مقدمة:
يسعى المؤلف في هذا الكتاب إلى تبيان خطورة مغالطات الثنائيات الحتمية الكاذبة التي تحصر أي قضية بين نتيجتين منطقيتين لا ثالث لهما، وآثارها الضارة على الفكر الإسلامي. فهذا البحث يعرض بالنقد لهذه الطريقة الثنائية في التفكير في أصلها ونتائجها الضارة على الفكر الإسلامي، متخذا من قضية النسخ في الشريعة الإسلامية والنقد الأصولي لهذه النظرية نموذجا. وهو الأمر الذي يعده المؤلف مهما وأساسيا في عملية التجديد والإحياء الإسلامي المعاصر، خاصة أن تلك النظرية قد جانب الكثير من الفقهاء الصواب في تصورها وتطبيقها قديما وحديثا وهو الأمر الذي ترك ظلاله على الفقه الإسلامي وأصوله. وعبر أمثلة متعددة يمتلئ بها الكتاب لقضايا كثيرة طبقت عليها نظرية النسخ بمعنى الإلغاء والانتهاء إلى أحكام شرعية ثابتة متخذا من مقاصد الشريعة منهجا للتناول، حاول المؤلف أن يرسم صورة عامة للشريعة تغاير كثيرا من الصور التي رسختها المداخل التقليدية لنظرية النسخ عبر عصور طويلة في تاريخنا الإسلامي.
الفصل الأول وهو بعنوان مقاصد الشريعة: خصصه المؤلف للمفاهيم المقاصدية التي بنى عليها دراسته، وهو يؤكد أن مفهوم المقاصد الشرعية التي هي المعاني التي قصد الشارع إلي تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه عبر تقسيماتها إلى مقاصد عامة وخاصة وجزئية، هي المدخل الصحيح لتجديد نظرية النسخ عبر جعل الأحكام تدور مع مقاصدها و(ربطها) بها وفهمها في إطارها، بدلا من القول بالنسخ من دون دليل أو برهان لا علي الأصل – بهذا المعنى – ولا علي التطبيق. ويؤكد المؤلف أن هذه المنهجية تحقق عدة أهداف تتمثل في:
أولا: الحفاظ علي مرونة الفقه الإسلامي وقدرته علي استيعاب تغير الأحوال وتبدل الأعصار وتحقيق المصالح مع اختلاف الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والنيات والعوائد.
ثانيا: إعمال النصوص الشرعية كلها بصرف النظر عما توهمه الناس من تعارض أو اختلاف بينها بدعوي الترجيح أو النسخ من دون دليل أو سلطان من الشارع تعالى. وان كان المؤلف لا ينفي معني الترجيح ولا معني النسخ، وإنما يضيق معناهما في حالات محددة قليلة ويقترح ضوابط محددة لإعمالهما.
ثالثا: المساهمة في جهود أهل العلم، والإضافة إليها في إنشاء مرجعية مشتركة بين المسلمين من المقاصد الشرعية والحد من هوة الخلاف الفقهي.
رابعا: خدمة الدعوة الإسلامية – ولاسيما في بلاد الأقليات الإسلامية- عن طريق عرض أحكام الفقه الإسلامي من خلال أهدافها ومقاصدها.
ويبدأ المؤلف في الفصل الثاني في تناول اشكالات نظرية النسخ، بادئا بموضوع التناقض في نفس الأمر والتعارض في ذهن المجتهد، موضحا معنى التعارض الذي هو تمانع دليلين شرعيين من الآيات أو الأحاديث أو الأقيسة، وهو نوعان:
الأول: التعارض في نفس الأمر ويسمي التناقض المنطقي والتقابل المنطقي والتعارض الحقيقي. وهو تقابل الحجتين المتساويتين علي وجه يوجب كل واحد منهما ضد ما توجبه الأخرى: كالحل والحرمة والنفي والإثبات بشرط وحدة الزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والكل والجزء والشرط.
والنوع الثاني: هو التعارض في نظر المجتهد أو ذهن العالم ويسمي التعارض الظاهري والاختلاف.
