مقدمة:
لقد مكنت المقارنة بين آراء الأئمة الأصوليين من الأشعرية، ودراسة مختلف المباحث الأصولية في ضوء علم الكلام الأشعري، من تحديد خمس مراحل أساسية شكلت علامات بارزة في تطور علم أصول الفقه في علاقته بالكلام الأشعري. هذه المراحل يمكن التأريخ لها بستة من أعلام الكلام والأصول الأشعريين: الإمام المؤسس أبو الحسن الأشعري (324هـ) الذي ظهرت خلال مرحلته بوادر خلط الكلام بالأصول. ثم القاضي أبي بكر الباقلاني (403هـ) الذي طرد الأصول الأشعرية في أصول الفقه وخرَّج جميع مسائلها عليها. ويأتي في المرحلة الثالثة إمام الحرمين الجويني (478هـ) الذي كان مشايعا وموافقا للقاضي وسائرا على طريقته في “التلخيص”، لكنه في “البرهان” انفصل عنه وكان له من النقد الشيء الكثير لتلك الطريقة ولبعض آراء الإمام المؤسس في الأصول. أما المرحلة الرابعة فتتميز بإدخال المنطق وإدراجه في الأصول على يد الإمام أبي حامد الغزالي (505هـ). بينما تُشكِّل طريقة المتأخرين من الأصوليين المتكلمين الكبار آمثال الفخر الرازي (606هـ) والسيف الآمدي (631هـ) المرحلة الخامسة التي تميزت بالانفتاح على الآراء المخالفة في علم الكلام بل وبتوظيف الفلسفة في مناهج الاستدلال وخاصة مع الإمام الرازي. وقد جاء بعد هؤلاء الأئمة أصوليون كبار كان لهم حظ كبير من النظر لكن غالب كتاباتهم لم تخرج عما انتهت إليه مدرسة الإمامين الرازي والآمدي كما وضح ذلك العلامة ابن خلدون في المقدمة([1]).
المطلب الأول: علاقة أصول الفقه بعلم الكلام عند الإمام الأشعري
يمكن القول أن علاقة أصول الفقه بعلم الكلام كانت علاقة جدلية عند الإمام أبي الحسن الأشعري. فالدرس الكلامي عنده استمد من أصول الفقه كثيرا وخاصة في الدفاع عن العقائد السنية بالأدلة النقلية مما استوجب العناية بتلك الأدلة وبقواعد الاستنباط، وفي هذا الجانب نجد الإمام الأشعري متابعا لأصول الإمام الشافعي. كما أن علم الكلام وخاصة ما انفرد به الإمام الأشعري قد أثر في اختياراته الأصولية وفي هذا التأثير نجد الإمام قد خالف عددا من آراء الإمام الشافعي في الأصول.
([1]) قال العلامة ابن خلدون موضحا هذا الارتباط في: المقدمة، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، ط 1، 1425هـ/ 2004م، ج 2 ص 201 – 202: «وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزالي وهما من الأشعرية، وكتاب العمد لعبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد ها الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما: الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدين الآمدي في كتاب الإحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأما كتاب المحصول فاختصره تلميذه مثل الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل، وتاج الدين الأرموي في الحاصل، واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات، وكذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. وعني المبتدؤون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب الأحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقا في المسائل، فلخصه أبو عمر ابن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه. وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات».