أود أولا أن أشكر دعوتكم لي للمشاركة في مناقشة هذه الورقة للأستاذ الدكتور محمد كمال إمام رحمه الله، وأشكر الله تعالى أن أتاح لي فرصة التعرف عليه والاستماع اليه ومناقشته، فقد ترك في أثراً عظيماً رغم قلة لقاءاتنا ورغم تواضعه الجم وحرصه على التواري عن المركز.. لقد أعطتني تلك المعرفة الأمل في وجود نماذج من العلماء الأجلاء الذين على تمكنهم في العلم فهم ليسوا سدنة للتراث بل يملكون شجاعة النقد والاعتراف بالمشكلات والمطالبة بالتطوير والتجديد والإحساس بالمسئولية نحو الأمة في زمانها الصعب الراهن والأصعب القادم. رحم الله الدكتور إمام وجزاه عنا وعن أمته خيراً.
واقع الأمر أن علاقتي بموضوع الورقة والنقاش المثار حولها مقصوده ومحصوله ليس الاشتباك في المناقشة بل الاستماع والاستفادة في موضوع هو من موضوعات الاختصاص أو التخصص الشديدة في أصول الفقه.
وإذا كان لي إبداء ملاحظات على هامش الموضوع من الخارج، فاسمحوا لي القول بأن هذه الورقة قد حفلت بأربعة من عناصر الاجتهاد والتجديد الذي نطالب ونلح عليه في الفكر الإسلامي:
- أولها النظرة المقارنة بين آراء علماء المسلمين وغيرهم من علماء الغرب في موضوع مدخله عام وهو “الزمن” لكن مقصده خاص هو منهاجية التشريع الإسلامي.. وهذا المدخل شديد الندرة في الدراسات الإسلامية لكنه شديد الأهمية في الوقت نفسه لأنه يجافي العقلية الانعزالية التي تصم- للأسف- كثيراً من علمائنا، وتؤكد أننا والآخرون في هذا العالم نقف على أرضية واحدة مشتركة أساسها الإنسانية وإصلاح العالم والعقل.. فهذه هي الجسور بل الأرضية الرحبة التي تربط الفكر الإسلامي بالفكر الإنساني.
- الإنجاز الثاني المهم في الورقة يكمن في اختيار المدخل الشرعي الصائب والمناسب (وهو موضوع الزمن الفقهي) لطرح قضية التجديد وإعادة فتح باب الاجتهاد باعتبارها التحدي الكبير أمام العلوم الإسلامية في هذا العصر. فموضوع الزمن الفقهي قد فتح على المصراعين مسائل نسبية الزمن الفقهي ومسائل الثبات والتغير التي هي لب مطالب الداعين لفتح باب الاجتهاد من جديد. لم يحمل هذا الطرح أي تزيد أو افتعال، ولم يأت من خارج العلوم الشرعية بل من صميمها وباستخدام حججها وأدواتها، فهو إثبات من الداخل ما يدل على أصالة العالم الجليل الراحل.
- النقطة الفريدة الثالثة في هذه الورقة – وهي كذلك تعد إنجازاً مهماً- هو الحديث من عالم وفقيه أصولي عن مسعى ابتناء نظرية عامة في الفقه الإسلامي.. وهذا نوع من الشجاعة والجدة في العلوم الشرعية التي اتسمت غالبا بالتزام الجزئيات وتجنب الكليات. ورغم وجود أثر لبناءات كلية نظرية في العلوم الشرعية مثل نظرية المقاصد إلا أن أحداً لم يجروء على القول بأنه يبني نظرية كلية خشية وصمه بالاقتراب من الفلسفة أو إقحام الدراسات الدينية ما ليس منها.
لم يكتفي د. إمام بشجاعة إدخال مفهوم “النظرية العامة” في موضوع أصولي بل سعى لها سعيها من خلال تقديم تعريف للمفاهيم الأساسية ثم تحديد عناصر وخصائص نظرية الزمن الفقهي ومعالمها والحجج التي تستند اليها، وأخيراً الإثبات العملي لتأثير الزمن الفقهي من خلال حقائق تغير الفتوى بفعل الزمان والمكان والحجج التي استند اليها العلماء مثل التغير العرفي والشرط المتأخر.
- رابعاً وأخيراً وهذه النقطة تتسم بالأصالة والجدة في ذات الوقت؛ إنه الانفتاح على مدارس الفقه الإسلامي السنية والشيعية معا واستيعابها في نطاق وحدة العلوم الإسلامية والانتفاع بما قدمته مختلف الاجتهادات وتأكيد أن الاختلاف لا يعني العداء أو الخصومة والتحريم.
ويعود بنا الفقيد رحمه الله – الى تقاليد المدرسة المصرية الوسطية العظيمة في الفقه، وإلى صفحات بيضاء في تاريخ علماء مصرالمحدثين أمثال الشيوخ الأجلاء محمود شلتوت وعبد الوهاب خلاف وعبد اللطيف دراز وغيرهم من جسدوا وأصلوا للفقه الإسلامي الوسطي المتسامح المتعالي عن التعصب والتحيز، المؤكد على وحدة الإسلام في مواجهة الطائفية ومرض الأدلجة.
رحم الله الأستاذ الدكتور محمد كمال إمام وأدخله فسيح جناته.. فقد كان ممن تركوا لنا كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، لم ينطق الكراهية ولم يثر الأحقاد والدماء بل كان من دعاة الاستقامة والكلمة السواء. وندعو الله تعالى أن يعوضنا غيابه بمدرسة إصلاحية وسطية تحمل تلك القيم فقد وعد الله أصحاب الكلمة الطيبة بأن يرثوا الأرض، إنه على كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
* * *