رحل عن دنيانا يوم الخميس الموافق 14 ربيع الآخر 1438هـ 12 يناير 2017م صاحب هذه المجلة والأب الروحي لها، العالم الجليل الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية – رحمه الله- .
كان الدكتور جمال الدين عطية يَعتبِر مجلة المسلم المعاصر أعز وأثمن إنجازاته العلمية والفكرية، فقد كانت تمثل تجسيداً للمدرسة الفكرية التي كان يفخر بتخرج كثير من المفكرين على امتداد العالم الإسلامي منها.
ولكن جاء اليوم الذي تصدر فيه المجلة دون أن يقوم الدكتور جمال الدين عطية بتحكيم أبحاثها، ودون أن يخط عليها رأيه العلمي كما اعتاد على ذلك لسنوات طويلة هي عمر المجلة.
لقد كان الراحل الكريم طاقة فكرية وخلقية لا تنضب. وكان ملهماً لكل من يتعامل معه، ودافعا للجميع على الثقة بالنفس والإمكانات والقدرات الشخصية.
ما من أحد اقترب من الدكتور جمال الدين عطية إلا وقد تأثر بصفاته الخلقية الرفيعة والنادرة، النابعة من رؤيته الإيمانية القيمية المعتدلة للحياة. فنجد فيه نشاط وحيوية المؤمن برسالته، وهدوء وصمت المفكر، ونجد فيه تواضع العالم، وصبر الباحث، وعزة المسلم، والصدق مع النفس ومع الآخرين، ونجد فيه عطاء بغير حدود، فلم يبخل يومًا بنصيحة أو تشجيع أو توجيه لأي باحث لجأ اليه.
وقد تعرفت على الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية عام 1988 عند بداية تحمله مسئولية مكتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة. ورأيت فيه إنسانًا لا حدود لعطائه العلمي والإنساني، كان أول الحاضرين إلى المكتب وآخر المغادرين له محملاً بأبحاث لمراجعتها، ويأتي الغد ليعود بهذه الأبحاث جميعها وقد أنهى مراجعتها وتسجيل ملاحظاته عليها. فكان عمله الدؤوب سببًا في تحقيق نقلة معرفية فارقة في مجال “إسلامية المعرفة”، وقد جعل من مكتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة – خلال فترة رئاسته له- ملتقى لكبار الأساتذة في كافة التخصصات الاجتماعية والإنسانية، كما جعل منه قبلة للباحثين والدارسين الشباب. حتى وجد الجميع – على اختلاف مجالاتهم العلمية ومراحلهم الأكاديمية والعمرية- في هذا المكان بيئة علمية ومعرفية نموذجية يديرها ببراعة وكفاءة، عالم سخر حياته لما يؤمن به.
غادر د. جمال المعهد الى جامعة قطر للقيام بدور معرفي جديد بها كأستاذ للشريعة والقانون، ومنها الى جدة لإدارة معلمة القواعد الفقهية قبل أن يعود ليستقر في مصر، ورغم هذه المسئوليات الكبيرة ظلت مجلة المسلم المعاصر في بؤرة اهتماماته، واستمرت المجلة هي همزة الوصل بين د. جمال وبيني لتحملي مسئولياتها الإدارية منذ ذلك الوقت.
لقد ترك الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية مجلة المسلم المعاصر أمانة في أيدي مجموعة من الأساتذة العلماء المؤمنين بدور هذه المجلة كمنبر فكري ومعرفي عابر للحدود الجغرافية والسياسية والمذهبية، وقد عاهدوا أنفسهم على إكمال مسيرة الراحل الكريم وتسليم الشعلة لأجيال قادمة حتى تبرهن المسلم المعاصر أن المؤسسات أطول عمرًا من الأفراد، وأن رسالة الفكر والمعرفة باقية ومتطورة عبر العصور طالما وضع بذرتها علماء متجردون من أي مصلحة شخصية ولا يبتغون إلا وجه الله تعالى ورضوانه.
* * *