إن كل ما نراه من حولنا فى الكون.. معجزة تدعو إلى التأمل ولكنها المعجزة التى يعمل العقل على فهمها، ويلتقى بها من يريدها حيثما التفت إليها بالفكر، يستلهم منها الإبداع والخلق، والابتكار والاختراع، والسمو بالإنسانية والحضارة، وازدياد المعرفة والثقافة، إن الإنسان جزء من الوجود غير المحدود، ولابد له من صلة عميقة تربطه به أبعد غورا من الصلات المادية، وهى صلة العقل والفكر الإنساني، الذي تتسع حصيلته وتتعمق وتتراكم بمرور الزمن، بالبحث والنظر والتعلم والإحاطة بكل ما يصدر عنه.
لذلك فإن احترام الفكر الإنسانى وما يبدعه، وما يضيفه إلى الحضارة، لهو حجر الزاوية فى دفع عجلة التطور، ولعل ملكية هذا الفكر تمييزا عن الملكية المادية هى أعلى مراتب الملكية التى احترمتها الإنسانية عبر تاريخها ونادت بها كل الأديان السماوية عامة والدين الإسلامى خاصة.
وإذا كانت الملكية الفكرية الأدبية والفنية أبدية فى شقها الأدبي، فهى موقوتة فى شقها المالى، بمدة زمنية معينة، شأنها فى ذلك شأن الملكية الفكرية الصناعية حيث ارتضى العالم المتقدم والنامى والأقل نموا إباحة ما هو مشمول بعناصرها دون مقابل بعد انقضاء هذه المدة المعينة، ويستند هذا المنطق إلى موازنة عادلة بين حق المبدع فى الاستئثار بالعائدات المالية، وحق المجتمع فى الاستفادة بدون مقابل من هذه الإبداعات بعد أن يكون المُبدع قد حصل من الموارد المالية على ما يكافئ ما بذله من جهد ومن نفقات.
ولعل تنظيم العلاقات الخاصة بالملكية الفكرية، ضمن إطار تشريع واحد يربط الإنسانية كلها بفهم مشترك، يعد أحد مظاهر الحضارة التى قادتها الدول العربية والإسلامية عبر تاريخها، وآن لها أن تعاود قيادتها لها فى المستقبل القريب على أيدي مبدعيها ومفكريها وعلمائها فضلا عن أدبائها وفنانيها.
وقد نالت حماية حقوق الملكية الفكرية اهتمام الدول الصناعية المتقدمة منذ ظهور الاختراعات الحديثة فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وقد ارتبط ذلك بالنهضة الصناعية التى قامت فى أوربا، وما صاحبها من تغيرات اقتصادية هائلة وازدياد حركة المبادلات التجارية بين الدول، مما أدى إلى ظهور علاقات اقتصادية اقتضت وضع أنظمة قانونية لحماية الملكية الفكرية على المستوى الدولى، تجنبا لتعرض أصحاب هذه الحقوق للاعتداء عليها إذا ما انتقلت المنتجات خارج الحدود الجغرافية لدولهم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى احترم الإسلام كدين سماوي راق هو آخر الأديان السماوية وأكملها، حـقـوق الإنسـان المتعددة والمختلفة التى كفلها الخالق سبحانه وتعالى، وعمل على حفظها له كاملة غير منقوصة، عبر تشريعات دقيقة وعميقة، فصّلها الفقهاء فى مؤلفاتهم، ولكن وراء هذه الحقوق فلسفة روحية عميقة لابد من معرفتها، خاصة وأن التشريعات الإسلامية كل متكامل، يعبر عن غايات الخالق وحكمة خلقه للإنسان.
فالنشاط الاقتصادى والمالى فى الإسلام يتضمن مبادئ ومنطلقات تشكل منهجا إسلاميا خالصا ينبغى التوفيق بينه وبين التشريعات الدولية المتجددة والمتصلة بهذا المجال. فالمنهج الإسلامي الشامل يقوم على قيمة تأسيسية تحدد أسس وضوابط العمل فى كل فرع من فروع هذا المنهج الإلهي، هذه القيمة الأساسية هى التوحيد الذى ينبثق منه قيمة: التزكية، والعمران.
إن عقيدة التوحيد تعنى الإيمان بالخالق الواحد لهذا الكون، المهيمن عليه سبحانه، والمقدر لأقوات جميع مخلوقاته، ويؤدي هذا الإيمان إلى التزام الأفراد فى حياتهم عادة، وفى حياتهم الاقتصادية بصفة خاصة، بالقيم الإسلامية، التى تجعل هذه القيم المركزية أساس كل نشاط وعمل، مهما كان حجمه أو نوعيته، فيكتسب النشاط الاقتصادي طابعا تعبديا، حيث يتحول من نشاط مادي بحت إلى عبادة يثاب عليها المسلم، طالما التزم بتكليفات خالقه، وابتغى بنشاطه وجه الحق سبحانه وانصرفت نيته إلى مرضاته سبحانه.
الإسلام والملكية:
كما يؤدى الإيمان بالتوحيد ومبدأ الاستخلاف تفرد مفهوم الملكية، والمال فى الإسلام، حيث أن أصل الملكية فيه هى للخالق سبحانه فهو تعالى (مَالِكَ الْمُلْكِ) (آل عمران:26)، كما أن (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) (المائدة: 18)، وملكية الأفراد هى ملكية استخلاف تفرض على المستخلف الالتزام بأوامر ونواهى المالك الأصلى والقيام بما فرض فيها من واجبات، وذلك دون استئثار لأحد بها، فهى ملكية لكل البشر الذين هم خلفاء فى مال الله، سواء أكانوا جماعات أو أفرادا (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد من آية 7).
وتكون قيمة العمران هى المنظمة للعلاقة بين العبد والكون المحيط به، فهى التى تضمن حركة الإنسان لإحياء واستثمار الموارد المسخرة له بأنوعها، وتأكيد قيمة العمل كواجب وحق لكل فرد فى المجتمع من أجل تحقيق التقدم والرقى، وفق المفهوم الإسلامى لإقامة مجتمع القدوة والقوة.
وتؤكد قيمة العمران على ضرورة الربط بين العائد، والجهد المبذول فى تنمية الموارد والامكانات المادية والمالية، فلا عائد حلال دون إضافة حقيقية إلى رصيد المجتمع من رؤوس الأموال والسلع والخدمات، وتتفرع عن هذه القيم التأسيسية مجموعة من المبادئ تحكم الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى المجتمع وهى: العدل، والوسط، فيترتب على مبدأ العدل فى الاقتصاد الإسلامي: عدم بخس الناس أشياءهم، وجهدهم، وحصولهم على عائد مناسب لعملهم وممتلكاتهم، دون مماطلة أو مساومة وفق حاجاتهم الواقعية المرتبطة بسنهم وجنسهم ونوعية عملهم، كما يعنى منع الظلم والضرر بأنواعه المادية والنفسية والاقتصادية، سواء على مستوى الفرد أو جماعة المسلمين فى المجتمع الواحد.