ثم يتناول موضوع التناقض بين النصوص، مؤكدا أن قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، والتعارض بين الآيات يكون ظاهريا لا في نفس الأمر، وأما في الحديث فقد يحدث تعارض بسبب خلل الرواة، وهنا نكون أمام حالتين: أولهما ان يكون أحد الرواة قد توهم أو سها، وبالتالي فالتعارض يكون في نفس الأمر. والحالة الثانية أن يكون أحد الرواة أو أكثر لا يرقي لأن يكون من الثقات الذين يؤخذ عنهم الحديث، وبالتالي فأحد الدليلين يكون من الضعف بحيث لا يحتج بمثله، ويكون مرجوحا بحق لا بالدعوى المجردة.
ثم يتناول حالة أن يكون التعارض في الروايتين تناقض في نفس الأمر: في حالة حديثين -لا آيتين- أي أن تتحقق وحدة الزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والكل والجزء والشرط، وألا يغاير أحد الحديثين الآخر في شيء مطلقا، إلا في النفي والإثبات، ولا يحتمل إلا أن تصدق رواية وتكذب أخرى، عندئذ ينبغي إعمال المرجحات علي مراتبها من أجل إبطال رواية منهما مثل: ترجيح رواية أم المؤمنين عائشة لحديث الطيرة في الدابة والمرأة والدار، وإضافتها الكلام إلى أهل الجاهلية، لا للرسول r ويلمح المؤلف إلى أهمية الالتفات لتأثيرات المذاهب الكلامية بل والتحيزات الثقافية الذكورية علي ترجيحات بعض الأئمة واختياراتهم الفقهية.
ويتناول حالة: أن يكون أحد الدليلين من الضعف بحيث لا يحتج بمثله، إذا تبين للمحدث بدراسة الروايتين أن إحداهما ضعيفة أو معلولة بما لا ينبغي قبوله، والأخرى صحيحة. فينبغي له أن يأخذ بالرواية الراجحة، وأن لا يعتبر الرواية المرجوحة دليلا أصلا.
ويؤكد المؤلف عبر استقراء الأحاديث المتعارضة من مصادرها أن هذا النوع من المرويات نادر الوقوع، ومحدود الأثر في الفقه، وأن الغالبية العظمي من أحاديث الأحكام الشرعية المتعارضة لا تخلو من أن تكون مفتقدة شرطا أو أكثر من شروط التناقض، مثل أن تكون مختلفة الزمان والمكان أو غيرها. وفي هذه الحالة يسمي التعارض ظاهريا في ذهن المتلقي وليس في نفس الأمر ومن ثم نحدد طرق التعامل مع هذا التعارض الظاهري المتمثل في وجود حديثين متضادين في المعني ظاهرا عبر الطرق التي اختارها علماء الأصول المتمثلة في: الجمع والنسخ والترجيح والتوقف والتساقط والتخيير.
ومن استقراء حالات التعارض يرى المؤلف أن العمل بالتوقف والإسقاط والتخيير كان نادرا، أما التوقف والتساقط فالقول بهما كلام نظري ليس له أثر عملي، وإن كان التوقف مشروع لآحاد المفتين لأن السنة عن الرسول إذا لم يعرف المرء أن يقول لا أدري، أما التخيير فما يبدو للمؤلف فيه نوع من الجمع ويتخير ما هو أنسب للواقع وأقرب إلي مقاصد الشرع. لذا يري المؤلف أن طرق الجمع الأساسية هي: الجمع والترجيح والنسخ، لكن الفقهاء كانوا أكثر إعمالا للنسخ من غيره من الطرق ومن هنا اكتسب النسخ أهميته.
وفي الفصل الثالث يتناول المؤلف تعريفات واستخدامات النسخ. فالنسخ في الإصطلاح الشرعي مصطلح واحد يستخدم للتعبير عن معان مختلفة مثل: التخصيص والاستثناء، وتفسير النص المتقدم بالنص المتأخر، وإلغاء الحكم الشرعي- الذي دل عليه نص متقدم- بنص متأخر. مؤكدا أن التخصيص والاستثناء والتفسير هي الاستخدامات الشائعة لمصطلح النسخ عند الصحابة، وهو لم يستلزم منهم إلغاءً عمليا للنصوص أو الأحكام، وإنما كان استخداما لغويا محضا.
ويذهب المؤلف إلى أن النسخ لا يعني الرفع والإزالة لمعني أو لنص أو لحكم الآيات المنسوخة كما قد يوحي التعبير اللغوي، وإنما يعني التخصيص والتفسير أو الاستثناء من العموم، وليس الإلغاء المؤبد كما عرف لاحقا في تاريخ الفقه.
أما عن إطلاق النسخ بقصد الإلغاء المؤبد للحكم الشرعي فهناك اتفاق في كتب الأصول علي رفع حكم شرعي بدليل متأخر، ورفع الحكم يعني الإلغاء المؤبد لهذا الحكم، فلا يحل إعمال الحكم المنسوخ بحال، وهو بيت القصيد في هذا البحث نظرا إلى ارتباطه بقضيتي التعارض بين النص وتغير الأحكام التي يحاول المؤلف رفع اللبس الناجم عن تناول الفقهاء، عبر منهجية مقاصد الشريعة مما يفتح الباب لتجديد حقيقي في الفقه الإسلامي يناسب العصر.
وفي الفصل الرابع ينقد المؤلف بعض مناهج الاستدلال علي النسخ، حيث يؤكد المؤلف أن نسخ بعض آيات القرآن رسما كما هو مدعي في بعض الروايات، لا يصح معناه أبدا، لأنه تشكيك في كتاب الله.
أما المنسوخ حكما فإن استقراء كتاب الله تعالي بحثا عن لفظي النسخ والتبديل لوجدناهما صريحين في موضعين اثنين لا ثالث لهما، أولهما:
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106).
والثاني: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101).
واستعرض المؤلف بعض الآراء حول الآيتين مؤكدا أنه لا يستسيغ معظم أقوال الفقهاء والمفسرين حول القول بالنسخ فيهما بمعني نسخ أحكام بعض الآيات أو نسيان الآيات نفسها لا رسما ولا حكما، وإنما الآيتان تتناولان نسخ بعض الأحكام من الشرائع قبل الإسلام بأحكام أخري في شريعة الإسلام، وقصر النسخ علي نسخ الشرائع السابقة، وهو ما يؤكد بحسب المؤلف عدم ثبوت مبدأ نسخ آيات الأحكام الشرعية بمعني الإلغاء بالأساس وبناء عليه يستنتج المؤلف الآتي:
- ليس هناك دليل قطعي علي أن نصوص القرآن تدل علي النسخ بمعنى إبطال أحكام آيات بعينها، نظرا إلى الاختلاف في دلالة النصوص الواردة في هذا المعنى.
- التفسير الذي يربط الآيات المذكورة بشبهات مشركي مكة وقلب الحلال حراما والحرام حلال بما هو أهون… إلى آخره، تفسير متكلف ليس عليه برهان من الواقع التاريخي المروي في السيرة.
- التفسير الذي يظهر للمؤلف أنه أشد وجاهة لآية (ما ننسخ) هو تفسير أبي مسلم الذي ربط الآية بنسخ شرائع اليهود. وهذا التفسير يجمع بين الإقرار بمبدأ نسخ الأحكام عموما وبين عدم التناقض مع سياق الآية – وهو الرد علي اليهود – ذلك أن وحدة الموضوع والسياق اعتبار له أهميته في تفسير آيات القرآن الكريم.
- إنه حتى لو صح تفسير الآية علي أنها تتحدث عن مبدأ نسخ آيات القرآن أو أحكامه كما يرى الجمهور، فإن هذه الآية لا تدل بذاتها علي وقوع النسخ فعليا في موضع بعينه من القرآن من دون دليل خاص. فادعاء وقوع النسخ بمعني الإلغاء المؤبد لآية بعينها أو حكم بعينه لا يكون بآراء الرجال، بل يحتاج إلى دليل شرعي ومنهج محدد للاستدلال من هذا الدليل ليس علي الإلغاء فقط، بل علي التأبيد كذلك.
ثم يتناول المؤلف موضوع الاستدلال علي النسخ بالتعارض الذي يعرفه الأصوليون بأنه: التعارض في نفس الأمر أو التناقض المنطقي. فالأصوليون يشترطون أن يتناقض الحديثان ولا يحتملان الجمع قبل أن يلجأ الفقيه إلى استنتاج النسخ. واستعرض المؤلف بعض الآراء المتعلقة بهذه القضية ليتوصل إلى أن كتاب الله تعالى لا يحتاج إلى منطقنا حتي ننـزهه عن الباطل أو التناقض، ويؤكد إن المستقرئ لمصادر التفسير والفقه يتضح له غياب ذلك الشرط، وهو شرط التناقض المنطقي في أغلب حالات أو دعاوي (النسخ في القرآن والسنة)، وأن هذه الدعاوى كانت نتيجة لتعارض ظاهري غاب سره عن بعض العلماء، واتضح لآخرين، وضرب أمثلة توضح غياب التعارض الحقيقي عن كثير من دعاوى النسخ في القرآن.
