يقوم القانون الوضعي على موقف محدد متميز عن الأخلاق، وذلك على أساس أن القاعدة القانونية هى تلك التى تتدخل الدولة للإلزام بها، بينما القاعدة الأخلاقية التى لا تحميها قاعدة قانونية تخرج عن حماية الدولة وتبقى ضمن إطار ضمير الفرد ونظرة الاستحسان والاستقباح من جانب المجتمع…
ورغم هذا التمييز الواضح من الناحية النظرية بين القانون والأخلاق تبقي من الناحية العملية بعض المجالات التى لا ينضبط فيها الحد بين مجال القانون ومجال الأخلاق، وذلك علي سبيل المثال حين يحمي القانون الآداب العامة بأن يعاقب على ارتكاب فعل مخل بالآداب في مكان عام، أو من ينشر في صحيفة أو كتاب صورًا مخلة بالآداب، ففي هذه الحالة يبقى مفهوم الآداب مفهومًا أخلاقيًا غير منضبط من الناحية القانونية، ويرجع حينئذ في تعريف ما يعتبر مخلاً بالآداب أو غير مخل لا إلى معيار الأخلاق المجردة وإنما إلى العرف المحلى الذى يختلف من مكان إلى مكان.
هذا من ناحية القانون الوضعي. أما الشريعة الإسلامية، فإن أحكامها تشمل الدائرتين معًا، دائرة القواعد التى تتدخل الدولة للإلزام بها وهى ما يسمى بالقواعد القانونية، ودائرة القواعد الخلقية بالمفهوم الحديث.
ولا يعني هذا الشمول أن الدولة فى الإسلام تتدخل بسلطان الإلزام القانوني والجزاء الدنيوي لكافة تعاليم الإسلام، وإنما تميز – شأن الدولة الحديثة – بين نوعين من القواعد… وتبقي بعد ذلك مناطق التداخل بين النوعين وإمكان نقل قاعدة أخلاقية إلى مجال الإلزام القانوني.
1- أما أن الشريعة تفرق بين ما له جزاء دنيوي وأخروى وما له جزاء أخروى فقط، فهذا من بديهيات الدين، كما أنه من بديهيات العقل.
هو من بديهيات الدين لأن هذه الحياة في نظر الدين دار ابتلاء واختبار، والاختبار وجزاؤه الأخروى يدور مع حرية الإرادة وجودًا وعدمًا، اذ ليس من العدل مجازاة المخطئ إذا كان مجبرًا على الخطأ، كما أنه لا محل لثواب المصيب اذا كان مجبرًا على الخير والصواب… ومن هنا اكتسبت قضية الجبر والاختيار أهمية خاصة لا فى الإسلام فحسب بل في كل فلسفة ودين..
الأصل إذن أن الإنسان مفطور على فعل الخير والشر (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، وأن الدين بمثابة الهادي له إلى فعل الخير، حتى اذا اتبع هذا الهدي وسار باختياره في طريقة نال الثواب على هذا الاختيار وهذه المجاهدة في المسير…
لذلك كان الأصل فى الحوافز الإنسانية الخيرة أن تكون دينية خلقية، ولا يتدخل القانون بسلطان القهر المادي وحوافز الخوف من هذا القهر إلا على سبيل الاستثناء، لرعاية مصالح عليا تتعلق بكيان الجماعة ونظامها العام…
ومن أمثلة التعاليم الإسلامية التى هى خارج دائرة الإلزام القانوني جميع التعاليم التى هي قبيل المندوبات والمكروهات، فضلاً عن أن بعض الواجبات والمحرمات يعتبر واجبًا أو محرمًا من الناحية الدينية فقط كصيام رمضان وأكل لحم الخنـزير وغير ذلك مما لم يرد على تركه أو فعله جزاء دنيوي منصوص عليه في الكتاب والسنة، وإن كان قد نص بعضها على كفارات دينية كصيام أو صدقة أو غير ذلك…
ثم هناك فئة الحلال أو المباح التى ليس لها حكم إيجابي أو سلبي وهى في مرحلة وسط بين الواجبات والمندوبات من ناحية والمحرمات والمكروهات من ناحية أخرى، نجد أنها مع ذلك قد ترد عليها شروط أو قيود تجعل لها حكمًا خلقيًا أو دينيًا أو قانونيًا… ومن أحسن الأمثلة على ذلك الطلاق، حيث عبر الرسول r عنه: “ابغض الحلال عند الله الطلاق” فالمقابلة بين وصفه بالحلال وكونه بغيضا الى الله يجعل له حكما أخلاقيا دينيا غير مطلق الحلال.
ثم أن هذا التفريق بين الواجبات الخلقية الدينية والواجبات القانونية هو من بديهيات العقل كذلك، إذ لا يمكن عملاً أن يتدخل القانون ممثلاً بالشرطة والمحاكم وجهاز الدولة لتقويم كل صغيرة وكبيرة من تصرفات الأفراد، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار وفرة ما في الإسلام من تعاليم تغطى كافة نواحى الحياة وبكثير من التفصيل… إن الأمر يحتاج حينئذ إلى شرطى خاص يزامل كل فرد حتى يحصى عليه تصرفاته ويزنها بميزان القانون ويقدمه للمحاكمة كلما خالف تعليمًا من التعاليم، وما دام الشرطي نفسه بشرًا يخطئ ويصيب كسائر الناس فلنضع مع كل شرطي شرطيًا آخر يراقبه وهكذا… ولم تصل أشد النظم البوليسية تدخلاً في حياة الأفراد إلى هذا الحد (اللهم الا ما تصوره جورج أورويل فى قصته عن العالم سنة 1984).
2- إذا كان الأصل إذن هو التفريق في الشريعة بين ما له جزاء دنيوي إلى جانب الجزاء الأخروي، وما يقتصر الجزاء فيه على الآخرة فحسب فإن هذا التفريق ليس مطلقًا في كل الحالات، بل توجد مناطق يتداخل ويختلط فيها النوعان من الأوامر الخلقية الدينية والأوامر القانونية.
ونضرب مثالاً من القانون لمثل هذا الاختلاط قبل أن نضرب مثالاً من الشريعة….
في القانون فصل حاسم بين النوعين من الأوامر الأخلاقية أو الدينية والأوامر القانونية… ورغم هذا الحسم يحدث أحيانًا تداخل واختلاط كما بيّنا في حالة “الآداب العامة” التى يعاقب القانون الوضعي على انتهاكها في عدة صور، كإتيان فعل مخل بالحياء في مكان عام، أو نشر صور مخلة بالحياء في جريدة أو مجلة أو كتاب، وغير ذلك من الصور…
هنا لا يضع القانون الوضعي تعريفًا للحياء أو للآداب العامة وإنما يترك ذلك للعرف الذي يختلف داخل الدولة الواحدة من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، وبذلك نكون أمام إحدى الحالات التى يحمي فيها القانون قاعدة خلقية غير محددة المضمون والأبعاد بصورة موحدة ومسبقة…
وفى الشريعة نجد مثالاً للتداخل بين نطاقي القانون والأخلاق في التعزير، حيث يجوز للقاضى – حين يكون التعزير متروكًا له – أن يعاقب على أى مخالفة خلقية غير منصوص علي عقوبتها ضمن الحدود المعروفة كالسرقة والزنا والشرب… وهذا الخيار المتروك للقاضى غير محدد بأن يلتزم العقاب على المخالفة الخلقية المعينة بصورة عامة تشمل كل الأشخاص ولا بصورة دائمة مستمرة، وهذا من قبيل تفريد العقاب Individualisation de la peine .
المعروف في القانون الوضعي حين لا يحدد القانون حدًّا واحدًا للعقاب وإنما يخير القاضى بين نوعي من العقوبة (حبس وغرامة) ويفسح له المجال بين حد أعلى وحد أدنى في كل منهما مع جواز الجمع بينهما حتى حدهما الأعلى، ومع اعطائه حق تخفيض العقوبة عن الحد الادنى في بعض الحالات وحق الامتناع عن النطق بالعقاب، وغير ذلك من الصلاحيات التى تجعل القاضي قادرًا على إعطاء كل حالة فردية ما تستحقه من عقوبة وفقًا لظروفها الخاصة…
فالتعزير إذن في الشريعة – حين يترك أمره للقاضى – هو من المناطق التى تتداخل فيها وتختلط الأوامر الخلقية الدينية بالأوامر القانونية.
3- على أن هذا التداخل والاختلاط يصل أحيانًا إلى حد نقل قاعدة دينية خلقية إلى نطاق الإلزام القانوني كما رأينا في مثال التعزير تطبيقًا للقاعدة الشرعية “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.
وقد لجأت بعض قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة إلى هذه الطريقة لإلزام الأفراد بواجبات كانت متروكة للجزاء الديني الأخروى، كما هو الحال في مراعاة أحكام الطلاق وتعدد الزوجات… فقرر القانون السوري سنة 1953 حق الزوجة التي يطلقها زوجها بدون سبب مقبول في التعويض إذا أصابها ضرر من الطلاق، وهذا قبيل إعطاء سلطة الإلزام القانونين للنصوص القرآنية (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
وذهب القانون التونسي سنة 1975 إلى قريب من ذلك، كما ذهب قانون الأسرة الباكستاني سنة 1961 إلى انشاء مجالس تحكيم مكونة من ممثل عن الزوج وممثل عن الزوجة ورئيس محايد لمحاولة إصلاح ذات البين بين الزوجين المتنازعين.