كما يعتبر الوسط مبدأ يميز الملة الإسلامية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143) ويخصها بأنها الأمة المبلغة للرسالة، والتى تلتزم الوسط، وهو الاعتدال، فى مجالات التفكير والأخلاق والسلوك، فالمسلم مطالب بعدم الغلو أو التفريط فى شئون دينه ودنياه، والعمل على التوفيق والموازنة بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، بين فضائل الروح ومطالب الجسد، بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، بين مصلحة الدنيا وثواب الآخرة، بين تسرب الغلو المادي والتطرف الروحى.
كما يقضى الوسط الإسلامي بالعمل على تحقيق مصلحة الفرد بما لا يضر بمصالح جماعة المسلمين، كما يتضح مبدأ الوسط فى مجال الحقوق والواجبات الاقتصادية للعمال وأصحاب رؤوس الأموال، واستغلالهم لجهود العمال وعائد انتاجهم، وإنما يجب حصولهم على حقوقهم المادية والعينية مقابل تأدية أعمالهم باتقان دون بخس أو مماطلة، ولا تهوين لدور أصحاب رؤوس الأموال وحقهم فى الحصول على حقوق، مقابل تحملهم للمخاطرة برؤوس اموالهم فى سبيل إنتاج احتياجات المجتمع.
كما يتجسد مبدأ الوسط فى الموازنة بين حق البائع والمشترى، حيث يؤدى التطفيف بالإخسار وعدم إيفاء الكيل والميزان إلى ضياع حق المشترى، كما يؤدي التطفيف بالبخس وزيادة استيفاء الكيل والميزان إلى ضياع حق البائع، لذا كان الوعيد من الحق سبحانه وتعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (سورة المطففين الآيات 1-3).
كذا يتضح مبدأ الوسط فى مجال الاستهلاك وإشباع الحاجات، بما لا يقل عن مستويات الكماليات ويدخل فى مجال الترف والمخيلة ، وكذلك يتضح مبدأ الوسط فى مجال الانفاق وضرورة الالتزام بالانفاق الوسط الذي يقع بين الطرفين المزمومين للشح والتقتير والانفاق السفيه، والاسراف والتبذير أمتثالا لقول الحق سبحانه وتعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء: 29) ففى كل حالات التطرف بعيدا عن الوسط إضرار بالفرد، وما يحققه من عائد واشباع وبما يملكه من ثروة ودخل وإضرار بالجماعة ومواردها.
ويبلور مبدأ الاختيار التطبيق الفعلى للقيم التأسيسية والمبادئ المنبثقة عنها، ذلك أن أول اختيار للمسلم هو اختيار عقيدة التوحيد والعبودية لله وحده، والالتزام بتطبيق أسس ومبادئ هذا الدين الذي اختاره عن قناعة وبلا اكراه (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة من الآية 256).
ويوجه مبدأ الاختيار المسلم فى قيامه بتزكية نفسه، وتنـزيهها عن الهوى، والتزامها بأداء الفرائض الدينية من زكاة وحقوق اقتصادية إلزامية وتطوعية، والامتناع عن النواهى الشرعية كافة وأداء ما عليه من واجب العمل فى عمارة الأرض وفق امكاناته وظروفه الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، ملتزما فى ذلك بتحقيق العدل فى معاملاته الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، واختيار الوسط فى إشباعه لحاجاته المشروعة، وإنفاق دخله فى مختلف أوجه الإنفاق ملتزما بالإنفاق على إشــباع الأهم فالأقل أهمية مـن مقاصد الشريعة الخمسة القائمة على حفظ: الدين والعقل والنفس والنسل والمال، مما يميز تصرفات المسلم خاصة فى المجال الاقتصادي بحسن الاختيار والانتقاء الكمى والنوعى.
هذا فيما يتصل بالمبادئ والأسس التى تحكم الرؤية الإسلامية الخاص بالنشاط الاقتصادي والملكية المادية والمعنوية، والتى ينبغى أن تطور تشريعاتها وآلياتها من أجل استيعاب المتغيرات الحياتية الجديدة فى عصر “العولمة”(1) خاصة فيما يتصل بتشريعات الملكية الفكرية المرتبط بالتجارة وتبادل المعلومات ونظمها.
اتفاقية حقوق الملكية:
كان للاختلافات والتباينات العديدة، والتشريعات التى تطبقها الدول لحماية حقوق الملكية الفكرية، والأضرار التى لحقت بالعديد من الدول وأفرادها، وذلك لما يملكونه من براءات الاختراع والعلامات التجارية وشتى صنوف الملكية الفكرية من خلال ما يتعرضون له من اعتداءات على حقوقهم الفكرية، إما بالتقليد أو بالاقتباس أو الاستخدام لمنتجاتهم الجاهزة، كان لهذه المسائل، دورا كبيرا فى إلحاح عدد من الدول الصناعية الكبرى، وبصورة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لوضع القضايا المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية المرتبط بالتجارة على جدول المفاوضات متعددة الأطراف فى “جولة أورجواى”، وقد كانت نتيجة المفاوضات فى هذا المضمار التوصل إلى اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة المعروفة اختصارا باسم “تريبس” “TRIPS” وقد غطت الاتفاقية حقوق المؤلف وما فى حكمها وحقوق الملكية الصناعية شاملة براءات الاختراع أو التصميمات الصناعية التخطيطية والأسرار الصناعية وتصميمات الدوائر المتكاملة(2).
لقد هدفت هذه الاتفاقية إلى توفير حماية دولية وفعالة لحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة(3)، ذلك من خلال وضع وتحسين القواعد والضوابط والمعايير المطلوبة لهذه الحماية، وبحيث تصبح تدابيرها واجراءاتها فعالة ضد أى اعتداء على حقوق الملكية الفكرية، على أن تكون هذه التدابير منصفة وعادلة وغير معقدة أو باهظة التكاليف، وبحيث لا تتحول فى الوقت نفسه إلى قيود معيقة للتجارة.
كما تضمنت الاتفاقية الإجراءات الكفيلة بتسوية المنازعات المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة. وتشمل هذه الاتفاقية كل ما يتصل بحقوق المؤلف وما في حكمها وحقوق الملكية الصناعية، من براءات الاختراع، والعلامات التجارية، والتصميمات الصناعية والتخطيطية وحماية المعلومات والمعارف التقنية.
الملكية الفكرية والعولمة:
وفى الحقيقة يعتبر الاهتمام بحقوق الملكية الفكرية فى السنوات الأخيرة، من نتائج العولمة، التى دلف إليها العالم فى العقود الماضية والأخيرة من القرن العشرين(4) والتى أصبحت واقعا لا يمكن إنكاره، فقد ظهر مصطلح “الموارد الذهنية” ليعبر عن نوعية بالغة الخصوصية من الموارد البشرية، أى موارد أصحاب العقول المفكرة والمبدعة، وبدء استخدام هذه الموارد بشكل مستقل، وباعتباره أكثر الموارد قيمة وأهمية وباعتباره موردا نادرا قائما على النخبة القادرة على تحويل المكونات والعناصر والأجزاء إلى كل متكامل ومتوافق ومتفاعل. ومن ثم فإن تجسيد العقلانية، وتفعيل المنهجية العلمية، ومن ثم تحويل عملية العقلنة من الوعى بالذات إلى عملية تفعيل الذات المبدعة، وبما يعمل على تعظيم قيمة الإنسان، وبما يعنيه ذلك من أنه العنصر الفاعل من عناصر الإنتاج، والذي ربما أصبح يحتاج إلى تأكيد اقتصاديات استخدامه وتوظيفه.
كما كان من نتائج العولمة ظهور رأس المال الثقافى، أو ما يمكن أن نطلق عليه الموارد الثقافية والتى من خلالها لا تنتج فقط الثقافة، ولكن أيضا تتداول وتنتشر وتزداد بشكل ملموس ومحسوس، ويصبح رأس المال الثقافى يمتلك ذلك البعد الدلالى الذي يقدم الإطار والنموذج الجماعي، القادر على التفاعل مع حداثة تجاوز الكثيرين مرحلتها إلى ما بعدها، ووضع مفكريهم ومنظريهم نظريات الطريق الثالث، ومن ثم احتاج الأمر إلى وعى جديد، وإلى ثقافة جديدة كاملة، لقد أصبح رأس المال الثقافي بحكم الاتساع المفرط للعولمة، قادرا على صنع وعى ممتد دون توقف، ومن ثم يتحول إلى طاقة تنوير متحررة فتشكل “الضمير الكبير” معه وبـه وفيه تتشـكل وتتحد القوة والقدرة السائدة للجماعات البشرية واتجاهاتها العلمية(5) فضلا عن تناقص الفترة الزمنية ما بين تحويل الاكتشاف العلمي أو الفكرة الثقافية، أو الإبداع الذهنى، من مجرد اكتشاف إلى منتج مطروح للتداول والتعامل عليه(6)، والحصول على مردودات وعائد سريع منه، وبأرباح غير مسبوقة، وبمعدلات إنتاج وتسويق وتمويل وموارد بشرية غير مسبوقة، ووفق آخر تقنيات، وأحدث أساليب(7).
كل هذا أدى إلى الاتفاقية المنظمة للملكية المعنوية المتصلة بالتجارة “التريبس” Trade Related Aspects of Intellectual Property Right Trips وهى من أخطر الاتفاقيات، وأكثرها ألما للدول النامية، ومن بينها الدول العربية والإسلامية، والتى تم التوصل إليها مع اتفاقية الجات عام 1994م، وعلى إثرهما جاءت منظمة التجارة العالمية(8) كخلف لهما، ومن المعروف أن الاعتداء على أي حق من حقوق الملكية الفكرية انتهاك لحقوق مالك الحق، والمجتمعات لا تخلو من ضعاف النفوس واللصوص والمستغلين لأعمال غيرهم، وهم الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فيأخذون حقوق غيرهم ويقومون باستغلالها دون ترخيص او إذن مسبق، ويكون هذا الاستغلال أيضا مشوها بحيث تكون المنتجات المقلدة ذات جودة رديئة وأسعار بخسة، وهذا أمر لا خلاف عليه، فيجب ان يعاقب كل معتد.
أما الوجه الآخر من القصة، فإن الشروط القاسية والتعسفية التى يمليها صاحب الحق على المستعمل، والمقابل المغالى في تقديره، أمر غير مرغوب فيه، وبالتالى لابد من التوازن ما بين الشمال والجنوب، وبين الدول المتقدمة والدول النامية والتى تشمل الدول العربية والإسلامية، خصوصا أن هذه الثمار، التى يقوم بقطفها الآن الشمال المتقدم – وعلى رأسه أوربا والولايات المتحدة الأمريكية – هى نتيجة أعمال الجنوب التى قام بها فى مراحل تاريخية سابقة، فضلا عن الثروات التى تم استنـزافها – وما يزال – كثير من دول العالم المتقدم، وبالتالى يجب أن يكون المقابل عادلا وليس مجحفا(9).
ولا أدل على سوء استخدام حقوق الملكية الفكرية من إحدى تلك الشركات العالمية(10) التى غزت عالم الهندسة الوراثية فى مجال الزراعة، حيث طورت محاصيل زراعية تضاعف من غلة الأرض أضعافا كثيرة، ولكنها بالمقابل وحفظا لحقوقها الملكية ابتكرت تلك الشركات طريقة يجبر بها من يزرع محاصيلها المهندسة وراثيا على أن يشترى منها البذور كل عام، وقد تمكن علماءها من وضع خطة هندسية وراثية يقتل بها النبات بذوره، فلا تنبت إذا زرعت، ولا يستطيع الفلاح أبدا أن يستخدمها لإنتاج محصول جديد، وعليه أن يعود صاغرا إلى الشركة فى كل موسم، ومن هنا سمى الدكتور أحمد مستجير عالم البيولوجيا المصري المعروف هذه الطريقة بالقرصنة الوراثية فى أحد مؤلفاته حيث يقول:
“تأخذ الشركات سلالات نباتاتنا التى طورها فلاحونا بجهد آلاف السنين، لتضيف إليها جينا من بضع جينات، وتحصل على براءة (قانونية) من الجهة الرسمية من بلادها، لتصبح السلالات وجينوماتها بأكملها ملكا خاصا لها، تحميها قوانين منظمة التجارة العالمية، ويحتاج أصحابها الحقيقيون إلى إذن خاص ورسوم لزراعتها! لم تعد السلالات سلالاتهم، فقد طعمت بجينات من خارج باستخدام تقنيات غربية لا يملكون هم سبيلا للوصول إليها، سلبت الشركات حق الفلاح الأزلى فى الاحتفاظ ببذوره وسلبته دوره التاريخي كمربى نبات”… ويضيف الدكتور أحمد مستجير: “ومن هنا فالإنجاز العلمي العبقري الذي حققته شركة دلتا ينهى الحق الطبيعي الذي منحه الله للإنسان فى كل مكان: أن يزرع لإطعام نفسه والآخرين… إنها القرصنة البيولوجية..كان الاستعمار القديم يستولى على الأرض، أما الاستعمار الجديد، فيستولى على الحياة نفسها”(11).