ويؤكد المؤلف أن التعارض لم يقتصر علي الفقهاء والمفسرين بل كان في ذهن بعض الصحابة وهو ليس تعارضا حقيقيا، فضلا عن أن يكون نسخا أو الغاء منصوصا عليه. إنما هي نصوص قد تعارضت ظواهرها في أذهان العلماء، حتي أزال الإلتباس من فقه المسألة من سلف أو خلف. وعلي هذا فدعاوى النسخ في الأمثلة المذكورة – ومثيلاتها- غير مقبولة لافتقاد شرط التناقض الذي اشترطه الأصوليون في القول بالنسخ، ولافتقاد الدليل علي دعوى النسخ بمعنى الإلغاء أصلا.
ثم يتناول المؤلف موضوع الاستدلال علي النسخ بمعرفة التاريخ متسائلا: هل يلزمنا اتباع الأحدث فالأحدث؟
حيث يرى المؤلف أن آراء الصحابة اختلفت في مسائل اختلفوا فيها بعد تمام الرسالة، كانوا قد اتبعوا فيها الأحدث فالأحدث من الآيات والأوامر النبوية إلى فرقاء ثلاثة:
الأول سمعوا أحد الأمرين – إما المتقدم أو الأحدث فهم علي ما سمعوا.
والثاني سمعوا أحد الأمرين فالتزموا الأحدث حين سمعوه واعتبروا الآية أو الحديث الدال عليه ناسخا وملغيا للآية أو الحديث المتقدم ولم يجيزوا الأمر المتقدم بحال.
والثالث سمعوا الأمرين فالتزموا الأمر الأحدث حين سمعوه أيضا ولكنهم فقهوا من الآيات أو من كلام الرسول r أو من السياق التاريخي للأحداث، اختلافا بين الحالتين، فاجتهدوا في إعمال الأمرين كل في ظروفه المناسبة.
ويذهب المؤلف بعد استعراض عدد من الأمثلة علي كل نوع منها إلي أن السنة النبوية الشريفة فيها الكثير والكثير من الأمثلة التي توهم الفقهاء فيها التناقض وقالوا فيها بالنسخ بمجرد الدعوى بناء علي العلم بتاريخ النصين المتعارضين فقط. هذا علي الرغم من عدم التصريح بالنسخ أو أي معنى من معاني الإلغاء، وعلي الرغم من آراء الجمع الوجيهة عند بعض العلماء في كل حالة، والجمع أولى.
ويرى المؤلف أن الصحابة كان يلزمهم اتباع الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله r حال ملازمتهم له، لأن هذا الأمر كان هو الأنسب للحظة والظرف، إلا أن الأتباع لا يستلزم منهم -ولا منا- إلغاء الأمر الأول ما لم ينص الرسول علي ذلك. وهو ما فهمه بعضهم في المسائل الآنفة الذكر. فاتباع الصحابة للأحدث فالأحدث كان واجبا في حقهم ولكن لا يلزم أن يكون الأحدث ناسخا علي التأبيد لا في حقهم ولا في حقنا إلا أن ينص علي ذلك.
وفي نهاية الفصل يؤكد المؤلف أنه: لا حجية للنسخ بالرأي المجرد أيا كان قائله، فالقول بالنسخ للنصوص التي ظنها بعض الصحابة أو العلماء متعارضة – باجتهاد محض منهم صححه بعضهم لبعض في كل الحالات- ينبغي أن لا يعتبر نصا علي النسخ (ولو ورد في كتب السنة) ذلك أن رأي الصحابي الجليل أو العالم الشارح في هذه الأحوال ليس نصا شرعيا (إلا أن ينقل نصا عن الشارع أو رسوله بالنسخ)، وإنما ينقل رأيه الخاص في قضية حل التعارض الظاهري في قضية لم يكتمل له فهمها. وتناول المؤلف ما ذكر في آيتي السيف والحجاب، وعجيب ما قيل فيهما من دعاوي النسخ ليدلل على ما توصل إليه، مؤكدا علي أن الخطأ المنهجي في نسخ النصوص الشرعية بمجرد تعارضها مع بعض العادات التي تتحيز ضد المرأة في بعض المجتمعات أو بعض الأفكار المسبقة في ذهن الفقيه لا في النص نفسه أمر صار من الواجب تداركه حتى ينهض فقهنا الإسلامي، داعيا إلى ترك منهج الاستدلال علي النسخ نفسه بمجرد حل التعارض الظاهري بين الآيات من دون دليل صريح، منتقدا كتاب الدكتور مصطفى زيد- بالرغم من قيمته العلمية- لأنه استند لنفس النهج القديم الذي جعله يجزم بنسخ ست آيات في القرآن الكريم، والرد عليه مؤكدا أن قضية النسخ لا تثبت بتوهم التعارض بين الآيات المحكمات، بل إن الآيات المحكمات نفسها لابد أن تفهم في سياق الباب كله حتى يحسن الفقيه تنـزيلها والعمل بها في أرض الواقع. ثم إن النسخ الذي هو الإزالة والإلغاء لا يجوز علي الأحكام الشرعية الثابتة بالنصوص الشرعية، إلا بدليل. وقد تنسخ آيات القرآن أحكاما من الشرائع السابقة ولا يصح أن تنسخ هي.
ثم ينتقل المؤلف في المبحث التالي لمناقشة معنى التصريح بالنسخ وهل يكفي النهي بعد الإباحة أو الإباحة بعد النهي لكون النص منسوخا، حيث تناول المؤلف الخلاف حول جواز نسخ القرآن بالحديث وحول درجة توثيق هذا الحديث الناسخ لمن يقول بالجواز واستعراض آراء بعض الفقهاء في المسألة، ثم قال: وأيا كان وجه الصواب في هذه القضايا فإن النسخ بمعني إلغاء الحكم الشرعي علي التأبيد هو حق للشارع تعالى فقط ولابد من أن يفهم هذا الإلغاء من دلالة العبارة نفسها، سواء أكانت آية أم حديثا، وسواء تواتر سندها أم لم يتواتر.
ويتساءل المؤلف: ما هي هذه العبارة الصريحة التي تلغي الحكم الشرعي وتقتضي النسخ؟ مؤكدا أن استقراء ما نعرف اليوم من حديث رسول الله r يثبت أن الجذْر “ن س خ” لم يرد مطلقا في كلامه بهذا المعنى في أي صيغة كانت بعد بحث أجراه المؤلف في هذا الموضوع في كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو دواد وابن ماجه ومسند أحمد والموطأ والدارمي والمستدرك وابن حبان وابن الجارود وابن خزيمة والبيهقي والدارقطني ومسند الشافعي، والاستثناء الوحيد من هذا هو ما رواه البيهقي والدار قطني وغيرهما عن مسروق عن علي وفيه: نسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ غسل الجنابة كل غسل، ونسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخ الاضحي كل ذبح. والضعف في متن الرواية واضح لا يحتاج إلى تعليق. كما أنه معلول من جهة السند.
ثم يتناول الشق الثاني من تساؤله: هل يكفي التصريح بالنهي بعد الإباحة أو الإباحة بعد النهي للقول بالنسخ؟
يرى المؤلف أنه لا يكفي التصريح بالنهي بعد الإباحة أو الإباحة بعد النهي لكي نحكم بالنسخ: أي إلغاء الحكم الأول تماما فلا يعمل به بحال من الأحوال. ويتساءل المؤلف في هذه الحالة: هل نربط الحكم بعلته وجودا وعدما، فإذا وجد السبب وجد الحكم وإذا غاب السبب غاب الحكم؟ أم أن التغير صار مؤبدا، وهو النسخ بمعناه الاصطلاحي؟
ويجيب المؤلف على ذلك بضرورة معرفة المقصد الشرعي من كل من الحكمين سواء بالتصريح أم بغالب الظن؟ مؤكدا أن اعتبار مقاصد النصوص ومعانيها تجيب عن هذه الأسئلة.
وفي الفصل الخامس يقدم المؤلف أمثلة لإعمال النصوص المحكمة المتعارضة الظواهر باعتبار المقاصد.
