السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد..
فإيماء إلى ما تفضلتم بإحالته إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بشأن قراءة بحث عالمنا الجليل الأستاذ الدكتور/ محمد كمال الدين أمام – رحمه الله تعالى- وهو بعنوان: “نحو نظرية عامة في الزمن الفقهي”، وإبداء تعقيب بشأنه. وقد شرفت بتكليف فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بالاطلاع وإبداء تعقيب بشأن ذلك البحث، وذلك للنشر ضمن الملف الخاص بالبحث. وإننا إذ نشكر لإدارة المجلة الموقرة ذلك فإننا نفيد بما يلي:
يقع البحث في عشر صفحات، قسًّمه العالم الجليل – رحمه الله – إلى مبحثين: المبحث الأول: تناول فيه بناء النظرية العامة حول الزمن الفقهي مِن حيثُ المفهوم والخصائص، ثُم المبحث الثًّاني: مخصِّصا إيَّاه لانعكاسات الزَّمن الفقهي على قواعد الخلاف في الفتوى مِن خلال نموذجين استعان بهما لتوضيح رؤيته، الأوَّل: التغير العرفي، والثاني: الشَّرط المتأخِّر. ولتحليل ما تفضَّل به – رحمه الله- في أطروحته نقول:
من جوانب العبقرية في التُراث الفكري الإسلامي تحقيقه المعادلة الصعبة في التوفيق بين النقل والعقل، منذ فجر الإسلام، ومروراً بعصر التدوين والترجمة، وما تلاهما من مراحل التلاقح الحضاري الإنساني عبر التاريخ، وإلى يومنا هذا، على نحو غطت فيه الدراسات الفلسفية كافة جوانب الفكر التراثي الإسلامي عقيدة وشريعة، وعلى نحو لم يدع أدنى مجال للمنازعة في نظرية درء التعارض بين العقل والنقل في المنظور الإسلامي، ولا غرو في ذلك؛ فالعقل هو مناط التكليف ومعيار التكريم والتشريف، ثم هو حجر الزاوية في فهم أصلي خطاب النقل – الكتاب والسنة- اللذين انطلق منهما الفكر التراثي الإسلامي في إسهاماته الحضارية المشهودة في شتى جنبات الحياة نظراً وتجريباً.
- وبين أيدينا درة من الدرر الفكرية التي جادت بها قريحة عالم هو – بحق – علم من أعلام الدراسات الفكرية في مجال الشريعة والتشريع، توفر فيها على التنظير الفلسفي الماتع لقضية من القضايا التي كانت محوراً للاجتهاد العقلي في فهم النصوص الشرعية في الجانب التشريعي في مجالاته المختلفة ألا وهي قضية الزمن.
- ففي براعة تحليلية منقطعة النظير نفذ مفكرنا – رحمه الله تعالى – في ورقته البحثية من التصور النظري الفلسفي اليوناني والإسلامي لفكرة الزمن، إلى الأبعاد الشرعية لها في أكثر من علم من علوم الشريعة التي مبناها الاجتهاد الفقهي في فهم نصوص الشريعة، ثم خص منها علم القواعد الفقهية، وقواعد الخلاف الفقهي التي هي لازم من لوازم تجديد الخطاب الديني.
- ففي علم أصول الفقه، برز عنصر الزمان محوراً ومناطاً في مباحث الأدلة منه، حيث أسباب نزول القرآن وورود السنة، وحيث قضايا الأحوال أو الأعيان، وقبلهما قضيتا التدرج في التشريع إبان زمن التنزيل ثم التدرج في التطبيق بعد انقطاع الوحي؛ استلهاماً من منهج الشرع الحكيم في التشريع، ثم قضايا العوائد والأعراف المتغيرة بتغير الزمان، والمؤثرة باللزوم في تغير الأحكام الشرعية المنوطة بها، ثم في مباحث الأحكام، حيث التكليفات الشرعية من الأوامر والنواهي المؤقتة، وحيث الأحكام الوضعية المنوطة بالزمان، كالأسباب والشروط والموانع الزمانية، ثم في مباحث النسخ والتخصيص للأدلة أو لدلالاتها كان الزمان محوراً ومؤثراً.
- وفي جانب الفروع الشرعية العملية في العبادات والمعاملات التي هي ثمرة الفقه، وحاصل الاجتهاد العقلي في فهم النصوص النقلية بقواعدها الأصولية، كان الزمن محوراً أساسياً في تشريعها، كأوقات الصلاة وزمن وجوب الزكاة وشهر الصيام والمفروض ومواقيت الحج ومطالع الشهور المنوط بها كل ما سبق، ثم في المعاملات المالية حيث قضايا الأجل في البيع والربا وعقود المدة، ثم في الجنايات، حيث العقوبات الحدية والتعزيرية المنوطة بالزمان… إلخ.
- وفي جانب القواعد الفقهية الكلية الجامعة للجزئيات الفقهية المستنبطة من الأدلة بأصولها، نفذ إلى تطبيقات لنظرية الزمن الفقهي في علم القواعد الفقهية، وعلى جهة الأخص ما يعرف منها بقواعد الخلاف الفقهي، ألا وهي قاعدة “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والأحوال”، وقاعدة “العادة محكمة” وما تفرع عنها من قواعد كقاعدة “الحقيقة تترك بدلالة العادة”، وقاعدة “التعيين بالعرف كالتعيين بالنص”، وقاعدة “المعروف عرفا كالمشروط شرطا”، وهي في جملتها كليات لتطبيقات شرعية كان الزمن المتغير فيها أصلا أصيلا لتغير الحكم الشرعي، على نحو خلص فيه إلى نقد الجمود الفقهي فيما أنيط بالمتغير الزمني من الأحكام، على نحو يحتم ضرورة التصحيح بتجديد الخطاب الديني المفرق بين الثابت والمتغير من الأحكام على نحو ينأى بالفقيه عن مظان التقول على الشرع بانتهاج التعسير في موضع التيسير لتوهم الاحتياط في غير موضعه.
- هذا وقد يبدو الطرح الفكري الفريد الذي هو بين أيدينا منطويا على شيء من التعقيد أو الصعوبة، ولا سيما لغير المتخصصين في علوم الشريعة المتعمقين في دراسة الفقه وأصوله، إلا أنه في الواقع ونفس الأمر ينطوي على حث فكري غير مباشر على ضرورة البحث في أبعاده ومتعلقاته من العلوم الشرعية والعقلية ذات الصلة، وهي التي تمثل الأدوات الضرورية للعقلية الاجتهادية التي تضطلع بمهمة التجديد للخطاب الديني المنشود، ولا سيما في مجال الفتوى والتشريع.
- فرحم الله تعالى مفكرنا الألمعي، وجعل إسهاماته الفكرية في موازين حسناته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
* * *