وما يحدث فى عالم الزراعة والبيولوجيا والهندسة الوراثية يحدث أكثر منه فى مجال الدواء وصناعة العقاقير الطبية، فـيما يتصل بتوفير العلاج المناسب لكثير من الأمراض القديمة والمستوطنة وتلك التى ظهرت فى العصر الحديث، مما سيلقى أعباء لا قبل للدول النامية والفقيرة بها، حيث لن يُمكِنها تصنيع غير أدوية قديمة سقطت حقوق ملكيتها بعد عشرين عاما من صنعها(12).
اتفاقيات غير متوازنة:
ومن هنا يرى كثير من العلماء أن اتفاقية التجارة المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية، والتى ضمت 73 بندا لتغطية مجالات حقوق الملكية الفكرية والتى سميت بجولة أورجواى عام 1993م حققت نتائج كبيرة لصالح البلاد المتقدمة فى المقام الأول، وكانت الدول النامية والإسلامية خاصة فى هذه الاتفاقية خاسرة، وأكثر هذه الدول خسارة هى الدول الأكثر فقرا فى أفريقيا، ولذلك طلبت كثير من المؤسسات والدراسات بتعويض تلك الدول من خلال معونات إضافية وزيادة فى التفضيلات التجارية والمعاملة الخاصة وتخفيف عبء المديونية أو إسقاطها(13). وتحتاج الدول النامية خاصة منها العربية والإسلامية إلى تكوين تكتلات اقتصادية قادرة على المواجهة فى السـاحة الدولية التى تعمل بقانون البقاء للأقوى، كما أنها فى أشد الحاجة إلى تطوير تشريعاتها القديمة لتواكب التشريعات الدولية الحديثة فى هذا المجال، فقوانين العالم العربى والإسلامي قد وضعت منذ زمن طويل، ولم تعد قادرة على تنظيم وملاحقة التغييرات الجديدة فى مجالات الملكية الفكرية، نتيجة للتطورات التكنولوجية الهائلة وثورة المعلومات والاتصالات، على الرغم من أن الفقه الإسلامي فى مجال التشريعات المتصلة بالحياة يمكنه أن يواكب كل التطورات المستحدثة من خلال منهج الاجتهاد الفقهي الذي طوره العلماء المسلمون عبر قرون عديدة.
ولذلك لابد من تطوير القوانين العربية فى مجال الملكية الذهنية والفكرية، خاصة وأن التجارة الدولية لم تعد تقتصر على المواد المادية التقليدية، بل أصبحت مجالات حقوق الملكية الذهنية هى من أهم المجالات الآن جذبا للاستثمارات وللتبادل الدولى فى ظل عصر العولمة.
من هنا كان حرص منظمة التجارة العالمية على تأكيد ضرورة اتخاذ الدول الأعضاء الاجراءات الكفيلة بتحقيق حماية فاعلة للملكية الذهنية. وإذا نظرنا إلى منظومة التشريعات العربية المتعلقة بحماية الملكية الفكرية نجدها قديمة لم تصبها يد التعديل أو التطوير، بما يتفق مع ما استجد من منتجات جديدة نتيجة ثورة المعلوماتية كبرامج الكمبيوتر والدوائر المغلقة وبنوك المعلومات والإنترنت، فضلا عن الثورة التى حدثت فى مجالات العلوم الحيوية مثل أبحاث البيولوجيا والجينات والاستنساخ وزراعة الأعضاء.
صحيح أن معظم البلاد العربية كانت حريصة على حماية برامج الكمبيوتر من خلال قوانين حق المؤلف، ولكننا ومعنا كثير من الباحثين(14) نرى أنها قد وردت فى صورة عامة، حيث قد أوردت صياغة عامة وهى أن برامج الكمبيوتر تتم حمايتها من خلال قوانين حق المؤلف، وذلك دون مراعاة الطابع الفنى لبرامج الكمبيوتر وما تستلزمه من أحكام خاصة تميزها عن غيرها من المصنفات الأدبية التقليدية ودون مراجعة قوانين الدول الأخرى فى هذا الشأن.
لقد كانت نتيجة هذا التعميم ونقص دراسة الطبيعة الخاصة لبرامج الكومبيوتر أن وجدنا أن السياسة العربية الحالية توفر لبرنامج الكمبيوتر المصنوع فى بلد أجنبي الحماية بما يزيد على تلك التى يتمتع بها فى دولته الأصلية. ذلك أن معظم القوانين العالمية قد راعت الطبيعة الفنية لبرامج الكمبيوتر، ولذلك أوردت له بعض الأحكام الخاصة التى تميزه عن غيره من المصنفات الأدبية التقليدية.
لهذا فقد أعطت قوانين هذه الدول مستخدم برامج الكمبيوتر الحق فى تطويرها وتطويعها – من خـلال النفاذ إلى مصدر البرنامج بما يتفق مـع حاجاته الخاصة، ودون الحصول على إذن مسبق من المؤلف الأصلى، وذلك على خلاف الأحكام المعمول بها بالنسبة للمصنفات التقليدية، فى حين أن الدول العربية لم تراع مثل هذه الأمور، وما ترتب على ذلك من نتيجة غريبة، وهى تمتع البرنامج الأجنبى فى البلاد العربية بحماية أكثر من تلك التى يتمتع بها فى بلده الأصلى.
توصيات يجب أن تُراعى:
ومن هنا يجب مراجعة التشريعات العربية الواردة فى هذا الصدد حتى تنسجم مع الاتجاه العام للتشريعات العالمية الذي يورد أحكاما تراعى الطبيعة الفنية لبرنامج الكمبيوتر، مما سيشجع الباحثين العرب والمسلمين على تطوير هذه البرامج بما يتلائم مع حاجاتهم البحثية. إن تطوير منظومة التشريعات العربية أمر ضروري كي يمكن مواجهة التغييرات القانونية المصاحبة للعولمة.