فيتناول مقاصد الإمامة في حفظ الضرورات الشرعية مؤكدا أن توسعة مجال الاستنباط الفقهي ليمتد إلى ما وراء مذاهب النسخ ومسالك التعليل، وتفكرنا في المقصد الشرعي العام، سنجد في كثيرمن الأحاديث مثل روايات لحوم الأضاحي دلالة أن للإمام المسلم صلاحيات- بل واجبات- في اتخاذ تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، مثل حفظ النفوس من ضرر الجوع عن طريق نشر معاني التكافل بين المسلمين، وأن للإمام المسلم مجالا في تحريم ما يسد علي الرعية ذرائع الفساد فيدينهم ويلزمهم بذلك – وإن لم تنص النصوص عليه صراحة-. وهذه القضايا تشترك في الدلالة علي وجوب اتخاذ الإمام المسلم تدابير من شأنها حفظ الضرورات الشرعية، ومنها حفظ الدين – بمعنى العقيدة السليمة-.
وضرب أمثلة علي مسائل ادعي فيها النسخ علي الرغم من وجود علل ظاهرة للأوامر المتقدمة أو المتأخرة، يمكن أن تفهم في إطار من مقاصد الشريعة، وبين دور الإمام المسلم في تطبيقها مشددا على ضرورة أن نفهم التصرفات النبوية الشريفة في الأمور السياسية والاقتصادية والتربوية والعسكرية والصحية في إطار مقاصد الإمامة في حفظ عقائد الناس وأموالهم ونفوسهم، من دون حاجة إلي مسالك النسخ بالرأي المجرد. وهكذا يمكننا أن نفهم سنته r ونطبقها في هذه المجالات العامة بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها وصورها.
ثم تناول المؤلف مقصد التيسير عن طريق التدرج في تطبيق الأحكام مؤكدا أن التدرج كان سمة من السمات العامة في عهد الرسالة. وقد اصطلح علي إدراج هذه الأحكام التي طبقت بالتدريج في باب النسخ إلا أنه لا يميل إلى تسمية هذا النوع من التدرج في التطبيق نسخا لأن في هذه التسمية إشكالين:
الأول: إن تسمية مراحل التطبيق (أحكاما شرعية) -ولو كانت منسوخة- تسمية غير دقيقة. فالتطبيق فقط كان تدريجيا.
الثاني: إن تسمية مراحل التطبيق أحكاما منسوخة أو ملغاة يقتضي عدم جواز إعمالها بحال، وهو ما أثبت استقراء الروايات عن رسول الله خلافه.
ثم تناول المؤلف مبدأ الموازنة بين مقصدي التعبد والتيسير باعتباره سمة عامة للشريعة الإسلامية، مؤكدا أن عزائم الأمور التعبدية حين تشق علي المكلف لابد من أن تأتي الرخصة فتخفف التكليف في حدود الشرع. وتناول كذلك الموازنة بين مقصدي سلامة الإنسان وسلامة البيئة باعتباره مبحثا هاما ومدخلا لتجديد حقيقي في الفقه الإسلامي من خلال اعتبارمقاصد الشريعة، مشددا على أن اعتبار المقاصد في تفسير النصوص وتوجيهها يعيد مجال عمل الفقه الإسلامي إلى واقع العصر، ويمكنه من الحفاظ علي مرونته واستيعابه لكل جديد في دنيا الناس.
ليخلص المؤلف في نهاية كتابه إلى أن الأحكام الشرعية لابد من أن تبنى علي فهم مقاصد النصوص أكثر من فهم دلالات ألفاظه. فالوقوف علي دلالات الألفاظ التي تتعارض في الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والنيات والعوائد من دون معانيها السامية التي لا تعرف زمانا ولا مكانا ولا تدور مع شخص ولا ترتبط بثقافة محددة، يخلصنا من ثنائيات تبسيطية أنتجت ألوف من حالات النسخ المتوهمة والتي حدت تاريخيا وفي عصرنا من قدرة الفقه الإسلامي علي التجدد مع العصر والتغير مع الظروف من أجل الوفاء بمقاصده الأصيلة وأهدافه الجليلة.
مطالبا العقل الأصولي المجتهد بتجاوز نظرية النسخ سبيلا إلى حل التعارضات اللفظية المتوهمة – إلا ما كان من نسخ بعض أحكام الإسلام لما قبلها من الشرائع، وما كان من النسخ علي سبيل التدرج في التطبيق – لينطلق في آفاق المقاصد الرحبة عملا بكل النصوص المتحدة الأهداف، ولوكانت مختلفة الألفاظ.
* * *