«إنا وجدنا الشارع قاصدًا لصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة. فإذا كان فيه مصلحة جاز».
الشاطبي(1)
لكل دين من الأديان روح تسيطر على مجموعه، وتتمشى في أصوله وفروعه وتميّز دعوته وتربط أحكامه جميعًا، وتساوق بين أجزائه وتوجه تيارها إلى غاية خاصة.
والإسلام يمتاز من جميع الأديان بأنه دين عام خالد لا دين بعده ولا رسالة. فهو لذلك قد جمع الله فيه كل ما تحتاج إليه البشرية من الأصول لجميع ظروفها وأحوالها وأزمانها وأماكنها، والحياة البشرية متغيرة سريعة التحول والانقلاب والسير في طريق التطور من حال إلى حال ومن قديم إلى جديد، وبالأخص في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه سير الحضارة، واختلطت الشعوب والأفكار واستولى على الإنسانية كلها ما يشبه الحمى في سرعة التحول والانتقال.
فهل روح الإسلام وغايته العليا تعارض سير الحضارة وتقدم العالم؛ وتلزم البشرية بالوقوف عند حال واحد لا تتعداها إلا إذا استعاضت عنه بآراء مدنية لابد منها لاستكمال الحياة البشرية، واطراد السير فيها، والتطور من حال إلى حال؟ أما أنا فأجيب بأن الإسلام لا يتعارض أبدًا مع سير البشرية وتحوّلها؛ وأنه دين ليّن واسع الأفّق، نستطيع أن نوفق بين روحه وبين كل مظهر من مظاهر الحضارة، وأن نجد في نصوصه ما يساير الأطوار المختلفة التي تتخطّاها البشرية في عصورها المتباينة.
ويجب أن نفرّق بين «روح» الدين وغايته. وبين أحكامه الفرعية وتطبيقها، والفرق بين الدين كشعور وعقيدة وإيمان، والدين كتقاليد وأشخاص دينيين. فروح الدين وجوهره هما الشيء الخالد الباقي الذي لا يتعارض مع أي عصر. والذي تجد فيه كل حضارة وكل أمة في كل زمن ما يتفق مع احتياجاتها ويعينُها ويسدّدها في سبيل الغاية العليا والكمال البشري الذي تسير إليه، روح الدين وجوهره هما الشيء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعلى هذا الفهم نستطيع أن نجد في نصوص الدين الإسلامي، وفي تاريخه أشياء تؤكد لنا أنه دين يستطيع أهله أن يجدوا فيه كل ما يتفق مع مظاهر الحضارة التي تغمرهم وتجذبهم إليها، وتستولى عليهم وعلى جميع الدنيا طوعًا أو كرهًا.
وهذه أشياء أذكرها تؤيد ما أقول وتفصح عما أريد.
هذه المسايرة للزمن، وتطبيق الأحكام على ملائمات الأحوال والظروف. واختلافاتها. مع المحافظة على جوهر
(أقرأ المزيد)