كما أنه – من ناحية أخرى – من الأنسب والأوفق أن يوضع مشروع قانون جديد بناء على دراسة متأنية تأخذ فى الاعتبار ظروف المجتمعات العربية والإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، كما يمكنها طلب تعديلات يمكن إدخالها على الاتفاقية الدولية لحقوق الملكية الفكرية، بحيث تتفق مع المصالح الإنسانية العاجلة والآجلة للشعوب، منها إخضاع فترة الحماية للتعديل الدوري، خاصة وأن الاتفاقية تشتمل على بعض الإيجابيات مثلما تشتمل على بعض السلبيات، ومن البديهي أن يتم تحديد نقاط المنفعة والخسارة بطريقة محددة، وأن نُفعِّل مزايا الاتفاقية لأقصى درجة ممكنة، وذلك بطريقة تتفق مع روح الاتفاقية التى تنص المادة (71) منها على مراجعتها دوريا كل سنتين، وهذه المراجعة واجبة لتضمين أية مزايا يمكن الحصول عليها 0
ومن الملاحظ أن المادة (12) من اتفاقية “تريبس” تنص على أن مدة الحماية لا تقل عن خمسين سنة، وحيث أن إنتاجنا من الكتب والمصنفات، ومنها برمجيات الحواسب، يقل كثيرا عن الإنتاج العالمي، فإن مصلحتنا تكون فى تقليل فترة الحماية، وأن نعالج الخلل القائم فى القانون الحالى الذي تزيد فيه مدة الحماية على الحد الأدنى لالتزامنا الدولى، كما أن التأكيد على حق الترجمة، وعلى المزايا المتعلقة بها يشير إليها صراحة التزام الدول الموقعة بمعاهدة “برن”، التى تنص على حق ترجمة المُصنف، إذا لم يقم المؤلف بترجمة مصنفه بثمن يقارب للثمن المعتاد بالنسبة للمصنفات المماثلة خلال ثلاث سنوات من تاريخ أول نشر للمصنف.
ومن التوصيات التى ينبغى تحقيقها أمام الدول الإسلامية تسهيل تعاملات الأفراد مع مختلف جهات حماية الملكية الفكرية، من خلال لوائح دقيقة.. وإنشاء بنية قوية لمساعدة المبدعين من علماء الأمة ومفكريها بكل الطرق بما فيها التعليم والثقافة والإعلام، ومنها المساهمة فى نشر الكتب والترجمات والبرامج بأسعار رمزية.
كما أنه يجب على المؤسسات والجمعيات العلمية العربية والإسلامية الرسمية والتطوعية أن تدلى بدلوها فى وضـع هـذا البناء كى يمكننا عن طريق ترجمة العلم تأصيل المعرفة العلمية فى وعى جموع شعبنا العربي والإسلامي، فى ظل ظروف الثورة المعلوماتية وتطور وسائلها التكنولوجية، التى أصبحت فى متناول عالمنا العربي والإسلامي، والتى تدعو الحاجة الملحة الآن الاطلاع على أحدث منجزاتها، ونقلها إلى العربية، تلك الجهود سوف تحل مشكلة الترجمة العلمية التى تكاد لا توجد لأنه ليس لها مكان فى بناء مجتمع يتباهى بأن أبناءه يجيدون الرطانة بلغة غربية، ولا يتقدمون بعد تلك المرحلة قيد أنملة! أليس لنا أن ندرك أن تعريب التعليم والعلم هو تعريب للأمة بكاملها وتوظيف لإمكاناتها ووضعها على طريق الجادة.
ولا يغيب عن البال أن حسن تنظيم حقوق الملكية الفكرية تشريعيا من شأنه إيجاد روح الإبداع والابتكار، مما يؤدي إلى ظهور منتجات جديدة وقيام مشروعات اقتصادية لتصنيعها، والإسهام بالتالى فى إيجاد فرص عمل جديدة وزيادة الدخل القومي للدول العربية والإسلامية، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتهيئة المناخ لدخول الدول الإسلامية فى اتفاقيات تجارية متعددة تعود على الأمة بمزيد من التقدم والرفاهية، خاصة وأنه لا عاصم من “الجات” إلا بالتنمية الحقة بكل أبعادها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهناك مسألة الغزو المعلوماتى التى لابد للدول العربية والإسلامية من مواجهتها، فمن أهم المبادئ التى تعطي للدولة الحق فى قبول أو رفض ما قد يوجه إليها من الخارج هو مبدأ السيادة على إقليمها، ولكن هذا المبدأ فى ظل العولمة أصبح محل إعادة نظر، ففى مواجهة البث المعلوماتى المتزايد عبر شبكة الإنترنت والأقمار الصناعية لم تعد الدولة قادرة على رفض ما يبث لها من الخارج. فحدود الدول أصبحت مفتوحة دائما أمام الغزو المعلوماتي، ومن هنا وجدنا من الفقه الغربي من يبشر بفكرة الدولة بغير حدود، ومن ثم فإن الفرد لم يعد مجبرا على تعاطى المعلومات التى تبثها دولته من خلال وسائل الإعلام الرسمية، بل أصبح العالم صفحة مفتوحة يستطيع أن يتخير ما يشاء.
ولكن كيف يمكن للبلاد العربية والإسلامية مواجهة التغييرات القانوينة المصاحبة للعولمة؟ إن الإجابة على هذا التساؤل يطرحها الباحث القانونى الدكتور فاروق محمد الأباصيرى(15) فى مقالة دقيقة له حين يقول أن ذلك يتم من خلال:
أولا: تفعيل القوانين والاتفاقيات العربية القائمة، فانكماش الدولة وراء حدودها لم يعد بعاصم لها من التدخل فى شئونها، بل لم يعد ضمانا لاستمرارها واستقرارها على الساحة الدولية، فعصر العولمة هو عصر التكتلات الإقليمية الكبرى، ولم يعد أوان الدولة الوحيدة، من هنا فإن تفعيل الاتفاقيات العربية القائمة فى المجال الاقتصادي “اتفاقية السوق العربية المشتركة” ووضعها موضع التنفيذ أمر لا مفر منه، وذلك من أجل الاستفادة بالامكانات العربية المالية والاستراتيجية.
إن مسألة حقوق الإنسان تعتبر من أولى اهتمامات عصر العولمة، ولذا فإن القرن الحادى والعشرين الذي أصبحنا فيه سيكون ذروة الاهتمام بحقوق الإنسان، فتحْت ستارها أصبحت فكرة السيادة محل إعادة نظر، بالإضافة إلى أن تقديم أى دعم الآن اقتصادي أو سياسي من دول الشمال المتقدمة لغيرها من دول الجنوب، ومن بينها الدول العربية والإسلامية، يكون مشروطا دائما بالاهتمام بحقوق الإنسان وضرورة تبنى القوانين التى تجعل منها محل احترام حقيقى من جانب الحكومات فى مواجهة الشعوب.
ومن هنا حتى يمكن الاستفادة من الجوانب الحسنة للعولمة يجب على الدول العربية تفعيل الاتفاقيات العربية القائمة فى مجال حقوق الإنسان وأهمها تلك المتعلقة بإنشاء محكمة عدل عربية، حتى لا تتخذ الدول الداعية للعولمة منها تكأة تعيرها بها وتتخذ منها ذريعة للتدخل فى شئونها.
