مقدمة:
الحمد للَّه والصلاة والسلام على سيدنا رسول اللَّه وعلى آله وصحبه ومن والاه..
فمن نافلة القول الإشارة إلى أن موضوع البيئة والحالة المتردية التي وصلت إليها وجسامة المشكلات البيئية بات من أهم الموضوعات التي تشغل بال العالم على كل المستويات؛ العالمية والإقليمية والمحلية، لقد أدرك الإنسان أخيرًا أن البيئة من أعز ما يملك في هذه الحياة، وأنها إذا ضاعت ضاع منه كل شيء، ضاعت منه صحته وسعادته وأمنه وتقدمه ورفاهيته بل وحياته، أدرك ذلك فقط عندما أذاقه الله تعالى جزاء بعض ما اقترفه حيال البيئة من انحرافات واعتداءات؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] أدرك الإنسان ذلك فأخذ ينقب عما هنالك من أخطاء وانحرافات، وعما يمكن اتخاذه حيالها من تصحيحات وتصويبات.
إن الأخطاء جسيمة ومتنوعة ومتعددة، تكاد تعم كل جوانب السلوك الإنسانى وأبعاد حياته، من عقيدةٍ وثقافةٍ واقتصادٍ واجتماعٍ وسياسةٍ وغير ذلك، ومن ثم فإن مناحي التصحيح ومجالات العلاج هي الأخرى ينبغي أن تكون متعددة متنوعة، إن الجميع يعترف اليوم بالمشكلات البيئية المتنوعة، والمتمثلة في التلوث بكل صوره وصنوفه، وفي الاستنزاف والتدمير بكل أشكاله وألوانه.
لقد تلوث ما كان يظن أنه بعيد عن التلوث، واستنزف ما كان الاعتقاد أنه فوق الاستنزاف، لقد قامت الدنيا وما قعدت بعد لمواجهة هذه المشكلات ولتفادي هذه المخاطر الجسام، لكن هل جاء البحث والتفتيش عن العوامل والمسببات عميقًا محيطًا؟ وهل جاء التصحيح بدوره جذريًّا جامعًا؟ لا يستطيع عاقل الجزم بالإيجاب.
نحن أمام مشكلة كبرى، والمنطق العلمي الرشيد يحتم علينا اتخاذ خطوتين؛ تشخيص دقيق سليم، وعلاج ناجح.
ماذا عن موقف الإسلام من هذه القضية الإنسانية الكبرى؟ وما مدى تفوقه وتميزه عن موقف الفكر الوضعي؟ وكيف يمكن تطبيقه اليوم؟ ذلكم ما يحاول هذا البحث الإجابة عنه.
إن الإسلام بحكم كونه دينًا ودنيا، وبحكم كونه عقيدةً وشريعةً ونظامًا وعملاً، وبحكم كون مقصده صلاح دنيا الناس حتى تصلح لهم آخرتهم، وحيث إنه لا صلاح للدنيا في غيبة نوعية بيئية جيدة، من حيث ذلك كله فإنه من المتيقن أن يكون للإسلام هدايته في هذا المجال الحيوي، والمهمة هنا هي الكشف عن هذه الهداية بلغةٍ فنيةٍ وبصيغةٍ موضوعيةٍ ومنهجٍ علميٍّ، بغية الاستفادة من هذه الهداية في مواجهة هذه المسألة البالغة الخطورة.
إن خلاصة ما توصلنا إليه أن التعامل الجاد الفعّال مع هذه القضية يتطلب بالضرورة توفر العديد من المقومات، مفهومًا بيئيًّا دقيقًا، معرفة بأهمية البيئة، قيمًا وأخلاقًا وثقافةً من نوعٍ معينٍ، سلوكًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا ذا مواصفات خاصة، علمًا وفكرًا نافعًا حقًّا، إدارة وتشريعًا تجعل إنجاز المَهمة ميسرًا من جهة وواقعًا من جهة أخرى، إلزامًا والتزامًا لا يتيح لأحد التملص من الانصياع لمتطلبات المحافظة والحماية.
وفي المطالب التالية نحاول بقدر ما وسعنا الوقت والجهد التعرف الصحيح على موقف الإسلام من بعض تلك الجوانب المختلفة.
المطلب الأول: مفاهيم بيئية إسلامية.
المطلب الثاني: العقيدة الإسلامية وحماية البيئة.
المطلب الثالث: الثقافة والتربية الإسلامية وحماية البيئة.
المطلب الرابع: الاقتصاد الإسلامي وحماية البيئة.
ومنهج البحث يقوم على استقراء آيات الكتاب الحكيم، وكذلك بعض الأحاديث النبوية الشريفة، واستنباط ما تحمله من دلالات ومضامين بيئية، مستأنسين في ذلك بأقوال بعض العلماء والمفسرين.
* * *
المطلب الأول
مفاهيم بيئية إسلامية
أهمية تحديد المفاهيم تحديدًا دقيقًا في البحوث العلمية مسألة لا تحتاج إلى بيان أو توضيح، يكفي أنها تضبط بدقة مسارات البحث، وتحدد نطاقه، وترسم أهدافه وغاياته.
ومن هنا فإن نقطة البدء في تعامل الإسلام مع البيئة والوقوف على طبيعة وأبعاد هذا التعامل تتمثل في تحديد المفاهيم الإسلامية للمصطلحات البيئية.
1/1 البيئة والمفهوم الإسلامى:
هذا المصطلح “البيئة” يحسن بنا -معشر الباحثين الإسلاميين- ألا نجري وراءه كثيرًا حيث لو فعلنا ذلك فلن نحصل على شيء ذي بال، وقد ينعكس ذلك على مدى دقة فهمنا لموقف الإسلام من البيئة.
لقد وردت هذه المادة ومشتقاتها في كلٍّ من القرآن والسنة ورودًا لا يكفي بمفرده لبناء نظام إسلامي بيئي، فمثلاً نجد القرآن الكريم يقول: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]، ويقول في آية أخرى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ… } [يونس: 93]، وفي الحديث الشريف: “من كذب علَّى متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار”، “كان r يتبوأ لبوله”، هذا معظم ما ورد – فيما أعلم- حول هذا المصطلح “البيئة” في الإسلام، قرآنًا وسنة، ومن الواضح أن هذا القدر لا يمكِّن من إقامة موقف فعّال للإسلام حيال البيئة، فهل معنى ذلك أن قضية البيئة لم يحفل بها الإسلام؟ لو ربطنا ذلك بالمصطلح “البيئة” لكانت الإجابة بنعم، لا محالة، لكن ذلك منافٍ لما هو مبثوث ومنتشر بل ومتناثر في ثنايا كلٍّ من القرآن والسنة من حديث محيط بكل جوانب البيئة، وإذن فلا مناص من البحث في الموضوع تحت مصطلحات وعناوين أخرى، وهنا سوف نجد ضالتنا المنشودة على أحسن وأتم ما يكون، وسوف نجد وفرة في المصطلحات وفي التعامل معها وفي تكرارها بشكل لافت للأنظار مثير للأفهام والألباب، أليست البيئة في المفهوم الوضعي هي كل ما يحيط بالإنسان من عناصر، وكائنات مادية وغير مادية، حية وغير حية؟
ما دمنا وضعنا هذا المفهوم السليم والدقيق أمامنا فإننا سنصل إلى مفاصل وعناصر الموضوع إسلاميًّا بشكل جيد، متحررين من إسار مصطلح “البيئة”. وينبغي ألا يفهم ذلك على أنه اعتراض إسلامي على هذا المصطلح، إن مسألة المصطلحات في معظمها قد وكلها الإسلام إلى الإنسان يعمل حيالها ما يراه مناسبًا وصالحًا، وقد احترم علماء المسلمين قضية المصطلحات، ولا أدل على ذلك من عبارتهم الشهيرة “لا مشاحة في الاصطلاح”، لكن الذي يعنينا هنا شيء أهم وأبعد من ذلك، إنه البحث عن موقف الإسلام من البيئة، وقد تبين أن البحث في ذلك تحت هذا العنوان بالذات “البيئة” غير مجدٍ بل ومضلل، وإذن فعلينا إجراء البحث في هذا الموضوع تحت عناوين ومصطلحات أخرى، وسوف يتضح لنا أنها ليست بعيدة عن المصطلحات البيئية الشائعة.
إن الذى يحيط بالإنسان من كل جانب هو الكون، هو الأرض والسماء وما بينهما، ومعنى ذلك أن الحديث الإسلامي عن الأرض وما في باطنها وما تحتوي عليه من ماء ويابس، وما يتضمنه يابسها من جبال وسهول وغابات وصحارٍ، وما يدبّ على ظهرها من أنعامٍ ومواشٍ ودواب وطيور، وما يخرج منها من نباتات وأشجار وزروع، إن الحديث الإسلامي في هذا هو حديث في البيئة.
ثم إن الحديث الإسلامي عن السماء والكواكب والنجوم هو حديث في البيئة، كذلك الحديث الإسلامي عن ما بين السماء والأرض. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59]، ما بين السموات والأرض مما نعلمه وما لا نعلمه من مخلوقات من هواء ورياح وغازات، وغير ذلك، مما لم يكشف عنه العلم بعد، الحديث الإسلامي عنه هو حديث في البيئة. إن القرآن الكريم بعد تعداده لهذه الكائنات يصرح قائلاً: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ…} فالبيئة الطبيعية الحية وغير الحية هي بالتعبير القرآني {خَلْقُ اللَّهِ} وجَودة ونوعية المخلوق على قدر الخالق له. واللَّه تعالى قال مثنيًا على نفسه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.
فإذا ما جئنا إلى العناصر المعنوية أو الاجتماعية في البيئة، وما تحتوي عليه من نظم ومؤسسات وتجهيزات بل وسياسات وغير ذلك مما يعايش الإنسان، سواء نبع ذلك من ديانات سماوية أم كان من صنع الإنسان، إذا ما اتجهت أبصارنا هذه الناحية فإن الحديث الإسلامي حيالها ممتد ومتشعب، وهو حديث في البيئة.
وهكذا نصل إلى القول بأنه تحت هذه المصطلحات وفى هذه الميادين الفسيحة الممتدة يمكننا التعرف الحقيقي على موقف الإسلام من البيئة. وفي ضوء ذلك لا نجدنا متجاوزين الحقيقة قيد أنملة إن قلنا إنه موقف يحيط بكل جوانب بل ودقائق البيئة، ويقدم نظامًا إسلاميًّا كاملاً لحمايتها، والمحافظة عليها، وحسن التعامل معها.
1/2 نبذات سريعة عن بعض جوانب التعامل القرآنى مع البيئة:
1- الأرض: إن لفظة الأرض ليست غريبة في أدبيات البيئة، ويكفي أن نعرف أن عبارة أمنا الأرض تتردد كثيرًا في البحوث(1) والمحافل المعنية بالبيئة، بل إنه يمكن القول إنه إذا ذكرت الأرض في معرض الحديث عن البيئة فإنه يقصد بها ما يقصد بلفظة “البيئة” في معظم الحالات. كيف تحدث القرآن الكريم عن لفظة الأرض؟ تجاوزت الآيات الكريمة التي وردت فيها الأرض 460 آية(2)، ويتزايد العدد كثيرًا إذا ما ضممنا الآيات التى وردت فيها الأرض لا بلفظها لكن بضميرها، ماذا يعني هذا التناول المتعدد؟ لو استحضرنا في الذهن أن القرآن الكريم لا يحتوي على حرف لا معنى له ولا مقصد ولا غاية منه لأدركنا على الفور كم من العلم والمعرفة يمكننا الحصول عليه لو تدبرنا بحق هذه الآيات البينات، ولأدركنا من ناحية أخرى مدى اهتمام القرآن البالغ بأمنا الأرض.
