات المنتسبة إلى الإسلام، يشير إلى مركزية مفهوم الأمومة في إشكاليات قضية المرأة.
ومن هنا تأتي أهمية النظر في حقيقة الأمومة وخصائصها ولوازمها في فهم اختلاف الأدوار والأحكام بين المرأة والرجل في التصور الإسلامي وفي تحديد نسبة وكيفية مساهمة الأمومة في معنى الأنوثة واشتراكها في تحديد مكانة المرأة.
وإذا كان جنس الأنثى هو مقر تخلّق الإنسان وتكوينه، فما هو تأثير ذلك في اختلاف المرأة عن الرجل من حيث النظر إلى الطفل والتعلق به، وبالتالي تأثير كل ذلك على وظائف كل منهما في الحياة؟ وهل ينبغي أن تكون الأمومة وظيفة ملازمة للأنوثة أم هي شيء ثانوي أو تكميلي، بل يمكن تجاوزه، كما آلت إليه بعض التصورات في الغرب الحديث؟ والأنوثة في المنظور الإسلامي تتأسس على مبدأين: أصل إنسانية المرأة، وتكوينها الذي يؤهلها لحمل الحياة، فلا يمكن أن تتأسس وظيفة المرأة في الحياة إلا على هذين البعدين معاً. وبالتالي فإن كان المصير البيولوجي للمرأة يحدد جزءاً من مفهوم………
————————————————————————————-
([1]) مقصودنا بلوازم الأمومة كل ما له علاقة بقضية الأمومة من أبعاد بيولوجية، كالحيض والتقلب الهرموني والاختلاف في الأعضاء التناسلية، والحمل والرضاعة والنفاس… إلخ، وما يترتب على ذلك من اختلاف نفسي وعوامل اجتماعية إلى غير ذلك.
([2]) أكدت الدكتورة كاتي شونغ (Katie Chung)، مديرة برنامج الحفاظ على الخصوبة في كلية الطب بجامعة جنوب كاليفورنيا في مقابلة أجراها معها موقع ياهو للصحة (Yahoo Health)، أكدت على أن زرع الأرحام لدى الرجال سيتحقق “خلال السنوات الخمسة أو العشرة المقبلة، بل وربما قبل ذلك”. راجع الرابط التالي:
https://www.yahoo.com/beauty/surgery-could-give-men-wombs-1302360099545142.html
([3]) وهو ما عبر عنه بعض الحركات النسوية الراديكالية بمصطلح “عبودية الأمومة” (Maternité esclavage)، راجع:
FOUQUET, Catherine, Clio, histoire, femmes et sociétés, Guerres civiles Issue 5, revue publiée avec le concours du centre National du livre et du laboratoire Sociétés Occidentales (département d’histoire) Presses Universitaires du Mirail, 1997, p 225.
O’REILLY, Andrea, Matricentric Feminism: Theory, Activism, Practice, Demeter Press, 2016.
([5]) FIRESTONE, Shulamith, The dialectic of sex, U.S., Bantman Books, 1970, p. 198-200.
([6]) وهو ما يظهر متجسدا في بلدان الخليج في استبدال كثير من الأسر الخليجية الأم بالحاضنة أو المربية واقتصار دور الأم على الإنجاب، وتجلى في بعض البلدان الإسلامية الأخرى في العزوف عن الإنجاب أو التقليل منه تقديما لوظائف المرأة المهنية في سلم الأولويات.