ثانيا: التأكيد على وجود دور الدولة التشريعى على مسرح الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وما يذهب إليه الباحث صحيح إلى حد كبير خاصة وأن عملية التحرر الاقتصادي فى ظل العولمة ليست بذات المفهوم الذي كان قائما فى القرن الثامن عشر، حيث كان يتم إعمال مبدأ “دعه يعمل دعه يمر”، حيث كان دور الدولة يقتصر على الأنشطة التقليدية، حفظ الأمن الداخلى والخارجي وتحقيق العدالة. وإنما الدول تحتفظ حتى فى ظل عصر العولمة بدورها على المسرح الاقتصادى بما يضمن عدم غياب البعد الاجتماعى.
ومن هنا فإن قوانين حماية المستهلك تشهد نموا ملحوظا فى جميع الدول حتى تلك التى تبشر بالعولمة، ويتم منح جمعيات حماية المستهلك الضمانات القانوينة التى تمكنها من ممارسة دورها فى حماية المستهلك. من هنا إذا كانت البلاد العربية تهدف الآن إلى تحرير الاقتصاد وتشجيع الاستثمار الأجنبى، فإنه يجب أن تقنن التشريعات التى تضمن حماية المواطن العادي فى مواجهة هذه الشركات المستثمرة، وذلك بما يضمن حصوله على سلع وخدمات تتوافر فيها الشروط التى لا تستطيع هذه الشركات تقديمها فى بلادها الأصلية إلا بها.
كذلك يجب على البلاد العربية أن تقنن التشريعات التى تحمى مصالحها الحيوية وتعطيها الطابع الملزم فى التطبيق، قد يظن البعض أن التشريعات الحمائية لم يعد لها وجود فى ظل عصر العولمة وأنها أصبحت من مخلفات العصور الماضية، ولكن هذا المفهوم ليس أبدا بصحيح، إن مثل هذه القوانين الحمائية موجودة الآن داخل الدول الداعية إلى العولمة نفسها، إذ ما زالت هذه الدول تحرص الآن على سن القوانين التى تضمن لها ميزة التفوق فى مجال السلع الاستراتيجية.
إلا أنه لابد من التنبيه على خطورة ما يتعلق بالبحوث والاختراعات البيولوجية والأنسجة البشرية والحيوانية، وضرورة الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وفى نفس الوقت لابد من تثقيف الجماهير العربية والإسلامية بالتطورات العلمية التى حدثت فى العلوم البيولوجية والحيوية، خاصة بعد تخوف الجماهير محليا وعالميا من مرض جنون البقر الذي يسببه نوع من البروتين الممرض يسمى Prion وأثره الضار عند استهلاك اللحوم المصابة من تلك الأبقار، وكذلك ما أثير عن تلوث البلازما وبعض مشتقات الدم المستورد وتلوث الدم بالإيدز، والخلط الخاطئ بينهما جميعا ومنتجات الهندسة الوراثية، وتفاديا لبلبلة الأفكار. وحسما لهذا الموضوع، فإن تثقيف جماهير الأمة فى ضوء النظرة العالمية لمدى أمان منتجات الهندسة الوراثية صحيا وبيئيا، يصبح واجبا وطنيا ودينيا، ويتحتم على الجهات العلمية والمنظمات غير الحكومية N G O S توضيحه بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية(16).
ونحن نرى أنه لابد من البُعد عن العبارات والمفاهيم غير المحددة بصورة قطعية فى مشروع قانون حماية الملكية الفكرية – فيما يتصل بمصر أو بالدول العربية والإسلامية – وتسهيل تعاملات الأفراد مع مختلف جهات حماية الملكية الفكرية من خلال لوائح دقيقة محددة، مع ضرورة إنشاء بنية بحثية قوية لمساعدة المبدعين بكل الطرق بما فيها التعليم والثقافة والإعلام، ومنها المساهمة فى نشر الكتب والترجمات والبرامج بأسعار رمزية.
كما نرى ضرورة التوصية بتخفيض جميع الرسوم المطبقة حاليا فى الدول العربية والإسلامية (رسوم التسجيل والرسوم السنوية وغيرها من الرسوم) التى تدفع فى مختلف مجالات الملكية الفكرية من براءات اختراع وتصميمات صناعية وعلامات تجارية وكتب برمجيات وغيرها من المجالات، وجعلها رمزية، تحفيزا للإبداع وأخذا فى الاعتبار متوسط دخل المواطن العربي، خاصة فى الدول غير البترولية وهو متوسط متواضع بالنسبة للعالم المتقدم، كما أنه لابد من الدعوة إلى إبراز علاقة الملكية الفكرية بالتنمية حفاظا على حقوق الإبداع واستغلالا للكثير المتاح مجانا فى الملك العام، فهذا الجانب هو الجانب المخفى فى قضية التنمية الفكرية، حيث بلايين الدولارات من الاستثمارات البحثية والتقنية المتاحة لنا مجانا والتى لا ننتبه إليها، كما يجب النظر إلى إيجابيات الملكية الفكرية لنا كأمة، دعوة إيجابية لأن نحاول تغيير الواقع لدفع أمتنا على طريق التنمية التى نصبو إليها، ونعمل من أجلها.
* * *
الهوامش والمصادر
1- العولمة هى الترجمة لكلمة Globalization وتشير إلى شيئين معا انكماش العالم وازدياد الوعى بالعالم ككل، وحسب تعريف روبرتسون للعولمة (انظر سليمان نجم خلف: العولمة والهوية الثقافية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد61 الكويت 1977) فإنها تعنى تشكيل وبلورة العالم له بوصفه موقفا واحدا، وظهورا لحالة إنسانية عالمية واحدة، ولذلك تعنى العولمة سياسيا أن للأحداث والقرارات والنشاطات فى مكان ما من العالم، نتائج وآثار مهمة لأفراد وجماعات ومجتمعات أخرى، وثقافيا “ذلك التكوين الذي يشهد تبادلا وتفاعلا ثقافيين بصورة مستمرة دائمة”. وتتصل نظرية العولمة فى العلوم الاجتماعية اتصالا وثيقا بحركة المتغيرات التى تمر بها المجتمعات الرأسمالية الصناعية، التى تمر منذ قرابة الثلاثة عقود بتحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية على درجة كبيرة من التعقيد وقد عبر عنها بمسميات عديدة، كمجتمع الموجة الثالث والرأسمالية المتأخرة، والرأسمالية المنظمة، وغير المنظمة، ومجتمع الشركات متعددة الجنسيات ومجتمع المعلوماتية، والقرية الكونية، وهى كلها مسميات تعبر عن سرعة المتغيرات التى تتعرض لها المجتمعات الصناعية والإنسانية عموما، كما تعبر عن حركة التقارب العالمي الذي يبرز عبر ظاهرة التجانس الثقافى من جهة والتنوع الثقافى من جهة أخرى.
2- انظر كامل أبو صقر: العولمة التجارية والإدارية والقانونية: رؤية إسلامية ص 415، 416 بيروت عام 2000م. وترجع أول اتفاقية دولية تنظم حقوق الملكية الصناعية إلى عام 1883م، وقد عرفت باسم “اتفاقية باريس” وتضم هذه الاتفاقية حاليا (120) دولة، وظهرت إلى حيز الوجود اتفاقية “برن” للمصنفات الفنية والأدبية، وقد أبرمت فى عام 1886م. وقد جرى العمل على إيجاد جهة مؤسسية دولية تتولى حماية حقوق الملكية الفكرية بجوانبها المختلفة، وفى هذا الاطار تم التوصل فى عام 1967م إلى إبرام الاتفاقية الدولية لإنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية “WIPO”والتى تحولت لاحقا إلى إحدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة عام 1974م، وتضم فى عضويتها (140) دولة وتشرف على تنفيذ (23) اتفاقية دولية تتناول جوانب مختلفة من حقوق الملكية الفكرية.
3- انظر ناهد طلاس العجة: العولمة: محاولة فهمها وتجسيدها ص 156، 157 ترجمة هشام حداد دمشق عام 1999م.
4- ينطلق دعاة العولمة من افتراض أن العولمة تتيح فرصا كثيرة لملايين من البشر فى شتى أنحاء العالم، على أساس أن العولمة تسمح بتزايد معدلات التجارة، وزيادة تبادل التكنولوجيات الجديدة، وتدفق الاستثمارات الأجنبية – وتوثق الارتباط بين الشعوب عبر الإعلام والإنترنت، وكل ذلك من شأنه أن يدفع بالنمو الاقتصادي إلى الأمام وبالتقدم البشري إلى وضع أفضل يسهم فى القضاء على الفقر فى القرن الحادي والعشرين، فالعالم اليوم مهما تكن السلبيات التى لا ينكرها أحد يستطيع أن يزيد من الثروة المتاحة للبشر، وأن يتوصل إلى المزيد من التكنولوجية التى تزيد من قدرتهم على استغلال ثروات الطبيعة والانتفاع بها، وكذلك فإن التكنولوجيا الحديثة تمكن الفرد من أن يعيش حياته بصورة أكثر راحة وأكثر توفيرا للمتعة بعيدا عن المشقة والمعاناة.
وعلى هذا الأساس فإن دعاة العولمة يعرفونها، بوجود أسواق عالمية، وتكنولوجية عالمية، وأفكار عالمية، وتضامن عالمي، ويركزون على فكرة التضامن العالمي، على افتراض أنه يضفى الطابع الإنساني على العولمة، حتى يكون هناك التزام مبدئى وأخلاقى، بأن تكون عوائد التنمية العالمية متاحة للجميع فى كل أنحاء العالم، وهذا الالتزام الأخلاقي يعد رابطة إنسانية مشتركة تصنع قدرا من التوحد والانسجام بين القيم الإنسانية فى كل الدول وكل الشعوب0 وعلى الرغم من كل ذلك فنحن لا نرى من العولمة إلا وجوهها التنافسية الضارية، التى لا يقدر عليها إلا الأقوياء والأثرياء، ولا يصمد فى حلبتها الضعفاء والفقراء، يستوى فى ذلك الدول والشركات والأفراد، ونحن لا نرى من العولمة إلا النهم إلى الربح والتوسع وغزو الأسواق، وتراكم الأموال وتركيز الثروات فى أيدى البعض دون الآخرين، فيملكون كل شيء ويتاجرون فى كل شيء، ولا يبالون، فى سبيل ذلك بأى شيء. انظر للمؤلف: تأملات نقدية لظاهرة العولمة، مجلة الجسرة القطرية، الدوحة، العدد10، ص63- 86 خريف 2001م
5- فبعد أن كانت تقاس ثروة الأمم بقيمة الموارد الطبيعية، أصبحت تقاس الأن بالموارد البشرية المنتجة التى تضيف إلى هذه الموارد الطبيعية قيمة ملموسة، وقد لجأ الإنسان إلى التوصل إلى آفاق جديدة من الإنتاجية والقيمة المضافة المتزايدة، أي المعرفة العلمية والأساليب العملية لاستخدامها فى مجالات العمل والانتاج وذلك لرفاهية وأمان الإنسان ولمصلحة الاقتصاد الوطنى0 وتعتمد القيمة الانتاجية والصناعية على إدخال التكنولوجيا الحديثة بعد تجهيز بيئة العمل الداخلية للتعامل مع التكنولوجيا ومواجهة التحديات المفروضة عليها من حيث زيادة جودة السلع وتخفيض التكلفة وتقصير فترة الانتاج، الأمر الذي يزيد من القدرة التنافسية والتوسع فى الانتاج وزيادة الثروة.
6- فعلى سبيل المثال تطلب كشف العالم الانجليزي ماكسويل لطبيعة الموجات الكهرومغناطيسية عام 1864م مرور 37 سنة قبل أن تتم الاستفادة منه فى إتمام أول اتصال لاسلكى عبر الأطلنطى سنة 1901م وقد تقلصت هذه الفترة منذ الخمسينات إلى أقل من عشر سنين، ففى سنة 1956م تم بناء أول حاسب تعتمد دوائره على الترانـزيستور الذى لم يكن مضى على اكتشافه فى معامل بل بالولايات المتحدة إلا ثمان سنوات فقط. وقد أدى هذا بالاضافة إلى عوامل أخرى، إلى ظهور ما يعرف بـ”الصناعات المرتكزة على تكثيف العقول” BRAIN -INTENSIVE INDUSTRIES ، أو “الصناعات المرتكزة على التوظيف المكثف للإبداع” فى البلدان المتقدمة متجاوزة فى أهميتها الإقتصادية والسياسية لتلك البلدان أهمية “الصناعات المرتكزة على تكيف رأس المال ” CAPITALINTENSIVE INDUSTRIES، وجاعلة “الصناعات المرتكزة على تكثيف العمل” السائدة فى بلدان العالم النامى من حفريات التاريخ.
وما صناعة برمجيات الحاسب أو تلك المعتمدة على الهندسة الوراثية أو تلك المرتكزة على البث بالأقمار الصناعية إلا أمثلة لهذه الصناعات. انظر د. السيد نصر الدين: من ملامح حضارة الألف الثالثة، ص 24، 25 بحث ضمن كتاب بوابات المستقبل، مطبوعات قصور الثقافة، العدد 28 مصر 1999م وانظر:
Martin Albarow and Elizabeth king (ESD) Globalization of knowledge Society SAGE, 1999.
7- وإذا كان العالم يقبل مبادئ العولمة الأساسية من الاقرار بحقوق الإنسان والديمقراطية السياسية والشفافية ووحدة الأداء الاقتصادي، فإن أهم انتصار لهذه المبادئ الإنسانية الراقية هو صياغة نظام دولى ديمقراطي حقيقى، يوزع الأعباء كما يوزع الأرباح، ويمارس الاعتماد المتبادل كما يمارس فرض فتح الأسواق ويشترك الجميع فيه على قدم المساواة دون إرغام من ناحية وإذعان من ناحية.
