تمهيد:
صحب عصر المادية الحديث في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين ظواهر خطيرة تكاد تأتي ببنيان المدنية من القواعد. وتكاد تقضي على مظاهر الحضارة التي جهد العالم خلال تاريخه الطويل في ترسيخ دعائمها. ومنشأ ذلك ما حاوله بعض الماديين من تفسير ظواهر التاريخ تفسيرًا حاد بها عن الطريق السوي، وقد زعموا أن سبب هذه الكوارث التي أصابت البشرية من الحروب والخصومات والاضطرابات يرجع إلى استغلال الطبقات العليا للطبقات الدنيا، وحاولوا بما وضعوه من القواعد والنظم إلغاء نظام الطبقات، لأنه في رأيهم نظام فاسد وبناءً غير طبيعي. ونشأ عن ذلك اضطراب في بعض الجهات وتبلبل الأفكار في جهات أخرى، برغم أنه نظام غير طبيعي لم يكن ليستقر زمنًا طويلاً، لأنه ضد طبيعة العالم وضد نظام الخليقة.
ونحن وإن كنا ننكر مع المنكرين ذلك الطريق الذي يراد به هدم نظام مرنت عليه الأجيال وراعته الأديان، فإننا نقرر أنه تجب المسارعة إلى تثبيت نظام آخر على غرار آخر وضعه الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا وسعد به الناس حين اتبعوه، وهو وحده قادر على أن يسعدهم لو رجعوا إليه، ذلك هو نظام التعاون والمواساة الذي فرضه الإسلام وقرر فيه للفقراء والمحرومين حقًا في مال الأغنياء والموسرين، فكان خير طريق لتثبيت دعائم التوازن الاجتماعي على وجه لا يبطل إنتاج الطبقات القادرة على الإنتاج والكسب وتنمية الثروة القومية، وهو في الوقت نفسه أقوَم سبيل ميسور لتحقيق المودة والتراحم بين أبناء الجماعة الواحدة والقبيلة الواحدة والوطن الواحد.
1- فقد وضع الإسلام قواعد التراحم والتضامن بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث أوجب لأرباب الحاجات منهم حقًا مفروضًا، يؤديه لهم ذوو اليسار منهم، يدفع عنهم شر الحاجة والعوز، مما يقوم بكفايتهم من مؤونة وكسوة وسكنى وغير ذلك من شئون الحياة الضرورية. وجعل على الزوج نفقة زوجته من كل لوازم الحياة، بل ونفقة زوجة قريبه الذي تجب نفقته عليه.
2- وجعل الله للفقراء والمساكين ومن إليهم حقًا في مال الأغنياء وهو فريضة الزكاة التي أوجبها وأكدها وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، وحارب أبو بكر t الذين امتنعوا من أدائها وقال: (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله r لقاتلتهم على منعه)، وقد نُظِمت فريضة الزكاة وبينت مقاديرها وأوقات أدائها بحيث يشعر الأغنياء بأنهم حراس على المال حتى يؤدوا منه حقوق الفقراء. وكما قال الشافعي: (إن للفقير أحقية استحقاق المال حتى صار بمنزلة المال المشترك بين صاحبه وبين الفقير) ولهذا كان للفقير عنده أن يأخذ مقدار الزكاة من المال إذا ظفر به.
3- وفيما وراء النفقات والزكاة، توجد في الكتاب والسنة وآثار الصحابة مجموعة من الأحكام تدعو إلى البر والإحسان والتعاون. قال بعض العلماء: إنها توجب على الأغنياء القيام بكفاية الفقراء والمحتاجين إذا لم يكن فيما فرضه الله لهم من الصدقات ما يكفيهم، وذلك مثل قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وما رواه مسلم عن ابن سعيد عنه r أنه قال: (من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا ألا حق لأحد منا في فضل) وما روى عن عمر بن الخطاب t من قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين) وما روى عن علي بن أبي طالب t من قوله: (إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا وعروا جهدوا في منع الأغنياء، فحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه) إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة والآثار. ولهذا قال الإمام ابن حزم في المحلى: (إن الله فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك وإن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة).
فابن حزم يرى أن للفقراء والمحتاجين حقوقًا في أموال الأغنياء خلاف الزكاة حتى إذا لم تكفهم الزكاة ولا في المسلمين وجب على الأغنياء أن يقوموا بكفايتهم وأن يجبرهم ولي الأمر على ذلك إن لم يقوموا به من أنفسهم، ونصوص الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والمجتهدين تؤيده فيما يقول.
4- ومع هذا فهناك باب آخر من أبواب البر والإحسان انفرد به الإسلام وبدأ به رسول الله r وتبعه فيه أصحابه ومن جاء بعدهم، ثم توسع فيه المسلمون حتى عم جميع الأقطار الإسلامية، وذلك هو صدقة الوقف، وهو حبس رأس المال أبدا والتصدق بثمرته على جهات البر والإحسان في الحال أو بعد موت الموقوف عليهم أولاً.
5- ولم تكن هذه المبادئ المقررة في الزكاة والأوقاف إرشادًا مجردًا لفعل الخير، بل كانت نظمًا منفَذة في فجر الإسلام وفي كل العصور التي ساد فيها حكمه ونفذت فيها مبادئه العادلة المستقيمة، وقد ابتدأ بتنفيذها النبي r في نظام محكم، لتكوين النواة الأولى للمدينة الإسلامية الفاضلة، فكان يعطي المحتاج من موارد الدولة، حتى نفقات زواجه وحتى مهر امرأته. روى أبو هريرة أن رسول الله r جاءه رجل فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار.. فقال r: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبي r: على أربع أواق، كأنما تنحتون الفضة من عُرَض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه([1]).
وجاء الخلفاء الراشدون الأربعة فأعطوا الفقراء حقهم حتى لم يكن ثمة محتاج لم تقم الدولة بحاجته. وكان الإمام عمر بن الخطاب t حريصًا كل الحرص على أن يصل إلى صاحب الحق حقه. وكان يعطي الأموال على كفاية الرجل وعلى ماضيه وعلى مقدار حاجته، ولقد قال في ذلك t: «والله الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه وأمنعه! وما أحد أحق به من أحد. وما أنا فيه إلا كأحدكم ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسمنا من رسول الله r. فالرجل وتلاده([2]) في الإسلام. والرجل وغناؤه في الإسلام. والرجل وحاجته في الإسلام. والله لئن بقيت ليأتن الراعي بحبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه (يعني في طلبه).
فكان t حريصًا على أن يصل إلى الفقير حقه في بيت مال المسلمين الذي كثرت موارده، ولذلك اعتزم في آخر حياته أن ينتقل بنفسه إلى الأمصار الإسلامية ليعطي المحتاجين حقوقهم وقال في ذلك t: «لئن عشت إلى هذه الليلة من قابل لألحقن أخرى الناس بأولاهم حتى يكونوا في العطاء سواء».
وكان يزيد العطاء لمن يولد له ولد. فيجعل للمولود مائة درهم كل عام، فإذا ترعرع بلغ به مائتين، فإذا بلغ زاده([3]). ولم يكن يفرق عمر t في إعطائه للفقراء والمساكين بين مسلم وغير مسلم، ولقد وجد مرة على باب المسجد رجلاً أعمى يتكفف الناس فسأله عن حاله فعلم أنه يهودي فأجرى له رزقًا من بيت المال يكفيه.
6- ولما كثرت الأموال في بيت مال المسلمين في عهد الفاروق عمر أنشأ الديوان، وقد كان يقيد فيه كل مصادر الدولة، وكل ذوي الأعمال، وكل أصحاب الأعطية، وكل المحتاجين الذين تجرى عليهم أرزاق من بيت المال. وقد صار لكل مصر من الأمصار ديوان قائم بذاته. وكانت تكتب تلك الدواوين بلغات أهل الأقاليم إلى أن جاء عبد الملك بن مروان في الربع الثالث من القرن الأول الهجري، فنقل تلك الدواوين إلى اللغة العربية.
7- وقد نظمت أعمال الديوان تنظيمًا محكمًا. ودويت فيه ميزانية الدولة الإسلامية. ورتبت أبوابها وكان لكل باب موارده ومصارفه ويسمى بيت المال. فكانت بيت للخراج وهو ما يؤخذ من الأراضي التي تعتبر بحكم وضعها ملكًا للدولة، وهي غير الأراضي التي يملكها الآحاد. ومصارف هذا البيت للمرافق العامة، وما فضل منها يكون للفقراء والمحتاجين.
وكان بيت مال قائم بذاته للغنائم ومصرفه للفقراء والمحتاجين ونفقات الجيش. وللفقراء منه أربعة أخماس الخمس أي 25/4 بنص الآية الكريمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
وكان بيت مال خاص بالضوائع، وهي الأموال التي لا مالك لها، ومنها الأموال التي لا وارث لها، وهذا البيت كله للفقراء والمساكين تداوى منه مرضاهم، ويكفن موتاهم، وينفق عليهم منه. ولقد قرر فقهاء الحنفية، أن من كان فقيرًا عاجزًا، وليس له قريب ينفق عليه كان له أن يطلب من القاضي المختص بالنفقات الحكم على القائم ببيت المال أن يفرض له قدرًا كافيًا، ويلزمه بأدائه. وقد ذكر ذلك المتقدمون من الفقهاء كالكاساني في القرن السادس الهجري، كما ذكره ابن عابدين في القرن الثالث عشر الهجري أيضًا.
وكان للزكاة بيت مال قائم بذاته، ولها بهذا الاعتبار ميزانية قائمة بذاتها تخصص لذوي الحاجة أولاً وبالذات، ولقد تقرر ذلك منذ أنشئ الديوان. وقرره الفقهاء. ولذلك قال أبو يوسف القاضي، في كتابه الخراج الذي كتبه للرشيد في الربع الثالث من القرن الثاني الهجري ما نصه: «لا ينبغي أن يجمع مال الخراج إلى مال الصدقات والعشور، لأن الخراج فيء لجميع المسلمين، والصدقات لمن سمى الله U([4])».
8- ولقد كان المسلمون الأولون يرون أن توزع زكاة أهل كل مدينة على فقرائها أخذًا من الحديث النبوي، إذ قال لمن أرسله إلى اليمن واليًا «خذ الزكاة من أغنيائهم لترد على فقرائهم». ولذلك قال أبو يوسف: ويقسم سهم الفقراء والمساكين من صدقة ما حول كل مدينة في أهلها ولا يخرج منها فيتصدق به على أهل مدينة أخرى([5]).
ولا شك أنه إذا فضل مال من زكاة مدينة عن حاجة أهلها، فإنه يصرف في غيرها.. فالصرف إلى أهل المدينة التي جمعت الزكاة منها ليس أمرًا لازمًا. إن كان فيهم كفاية وفي غيرهم حاجة.
وإن ذلك بلا شك يشير إلى أنهم كانوا يميلون إلى عدم المركزية حتى لا يشقوا على الفقير كما رأينا في عهد عمر، إذ كان حريصًا على أن يصل الحق لصاحبه من غير عناء، فكل عناء ينال المحتاج هو ظلم لا يسوغ من العادلين..
9- ولم يكن تنظيم البر مقصورًا على ما يجمعه بيت المال من زكوات، بل أن التنظيم شمل أبواب البر في الأوقاف، فإنها لما كثرت وصارت موردًا خصبًا لعلاج الفقر وأدوائه في مصر وجد لها ديوان خاص قائم بذاته يشرف عليه القاضي الذي يعد بحكم الشرع المهيمن على الأوقاف وخصوصًا الخيرية منها. فقد جاء في كتاب تاريخ القضاة للكندي أن توبة بن نمر قاضي مصر في زمن هشام بن عبد الملك في القرن الثاني الهجري خشى على الأوقاف الضياع أن بقيت في أيدي أهلها أو النظار عليها من غير رقيب فقال «ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين فأرى أن أضع يدي عليها حفظًا من الضياع والتوارث» ولم يمت توبة بن نمر حتى صار للأوقاف ديوان عظيم مستقل عن بقية الدواوين، للقاضي عليه الإشراف([6]).
ولقد كان للقضاة عناية شديدة بالأوقاف لما فيها من بر بالفقراء، حتى أن أبا الطاهر عبد الملك بن محمد الحزمي الذي ولى قضاء مصر سنة 173هـ كان يتفقد أعيان الأوقاف بنفسه كل ثلاثة أشهر يأمر بترميمها وإصلاحها وكنس ترابها ومعه طائفة من عماله عليها، فإن رأى خللاً في شيء منها ضرب المتولي عليها عشر جلدات([7]).
وقد اتسع ديوان الأوقاف، حتى صار مصدر بر دائم لسد الحاجات، ثم لما جاءت الدولة الأيوبية ثم المماليك صار للأوقاف ثلاثة دواوين: واحد منها لأوقاف المساجد، والثاني لأوقاف الحرمين، والثالث لأبواب الخير الأخرى([8]).
10- هذا عرض يسير للنظم الإسلامية وبعض تطبيقها، ولا شك أن نظم الحكم للدول المختلفة وللملوك المختلفين في أحوالهم ومقادير العدل في حكمهم، أثر في مقدار تنفيذ هذه الأحكام.
وهي في صورها المجردة نظم عليا سامية، من أحياها فقد أحيا الإسلام وعاد به كما بدا..
ونحن وإن كنا لا نطمع في تحقيق المثل العليا لخير هذا المجتمع خصوصًا مع حالة الاضطراب القائمة بين الشعوب الآن، فإننا نطمع في أن نجد من دعاة الإصلاح والمفكرين من يعملون على تطبيق أحكام الإسلام وقواعده التي نظم بها الصلات بين الفقراء والأغنياء، فإنها خير طريق لإيجاد التوازن الاجتماعي بين طبقات المجتمع بحيث يشعر فيه الناس بالتعاطف والمودة واليسر والسهولة في هذه الحياة.
وأنه ليعنينا بعد هذا البيان المجمل، أن نأتي بنوع من التفصيل لأحكام الزكاة والوقف والنفقة التي عرضنا لها في هذه العجالة، ونرجئ التفصيل الأوفى إلى وقت الحاجة إليه…
* * *
الباب الأول
الزكاة
أقرأ المزيد
([1]) نيل الأوطار الجزء 6 ص 316. والأواقي من الفضة كما هو الظاهر.