فإذا ما اتجهنا بالتدبر والتأمل ناحية أخرى في الحديث القرآني عن الأرض وهي ناحية النشأة والخلقة فقد يكفينا هنا تدبر آيتين؛ قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10]، من المعروف أن الله U خلق الكون في ستة أيام، والتدبر هنا مجاله أن السموات السبع التى لا نعرف عنها شيئًا يذكر بعد أن استغرق خلقها ثلث الوقت الكلي، والأرض بمفردها وهي لا تعد أن تكون كرة صغيرة في ساحة الكون الكبرى استغرق خلقها ثلث الوقت الكلي، ثم استغرق تقدير أقواتها وتنظيم أمورها ومقوماتها ثلث الوقت الكلي، معنى ذلك أن الأرض قد استغرقت ثلثي وقت الخلق، ماذا يعني هذا؟ إن الدلالة والمغزى والإشارة من الوضوح بمكان، إنها الإتقان البالغ والتقدير المحكم الدقيق في كل مقوماتها.
فإذا ما صوّبنا أنظارنا ووجهنا أفئدتنا ناحية أخرى من الحديث القرآني عن الأرض بهدف التعرف على أهميتها للإنسان وخصائصها، فإننا نجد الكثير والكثير، إنها بحق أمنا، وليس في ذلك مبالغة، وليس للفكر البشري مزية إعطائها هذا التكييف، إنه القرآن الكريم، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18]، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6]، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25،26]، قال المفسرون إن من معانى جعل الله الأرض كفاتًا للأحياء والأموات أنها تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوان والنبات، وتضم الأموات التي هي الجمادات، وكذلك تضم الموتى في جوفها(3)، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر: 64]، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]، {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولا…} [الملك:15]، هذه هي بعض الآيات الكريمة التي تحدث فيها القرآن الكريم عن الأرض وعلاقتها بالإنسان، وبنظرة متدبرة فيها نرى مدى أهمية الأرض للإنسان. وقد صرحت بعض الأحاديث أو الآثار بوصف الأمومة للأرض، فقد روى الطبرانى في معجمه أن رسول اللَّه r قال: “تحفظوا من الأرض فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًّا إلا وهى مخبرة”(4).
2- فإذا ما انتقلنا إلى بعض ما في الأرض من دواب وحيوانات ومعادن ومياه وغير ذلك فإننا نجد للقرآن حديثًا مفصلاً حيال الكثير من تلك العناصر، إضافة إلى ما هنالك من تناول جامع شامل لما في الأرض، فهناك آيات عديدة تنص على أن ما في الأرض مسخر للإنسان، بمعنى أن كل ما فيها من أي شيء هو من أجل الإنسان ومن أجل منفعته، ما عرفه الإنسان من ذلك وما لم يعرفه بعد، وهناك آية فذة جامعة هي {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ومن وجوه التفسير المقبولة للآية أن {جَمِيعًا} ترجع لما في الأرض، بمعنى أن جميع ما في الأرض مخلوق من أجل الإنسان، كل الإنسان، ومفاد ذلك أن الإنسان محتاج إلى كل عناصر البيئة، لا يستغني عن عنصر واحد منها، وأنه إذا ما ترتب على سلوك الإنسان زوال أي عنصر أو فساده فإن ضررًا سيلحق لا محالة بالإنسان.
3- الماء: المشكلات البيئية الناجمة من تلوث المياه واستنزافها تعد من أخطر المشكلات، ولا غرابة في ذلك؛ فالماء مصدر الحياة لكل حي، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وحديث القرآن عن المياه حديث جامع محيط، يجمع بين المصادر والأهمية المتنوعة للإنسان وللحيوان وللنبات، بل وللجماد ولكل شيء، ومواصفات المياه من نقاوة وطهارة وبركة وكفاية، وهذه بعض الآيات {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ..} [الأنعام: 99]، {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا…} [ق: 9]، {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]، {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41].
1/3 هل تحدث القرآن الكريم عما يسمى بالبيئة الاجتماعية؟
من يتدبر القرآن الكريم يجد أن عنايته بالبيئة الاجتماعية وتبيان مدى أهميتها البالغة للإنسان وتوضيح مغبة اعتداء الإنسان عليها، ومن ثم حتمية حمايتها والمحافظة عليها، وذلك بحسن الاستفادة منها، وعدم إهمالها وتجاهلها من جهة أو إساءة استخدامها من جهة أخرى، مَن تدبر القرآن الكريم في ذلك يجد العناية القرآنية بهذا النوع من البيئة لا تقل بحال عن عنايته بالنوع الآخر منها، وللبرهنة على ذلك ما عليك إلا أن تتبع حديث القرآن عن الأخلاق، والشرائع، وعن العدل، وعن الظلم، وعن العامل السياسي، والعامل الثقافي، وعن وسم القرآن للعديد من الأمم السابقة بأنهم مفسدون في الأرض رغم أن سلوكياتهم حيال البيئة الطبيعية لم تكن سيئة في مجملها، لكن ذلك نبع من اعتداءاتهم على البيئة الاجتماعية بالمفهوم الواسع، ومثالاً على ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَاد * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 6-12]، تأمل تجد النشاط العمراني الاقتصادي على أعلى مستوى، لكنهم مع ذلك طغوا في البلاد طغيانًا عقائِديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، ونتج من ذلك شيوع الفساد في الدنيا. الشذوذ الجنسى “اللواط” إفساد في الأرض، الفساد السياسي هو إفساد في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، السرقة إفساد في الأرض أيضًا: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73]، الظلم في المعاملات المالية إفساد في الأرض: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181-183]، هذا غيض من فيض من الحديث القرآني عن البيئة بشطريها الطبيعي والاجتماعي، وهو كافٍ في الدلالة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ليوقن بأن إفساد المعنويات هو أدهى وأمر من إفساد الماديات.
1/4 ماذا عن الموقف القرآنى حيال ما يعرف بخصائص النظام البيئى؟
من الملاحظ أن القرآن الكريم بيّن في أكثر من آية خاصية صلاحية الأرض؛ أي صلاحية البيئة، كذلك فقد نبّه بوضوح على خاصية التوازن، فكل شيء في الأرض موزون ومقدر، يقول تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 19-21]، وفي تفسير هذه الآيات يقول الزمخشري: “وزن بميزان الحكمة وقدر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان”(5)، ويقول تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، الآية الكريمة تنصّ على أن الأرض من حيث الأصل مستكملة كل مقومات الصلاحية لسد حاجات الإنسان، يقول المفسرون إن المقصود هو الإفادة بأن الأرض بكل ما فيها وما عليها خلقت على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح الناس. وبعضهم يذهب إلى أن إصلاح الأرض بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي تهدي الإنسان للخير والصلاح(6)، ومن الواضح أن المفهوم الأول ينصرف أساسًا إلى صلاحية البيئة الطبيعية، في حين ينصرف المفهوم الثاني إلى صلاحية البيئة الاجتماعية، وعندي أن الآية الكريمة صريحة في المعنيين معًا، وأن كلاً منهما مراد ومقصود، فالأرض قد خلقها اللَّه مستوفية كل خصائص الصلاحية لسد حاجات الإنسان، كما أنه تعالى قد تعهد خلقه بإرسال رسله على مر العصور من أجل إقامة بيئة اجتماعية سليمة وصحيحة، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: 10]، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123-124]. إذن نحن أمام بيئة مخلوقة صالحة، وحتى نحافظ عليها بحق ونحميها من أي عدوان علينا أولاً أن نتعرف بدقةٍ وعمقٍ على جوانب وأبعاد صلاحية البيئة من خلال علوم متنوعة تبحث في خصائص هذه المخلوقات، وأسرار الخلق فيها، والطرق التي وضعها اللَّه تعالى لبقائها صالحة.
ومعنى ذلك أن نقطة البدء الصحيحة في أي عمل ناجح للمحافظة على البيئة هو الانطلاق من مسلمات تقوم على أنها خلق اللَّه، وعلى أن الخالق أخبرنا بأنها صالحة. ثم القيام بالتحديد الدقيق اللغوي لمفهوم ومضمون مصطلح “الصلاح”، ثم بعد ذلك نستخدم كل ما وهبنا اللَّه تعالى من عقل وحواس في التعرف العملي من خلال الواقع، ومعايشة هذا الخلق؛ للوصول إلى أسرار خلقه – بقدر الاستطاعة- وجوانب صلاحيته. ونتعامل معه بعد ذلك في ضوء الملاحظات التجريبية والمعارف التي توصلنا إليها تعاملاً يحافظ على صلاحه، وينمي ويزيد من هذا الصلاح. ومعنى ذلك أننا أمام مَهمة علمية ضرورية مرتكزة على مسلمات إيمانية بصفتها بداية ضرورية للمحافظة على البيئة.
وعلينا أن ندرك جيدًا أننا مأمورون بعملين لا غنى لأحدهما عن الآخر، وهما في الحقيقة يكوِّنان سلوكًا كليًّا واحدًا. إن المحافظة على الشيء لها بُعد وجودي ولها بُعد سلبي، كما ذكر الشاطبي – رحمه اللَّه- في مقصود الشريعة والمحافظة على الكليات الخمس. نحن مطالبون بالإصلاح ومطالبون بعدم الإفساد. قال تعالى: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ومن ثم فعلينا بذل الجهد ليس فقط للإبقاء على الصالح، وإنما لتزكيته وترقيته والارتفاع بدرجة ومستوى صلاحيته. هذه قضية مهمة، والبُعد الثانى نحن مطالبون بعدم إفساد ما بأيدينا؛ أي مطالبون بعدم إضاعة وإبادة ما به من صلاح. هذانِ أمرانِ كلاهما مطلوب. مثلاً هناك منظر طبيعي جميل. ما موقف الإنسان منه؟ أولاً لا يفسده، وثانيًا يعمل جاهدًا على أن يزيد من جماله وصلاحه قدر ما وسعه العمل.
هذا كله يتوقف أولاً على معرفة خصائص خلق اللَّه، وسنن فطرته، وما يمكن من أسراره، فكل صفة للخلق عرفنا عليها الإسلام علينا بدراستها دراسة علمية واعية، من صلاحية لتوازن لقابلية الفساد الجزئي لغير ذلك من الصفات والخصائص. كما نبّه القرآن على مسألة شيوع وانتشار التدهور البيئي وعدم وقوفه عند مكان حدوثه، وقد فهم ذلك المفسرون من قوله تعالى: {لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ..} فمحل الإفساد هو الأرض، وليس بقعة منها، وليس عنصرًا من عناصرها مثل الهواء أو الماء مثلاً، القرآن أعرض عن ذلك كله واستخدم المصطلح الجامع الكلي “الأرض” ومعنى ذلك أن فساد أي جزء أو عنصر فيها هو فساد لبقية الأجزاء والعناصر لما هنالك من الترابط والتوازن، وقد توصل العلماء أخيرًا إلى أن المشكلات البيئية لا تعرف الحدود والحواجز، كذلك يفهم من التصريح بالأرض بشاعة العدوان عليها، فهي مقر الإنسان ومعاشه وموطن حياته(7).
1/5 المصطلح القرآنى للاعتداء على البيئة – الإفساد في الأرض: مضمونه وصوره
المصطلح الشائع في أدبيات البيئة هو الاعتداء على البيئة، لكن هذا المصطلح لم يشع في الإسلام، وبدلاً منه شاع مصطلح “الإفساد في الأرض”، مع أنه غير شائع في أدبيات البيئة المعاصرة، ومن المهم هنا تحديد مفهوم هذا المصطلح الإسلامي وبيان صوره وأبعاده، ومن ثم مدى تميزه أو اتفاقه مع المصطلح الشائع “الاعتداء على البيئة”.
1- مفهوم الإفساد: الإفساد لغة إذهاب ما في الشيء من نفع وصلاحية، والفساد خروج الشيء عن حد الاعتدال، ويضاده الصلاح، أو هو تحول منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره(8).