8- منظمة التجارة العالمية هى المنظمة التى تجسد الليبرالية الجديدة فى صورتها المتطرفة. وهي تعنى ضمن ما تعنى – موتا محققا – للعالم الثالث – بما فيه من عرب ومسلمين – إذ تذكر الاحصاءات أن عدد سكان المعمورة نحو ستة مليارات، يعيش أكثر من ثلثهم فى دول الجنوب، والغالبية العظمى منهم لا تعيش عيشة إنسانية، والدليل على ذلك أن 13% فقط من سكان العالم ينفقون 68% من الانتاج العالمى، إنها عدم مساواة صارخة ورهيبة، والمؤسف أن منظمة التجارة العالمية هى الانتصار الساحق لدكتاتورية رأس المال فى أبشع صورها، كما أن الليبرالية الجديدة والسوق الرأسمالية الموحدة خلقا رأسمالية الغابة، التى تعنى نهاية الدولة الوطنية والسيادة الشعبية ونهاية التنوير والقيم المصاحبة له. وتنظر العولمة إلى النتاج العالمي سواء أكان سلعة أو مادة استهلاكية أو إحدى الخدمات أو إبداعا فكريا ثقافيا نظرتها إلى البضائع التجارية التى تزيد أو تنخفض قيمتها ويغلو ويرخص سعرها بمقياس إقبال السوق العالمية عليها، بعد أن يخضعها المتقايضون (بائعين ومشترين) لكسب رهان تعظيم الأرباح. (انظر: د. محمود مرتضى: الغضب ضد مساوئ العولمة ص120، مجلة الهلال مايو 2001م).
9- E.G.Hobsbawn and terence ranger (EDS) the Invention of tradion Cambridge 1995.
10- فى العالم اليوم نحو 500 شركة عملاقة عابرة للدول والقارات، وهى الأغنى والأقوى والأشرس، وتسيطر عمليا على 70 بالمئة من حركة التجارة العالمية، وتستقل بإدارتها ومصالحها وسياساتها عن سياسات الدول بما فى ذلك أمريكا التى تتبعها معظم هذه الشركات أو تعمل منطلقة من أراضيها واقتصادها وعقولها. وهذا الكيان الكونى العملاق يصوغ لنفسه مفاهيم ومصالح وأهدافا وعلاقات تختلف عن الأنماط التى تعارف عليها العالم، هذا الكيان يفرض على العالم هذه الأهداف والمصالح الجديدة بشروطه وعبر الأداة التنفيذية لذلك، وهى منظمة التجارة العالمية التى تضم رسميا فى عضويتها 135 دولة ليس لأى منها القدرة على العصيان والتمرد، هذه الشركات الاحتكارية العملاقة بفضل سيطرتها على اقتصاد العالم، فإنها يمكنها أن تتمكن من تحييد وتحجيم حكومات الدول وشل إرادتها وفرض السياسات التى تخدم مصالحها وتؤدي إلى تراكم أرباحها حتى لو كان ذلك على حساب الفقراء دولا وشعوبا وأفرادا. (انظر د.ثناء عبد الله: قضايا العولمة بين القبول والرفض، مجلة المستقبل العربي العدد256 يونيو 2000م).
11- د.أحمد مستجير: القرصنة الوراثية ص 23، 26، دار المعارف 2001م.
12- إن صناعة الدواء تتميز بقيمة مضافة هائلة، إن هذه القيمة المضافة تكتسب أهمية كبرى فى ضوء ثلاثة أمور رئيسة؛ الأول: هو أن الدواء سلعة لا يمكن لمن يحتاجها أن يستغنى عنها، والثاني: هو أن الدواء سلعة توجد على الدوام منذ عرفها الإنسان لم تتوقف الحاجة إليها قط، وهى تتطور باستمرار لزوم الحصول على علاج أحسن، وكذلك لزوم المجابهة العلاجية لمستجدات مرضية جديدة. وأما الثالث: فيختص باعتماد الابتكار الدوائي على البحث العلمي العميق والمتواصل، وهو الأمر الذي جعل لبراءات الاختراع فى المجالات الدوائية قيمة كبيرة، وحاليا – فى زمن منظمة التجارة العالمية – أصبحت الحماية بالبراءة تغطى ليس فقط العملية الابتكارية، ولكن أيضا المنتج الدوائي ذاته بحيث يمتنع التوصل إلى تشييد نفس الدواء ولو بطريقة أخرى. هنا يرى البعض أن سطوة اللاعبين العالميين الكبار فى مجال الدواء قد امتدت إلى قوانين حماية الملكية الفكرية.
وباعتبارالتقدم فى صناعة الدواء، وكذا تنظيم ومتابعة استخدامه علميا وتقنيا وكلها أمور تستند فى الأساس إلى الإمكانات البشرية، فإنه من الممكن أن يكون الدواء أحد المجالات التكنولوجية العالمية التى يكون للمنطقة العربية فرصة التقدم فيها، الأمر الذي يحتاج إلى حسن استخدام وتوجيه الإمكانات البشرية، وتعظيم التعاون العربي والإسلامي، من خلال استثمارات مالية عربية وإسلامية، وبالاستعانة بالعلماء العرب والمسلمين فى مراكز بحثية متخصصة، كل ذلك فى إطار جماعى منظم، وقد كان هناك زمن أضاف فيه علماء الطب والصيدلة – الرازي وابن سينا والبيروني – فى هذه المنطقة من العالم (قيمة مضافة) كبيرة للبشرية فى مجالات الدواء. (انظر د.محمد رؤوف حامد: ثورة الدواء المستقبل).
13- انظر د. لؤي صافى: العولمة والمشروع والتحديات، سلسلة اقرأ دارالمعارف 663 عام 2000م الحضاري الإسلامي ص37- 45 مجلة الكلمة العدد 28 لبنان 2000م وانظر:
John Gray ,Fals Dawn: the Delusions of Global Capitalism New York New press 1998,and Moatasem the effect of Gats on theFinacial Arab Markets.
14- انظر د. فاروق محمد الأباصيري: تطوير التشريعات العربية فى مواجه العولمة. جريدة الأهرام فى 24/4/2001م.
15- د. فاروق محمد الباصيري: تطوير التشريعات العربية فى مواجهة العولمة، جريدة الأهرام فى 24/4/2001م.
16- انظر د. زيدان السيد عبد العال رئيس الجمعية العربية للتكنولوجيا الحيوية وبحثه: النظرة العالمية لمنتجات الهندسة الوراثية، القاهرة، مارس عام 2001م.
زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر