قد لا نعجب للاهتمام البالغ الذى تستأثر به قضية تآكل الأوزون فى طبقات الجو العليا، أو قضية تزايد الحرارة فى المناخ العالمى، أو ظاهرة “البيت الزجاجى” المترتبة على تراكم غاز ثانى أكسيد الكربون فى جو الأرض، فهذه هي القضايا الكبرى بين قضايا البيئة فى الوقت الحاضر، ولكننا نعجب أشد العجب لعدم تركيز الاهتمام على قضية أخرى ستصبح عما قريب، قضية البيئة الأولى، أعنى أزمة الماء.
وهو ما يؤكده كثير من العلماء والخبراء الآن مثل “أسيت بواس” رئيس اتحاد موارد المياه العالمى فى ألينوى فى الولايات المتحدة الأمريكية: “الماء ثروة محدودة، وسكان الأرض فى تكاثر غير محدود تقريبا، ولعل اليوم الذى تتقلص فيه تلك الثروة وتشح إلى درجة النضوب فى أواسط القرن الواحد والعشرين، إن لم نقل فى أوائله”.
ويقول “إلياس سلامة”: “ستتضاعف حاجتنا إلى الماء ضعفين سنه 2020، وعندها يصبح الماء لا البترول هو المورد الأول الذى يتحكم بمصائر العباد فى شتى البلاد، وبمستقبل منطقة الشرق الأوسط”(1). وقد تناقلت وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام المحلية والدولية أخبار الجفاف فى أفريقيا فى الآونة الأخيرة، بسبب أن الساحل الأفريقى قد حرم من الأمطار منذ عدة سنوات، مما نجم عنه موت الحيوانات والتى هى المصدر الرئيسى لغذاء الإنسان، ثم موت الآلاف التى لاتحصى من البشر.. لم يجدوا ما يقيم أودهم، وهاجر العديد من الالآف إلى المناطق المجاورة بحثا عن الماء مصدر الحياة، ومازالت المشاكل المترتبة على نقصه تتفاقم، مما يجعلنا ندرك مدى أهميته بالنسبة للحياة عامة وحياة الإنسان على وجه الخصوص. ولذلك يقول تعالى فى كتابه الكريم: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(2).
وقد قال المفسرون إن ما تعنيه هذه الآية الكريمة هو أن الماء سبب حياة كل شيء حى فى الأرض. وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون الهام فى تركيب مادة الخلية، وهو وحدة البناء فى كل كائن حى نباتا أم حيوانا. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)(3). ولذلك فالماء هو بيئة كثير من المخلوقات والكائنات الحية (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا)(4). أى جعل مياهه صالحة لحياة الأحياء البحرية التى يتغذى عليها الإنسان. ويقول سبحانه وتعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)(5). والمقصود بالبحر فى هذه الآية: كل ماء يوجد فيه صيد بحرى، وإن كان نهرا أو غديرا. وقد وردت كلمة الماء فى القرآن ثلاثا وستين مرة، وورد معناها فى مواضع شتى.. الغيث والمطر والبحار والأنهار وغير ذلك، لأهميته القصوى.
وغالب ورودها بمعنى النعمة، وضرورة الماء للحياة والأحياء، والتى لا تقوم الحياة إلا به، تخضر الأرض بعد أن كانت جرزاً، وتحيا بعد همود وخشوع (وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(6). وهو قوام الحياة لأنه يخرج مكنونات الأرض مما يتغذى عليه الحيوان والإنسان لتحقيق خلافة البشر على الأرض كما أرادها الله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(7). وهو قوام الحياة لأنه أصل كل دابة (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)(8). وهى كلها مسخرة لخدمة الإنسان وغذائه وكسائه وارتحاله.
ولما كان للماء هذه الأهمية القصوى، فقد نبه الله سبحانه وتعالى كثيرا على معرفة هذه النعمة مع غيرها، وأمر بشكر صاحبها فقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ)(9).
كما يتحدى القادر البشر عباده حتى لا يغتروا بعلمهم فيضلوا السبيل فيقول عز وجل: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)(10). فإذا استطاع الإنسان أن يتحكم فى وقت إنـزال المطر ومكانه، فلينظر أولا من أين جاء السـحاب الذى يفجـره، فهو لم ينشـئه من عدم وإنما أنشأه الله سبحانه وتعالى: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)(11). ولما كانت للماء هذه المنـزلة الكبرى كان من الطبيعى أن تتوقف عجلة الحياة عن الدوران إذا نضب الماء أو ندر، ولهذا تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية فى الحث على المحافظة على موارد المياه وعلى حماية الماء من كل العوامل التى تسبب فساده وتلوثه.
النهى عن الإسراف فى استعمال المـاء:
كان النبى r الأسوة الحسنى والقدوة المثلى فى مجال المحافظة على الماء من الضياع هدرا. فقد أخرج مسلم من حديث أنس t: “كان النبى r يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد”(12).
والرسول r أول من دعا الناس إلى عدم الإسراف فى استهلاك الماء، فقال: “كلوا واشربوا وتصدقوا فى غير إسراف ولا مخيلة”(13). بل إن الرسول r نهى عن الإسراف فى استخدام الماء فى أغراض الوضوء أو الاغتسال، فقد روى عبد الله بن عمر، أن رسول الله r مر بسعد بن أبى وقاص، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا الإسراف؟ فقال: أفى الوضوء إسراف؟ فقال: نعم، وإن كنت على نهر جار”(14). ولذلك كان يقال: “من قلة فقه الرجل ولوعه بالماء”.
وقد طبق الرسول r ما نهى عنه على نفسه وعلى أهل بيته.. فعن عبد الله بن زيد “أن النبى r توضأ بثلثى مد”، وقد روى عن عائشة “أنها كانت تغتسل هى والنبى r من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أو قريبا من ذلك”(15).
وروى أن قوما سألوا جابرا عن الغسل، فقال: يكفيك صاع. فقال رجل: ما يكفى. “فقال جابر: كان يكفى من هو أوفى شعرا منك وخير منك، يعنى النبى r”. متفق عليه(16).
وتوضح لنا كتب الفقه اهتمام المسلمين القدامى بعدم الإسراف فى استخدام الماء فى الوضوء والاغتسال، وإذا كان الحرص على عدم الإسراف فى استعمال الماء فى الوضوء والاغتسال شديدا، فإنه فيما عدا ذلك يجب أن يكون أشد(17). وقد انتهج الخلفاء الراشدون نهج رسول الله r وساروا على منواله، فاهتموا بمصادر المياه وعملوا على تخزينها والمحافظة عليها لحين الحاجة إليها، وترشيد استخدام الماء، ولذلك حينما فتح المسلمون الشام والعراق ومصر اتجهوا إلى تحسين أحوال هذه البلاد، وبخاصة فيما يتعلق بالزراعة واستغلال المياه، فبنوا السدود وأقاموا الجسور وشقوا القنوات والترع. وتذكر لنا كتب التاريخ الإسلامى أن عمرو بن العاص حينما فتح مصر، وفى أثناء ولايته عليها، استخدم نحو مئة ألف عامل فى إصلاح طرق الرى فى مصر صيفا وشتاء.
ولقد استمر اهتمام ولاة الأمور فى دولة الإسلام بالمحافظة على توفير الماء اللازم لكل قطعة من الأرض تصلح للزراعة. وقد بلغت الدولة العباسية فى ذلك شأنا عظيما، ويشير كل من اليعقوبى (فى كتاب البلدان) وياقوت الحموى (فى معجم البلدان) إلى أن الخلفاء العباسيين كانوا يهتمون شخصيا بالعمل على تيسير الرى حتى يتمكن السكان من زراعة الأرض دون جهد ومشقة، ويتمثل ذلك فى شق الترع، وإقامة المصارف، وتشييد القناطر.
ويذكر هذان المؤرخان أن الخليفة (المنصور) وضع تخطيطا علميا لاستغلال مياه نهر دجلة، بأن أمر بشق عدد من الجداول والترع تستمد مياها منه لتيسير رى الأراضى القريبة منه، مثل قناة “جيل”، كما أحسن استغلال نهر الفرات – على الرغم من قلة مياهه – بإقامة قناة تأخذ من “كرخاريا” أحد روافد الفرات، تجرى فى عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالآجر من أعلاها، وتنفذ فى أكثر شوارع بغداد صيفا وشتاء، وصممت بحيث لا ينقطع ماؤها فى أى وقت من الأوقات. وفى عهد الخلفاء العباسيين رشحت المستنقعات بنظام دقيق.
وتحدث ابن حوقل فى كتابه (صورة الأرض) عن الجهود التى بذلت لوقف زحف الكثبان الرملية على قنوات الماء فى أفغانستان. فقد أشار إلى أن تلك البلاد سبخة مفككة تغطيها الرمال وكثبانها الهلالية، ولذلك عمل السكان الحيل حتى حولوا مجرى الرياح بسدود أقاموها لهذا الغرض.
وقد وعى علماء المسلمين الأخطار التى يمكن أن تترتب على زيادة مستوى مياه الرى فى الأراضى الزراعية، فضلا عما يعنيه ذلك من ضياع هذه المياه هدرا. وقد قام بعضهم بتصميم تقنيات هندسية للتحكم فى منسوب مياه الرى. وفى الكتاب المسمى (حيل بنى موسى) نجد إشارة إلى اختراع ميكانيكى طريف لأحمد بن موسى – أحد أعلام المسلمين فى علم الحيل (الميكانيكا) – ويتمثل هذا الاختراع فى آلة تثبت فى الحقول وتصدر أصواتا خاصة كلما ارتفع منسوب الماء فى الحقول لئلا تفقد مياه الرى دون فائدة. ويبدو أن هذا الاختراع قد طبق فى بغداد إبان القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى).
وكذلك اهتم المسلمون بحل المشكلات التى تنجم عن استخدام المياه فى الرى. وقد اهتم العلماء والفقهاء بدراسة كل القضايا التى تتعلق بالنـزاع الذى يحدث بين المنتفعين بالمياه، وقد تناول الأئمة الأربعة هذه القضايا فى كتبهم ودراساتهم ورسائلهم، ولم يتركوا من هذه القضايا شيئا دون أن يتناولوه بالفحص والدرس.
من ذلك مارواه الإمام مالك فى كتابه الشهير “الموطأ”: عن الزناد عن الأعراج عن أبى هريرة أن رسول الله r قال: “لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ”.
وما رواه مالك من أن رسول الله r قال: “لا يمنع فضل بئر”، والمعنى أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن لأصحاب المواشى رعيه إلا إذا تمكنوا من سقى بهائمهم من تلك البئر لكيلا يتضرروا بالعطش، فيتلزم منعهم الماء منعهم الرعى(18).
كما جعلت الشريعة الإسلامية حق الانتفاع بالماء مكفولا للجميع بلا احتكار ولا إفساد ولا تعطيل. فهو حق شائع بين جميع البشر. قال رسول الله r: “الناس شركاء فى ثلاث: فى الماء والكلأ والنار”. وهذا يعنى أن مصادر الماء لا يجوز لأحد أن يحتكرها لنفسه أو يمنعها عن الآخرين، فهى ملكية عامة للجميع. والملكية العامة تستدعى المحافظة عليها، وولى أمر المسلمين مسؤول عن ذلك ومسؤول عن تنظيم استفادة جميع المسلمين من هذه الملكية.
* * *