كما قرر القانون العراقي سنة 1959 اشتراط إذن القاضي لعقد الزواج الثاني وأعطاه حق الرفض إذا خيف عدم العدل بين الزوجتين.
كما صدرت تشريعات حديثة في كل من مصر وسوريا وتونس والمغرب والكويت يجعل الوصية (للأقربين) واجبة في بعض الصور.
4- وينبغي أن نشير أخيرًا إلى أن اتجاه نقل الواجبات الأخلاقية لتصبح واجبات قانونية لا يصح تركه بلا قيود، حتى لا يؤدى الإكثار من هذا “النقل” إلى مخالفة الأصل في التفرقة بين النوعين مخالفة جذرية….
ينبغي في رأينا – تقنين هذا النقل على المستوى الدستوري بوضع ضوابط وحدود واضحة لا يخرج عنها المشرع الوضعي حين يرى نقل قاعدة أخلاقية إلى نطاق الإلزام القانوني…. وأن تكون هذه الضوابط والحدود على المستوى الدستورى أي لها قوة الدستور بحيث تصبح القوانين التى تصدر خلافًا لها غير دستورية…
ومن أمثلة هذه الضوابط أن يتحاشى بقدر الإمكان أسلوب الإجبار بطريق فرض عقوبة جزائية، وأن يستعاض عن ذلك بأساليب أخرى كالتعويض المدني والضرائب الإضافية والإعفاء من ضرائب معينة، والتشجيع بطريق المكافآت والمنح وزيادة الأجرة وغير ذلك من وسائل الزجر والتشجيع…
ومن أمثلة هذه الضوابط كذلك مراعاة الدوام والتأقيت، فإذا كان “النقل” قد تم لضرورة وقتية فيجب أن يزول بزوالها ويعود الواجب أخلاقيًا دينيًا صرفًا كما كان من قبل…
ومن أمثلة هذه الضوابط أيضًا ضرورة الموازنة بين أسلوب “النقل” وغيره من الأساليب، كما أثير في مسألتي الطلاق وتعدد الزوجات أن توعية الرجل بالشروط الدينية في هاتين المسألتين قد تغني عن إشراف القاضي…
ومن أمثلة هذه الضوابط كذلك مراعاة عدم استغراق جميع حالات المسألة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً واجب على الأفراد وعلى الدولة كذلك، وقيام المحتسب بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس سوى إقامة مؤسسة حكومية لمباشرة الواجب الواقع على عاتق الحكومة، ولا يعفى ذلك الأفراد من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة فردية، وكذلك قيام أهل الحل والعقد أو مجلس الشورى بواجب الشورى والنصيحة للحاكم لا يعفى الأفراد من واجبهم في هذا الصدد وهكذا.
5- وفى مجال تقنين العلاقة بين القانون والأخلاق فى الشريعة الإسلامية نجد صورًا أخرى قريبة من صورة نقل القاعدة الأخلاقية إلى المجال القانوني، ونضرب مثالاً لذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالذات تغيير المنكر باليد اتباعًا لقوله r: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك من أضعف الإيمان”، فإذا رئى تقنين ذلك خوفًا من إساءة استخدام هذا الواجب، نجد أن عدة اعتبارات تفرض نفسها كضوابط لهذا الأمر: منها تحديد الخط الفاصل بين ممارسة هذا الواجب وبين التدخل فى حياة الآخرين الخاصة وحرياتهم الشخصية….
ومنها تحديد الشروط اللازم توافرها في الفعل كي يعتبر منكرًا يجب تغييره….
ومنها تحديد المدى الذي يقف عنده تغيير المنكر فإذا تعداه أصبح تجاوزًا خاضعًا للمُساءلة…
ومن هذه الضوابط وأمثالها يصبح من يغير المنكر باليد مسئولاً اذا خالف هذه الشروط والحدود والضوابط، شأنه في ذلك شأن من يدعي أنه ارتكب فعلاً في حالة دفاع شرعي، فإن ذلك لا يعفيه من العقاب إذا كان الفعل الذى ارتكبه غير متناسب مع الفعل الذي يدعى درءه، أو لاحقًا لوقوعه أى بعد تمامه، بحيث لم تعد المسألة تتعلق بدرء فعل وإنما بالعقاب عليه وغير ذلك من الحالات.