والإفساد شرعًا لا يختلف عن هذا المفهوم اللغوي، مع ملاحظة أن الشرع لم يحظر كل إزالة لصلاحية الشيء، وإنما حظر فقط الإزالة التى لا يترتب عليها نفع أو مصلحة أهم، ولنعد التدبر في هذه الآية الكريمة: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا..} ولنستمع إلى ما يقوله المفسرون فيها؛ يقول الرازي: “النهي عن الإفساد يدخل فيه النهي عن إفساد النفوس بالقتل وغيره، وإفساد الأموال بالسرقة والنهب والغش وغيرها، وإفساد الأديان، وإفساد الأنساب، وإفساد العقول، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة، فقوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} منع من إدخال ماهية الإفساد في الوجود، والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه”(9)، وهذه آية كريمة أخرى نقف أمامها متدبرين، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وفي تفسيرها يقول الإمام البقاعي: “ظهر الفساد أي النقص في جميع ما ينفع الخلق في البر بالقحط والخوف ونحوهما، وفي البحر بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه من قبل، بما كسبت أيدي الناس أي بما عملت من الشر عقوبة لهم على فعلهم”(10)، نلاحظ أن البقاعي قد حدد مفهوم الفساد بالنقص في منفعة الأشياء، ومثل لذلك بالقحط والخوف وقلة الصيد ونحو ذلك، ولا أظن أن آثار الاعتداء على البيئة كما يتحدث عنها العلماء اليوم تتجاوز ذلك الإطار. وقد أوضح أن ذلك بسبب ما ارتكبه الإنسان من شرور. والشر أبوابه عديدة ومجالاته متنوعة، فالإسراف شر، وإتلاف الأموال شر، وظلم الغير شر، والفساد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي شر، وفي كلمة لقد ظهر الفساد من جراء الإفساد. ثم إن تفسير الرازي -رحمه الله- يحيط بكل أبعاد وآثار التدهور البيئي. ومن يطّلع على ما يحدثه التدهور البيئي من آثار سلبية -وقد سبقت الإشارة إليها- يدرك بحق كيف أنها تدمر الصحة والحياة، وتتسبب في إزهاق أرواح الملايين، ثم إنها تحدث بالفعل نهبًا واستنزافًا للأموال وتدميرًا للعقول والأفكار والقيم، ومن ثم فإن الإفساد في الأرض يشتمل على كل اعتداء على البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية، لا فرق في ذلك بين تلوث المياه والهواء وتلوث الأفكار والقيم، بل إنه في الثانية أشد خطرًا. إن محل التلوث في البيئة الطبيعية هو الأموال لكن محل التلوث في البيئة الاجتماعية هو الإنسان، وبالطبع فإن تلوث الإنسان أخطر بكثير من تلوث الأموال. إن الإنسان غير الملَّوث فكريًّا وأخلاقيًّا يحافظ على الأموال بعيدة عن التلوث، أما الأموال فلا تحافظ على الإنسان بمفردها.
2- صور الإفساد في الأرض: من هذا المفهوم الإسلامي لمصطلح الإفساد فإنه يمكننا القول بثقة واطمئنان إن مصطلح الإفساد يدل تمامًا على مضمون مصطلح الاعتداء على البيئة، ومن ثم يشمل تلك الصور الثلاث للاعتداء، وقد سبق أن أشرنا إلى أن الإسلام لا يقر تعطيل البيئة، وهنا ندلي بمزيد من البيان حول هذه المسألة.
وبداية تجدر الإشارة إلى أن العلامة ابن خلدون قد أثار المسألة الدقيقة التي تذهب إلى أن تعطيل المورد يؤدي إلى تلوثه من جهة، وزواله من جهة أخرى، وقد مثل لذلك بالماء الراكد غير المستعمل(11)، وقبل ابن خلدون قال الفقهاء ومنهم أبو يوسف والماوردي وأبو يعلى إنه لا يصح ترك الأرض عاطلة حتى لا تتحول إلى أرض موات، أي أرض لا منفعة فيها، أرض ميتة. وليس أبلغ في التحريض على استخدام الموارد وعدم تعطيل البيئة من قوله r: “من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث”(12)، وفي رواية “فله أجر”، ولذلك يقول أبويوسف: “ولا أرى أن يترك الإمام أرضًا لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها، فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج”(13)، ومن هذا القبيل قول ابن حزم “ويأخذ السلطان الناس بالعمارة وكثرة الغراس، ويقطعهم الإقطاعات في الأرض الموات، ويجعل لكل أحد ملك ما عمره، ويعينه على ذلك، فبه ترخص الأسعار، ويعيش الناس والحيوان، ويعظم الأجر، ويكثر الأغنياء، وما تجب فيه الزكاة”(14)، وعلى الشاكلة نفسها ما فهمه الإمام القرطبى من الآية الكريمة {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ..} [ المائدة: 103]؛ حيث يقول: “لو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبسا لا يجتنى ثمرها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع فجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة، والجامع بينهما أنه قطع لطريق الانتفاع وإذهاب نعمة اللَّه، وإزالة المصلحة التي للعباد”(15)، رحم اللَّه الإمام فلقد أفصح تمام الإفصاح عما في التعطيل من تدمير وإهلاك للموارد التي هي النعم بالتعبير القرآني، وقد أيدهم في ذلك الإمام الغزالي؛ حيث يقول في ترك استخدام الموارد: “إن في ذلك تخريبًا للدنيا أولاً وللدين بواسطة الدنيا ثانيًا”(16)، ومما يجدر التنويه به أن علماءنا قد تنبهوا للفرق الجوهري بين التعطيل وبين ترك الاستخدام الجزئي والمؤقت، وفي ذلك يقول الإمام ابن حزم ردًّا على من يقول بأنه لا يجب على الإنسان حفظ ما له إذا أراد إضاعته: “إضاعة المال حرام وإثم وعدوان بلا خلاف، ويجبر الإنسان على سقي نخله إن كان في ترك سقيه هلاك للنخل، وكذلك في الزرع، برهان ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، فمنع الحيوان ما لا معاش له إلا به من علف ورعي، وترك شجر الثمر والزرع حتى يهلكا هو بنص كلام الله إفسادٌ في الأرض وإهلاكٌ للحرث والنسل، والله تعالى لا يحب هذا العمل، فإن قيل فأنتم لا تجبرون أحدًا على زراعة أرضه إذا لم يرد ذلك قلنا إنما نتركه، وذلك إذ كان له معاش غيره، يغني عن زراعتها، وهذا بلا شك صلاح للأرض، وأما إذا لم يكن له غنى عن زرعها فإنما يجبر على زرعها إن قدر على ذلك، أو على إعطائها بجزء مما يخرج منها، ولا نتركه عالة على المسلمين بإضاعته لماله ومعصيته لله U”(17)، الشاهد هنا وضوح التمييز بين تعطيل الموارد وما يحدثه من تدمير وإضاعة للأموال وللبيئة، وبين الترك الجزئي المؤقت لاستخدامها.
وهكذا نجد المفهوم الإسلامي للإفساد في الأرض يشتمل على كل صنوف الاعتداء الإنساني على البيئة بنوعيها، سواء في صورة تلوث لها أم استنزاف أم تعطيل، ومما يحسن التنبيه المؤكد عليه هنا هو أهمية إشاعة هذا المصطلح الإسلامي الدقيق في بحوثنا ودراساتنا ووسائل إعلامنا، فهو يجمع بين الدقة والشمول، وبين التنفير الشديد من الاعتداء على البيئة بل وعلى كل مقومات الحياة.
3- القرآن الكريم ومادة الإفساد: وردت مادة فسد في القرآن الكريم أكثر من خمسين مرة(18)، وهذا التكرار الكبير في العديد من السور إن دل على شيء فإنما يدل على خطورة وبشاعة هذا السلوك، وجسامة ما يترتب عليه وينجم عنه من آثار سلبية. ويكفي أن يدمر عناصر ومقومات الصلاحية في الشيء.
ثم إن هذه المادة جاءت في سياق النهي المباشر من رب العزة، والنهي على لسان بعض رسل الله U، وجاءت في سياق الذم الشديد، والإعلان الصريح بأن الله سبحانه وتعالى لا يحب هذا السلوك، والغالبية العظمى منها جاءت متعلقة بالأرض، والمقابل الصريح لها هو مادة صلح، كما ذكرته بعض الآيات.
كذلك نجدها وردت في سياق ممارسات اقتصادية مثل السرقة وإهلاك الموارد والظلم الاقتصادي، وممارسات غير اقتصادية مثل القتل واتباع الأهواء والجري وراءها والطغيان السياسي والاجتماعي، واعتناق عقائد فاسدة ونشر أفكار مريضة.
كذلك فقد وردت في سياق جريمة من أبشع الجرائم في الإسلام وهي الحرابة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا…} [المائدة:33]، واقترنت أكثر من مرة بسلوك منحرف آخر هو الإسراف، ولعل العلاقة بين التدهور البيئي والإسراف لا تحتاج إلى بيان، ثم جاءت في مقابلة الإيمان والعمل الصالح {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
* * *
المطلب الثاني
العقيدة الإسلامية وحماية البيئة
مسألة البيئة في نظر المسلم مسألة عقيدة وليست مجرد مسألة موارد تلوث أو تبدد تجب حمايتها والمحافظة عليها لتحقيق المزيد من الإنتاج والاستهلاك، كما هو نهج الفكر البشري المعاصر. لقد التفت إلى البيئة التفاتًا فيه الكثير من جوانب الجدية يوم هدد تدهورها وضعه الاقتصادي، إنها قضية “خلق الله” وما يجب أن يكون عليه التعامل معه من ود واحترام بغض النظر عن علاقتها بحياته الاقتصادية. إن المسألة عند المسلم أكبر من هذا بكثير، إنها قضية كون أو عالم، أو هي قضية الدنيا وعلاقتها بالآخرة، إنها قضية خالق ومخلوقات، المسلم ينظر فوقه فيجد الخالق وينظر حوله فيجد الكون والخلق والمخلوقات، المسلم يؤمن بأنه مخلوق لله وبأنه مخلوق لوظيفة ومهمة محددة، وبأن الكون مخلوق هو الآخر لله، وهو بدوره مخلوق لمهمة معينة، ثم إنه يؤمن بأن له بالكون علاقة محددة تحديدًا دقيقًا من قبل الله U، خالقه وخالق كل الكون، معنى ذلك أن تحديد وتكييف العلاقة بين الإنسان والبيئة قام به الإنسان غير المسلم من تلقاء نفسه، وفي ضوء ظروفه وفي ضوء موازين القوى بينه وبين الطبيعة “البيئة”، أحيانًا يعبدها، وأحيانًا يتأله عليها، وأحيانًا يتوافق معها.
إن مجرد قيام الإنسان بتحديد هذه العلاقة هو خطأ كبير، فهل خلق الإنسان البيئة حتى يتعرف على حقيقتها ويتمكن من التحكم فيها بما يشاء وكيف يشاء، إنه لم يخلقها، بل لم يخلق نفسه، كلاهما مخلوق لخالق واحد هو الله U، إذن من الرشادة أن يترك تحديد هذه العلاقة ورسم ملامحها للخالق، وهذا ما فعله الإسلام، إن هناك مبادئ تحكم هذه العلاقة من أهمها مبدأ الخلافة ومبدأ العبادة ومبدأ التسخير(19)، الإنسان خليفة لله تعالى في الأرض، ومعنى ذلك وجود ثلاثة أطراف، المستخلِف والمستخلَف والمستخلف فيه. ومعنى ذلك أيضًا وجود ضوابط وقواعد ومبادئ منظمة وضابطة لعملية الاستخلاف، فعادة ما لا يعطي الموكل سلطات مطلقة للوكيل فيما وكله عليه، وإنما هناك قيود وأحكام. وهكذا خلافة الإنسان في الأرض(20) وأظن أن هذا المعنى كان وراء الصياغة القرآنية {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}؛ حيث عبر بفي ولم يعبر بعلى. فالإنسان خليفة في الأرض وليس خليفة على الأرض.
إن ذلك يعطي للإنسان حيال الكون أو الأرض أو البيئة وضعًا متميزًا يصل إلى درجة السيادة، فالإنسان سيد في الأرض، وقد تحقق له ذلك بفضل توفر مقومين أحدهما خاصّ به وهو العلم والمعرفة والقدرة البدنية، والثاني خاص بالبيئة وهو تسخيرها للإنسان بما يفيده ويشبع له حاجاته، وكلا المقومين منحة من الخالق U، والسيادة هنا ليست من قبيل سيادة غير المسلم على الطبيعة، إنها سيادة محكومة بقوة بل منبثقة من علاقة الإنسان بالله U، وهي علاقة العبودية، فالإنسان في مواجهة الخالق عبد وفي مواجهة الأرض سيد، ولا تناقض بين هذا وذاك بل تواءم وتناغم، فلو لم يكن عبدًا لخالقه لما كان بالضرورة سيدًا في الأرض، بل ربما كان عبدًا لها، وإذا فرط أو أهمل في سيادته في الأرض لم يكن عبدًا حقيقيًّا لله U، لأن سيادته هذه جاءت من الخالق U لأداء مهمة معينة كلفه c بها، وما أعظم الإمام الرازي؛ إذ يعبّر عن ذلك بقوله: “سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء، وتكون مسخرًا لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى”(21)، وقد اقتبس منه هذه الحكمة الآسرة الإمام محمد عبده فصاغها في قولة حكيمة وهي “الإنسان عبد الله وحده وسيد كل شيء بعده”(22)، وانطلاقًا من هذا وذاك قال الدكتور محمد عمارة: “الإنسان سيد في الكون وليس سيد الكون”(23)، وعلى هذه الشاكلة يمكن القول إن الإنسان سيد فى الأرض من قبل سيد الأرض، وهذا التكييف مغاير تمامًا لسيادة غير المسلم على الأرض كما هى في مخيلته.
على المسلم أن يعبد الله، والعبادة هي الطاعة، وموطن العبادة هي الأرض أو ما يسمى بالطبيعة أو البيئة، فالبيئة موطن عبادة المسلم، وتعامله معها برشد هو المظهر الكوني للعبادة، كما قال بحق د. ماجد الكيلاني، ومن ثم فإن حرص المسلم على البيئة هو من باب حرصه على عبادته وطاعته للخالق، ثم إنها خلقت كلها من أجل الإنسان ومن أجل أن يستخدمها ويستنير بها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فكل ما في الأرض خلقه الله لنا، لجنس الإنسان كله بغير تفرقة وتمييز بين جيل وجيل ولا بين عرق وعرق ولا بين دين ودين، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} إما أن يعود على الإنسان تأكيدًا لعمومية الاستفادة والنفع وإما أن يعود على ما في الأرض، والمعنى أن كل ما في الأرض قد خلق من أجل الإنسان، والمغزى أن كل العناصر البيئية مهمة وضرورية للإنسان بحيث إذا ما اختل عنصر فيها لحق الضرر بالإنسان.
ثم إن كون الأرض مهدًا لخلافة الإنسان {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] يحتم على الإنسان أن يكون إيجابيًّا تجاهها، يثيرها ويستخدمها ويستفيد منها، وإلا لم يكن قائمًا بأعمال الخلافة، ومعنى ذلك بلغة فنية بيئية أن علاقة المسلم بالبيئة ترفض التعطيل، فذلك منافٍ لوظيفة الإنسان من جهة، وللحكمة من خلق البيئة من جهة ثانية، ثم إن هذه العلاقة ترفض الاستنزاف والتدمير والإفناء، فالبيئة لم تخلق لجيل دون آخر، ولا لمكان دون آخر. لقد خلقت للناس جميعًا، في كل زمان ومكان. واستنزاف البيئة هو اعتداء على حقوق الأجيال القادمة من جهة، واعتداء على البيئة نفسها من جهة أخرى. كذلك فإن هذه العلاقة ترفض التلوث لأنه استنزاف وتدمير لصلاحية البيئة. عقيدة المسلم تجعل البيئة أداة مهمة وضرورية في قيامه بما عليه من فرائض دينية، فلكي يؤدي ما عليه من صلاة يحتاج إلى مياه طاهرة ويحتاج إلى أرض نظيفة طاهرة، ولكي يؤديها في جماعة يحتاج إلى هواء طيب ورائحة زكية، لذلك طولب بالسواك وطولب بعدم أكل الثوم والبصل عند حضور الجماعات والمساجد ليس هذا فحسب، بل إنه مطالب بثياب نظيفة طاهرة للصلاة فيها، وأرض نظيفة طاهرة للصلاة عليها، ومياه نظيفة طهورة للتطهر بها. إضافة إلى ذلك فإنه حتى في هذه العبادة نجد الإسلام يؤكد على عدم الإسراف في المياه، بل وقدم في ذلك مقادير نموذجية استرشادية للوضوء والاغتسال.
عقيدة المسلم تجعله ينظر للبيئة على أنها نعم من الخالق أنعم بها عليه، وليس مصادفة أن يختم القرآن حديثه عن البيئة بالنص على أنها نعم، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [ابراهيم:32-34]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20]، ولفظة نعمة تحمل معنى التنعم والرفاهة، ومن ثم فمن الرشد المحافظة عليها حفاظًا على رخاء الإنسان، كما تحمل معنى المنحة والشيء الحسن، عكس النقمة، ومن ثم يجب شكرها، وذلك بحمد الله وباستخدامها فيما خلقت له، حتى تبقى وتزيد.
ومما يستحق المزيد من التدبر حرص القرآن الكريم دائمًا على التصريح بأن المسخِّر والمذلل للكون ولما فيه هو الله c، حتى لا يغتر الإنسان بما قد يتوصل إليه من علوم ومعارف وتكنولوجيات تمكنه من السيطرة على بعض عناصر البيئة فينتشي طربًا وتنتفخ أوداجه ويظن أنه السيد المطلق. إن التسخير عمل إلهي محض، والمعرفة الإنسانية هي من الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ..} [الأنبياء:80]، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12]، ثم من الذى خلق العقل والحواس؟ أهو الإنسان؟ إن الإنسان لا يعرف ما عقله، وكيف يعمل، بل إنه لا يعرف ما هو أبسط بكثير من ذلك حتى من المحسوسات، فهل يعرف الإنسان عدد شعرات رأسه؟ ولا يقف الأمر عند ذلك بل على الإنسان أن يستشعر دائمًا أثناء ممارسة علاقته بالبيئة هذا المعنى، وعليه أن يهتف بصوت مرتفع تسمعه البيئة قائلاً: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13].
وهكذا نجد العلاقة بين المسلم والبيئة علاقة تناغم وتآخ وتفاعل إيجابي، ومن ثم تكتسب أقصى درجات الكفاءة والفعالية، فأين هذا من عقائد وثقافات تقوم على التخبط الكبير حيال عملية خلق البيئة، تصل في سفهها إلى اعتناق فكرة الصدفة بوصفها مسلمة تقوم عليها الكثير من العلوم، ومن ثم تتشكل العلاقة غالبًا في صورة صراع واقتتال وتناحر بين الإنسان والطبيعة، وكل هم الإنسان ومبتغاه أن يحقق في صراعه هذا البطش والقهر والاغتصاب، بمن؟ بالأرض التى لا حياة له دونها، يالها من حماقة حمقاء!! وياله من غرور طائش!! ومما يجدر التنويه به هنا أن القرآن الكريم لم يخل من الإشارة إلى مثل هذه المواقف السفيهة من الإنسان، مبكتًا ومزدريًا له في ذلك أبلغ ازدراء، قائلاً: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء:37]، ومبينًا له أنه لا ولن يستطيع خلق أتفه مخلوق، وهو الذبابة، بل إنه لفرط ضعفه وهوانه لا يستطيع أن يسترد منها ما سلبته منه، ويوضح له أن كل ما صنعه في الأرض وما شيّده عليها لا يصمد لحظة أمام جبروت الله c: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ..} [يونس:24]، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، الإحسان إلى البيئة عند المسلم عمل من أعمال العبادة، ويمكن تصوير المسألة بلغة أخرى من خلال العلاقة التبادلية بين البيئة والمسلم من المنظور الدينى، وليس المنظور الاقتصادى فقط، فإذا أحسن المرء إلى البيئة كانت سببًا لنيله الثواب العظيم. فمن يزرع زرعًا فيستفيد منه الطير والدواب فله صدقة، ومن يحسن إلى الطريق بإماطة الأذى عنه فله صدقة، ومن يحسن إلى الطريق يؤدي ما عليه يوميًّا من صدقات عديدة. والحيوانات والطيور والدواب بل والجماد تدعو للإنسان كما تدعو عليه. وقد غرس الرسول r جريدتين على قبرين؛ لتخفيف العذاب عن صاحبيهما، ودخلت المرأة النار ودخلت الأخرى الجنة؛ بسبب موقفهما من عنصر بيئي.
وما دامت البيئة التي هي خلق اللَّه على هذا النحو من الأهمية فيما يتعلق بالمسلم خاصة والإنسان عامة؛ حيث لا يستغني إنسان عن البيئة بغض النظر عن عقيدته. لكن أهميتها للمسلم لها جوانب إضافية متميزة، وإذا كان الأمر على هذا النحو فعلى الإنسان أن يحسن التعامل معها، وعليه ألا يفسد فيها، وعليه أكثر من ذلك أن يرفع من مستوى صلاحيتها ما وسعه الجهد. والسؤال المهم الآن هو: كيف؟ كيف يكون سلوك الإنسان مع البيئة رشيدًا مصلحًا لا مفسدًا؟ هذا ما نجيب عليه فيما بعد.
وهكذا نصل إلى أن المسلم من خلال عقيدته مأمور بحسن استخدام البيئة، ومنهي عن ترك الاستخدام، وعن سوء الاستخدام. ومن هنا ليس من المجاز القول إن عقيدة المسلم تأمره بحماية البيئة، والمحافظة عليها، وتنهاه عن تدميرها والعدوان عليها، بل هي عين الحقيقة.
* * *
المطلب الثالث
الثقافة والتربية الإسلامية وحماية البيئة
العقيدة الصحيحة مع أهميتها القصوى في مسألتنا هذه تحتاج إلى تربية وتعليم وتثقيف، يحيلها من مجرد اعتقادات إلى سلوكيات وحياة نابضة. ومن هنا كان اهتمام الإسلام الفائق بقضية العلم والثقافة والتربية. والمَهمة التى نحن بصددها الآن هي التعرف على ما إذا كان موقف الإسلام حيال ذلك ملبيًا لمتطلبات حماية البيئة والمحافظة عليها أم هو بعيد عن ذلك؟
أ- مبادئ إسلامية في مجال العلوم:
1- الإسلام جعل الميدان الفسيح للعلوم هو الإنسان نفسه، وهو الكون بكل ما فيه من مخلوقات، قال تعالى: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} الآية. وقال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} بعبارة أخرى إن ميدان العلم هو الإنسان والبيئة بكل ما وسعت وحوت من عناصر وجوانب، أو هو خلق اللَّه، هذه قضية.
2- والقضية الثانية أن الإسلام وضع ضابطًا قويًا يضبط العملية التعليمية يتمثل في كونها عملية نافعة حقًّا مفيدة فعلاً للإنسان. معنى ذلك أن العلوم الضارة بالإنسان أو بالبيئة، من حيث الأخلاق من حيث الفكر من حيث الاجتماعيات من حيث الأموال من حيث العقائد والأخلاق من كل الحيثيات هي علوم مرفوضة إسلاميًّا.
3- القضية الثالثة أن الإسلام قدم لتشييد هذه العلوم أدوات المعرفة اللازمة وهي الوحي والعقل والحواس، وأي خلل فيها يهدم قضية فائدة العلم ومنفعته(24).
4- القضية الرابعة أن الإسلام عدّ كل علم يحتاجه المجتمع فرضًا اجتماعيًّا يجب على المجتمع أن يوفره بالقدر الكافي، وبذلك يفسح الإسلام المجال الرحب الفسيح المتطور أمام العلوم كي تتطور وتتزايد بتزايد احتياجات المجتمع، ولا يجمد عند عدد معين أو نوعية محددة منها.
ب- علوم إسلامية:
في ضوء هذه المبادئ العامة الحاكمة علينا أن نشيد العلوم المختلفة، وأن نربي النشء عليها التربية العلمية الصحيحة، بحيث تمثل كلها منظومة معرفية تحقق الصالح العام للإنسان، وتحافظ له على كل مقومات حياته وسعادته.
إن تطبيق هذه المبادئ الإسلامية يقتضي منا إنجاز العديد من المهام العلمية والتربوية والثقافية، ومن ذلك:
1- قيام علم للبيئة على أساس إسلامي صحيح يتعامل مع العناصر البيئية تعاملاً يتواءم وما قدّمه الإسلام حيالها من توجيهات وأحكام، يحدد بوضوح قاطع أهمية البيئة للإنسان طبقًا للمفهوم الإسلامي لها، ويوضح بجلاء خصائصها كما بينها الإسلام، ويرسم الصورة الدقيقة لكيفية التعامل الصحيح معها، وإقامة العلاقة السليمة بين الإنسان وبين هذه العناصر البيئية. ولأهمية هذا العلم فإننا نرى أنه من الاتباع السليم لمبادئ وأحكام الإسلام أن يكون مقررًا إلزاميًّا لكل الدارسين وفي كل مراحل التعليم(25)، لا يسع أحد جهله ويكاد يصل إلى أن يكون فرض عين على الجميع، حتى يعلم الجميع كيف يكون حسن التعامل مع البيئة، وكيف تكون العقوبة الشرعية لمن يتجاوز ذلك. من منطلق أن هذا العلم هو نواة لكل العلوم الكونية والإنسانية. فعلى كل علم أن يدرس موضوعه دراسة صحيحة تنطلق من الإيمان بأن لهذه الأشياء التي هي موضوعات للعلوم خالقًا، وأن طبائع وخصائص هذه الأشياء تؤخذ مما وصفها بها الخالق. ومن ثم فإن طرق وأساليب التعامل معها بما يحفظها ويبعد عنها الفساد، بل وينمي صلاحها ينبغي أن تنبع من الهدي الإسلامي، فالخالق أعلم بخلقه وبما يصلحه ويزكيه ويحافظ عليه. وقد تفضل تعالى علينا فأعطانا ما نحتاجه من هداية في التعرف على ذلك، هداية ذهبت إلى مناحٍ بعيدة مؤثرة أبلغ التأثير في علوم ما كان يرد على الخاطر أن لها علاقة بها، ومن ذلك علم العمارة ومواصفات المسكن الصالح، وعلم التخطيط العمراني ومواصفات الشوارع والميادين والمرافق.
وبهذه الرؤية الإسلامية تتكون لدينا علوم بمواصفات ومنطلقات وغايات وأدوات وأساليب تختلف كثيرًا عما هو معروف الآن.
2- قيام علم يسمى علم الإسراف والتبذير، وقد يكون في ذلك بعض الغرابة لكنها غرابة آنية، أليس هناك علم الإجرام؟ فلم لا يكون هناك علم الإسراف، يأتي على هذه الظاهرة السائدة المدمرة من كل جوانبها، مفهومها وأبعادها ومظاهرها وعواملها وآثارها وعلاجها من منطلق إسلامي يرتكز على الوحي والعقل والواقع. نحن نعلم أن الإسراف وراء الغالبية العظمى من المشكلات البيئية، الإسراف الاستهلاكي والإسراف الإنتاجي. إن العجز البيئي معناه زيادة الطلب عن المعروض البيئي وزيادة الطلب تعني ضمن ما تعني الإسراف. ونحن نعلم موقف الإسلام من هذه الظاهرة المدمرة على مستوى القرآن وعلى مستوى السنة وعلى مستوى الجهود العلمية البارزة لعلماء المسلمين، مستفيدين مما دوّنه العلماء غير المسلمين في هذا الموضوع الخطير. وقد أفاض في الحديث عن ذلك السلوك المدمر العديد من حكماء العلماء من غير المسلمين.
لقد قدم الإسلام في هذا الشأن المادة العلمية الجيدة والكافية، ويبقى علينا أن نجمعها ونحللها وندرسها، ونربي عليها النشء، ويعلمها الصغير والكبير والغني والفقير، حديث القرآن في الإسراف والتبذير والسفه والترف واضح جلي، أحاديث رسول الله r في الإسراف في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والانتقال بل والعبادة أكثر من أن تحصى، علماء المسلمين على اختلاف تخصصاتهم لم يتركوا مناسبة للحديث عن الإسراف إلا وأشبعوه دراسة وتحليلاً، موضحين آثاره الاجتماعية والاقتصادية(26)، والعلماء غير المسلمين الكثير منهم اليوم يقدّم دراسات جادة ودقيقة عن أبعاد ومخاطر هذه الظاهرة المرضية. في ضوء ذلك كله نحن مطالبون بتشييد علم الإسراف، ينشأ عليه الطفل ويُدرّب عليه تدريبًا عمليًّا، ومن ثم يُربّى على حسن التعامل مع البيئة، الذي يضمن لها المحافظة وعدم الاعتداء بل ويضمن لها النمو والازدهار.
3- إحداث تعديلات جوهرية في الصياغة الحالية لعلم الاقتصاد تتناول مختلف جوانبه بدءًا من موقفه غير الصحيح مما يسميه بالأموال الحرة، وما رتّبه ذلك من مضار ومشكلات بيئية مدمرة، ومرورًا بموقفه من الإنتاج وغاياته وأساليبه، والاستهلاك وضوابطه، والسلع والخدمات على اختلاف أنواعها، بحيث ينتج لنا علمًا يضع العامل الاقتصادي وضعه الصحيح في منظومة الحياة الطبيعية التي يبتغيها الإسلام محققًا للرخاء الاقتصادي، ومحافظًا على البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية في الوقت نفسه، من خلال إنتاج سلع صغيرة تحقق الحاجة منها فحسب، على درجة عالية من الجودة تجعل الاستفادة بها تمتد أمدًا طويلاً(27)، سلع تعتمد بقوة على العناصر المتوافرة في البيئة، مستفيدة من خصائصها، محافظة عليها، نريده علمًا يقدس الاعتدال والتوفير وحسن التدبير وحسن استخدام السلع والأموال، يقوم على الأثر الخالد “لا جديد لمن لا قديم له”(*) بدلاً من الجري اللاهث وراء تدمير الجديد وإزهاقه قبل حلول أجله الاقتصادي الحقيقي، جريًا وراء غيره الذي لن يكون حظّه بأحسن من حظّ سابقه، وهكذا ندور في حلقة خبيثة من التدمير وإضاعة الأموال والطاقات(28).
4- درس بيئي من امرأة بدوية: في نهاية هذا المطلب الذي آثرنا فيه بعض الجوانب التربوية والتعليمية للمحافظة على البيئة نجد من حق القارئ علينا أن نذكر له قصة امرأة بدوية لم تدخل جامعة ولا مدرسة، ولكنها تربت في مدرسة الإسلام، وتعلمت على يديه كيف يكون التعامل الجيد مع الموارد ومع البيئة بشكل جعل سلوكها يُخجل حتى الرشيد منا، إنها معاذة العنبرية التي ذكرها الجاحظ بحكمة وذكاء في كتابه البخلاء، وما هي ببخيلة ولكنها رشيدة “قال القوم: قد مرت بنا اليوم فوائد كثيرة، ولهذا قال الأول: مذاكرة الرجال تلقح الألباب، ثم اندفع شيخ منهم فقال: لم أرَ في وضع الأمور مواضعها، وفي توقيتها غاية حقوقها كمعاذة العنبرية، قالوا: وما شأن معاذة هذه؟ قال: أهدى إليها ابن عم لها أضحية، فرأيتها كئيبة حزينة، مفكرة مطرقة، فقلت لها: مالك يا معاذة؟ قالت: أنا امرأة أرملة وليس لى قَيّم، ولا عهد لى بتدبير لحم الأضاحى، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها، وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئًا لا منفعة فيه، ولكن المرء يعجز لا محالة، ولست أخاف من تضييع القليل، إلا أنه يجر تضييع الكثير. أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل كالخطاف، ويسمر في جزء من جذوع السقف، فيعلق عليه الزبل والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنابير وبنات وردان والحيات وغير ذلك، وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة، وأما قحف الرأس واللحيان وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق ثم يطبخ، فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها، فلم ير الناس وقودًا قط أصفى ولا أحسن لهبًا منها، وإذا كانت كذلك فهى أسرع في القدر لقلة ما يخالطها من الدخان، وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب، وللصوف وجوه لا تدفع، وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب، ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم، وقد علمت أن اللَّه U لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها(*)، وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به صار كية في قلبي وقذى في عيني وهمًا لا يزال يعاودني. فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت، فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح باب الرأي في الدم. قالت: أجل، ذكرت أن عندي قدورًا شامية جددًا، وقد زعموا أنه ليس أدبغ ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم. وقد استرحت الآن إذ وقع كل شيء موقعه. قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر فقلت لها: كيف كان قديد تلك الشاة؟ قالت: بأبي أنت! لم يجئ وقت القديد بعد! لنا في الشحم والألية والجنوب والعظم المعروق وغير ذلك معاش! ولكل شيء إبان”(29)، من الذي ربى هذه المرأة البدوية هذه التربية البيئية الرشيدة؟ إنه الإسلام. وقد ذكرت بلسانها ذلك في قصتها أكثر من مرة، وما أجمل قولتها “لقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئًا لا منفعة فيه” إنه درس عملي رائع في حسن التعامل مع البيئة، ووضع كل شيء موضعه، والبعد عن الإسراف.
هل نحن في عصورنا هذه نعرف كيف نحسن التعامل مع ما لدينا من سلع وأموال مثل هذه المرأة في العصور الماضية؟ هل ربات البيوت على معشار من هذه الدراية البيئية السليمة؟ مَن مِن نساء المسلمين بل الكثير من رجالهم الذي يعرف الحكم الشرعي للدم المسفوح واستخداماته المحرمة والمباحة؟ هل أبقت هذه المرأة العالمة المسلمة الرشيدة من الشاة شيئًا ولو تافهًا دونما استفادة وحسن انتفاع!! ويا لها من مفارقة ومقارنة بين سلوك هذه المرأة التي لم تتعلم في جامعة ولا مدرسة وبين سلوك نسائنا المتعلمات في البيوت مع العديد والعديد من الأموال والسلع المختلفة من ملابس، لأثاث، لمفروشات، لأدوات، لآلات، لمياه، لكهرباء، لغير ذلك. أمثل هذه المرأة تنجب أطفالاً يلوثون البيئة ويدمرونها؟
إذا كانت المرأة البدوية في الصحراء قد علمت من الإسلام هذا الدرس البليغ وطبقته في حياتها تطبيقًا رشيدًا دونما خوف من سياط حاكم أو لوم لائم، فهل نعجز نحن في عصرنا هذا، ولدينا من الإمكانيات والقدرات ما لدينا عن أن نتعلم العلم النافع الذي نحافظ به على بيئتنا وأموالنا طبقًا للهداية الإسلامية؟ سؤال مطروح ينتظر الجواب.
ليتنا ندرك أن تلوث الهواء والماء وغيرهما من عناصر البيئة الطبيعية هو نتاج تلوث إنساني، نابع عن سلوك إنساني لم يعرف جيدًا معنى التلوث، ولم يُربَ التربية الصحيحة على السلوك البيئي الرشيد. ومن ثم فإن نقطة البدء في حماية البيئة والحفاظ عليها الحرص الكامل على عدم وجود تلوث إنساني لدى الإنسان في فكره وثقافته وسلوكه، وذلك رهن معرفة رشيدة وتربية حسنة وثقافة سليمة. وبهذا وحده نضمن عدم تلوث الهواء والماء والتربة. أما أي نهج غير ذلك فهو عقيم، بل نهج عابث، مثلنا فيه مثل من يحاول ويحاول تعديل ظل مع أن مصدره أعوج، ومتى يتم ذلك!!
ومن هنا فإن مسئولية وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام عن تدهور البيئة وعن حمايتها لا تقل بحال من الأحوال عن مسئولية وزارات أخرى؛ مثل الزراعة والرى والصناعة بل والبيئة، فهي المسئولة عن المدخلات والعناصر المنتجة للسلوك، وبقدر ما تكون عليه من رشد واستقامة بقدر ما تأتي المنتجات “السلوكيات” جيدة ورشيدة.
* * *
المطلب الرابع
الاقتصاد الإسلامي وحماية البيئة
ربما كان من أوضح ما يدركه المرء في موضوع تدهور البيئة علاقة هذا التدهور بالعامل الاقتصادي، لقد تأكد أن النمو الاقتصادي في إطار الاقتصاد الوضعي لم يتواءم وحماية البيئة، بل كان في معظم حالاته على حساب نوعيتها وصلاحيتها، كذلك فقد ظهرت لنا علاقة الفقر والتخلف الاقتصادي بالتدهور البيئي، ومعنى ذلك أن كلاً من النمو والتخلف قد أسهم بقوة في المشكلات البيئية الراهنة. هذا الوضع يطرح علينا سؤالاً مهمًّا هو: ما الذي قدّمه الإسلام حيال هذا الموضوع؟ وهل ما قدّمه يتواءم ومتطلبات نوعية بيئية جيدة أم هو على حسابها؟ هذا ما يجيب عليه هذا المطلب بقدر من الإيجاز.
4/1 النمو الاقتصادي:
من الحقائق المُهمة التي يدركها بوضوح الباحث الجيد في الإسلام، وإن لم يكن مسلمًا أن الإسلام يولي عناية فائقة بالنمو الاقتصادي الرشيد، عادًّا إنجازه فرضًا دينيًّا وليس خيارًا دنيويًّا. فهو في ظل إطاره الإسلامي أحد المظاهر الرئيسة للعبادة، والنصوص الإسلامية صريحة في ذلك، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي طلب منكم عمارتها، والطلب المطلق من الله U يُحمل على الوجوب(30)، وقال r: “طلب الحلال فريضة بعد الفريضة”، ومن الواضح أن إنجاز وتحقيق الفرائض الإسلامية الأخرى رهين تحقيق مستوى اقتصادى طيب(31)، إذن مسألة النمو الاقتصادي ضرورة وجود ومسألة مفروغ منها، والقضية هي كيف يمكن إنجازه في ظل المحافظة على البيئة؟ إن الباحث في هذا الموضوع يصل إلى نتيجة مفادها أن النمو الاقتصادي في المنظور الإسلامي يعد عاملاً حاميًا للبيئة ومحافظًا عليها، ومؤيدات ذلك عديدة، نذكر منها ما يلي:
1- مقصد الشريعة توفير الحياة الطيبة، من خلال المحافظة على المقومات الحياتية الخمسة؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وطيب الحياة لا يقوم على العامل الاقتصادي بمفرده كما أنه لا يتوفر في غيبة هذا العامل. ومعنى ذلك أن العامل الاقتصادي هو عنصر في مركب ووحدة في مجموع، عليه أن يتواءم ويتناغم بل ويلتزم بمتطلبات الكل ولا يشذّ، بل ولا يعطي لنفسه موقع القيادة والانفراد بالقرار، معنى هذا الكلام أن ما حدث في الغرب من تضخيم بالغ لدور العامل الاقتصادي، وجعله كأنه كل شيء، بل وتطاوله بحيث صار في موطن العقيدة، ثم انصرافه إلى تحقيق التكاثر اللامحدود والجري اللاهث وراء الإشباع المادي غير المنتهي، وما يحدثه ذلك لا محالة من مضار بيئية وخيمة كل ذلك لا مجال له في مجتمع يضع العامل الاقتصادي موضعه الصحيح، إنه جزء من كل، ولعل من الدلائل البينة في ذلك أن الإسلام لم يطلب منا ممارسة النشاط الاقتصادي تحت عنوان النمو أو التنمية(32)، وإنما تحت عناوين أخرى، وهذه مسألة لا تتعلق بالشكليات كما قد يتصور، فللمصطلحات إيماءاتها ومعانيها التي تميز كل مصطلح منها عن الآخر، إن التنمية أو النمو تدل أول ما تدل على الكثرة الكمية، فنحن في ظلها في خضم الكميات المتزايدة من السلع والخدمات، دون إشباع قوي حيال الكيفيات، وحيال الأهداف ومدى سموها، وحيال الأعباء والتكاليف والتضحيات، ومن ثمّ وجدنا تنمية تُلوث البيئة وتستنزفها، ووجدنا تنمية تزيد الفقر والتفاوت، ووجدنا تنمية تخلق ترفًا وجنونًا اقتصاديًّا، ووجدنا تنمية تأتي على كل القيم والأخلاق في اكتساب الأموال وإنفاقها، لكنا لو نظرنا مليًّا في مصطلح العمران أو العمارة أو الإصلاح الاقتصادي(33)، فإننا نجد الإيماءات متكاملة فيها، الكم والكيف، فيها الوسيلة والهدف، فيها التكلفة والعائد، هل رأيت إصلاحًا يشيع فيه الظلم والفساد!! لكن التكاثر المادي قمين بذلك، ومن ثم لا يعد بمفرده في الإطار الإسلامي تقدمًا. لقد حققت عاد وثمود وحقق فرعون تقدمًا اقتصاديًّا فاق في بعض جوانبه ما بلغناه في عصرنا هذا، ونظرًا لافتقاد المقومات الأخرى للتقدم عُدّ ذلك التقدم الاقتصادى طغيانًا وأنتج المفاسد بدلاً من المنافع، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: الآيات 6-14]. إن الجري اللاهث وراء المزيد من الإنتاج والتملك، دونما مقصد صحيح وعائد حقيقي يبرر الإقدام على إقامة هذه الأموال وامتلاكها، هو في نظر الإسلام عبث، وليس رقيًا ولا تقدمًا. قال تعالى على لسان نبي اللَّه هود مستنكرًا على قومه هذا السلوك المظهري والذي يمارس اليوم بصور عديدة في مختلف البلدان: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] بناء بغير هدف حقيقي اللهم إلا التنافر والتباهي بالقوة والكثرة.
2- بيّن الإسلام لنا بيانًا ناصعًا أن كلاً من التنمية والبيئة أمران متلازمان، لا غنى لأي منهما عن الآخر، ولا غنى للإنسان عن أي منهما، ما دمنا أردناها تنمية مستديمة، إن ذلك كله يشع من ثنايا هذه الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} في صدر الآية نجد البيئة صالحة مهيأة مذللة، وفي وسطها نجد النشاط الاقتصادي والسعي الحثيث من الإنسان لإنجاز التنمية، ومن ثم تحقيق الرخاء الاقتصادي، وكما افتتحت الآية بالإطار العقيدي {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ…} اختتمت به {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} إشارة قوية إلى ضرورة سيطرة العقيدة على كل تصرفات الإنسان حيال البيئة وحيال التنمية، إن الآية الكريمة أوضحت لنا بغير خفاء أن إنجاز الشق الاقتصادي في طيب الحياة رهن توفر شرطين؛ بيئة صالحة ونشاط اقتصادي قوي ورشيد. وبغير هذا أو ذاك لن يتحقق شيء. إن النشاط الاقتصادي “التنمية” عنصر جوهري في المسألة، لكنه يحتاج موطنًا ويحتاج مدخلات ويحتاج مخرجات، وكل ذلك رهن توفر العنصر الثانى وهو البيئة الصالحة، وهكذا تعانقت التنمية والبيئة في المفهوم الإسلامي، عكس ما شاع من تخبط في الفكر الوضعي لمدد طويلة تجرعت فيها البشرية الكثير من العناء، وأخيرًا ثاب إلى رشده فأدرك ما هنالك من روابط إيجابية ومن تلازم بين التنمية والبيئة، وأنه لا يمكن تحقيق تنمية مستديمة تحقق لإنسان الحاضر مطالبه وتحافظ في الوقت ذاته على حقوق ومطالب إنسان المستقبل في غيبة النوعية البيئية الجيدة. وأخذت الدراسات تترى موضحة كيف نضمن حضور عنصر البيئة في كل خطوات عملية التنمية(34)، ومما يثير العجب أن هذا وأكثر منه قد شيّده الإسلام بقوة ووضوح منذ أمد بعيد، ولكن ماذا يفعل الإسلام مع أناس لا يؤمنون به، ومع أناس انتسبوا إليه انتسابًا شكليًّا محضًا، ولا أدل على ذلك من شهادة سيدنا رسول اللَّه r علينا: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
3- لا يقف الأمر عند حد التأكيد على الأهمية وعلى الهدف وعلى العلاقة التكاملية بين البيئة والتنمية بل يمتد إلى الوسائل والأساليب والتنظيمات والمؤسسات المسئولة عن إنجاز التنمية. فليس خافيًا ما دار من جدل حاد بين الاقتصاديين حول مدى مسئولية كل من القطاع العام والقطاع الخاص عن التدهور البيئي، وكانت خلاصة المواقف أن كلاً منهما أسهم بقسط وافر في التدهور البيئي، فالقطاع الخاص في ظل النظام الرأسمالي معني بنفسه وبما يحققه ويتحمله، غير مهتم اهتمامًا يذكر بما يجلبه سلوكه على البيئة والمجتمع، مما يعرف بالآثار الخارجية السلبية، والقطاع العام في ظل النظام الاشتراكي تقمص شخصية القطاع الخاص في النظام الرأسمالى وأخذ يتصرف في ضوء أهدافه الخاصة، ومن ثم أحدث تدهورًا مهولاً في البيئة دونما حسيب أو رقيب. إن موقف الإسلام حيال هذه المسألة يتمثل في تحميل كل من الأفراد والدولة مسئولية إنجاز التنمية، بتقسيم جيد للأدوار والمهام، ما لا يحدث تنافسًا، وإنما تكاملاً ودعمًا متبادلاً. إن الإسلام برغم ما قدّمه من قيم تجعل الفرد يراعي إلى حدٍّ كبيرٍ مسألة الآثار الخارجية السلبية، لم يعوَّل على ذلك التعويل كله، فأقام من الدولة جهازًا حارسًا ومراقبًا بل وفاعلاً، فالدولة أو الحكومة شغلها الشاغل هو المصالح العامة والمفاسد العامة، تجلب الأولى وتمنع الثانية، بكل ما لديها من نفوذ وسلطان، تعين الأفراد ليحققوا المصالح العامة قدر جهدهم وتحول بينهم وبين ما قد يحدثونه من مفاسد عامة. بعبارة أخرى إن الدولة في الإسلام من مهامها الكبرى التي لا يمكن لها التخلي عنها الحفاظ على البيئة الاجتماعية والطبيعية وحمايتها وكم كانت الدولة حكيمة في صدر الإسلام – في عهد عمر- عندما مارست مهمتها في صيانة وحماية وحسن استخدام الأصول البيئية ممثلة في المياه والأنهار ملزمة الأفراد بتحقيق ذلك قائلة “لو تركتم لأكلتم أولادكم”(35).
ولم يقف الأمر عند مجرد ممارسة تجربة ما في عصر ما، وإنما هو التقنين الشرعي الدقيق الدائم والملزم عبر العصور حيال استخدام وحماية الأصول البيئية من مياه وطرقات وهواء ومعادن وغابات ومراعٍ وارتفاق وغير ذلك، التنمية في الإسلام من مهامها ووظائفها وأهدافها خدمة البيئة وإفادتها، فالمسلم عندما يزرع عليه أن يستشعر مدى استفادة الغير، ولا سيما العناصر البيئية من زراعته “ما من مسلم يزرع زرعًا أو يغرس غرسًا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة أو شيء إلا كان له به صدقة”(36)، “ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له”(37) هنا تجلى إحسان الإنسان إلى البيئة الطبيعية بصورها العديدة. لقد أحسن إلى التربة فأحيا مواتها وأحسن إلى البيئة الحيَّة من حيوانات وطيور وزورع.. إلخ، وتحضرنا هنا تجربة جيدة علنا نستلهم منها الدروس والعبر في كيفية التفاعل والتكامل بين الأفراد والحكومة. في عهد عمر t عندما دخلت الدولة الإسلامية أراضي الفتوح الشاسعة، وقد رفضت الدولة إدخال هذه الأراضي تحت نطاق الملكية الخاصة، وأصرت على أن تكون ملكية عامة لكل الناس على مر العصور وحتى قيام الساعة. معنى ذلك أنها رفضت أن يقع أصل بيئي على أعلى درجة من الأهمية وهو الأرض، وقد عبرت عنه بحق بأنه عين المال(38) تحت سيطرة التملك الخاص ويحرم منه الأجيال القادمة، ثم إنها نظرت إلى ما يحدثه التملك الخاص لهذا المورد الهائل من تفاوت حاد في التوزيع، ومن ثم شيوع الفقر لدى الغالبية العظمى من السكان، وفي ذلك يقول معاذ t: “إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي نفر قليل، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة الواحدة، ثم يأتي قوم من بعدهم يسدون من الإسلام مسدًّا وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم”(39).
ونحن نعلم أن شيوع الفقر من العوامل المدمرة للبيئة، ومما تجدر الإشارة إليه أن الدولة في موقفها هذا لم تحاب البيئة على حساب التنمية، لقد كانت كفاءة التنمية عنصرًا بارزًا في القضية، ولذلك كان عمر يقول: “هم أعلم بها وأقوى عليها”(40)، وإلى هنا والقضية ما زالت معلقة، فالحسم على مستوى الملكية ليس فيه بمفرده كبير فائدة، فقد كان من الوارد أو المحتمل أن تستغل الدولة هذه الأراضي التي جعلتها ملكية عامة بنفسها، من خلال ما يعرف بالقطاع العام الزراعي، لكنها بتوفيق من الله تعالى لم تفعل ذلك، وإنما تركتها في أيدي أصحابها السابقين، يقومون هم باستغلالها، نظير خراج يؤدونه للدولة، ينفق منه أساسًا على تنمية الزراعة ثم ما عداها، ومن ثم أصبحت الأرض من حيث الملكية هي ملكية عامة ومن حيث الاستغلال هو استغلال خاص، يولد الحافز للأفراد في حسن استغلالها؛ حيث لهم جميع التصرفات فيها حتى التوريث، وهكذا تفاعل دور الحكومة مع دور الأفراد في إنجاز التنمية وفي المحافظة على البيئة بما يضمن حق الأجيال القادمة، فلم يغبن الحاضر ولم يغبن المستقبل(41)، وفي ذلك يقول الإمام السرخسي: “تصرف الإمام وقع على وجه النظر، وأنه نصب لذلك، وبيانه أنه لو قسمها بينهم اشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد فيكر عليهم العدو، وربما لا يهتدون لذلك العمل أيضًا، فإذا تركها في أيديهم وهم أعرف بذلك العمل اشتغلوا بالزراعة وأدوا الجزية والخراج، فيصرف ذلك إلى المقاتلة، ويكونون مشغولين بالجهاد، وبهذا يتبين أنه ليس في هذا إبطال حقهم، بل فيه توفير المنفعة لهم، لأن منفعة القسمة وإن كانت أعجل فمنفعة الخراج أدوم، ولأنه كما ثبت الحق فيها للذين أصابوا ثبت الحق لمن يأتي بعدهم بالنص، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، وفي القسمة إبطال حق من يأتي بعدهم أصلاً…”(42).
وهكذا نجد القطاع الخاص مارس الإنتاج الفعلي الزراعي، ومارست الدولة دورها في التشريع والتنظيم، وهذا هو ما يحاول الفكر الوضعي الحالي أن يصل إليه بعد طول تخبط وعناء(43).
4- بالرغم من الاعتراف بالروابط الإيجابية بين البيئة والتنمية، فإن هناك في بعض الحالات صورًا من التعارض وتبادل الأهداف. إن إمعان النظر في أعمال جهاز الحسبة في الإسلام أوضح أن الكثير من العدوان على البيئة ينتج من أعمال اقتصادية إنتاجية؛ مثل نفايات الوحدات الإنتاجية وكذلك ما تستخدمه من أدوات وخامات، وأسلوب في العمل، وقد بيّن الفقه أنه حيال ذلك لا يكون العلاج بوقف النشاط الاقتصادي، وإنما بمنع تلك الوحدات من هذه الأشياء الضارة، وتوجيهها إلى البدائل النافعة من موارد وأساليب. فعلى المحتسب أن يمنع رجال الأعمال من استخدام مواد وأدوات ملوثة، يستوي في ذلك المواد الخام والمواد المساعدة، وكذلك رءوس الأموال مثل المواعين، وكذلك عنصر العمل فإنه يجب أن يقدم خدمته نظيفة غير ملوثة؛ مثل مداخن الأفران، والحمامات، والذبح في الطرقات، وترك الأوساخ والفضلات في أرجاء المصانع والأسواق. وضرورة توافر مواصفات معينة لحماية البيئة في بعض المجالات من حيث المبنى والموقع والآلات المستخدمة، وكذلك ضرورة نظافة المياه المستخدمة في الشرب والأغراض المنزلية الأخرى(44). ومما تنبغي الإشارة إليه هنا أن ينظر في هذه الصور والأمثلة في سياقها التاريخي، وأن تعدل وتطور في ضوء الواقع المعاصر الذي لا يختلف عن الماضي إلا من حيث الحجم والشكل والأدوات المستخدمة.
5- التوطين السليم للصناعات مراعاة للاعتبارات البيئية: من جوانب التأثير السلبي للنمو على البيئة عدم التوطن السليم للمشروعات بما يقلل إلى أدنى قدر ممكن من هذه الآثار، ومن المعلوم أن التعامل الجيد مع هذه القضية يتطلب إشرافًا قويًّا من قبل الدولة؛ حيث عادة ما قد يتجاهل الأفراد ذلك جريًا وراء المصالح الخاصة. والفكر الإسلامي قدم الكثير في هذا الجانب، فألزم الدولة من خلال أجهزتها المختلفة بالقيام بالتخطيط الصناعي بما يكفل تقليل الآثار البيئية السلبية إلى أدنى حد ممكن، بحيث خصص لكل صناعة أو حرفة مكانًا معينًا يتناسب ومقتضياتها(45). وقد ظهرت في الحضارة الإسلامية المدن الصناعية التي تحاول اليوم دول عديدة إقامتها.
4/2 الفقر:
إذا مارس النمو اعتداء على البيئة فإن التخلف والفقر يمارسان أيضًا هذا الاعتداء، وكما شاع تلوث النمو شاع تلوث التخلف، والدرس المستفاد هنا أنه في ظل تفشي الفقر فإن أي كلام عن حماية البيئة والحفاظ عليها لا يعدو أن يكون ضربًا من لغو الحديث، ومعنى ذلك بوضوح أن المواجهة الفعّالة والجادة لمشكلة الفقر هي بذاتها تحمل مواجهة جادة على التدهور البيئي، ولذلك فإذا أردنا أن نتعرف على جانب مهم من موقف الإسلام من حماية البيئة فعلينا أن نتعرف على ذلك من خلال معرفة موقفه من قضية الفقر، هل الإسلام يقر التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخول؟ هل الإسلام يقر الفقر المطلق بجوار التخمة المفرطة؟ هل الإسلام يقر التساوي الحسابي في الثروات والدخول بين الأفراد؟ الإسلام لا يقر هذا ولا ذاك لأن كلا منهما لا تصلح به الحياة. الإسلام يقر التفاوت المنضبط الموضوعي، الذي له قاع تستقر حدوده الدنيا عنده ولاتتجاوزه وهو ما يتمثل في الحد الأدنى للكفاية(46).
كيف يحقق الإسلام ذلك؟ وما الآليات والوسائل التي اتخذها لإنجاز هذا الهدف البالغ الأهمية؟
إن الحديث المفصل عن ذلك يخرج بنا عن مقصدنا، فنكتفي هنا بالإشارات الكلية، إن الإسلام أقام موقفه في مواجهة مشكلة الفقر على تضافر وتضامن الفئات الثلاث المكونة للمجتمع؛ الدولة والأغنياء والفقراء عادًّا إياهم جميعًا أصحاب القضية، وعلى كل منهم تحمل مسئوليته حيالها، فليست القضية قضية فئة معينة من المجتمع وإنما هي قضية مجتمع بأسره. إن استفحلت أتت عليه كله، وهو كله، من جهة أخرى، مسئول عن قيامها واستفحالها. على الفقراء التخلص من هذه الوضعية بكل ما يستطيعون من جهد، من خلال ممارستهم للنشاط الاقتصادي قدر ما وسعهم ذلك، وعلى الدولة إعانتهم في ذلك بكل ما لديها من نفوذ وسلطان، وحملهم على ذلك من خلال التشريعات والسياسات والإجراءات، ومن خلال التعليم والعلاج والتدريب، ومن خلال الاستثمارات العامة، ومن خلال حمل الأغنياء على تحمل مسئولياتهم.
هناك الضرائب وهناك الزكاة وهناك الأموال العامة الأخرى، وعلى الأسرة والعائلة تحمل مسئولياتها من خلال التكافل الأسري والإنفاق على الأقارب، وعلى الأغنياء القيام بمسئولياتهم كاملة ليس فقط من خلال الزكاة والضرائب وإنما من خلال التشغيل والعمالة وتوفير الضروريات بأسعار مناسبة، إن الرسول r يقول: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم” إن مفهوم الحديث الشريف لا يقف عند حد الفهم الساذج المتبادر إلى الذهن من قيام الغني بتزويد جاره الفقير بلقمات بين الحين والحين، إنه تحميل للأغنياء بمسئولية إزالة الفقر والعوز من خلال تحويل الجموع الغفيرة من الفقراء إلى عاملين محققين لأنفسهم وذويهم الحد الأدنى من الكفاية.
على كل غني وصاحب عمل أن يسأل نفسه ماذا شغلت من عمالة؟ ماذا وفرت من دخول للفئات العاجزة؟ ماذا بنيت من مساكن شعبية؟ ماذا أقمت من مدارس ومستشفيات للفقراء؟ على كل منتج أن يسأل نفسه ما الذي أفاده إنتاجه للغير، وما الذي جلبه سلوكه الاستهلاكي من مضار تزيد من حدة الشعور بالفقر؟
إذن نحن أمام تجنيد كل الفئات وكل العناصر لمواجهة مشكلة الفقر مواجهة حقيقية شاملة(47). وبهذا نقضي على مصدر رئيس من مصادر تدهور البيئة.
* * *
خلاصة:
في ضوء هذه الدراسة الموجزة لقضية تُعد من أهم القضايا المعاصرة على كل المستويات، وهي قضية البيئة وما تمثله من أهمية حيوية للإنسان وما أصابها من تدهور وإفساد على أيدي الإنسان تبين أن البيئة تمثل موقعًا متميزًا في اهتمامات الإسلام؛ عقيدة وشريعة. وأنه من خلال التوجيهات الإسلامية في هذا المجال توصلنا إلى مفاهيم بيئية إسلامية صحيحة تجعل من البيئة ليست مجرد موارد تجب المحافظة عليها كي تستمر التنمية الاقتصادية، وإنما هي قبل أي شيء مسألة عقيدة ومسألة عبادة وحقوق والتزامات، فهي إن مثلت للإنسان غير المسلم موطن حياته فهي تمثل للمسلم موطن حياته وعباداته. ومحافظة الإسلام على البيئة وحمايته تتمثل في حسن استخدامها والاستفادة بها، فلا تهمل وتترك، ولا تستخدم استخدامًا سيئًا، يرتب استنزافها أو تلوثها.
ولم يقف الإسلام في سبيل مواجهته لمشكلة التدهور البيئي عند حد المبادئ والآداب بل قدّم سياسات وأدوات وتنظيمات وأجهزة في المجال الاقتصادي والمجال العلمي والتربوي والثقافي إضافة إلى مجالات التشريع والزواجر والعقوبات وتوفير التمويل اللازم مع تحديد واضح للمؤسسات والهيئات المسئولة عن ذلك. وبهذا تتحول التوجيهات إلى واقع معيشي. وقد ظهر لنا من خلال ما تعرض له هذا البحث أنه من الضروري إعادة النظر في خطط وسياسات وبرامج التنمية الاقتصادية في ضوء الهدي الإسلامي، وبما يحقق إنجاز التنمية المستدامة المحافظة على الموارد والبيئة من التدهور. كذلك من الضروري إعادة النظر في النظم التعليمية في العالم الإسلامي بما يبرز فيها الرؤية والمنهجية الإسلامية القائمة على فكرة التوحيد والخلافة والتسخير، وبذلك تسهم هذه العلوم في الحفاظ على البيئة وحمايتها، من خلال توضيحها الصحيح للعلاقة بين الإنسان والبيئة، كذلك من الضروري أن يعاد النظر في النشاط الإعلامي والثقافى بما يجعله يسهم في الحفاظ على البيئة من خلال التربية البيئية السليمة.
* * *
الهوامش
(1) من أبدع ما كتب في ذلك ما ورد على لسان رينيه دوبو، إنسانية الإنسان، ترجمة: د. نبيل صبحى الطويل، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1981 ص 272 وما بعدها.
(2) محمد فؤاد عبد الباقى، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت: 1981، ص 26 وما بعدها.
(3) الراغب الأصفهانى، المفردات في غريب القرآن، بيروت: دار المعرفة، ص 433، محمد الشوكانى، فتح القدير، بيروت: دار الفكر، 5/358، القرطبى، الجامع لأحكام القرآن، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1967م، 10/161، الرازى، التفسير الكبير، الرياض: مكتبة المعارف، 30/273، 274، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، بيروت: دار الفكر، 4/721.
(4) من حديث ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ربيعة الحدسى، انظر ابن كثير، مرجع سابق، 10/856.
(5) الكشاف، بيروت: دار المعرفة، ص 389 ج2.
(6) أبو حيان، البحر المحيط، بيروت: دار الفكر، ص 311 ج4، الرازى، التفسير الكبير: طهران: دار الكتب العلمية، ص 133، ج 13، ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، ص174 ج 8.
(7) أبو حيان، مرجع سابق، ص 65 ج 1، البقاعى، نظم الدرر، الهند، دار المعارف العثمانية، ص 410 ج 1، ابن عاشور، مرجع سابق، ص 174 ج 8.
(8) الراغب الأصفهانى، المفردات في غريب القرآن، مرجع سابق، ص 379.
(9) التفسير الكبير، مرجع سابق، ص 133 ج 1.
(10) نظم الدرر، مرجع سابق، ص 104 ج 15، قارن بالنحاس، معاني القرآن، نشر جامعة أم القرى، مكة المكرمة ص 266 ج 5.
(11) المقدمة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة: بدون تاريخ، ص 382 وما بعدها، قارن د. محمد عوض اللَّه، الإنسان والثروات المعدنية، سلسلة عالم المعرفة، رقم 33 ص 57.
(12) رواه أحمد والترمذى وصححه، انظر الشوكانى، نيل الأوطار، دار الجيل، بيروت: ص 44 ج 4.
(13) الخراج، المكتبة السلفية، القاهرة: ص 66.
(14) نقلاً عن: ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، وزارة الإعلام، سلسلة كتب التراث رقم 45، بغداد: ص 219 ج 1.
(15) الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربى، بيروت: 1965، ص 338 المجلد 3، وفى معاني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام يقول: البحيرة هي التى يمنع درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس، والسائبة هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، وهي الناقة التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهم ذكر لم يركب ظهرها ولم يجز دبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، والوصيلة هي الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى يسيبونها، والحام الفحل من الإبل إذا ركب ولد ولده يسيبونه.
(16) إحياء علوم الدين، مطبعة ومكتبة صبيح، القاهرة: ص 98 ج2.
(17) المحلى، مكتبة دار الفكر، بيروت، ص 99 ج 10.
(18) المعجم المفهرس.. مرجع سابق مادة فسد.
(19) من الكتب القيمة التى تناولت هذه القضية:
– فلسفة التربية الإسلامية، د. ماجد الكيلانى، مكة المكرمة: مكتبة هادى، 1988م.
– استخلاف الإنسان في الأرض، د. فاروق الدسوقى، بيروت: المكتب الإسلامى، 1986م.
– خلافة الإنسان بين الوحى والعقل، د. عبد المجيد النجار، بيروت: دار الغرب الإسلامى، 1987م.
(20) أبو الأعلى المودودى، نظام الحياة في الإسلام، ص 23، دمشق، دار القرآن الكريم، 1977.
(21) نقلاً عن: الإمام البقاعى، مرجع سابق، ص 76 ج 8، قارن: د. سعيد البوطى، منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، دمشق: دار الفكر 1982 ص 95.
(22) د. محمد عمارة، العطاء الحضارى للإسلام، سلسلة اقرأ، دار المعارف، رقم (626) ص 158.
(23) نفس المرجع السابق.
(24) د. ماجد الكيلانى، الإنسان الصالح، مكة المكرمة: مكتبة دار الاستقامة، 1996، ص 77 وما بعدها.
(25) د. محمد الغمراوى، الإسلام في عصر العلم، القاهرة: دار الإنسان، ص 31 وما بعدها.
– د. عبد الحليم منتصر، تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، القاهرة: دار المعارف، 1967، ص 83 وما بعدها.
– د. عبد الهادي النجار، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة، (63) ص 235، الكويت.
(26) خذ مثالاً واحدًا: الإمام محمد بن الحسن الشيباني، الكسب، دمشق، نشر: عبد الهادي حرصوني، 1980، ص 79.
(27) من الكتب الجيدة في ذلك:
– ثورة الكفاية القادمة: خلق اقتصاد متواصل للموارد، تأليف: جون ا. يونج، ترجمة: شويكار زكى، القاهرة: الدار الدولية للنشر والتوزيع، 1997.
– الخروج من عصر التبذير، مرجع سابق.
– الصغير هو الجميل، شوماخر، مرجع سابق.
(*) أصل هذه الحكمة كلمة قالها أمير المؤمنين عمر لامرأة جاءت تطلب ثوبًا في غير ميعاده مبررة ذلك بعدم وجود ثوب لديها إلا ثوبًا خلقًا “قديمًا مهلهلاً” فأعطاها ثوبًا جديدًا، وطلب منها إصلاح الثوب القديم، ثم استخدامه فيما يمكن استخدامه فيه قائلاً لها: “لا جديد لمن لا خَلِقَ له”. انظر سيرة عمر لابن الجوزى.
(28) أريك فروم، مرجع سابق، ص 74.
(*) استخدام الدم في غير الأكل والشرب محل خلاف بين العلماء، وأيضًا طهارة الدم ونجاسته محل خلاف. ونحن هنا لم نعتمد على كلام وتصرف هذه المرأة في معرفة حكم شرعي. وذكر مثل هذه القصة في موضوعنا لا يخلو من الكثير من الفوائد، مع خلوه من المحظورات.
(29) الجاحظ، البخلاء، بيروت: دار الكتب العلمية، ص 69 ج 1.
(30) الجصاص، أحكام القرآن، بيروت: دار الكتاب العربى، ص 165 ج 3.
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ص 65 ج 9.
(31) انظر في ذلك: محمد بن الحسن الشيبانى، الكسب، نشر: عبد الهادي حرصوني، دمشق، ص 32- 34.
(32) د. شوقي دنيا، القاهرة، الإسلام والتنمية الاقتصادية، دار الفكر العربي، 1979، ص 85 وما بعدها.
– د. يوسف إبراهيم إبراهيم، استراتيجية وتكنيك التنمية في الإسلام، القاهرة: الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ص 215 وما بعدها.
(33) د. محمد شوقي الفنجري، المذهب الاقتصادي في الإسلام، المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، جدة، 1395 ص 27 وما بعدها.
(34) لمعرفة موسعة راجع تقرير التنمية 1992، البنك الدولي.
(35) ابن نجيم، البحر الرائق، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الثانية، ص 243 ج 7.
(36) متفق عليه. انظر ابن حجر، فتح البارى، بيروت: دار المعرفة، 5/3، النووى، شرح صحيح مسلم، بيروت: دار الفكر، 1981م، 10/213.
(37) رواه الترمذي، راجع ابن العربي، عارضة الأحوذي ..، القاهرة: دار الوحي المحمدي، 6/146.
(38) ابو عبيد، الأموال، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1967، ص 81.
(39) نفس المصدر، ص 83.
(40) أبو يوسف، الخراج، مرجع سابق، ص 151.
(41) لمعرفة موسعة بهذه التجربة راجع: د. شوقى دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، مرجع سابق، ص 336 ومابعدها. والدولة بهذه السلوك تكون قد حققت ما نسعى إليه اليوم مما يسمى بالتنمية المستديمة.
(42) المبسوط، دار المعرفة، بيروت، 1989، ص 40 ج 10.
(43) لمعرفة موسعة بذلك راجع تقرير التنمية 1997 فكله يدور حول تحديد جديد لدور الدولة.
(44) انظر في ذلك كتب الحسبة المتعددة وعلى رأسها كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة لعبد الرحمن بن نصر الشيرازي (القاهرة 1946م).
(45) لمعرفة موسعة يراجع: د. محمد عبد الستار عثمان، المدينة الإسلامية، سلسلة عالم المعرفة (128) الكويت: أغسطس 1988م.
– د. إبراهيم حسن محمد الفايز، البناء وأحكامه في الفقه الإسلامي، رسالة دكتوراه كلية الشريعة – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض، 1406هـ.
– ابن الرامى، الإعلان بأحكام البنيان، تحقيق: عبد الرحمن الأطرم، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود، 1403هـ.
(46) لمعرفة مفصلة يراجع:
– د/ محمد شوقي الفنجري، الإسلام والمشكلة الاقتصادية، الرياض: دار الوطن، ط3، ص148 ومابعدها.
– د/ شوقي دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، مرجع سابق، ص254 وما بعدها.
(47) لمعرفة موسعة يراجع:
– د/ يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، القاهرة: مكتبة وهبة، 1406، ص6 ومابعدها.
– د/ محمد شوقي الفنجري، الإسلام والمشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص57 وما بعدها.