أبحاث

الأسماء الحسنى: كيف تكون أدوات تخليقية؟

العدد 166-167

قال الله جل شأنه: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].

وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء: 110].

* * *

مقدمة في مقام الخاتمة:

الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى، والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بالخُلق الأسنى، رحمة بالذكر والأنثى، وعلى آله وصحبه ذَوُو المقام الأسمى، أما بعد:

إن التعلق بالقيم الأخلاقية يرجع إلى الأمانة التي حملها الإنسان في عالم

الملكوت([1]) بموجب التفضيل الإلهي له على سائر الكائنات، وهذا يجعله مأمورا بالمحافظة على هذه الأمانة، إذ لا يتصور وجود أمانة بدون وجود مؤتَمِن ومؤتَمَن، ويترتب على هذا أن الأخلاق ذات طبيعية ائتمانية غير امتلاكية، فوجب حفظها إلى حين استردادها من قِبل الذات المؤتَمِنة، ومن ثم فطلبها يكون عن طريق التوسط بهذه الذات الشاهدة العلية، التي خلقت في الإنسان القدرة على التحلي بمكارم الأخلاق؛ ذلك أن الحق سبحانه علَّم النبي الأول الأسماء كلها وجعله وذريته خليفة في الأرض، وأمر الملائكة بالسجود له، وقد دل هذا الحدث الغيبي الأول على تمام الخَلق وإكماله، ومن هنا فمفهوم الخليفة يحمل أمانة توحيد الحق سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله، وعلَّم النبي الخاتم الأخلاق كلها، فكان خُلقه القرآن، ليُذكِّر الخَلق بالميثاق الأول الذي أقروا فيه بربوبية الحق سبحانه، ويزيل الغشاوة عن فطرتهم التي تحفظ لهم مشاهد وشواهد تذكرهم بأحداث هذا اللقاء الغيبي، ولا شك أن ذاكرتهم الروحية هي مستودع الأخلاق، وقد دل هذا الحدث الغيبي الثاني على كمال الخُلق وإتمامه، ومن هنا فمفهوم الخليقة يجمع بين الخَلق والخُلق، لأن أصل الإنسان خليقة، وحدُّ الخليقة أن تجمع في آن واحد بين الخَلق والخُلق، فكما أن الخَلق صورة الظاهر، فإن الخُلق صورة الباطن، وهذا ما يجعل الخُلق يتقلب في أحوال، كما يتقلب الخَلق في أطوار، وكما أن الإنسان يخرج من غيب الأرحام قويم الخَلق إلى عالم الوجود، فكذلك يصير قويم الخُلق بعد أن يدخل في التحقق بالأخلاق في عالم الشهود([2])، وبما أن الفطرة هي مستودع الأخلاق، فإن تحققه بالخُلق يكون على قدر نقاء الفطرة ومجاهدة النفس، وكلما تراكمت طبقات النسيان على ذاكرته الأصلية، فإن تخلّقه ينقص درجة درجة حتى يُفقَد بالكلية، وحينئذ يصبح خلقًا بدون خُلق، فيكون متساويا مع البهية في المرتبة، إن لم يكن أضل منها، لأن حد الخليقة لم يعد منطبقا عليه بسبب فقدانه لشق مهم من إنسانيته، وفي هذه الحالة فإنه يحتاج إلى مجاهدة ومكابدة للنفس يغلب فيها الذكر على النسيان، فبقدر الذكر يكون التذكر، والتذكر يحقق العودة إلى الأخلاق الفطرية المودعة في ذاكرته الروحية، خصوصا إن كان الذكر بأسماء حسنى وصفات عليا؛ إذ بتضافر الفعل الخُلقي مع الفعل الخَلقي يكون الإنسان إنسانا، فالإنسان ما خُلق إلا ليتخلَّق.

وبما أن الأخلاق تُعتبر أفعالا بدأت مع الخَلق نفسه، كما أن الفطرة هي بالذات هذه الأخلاق والفطرة من الفطور، أي الخَلق، وهو ما يوضِّح اقتران الفعل الخَلقي مع الفعل الخُلقي، لكون الفطرة هي نفسها هذه الأخلاق التي أودعها الخالق سبحانه في خلقه قبل أن يخرجوا إلى عالم الوجود، فمنهم من تخلَّق بأخلاق الفطرة، ومنهم من تخلٌّق بأخلاق مكتسبة، إلا أن هذه الأخلاق المكتسبة على ضربين اثنين: أخلاق موافقة للفطرة، وأخلاق مخالفة لها، ولا شك أن الأخلاق الموافقة للفطرة تلحق بالأخلاق الفطرية، فلا يمكن أن يكون الإنسان خليفة إلا إذا كان قبل ذلك خليقة، وهذا يتوقف على أن يكون خُلقه أسمى، وطَلَبُ السمو لا يكون بالنظر في النسبي المتناهي، وإنما بالتفكر في المطلق غير المتناهي، وبما أن الوسيلة لمعرفة المطلق الذي ليس كمثله شيء تكون من خلاله صفاته وأسمائه، فإن هذه القيم الأخلاقية التي تسعى لتحقيق السمو والكمال عند المتخلق بها يلزم أن يكون مصدرها هو تلك المعاني والكمالات المنطوية تحت الأسماء الإلهية، فكيف يمكن أن تكون الأسماء الإلهية مصدرا للقيم الأخلاقية؟

 

أقرأ المزيد

([1]) يقصد هنا بعالم الملكوت عالم الغيب.

([2]) يقصد بعالم الشهود العالم الذي نزل إليه الإنسان بعدما أخذ العهد في عالم الغيب (عالم الملكوت) بأن يحفظ الأمانة، فهو يقابل عالم الملكوت، ويمكن تسميته بعالم المُلك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر