المقدّمة:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين, وبعد: فعنوان البحث, “منطلقات الفكر السياسي الإسلامي في تفنيد ادّعاءات المستشرقين بشأن الإسلام”, ويبرره الآتي:
أولاً: نريد من قولنا “منطلقات”, البحثَ في قضايا تتَّصل بالقواعد والقضايا المنشئة والمؤسسة للفكر.
ثانياً: تؤكِّدُ نسبةُ تلكم المنطلقات إلى الفكر, أنَّنا نبحث قضايا فكرية وتدبُّريّة, تتصدّى لما أنتجه الغرب في مجال الفكر, ولاسيَّما ما يريد به الغرب من التأثير في بناء ثقافة الشرق واستمالتها.
ثالثاً: ويبرِّر وصـفَ الفكـرِ بالسياسـي ما يخصُّ السياسـةَ من حيث كونُها علمـاً أو علوماً, ومن حيثُ كونُهـا مفهومـاً, وما اتّصل بالاستشـراق من قضايـا توصف بكونها سياسّةً, من مثل: الاستتباع, والاستعمـار, والصهيونية, والعولمة, والسياسة الغربية واتخاذ القرار.
رابعاً: وَقد وُصِفَ “الفكر السياسيُّ” بالإسلاميّ, لارتباطه بمصادر الإسلام من الوحي:قرآناً, وسنةً, بقراءتهما التدبُّرية.
فنكون– في إطار البحث- بصدد بلورة إستراتيجيّة للردِّ على المستشرقين المتربّصين, تحمل ما قد ذُكرَ من سمات, وتحقِّق ما نرجوه في هذا الصدد من غايات, وما يفوق تفنيد المزاعم وببيان الإسلام, وبالدعوة إليه.
ولمّا كانت الدراسات الاستشراقية كثيرةً في إطار ما أنتجته الحضارة الغربية من دراسات, ولسعة ما يمكن استخلاصه من الخطاب القرآني والنبوي من أصول وأفكار, تؤسس لاستراتيجية الردِّ عليها, أُقصرَ البحثُ على تقديم نماذج, لا يمكن ادِّعاءُ كفايَتَهَا, لبلوغ غايات البحث القصوى في الموضوع, ما أثَّر في تحديد محاور البحث, وفي اختيار ما ظُنَّ أنّه كافٍ في هذا الإطار.
وبعد: فما أريده من البحث, والتركيز على موضوع الاستشراق في واحد من أبعاده الرئيسة, أنّه قضيَّةٌ غربيّةٌ خالصةٌ, تكشفها وجهة الباحثين إلى الشرق: اهتماماً, ودراسةً, ما يعني بأنَّ الاستشراق أمر يخصُّ الغرب تحديداً, ويتأثر -إذن- بثقافة الغرب وبمنهجيته, وبمصالحه وغاياته, وبكل ما يدخل في إطار الثقافة الغربية, تلك الثقافة التي في إطار تبلورها, كُتِبَت تلكم الدراسات الاستشراقيّة, وتأثرت بها-بالتالي-سلباً وإيجاباً, بل وأثَّرت فيها؛ فالاستشراق إذن ابن بيئته الغربيّة, ومنها يأخذ صبغته.
وقد أُدرِجَت الدراسات الأوربيّة الشرقية في إطار الدراسات الاستشراقية(1)، لاهتمامها بالشرق كذلك, وهو ما يزيد من التأييد لمقولة: “أنَّ الاستشراق لا يمكن حصره في تحقيق غايات استعمارية غربية, أو حصره في التربُّص بحضارة أو دين وبمعاداتهما”, بل يخرج بعضٌ من تلكمُ الدراساتِ إلى دائرة السعي إلى تحصيل المعرفة الدقيقة بالشرق, في إطار غاياتٍ علميّةٍ صرفةٍ, يمكن أن تندرجَ تحت وصف “العلم للعلم”, وإن خالطتها غاياتٌ مشكِّكَةٌ, مدفوعة بتراكمات الثقافة الغربيّة التي لا ترى بينها وبين الإسلام وفاقاً: لا في الماضي, ولا في حاضرها وقت ما كتبت وانتشرت الدراسات الاستشراقية – والتي امتدت لثلاثة عقود- ولا حتّى في المستقبل, الذي استشرفت فيه تلك الثقافة ما يجعلها تعتقد بإمكانية حدوث الصراع ضد الإسلام, إن لم يكن هجوماً عليه ومبادأةً, فدفاعاً وتوجُّساً من امتداده وترامي أطراف كيانه, ويؤمّن لهم تاريخ الفتوحات الإسلامية على دعواهم.
ومن المعروف أنَّ الاستشراقَ معنيٌّ بدراسة الشرق: جغرافيَّتِهِ واستراتيجيّتِهِ, وحضاراتِهِ, وخصائصِ مجتمعاته, وأديانه, وعلومه, وآدابه, وفنونه, أي أنّ الاستشراق يُعنَى: بالأرض, وبالإنسان, وبالعلاقات, والروابط المتَّصلة بالإنسان ومجتمعه, والإنسان وأرضه ومحيطه, وبالإنسان وتديُّنه.
ولم تقتصر الدراسات الاستشراقيةُ على الاهتمام بدراسة الإسلام والمسلمين وحسب, بل امتدَّت لتبلغ حضاراتِ الشرقِ: كالحضارة الهندية, والحضارة الصينية وسواهما, ممّا يؤكِّد حقيقةً مهمَّةً تتلخَّص في أنَّ مبعث الدراساتِ الاستشراقيّةِ لا ينحصر في التربُّص بالإسلام وبالمسلمين, وهذه الحقيقة ليست شهادةً تُبَرِّئُ الاستشراق من التربُّص بالإسلام وبالمسلمين, وإن من بعض تلكم الدراسات, بل ولا يبرِّئُها من كونها مرتبطةً بالسعي لتحقيقِ مصالحَ غربيّةً, أو أنّها تركِّز على ما يصبُّ في التأكيد على تفوّق الشمال مقارنةً بالجنوب, وتميُّز الرجل الأبيض مقارنةً بسواه, وتميُّز المسيحية على سواها من الديانات,والحضارة الغربية على باقي الحضارات, بل وحتَّى تمّيز بيئتهم ومناخَهم, وإلاّ فما الذي يدفع مفكرين غربيين إلى الاهتمام, وربما إلى التفرّغ لدراسة الشرق, ما لم يُصِبْ الغربَ ومدارسَهُ ومفكريهِ بعضاً من فيض الشرق وخيره؟ أو دفع ما قد يأتيهم منه من ضُر, وفق مزاعم بعضهم؟
والدراسات الاستشراقية – من حيث كونُها تيّاراً فكريَّاً بارزاً- عني الكثير بدراسته بوصفه ظاهرةً منظّمةً ولها مؤسَّساتها وآثارها، فحُدِّدَ امتدادُه إلى ما قبل أكثر من قرنين مَضَيَا, وامتدَّ وصف المعنيِّ بدراسة الشرق “بالمستشرق” إلى أكثرَ من ثلاثة عقود مَضَينَ,(2) وهو ما لا يُلغِي وجودَ اهتمامٍ بدراسةِ الشرقِ قبل هذا التأريخ, والذي يواكب امتدادُه امتدادَ الحضارةِ الإنسانيةِ, سواء في الغرب أو في الشرق, ويرافق وجودُه وجودَ علاقاتٍ بينهما: سِلْماً كانتْ أو حرباً.
وهكذا, يكون من الإنصاف تناول موضوع الاستشراق بشيء من الرويّة, وهو أمرٌ يحقِّق-لو تمّت مراعاتُه- الدقَّةَ, ويوافق الموضوعيَّةَ, ويتجاوز الخلط بين الغثِّ والسمين من تلكم الدراسات وآثارها, ويقف عند حدود ما يعالج ما يطفو من تلكم الدراسات, من آثار التربُّص بالشرق, وتحديداً بالإسلام وبالمسلمين، فيتجاوزها بأسلوبٍ علميٍّ ينطلق من منهج التوحيد, الذي يتضمّنه الوحي، ما يحقِّق الدفاع عن الإسلام, وبما يراعي واجب الذود عنه , ويوضِّح حقيقته للآخرين بما يراعي واجب الدعوة وعالميّتها.
مشكلة البحث:تتركَّز مشكلة البحث في الآتي:
أولاً:وجود تحدِّيات, تتصدَّى للإسلام ولدعوته ولدعاته, ولا يقف التحدِّي عند التصدِّي للدعوة الإسلامية ولامتدادها, بل ويتجاوز ذلك إلى الهجوم الممنهج على الإسلام: رسالته, ورسوله, ومصادره, وأمَّته, وأرضه, في إطار محاولة أعداء الإسلام تشويهه, والتداعي عليه لإفقاد المسلمين عراهُ عروةً عروةً(3).
ثانياً: وجود تعميم لكثير من الدراسات الناقدة للدراسات الاستشراقية, تجعل الأخيرة في سلَّةِ العداء للإسلام والمسلمين, أوتعدُّها غير مجديّةٍ في أقل تقدير, وهي إذن تفوِّت كثيراً ممّا يمكن أن يخدم دعوة الإسلام, ولاسيّما دعوة المجتمع الغربي, بتقريب صورته ووصفه, بما كان من آثار الاستشراق, وبإثارة فضولهم المعرفي, والدفع باتجاه البحث عن الإسلام, والتحرِّي عن حقيقته ومنهجه.
ثالثا: وجود صدًى واسعٍ لدراسات المستشرقين في البلدان الإسلامية, وخصوصاً من المتأثرين بالغرب وثقافته ومؤسساته العلمية, إلى الحدِّ الذي تحوَّلت معه تلكم الدراسات إلى مكوِّنٍ رئيس للثقافة عند أولئك المتأثرين بالغرب ومرجع معتبر لهم.
أهداف البحث:
أوّلاً:الوقوف عند أصول الفكر السياسي الإسلامي, القادرة على بناء استراتيجية للردِّ على ما يصدر عن المستشرقين وسواهم ممّا يستهدف الإسلام، لتشويهه بالشبهات أو سوء فهم أو القصور, ضمن ثلاثة محاور:
1.الدفاع ضدَّ تلكم الهجمات بالتصدِّي لها.
2.بناء وصف بياني للإسلام ومصادره ببيان حقائق منهج التوحيد.
3.بناء خطاب دعوي إسلامي موجه للآخر.
ثانياً:التأكيد على إمكانية الانتفاع ممّا كان من آثار الدراسات الاستشراقية في توفير مصادر التراث الإسلامي: مخطوطات, ومترجمات, ودراسات, توفّر للباحثين مصادر إسلامية وصلتهم بطرق عديدة.
ثالثاً: تأكيد وجود أصول قرآنية تؤسس لبناء منهجية معرفية, تمكِّن من التعامل مع كلِّ القضايا التي يتصدَّى لها الخطاب القرآني والنبوي, سواء على مستوى الكليات, أو على مستوى التفصيليات, بما يبعدنا عن هجر القرآن والسنّة, وبالتمسُّك بهما, وضبط الفكر بعرى هديهما.
فروض البحث:
أولاً:أنَّ قضية التصدّي لما يتعرَّض له الإسلام, ومنهجه ومصادره من هجمات تشويهية, وما يتعرَّض له المسلمون, سواء من المستشرقين أو غيرهم, يمكن أن يبنى على أصول فكرية سياسية, تتحدَّد بقراءة مصادر الإسلام المعتبرة, ولاسيما الوحي: قرآناً, وسنّةً, ومن ثمَّ قراءة ما يقال بشأنه وبشأنها, وإخضاعه لمنهج التوحيد, ليكون حكماً فيه, بمقايسة ما يقال إلى ثوابت الوحي, بوصفه مرشداً, وضابطاً, وحاكماً.
ثانياً:وممَّا يدعم الفرضية الأولى: كثرة آثار الدراسات الاستشراقية التي لا تتيح للجميع الاطلاع عليها, ما يدفع إلى إقرار ضرورة الاستعانة بأصول فكرية مبنية على ثوابت الوحي, تصلح لمقايسة ما قُرِأَ وما لم يُقرأْ من تلكم الآثار, فيتعامل معها على هدي من منهج التوحيد وهيمنته.
منهج البحث:
تعامل البحث مع الموضوع لتحقيق غاياته بدرجة كبيرة على المنهج التحليلي, بوصفه منهجاً يخصُّ الدراسات الفكريَّة التي تتَّخذ من مصادر الإسلام مادَّةً للتحليل أَلِفَتْهُ الدراسات الفكريَّة الإسلاميَّة في العقود الثلاثة الأخيرة, المعنيَّة في مراجعة التراث الإسلاميّ والإنسانيّ, ولا سيّما ما يتّصل بالخطاب القرآني والنبوي, واستعان الباحث بالمنهج الاستقرائي, وبالتالي استنباط قضايا تشكِّل أفكاراً تبلور مداخل موضوعيّة للبحث.
الدراسات السابقة:
موضوع الاستشراق أثار اهتمام الكثير من المفكرين, ولا سيَّما الإسلاميين منهم, وهم يتصدَّون لآثار الدراسات الاستشراقية وشبهاتها, المتَّجهة صوب تشويه الإسلام, والنيل من المسلمين, ويمكن إدراج أبرز تصنيفات الدراسات-على ذمَّة هذا البحث- إلى ما يأني:
أوّلاً:دراسات مستشرقين لجهود الباحثين في مجال الاستشراق: وهي تقويم لما كتب, ونقده وبيان مدى إسهامه في إثراء الفكر الإنساني, وبيان مناهجهم, ومنها ما كتب في مراكز الدراسات الاستشراقية, والنقد الموضوعي لها, مثل دراسة المستشرق الألماني “جوستاف بفانموللر” “الإسلام في الفكر الاستشراقي”.
ثانياً:دراسات المستشرقين ممَّن تلمَّس حقيقة منهج التوحيد, وشمله هداه, فكانت كتاباتهم شهادةً على الحقِّ منهم, والتي بيّنت انحيازيّة جزء من دراسات المستشرقين للغرب على حساب الشرق, وللنصرانيّة واليهوديّة على حساب الإسلام, ومن أمثلتها “الإسلام على مفترق الطرق” للمستشرق “ليويولد فايس” والمعروف ب”محمد أسد”بعد إسلامه.
ثالثاً:دراسات الإسلاميين المدافعين عن الإسلام, بكشف الشبهات التي تؤكِّد انحيازية كثير منها, وتربٌّصها بالإسلام وأركانه, وهي عديدة المواضيع, ومن أمثلتها:
1.دراسات عنيت بالدراسات الاستشراقية المعنية بشريعة الإسلام, ومن أمثلتها: دراسة “عبد القهار العاني” “الاستشراق والدراسات الإسلامية”(4).
2.دراسات عنيت بالدراسات الاستشراقية المعنية بالقرآن وعلومه, ومنها:
أ.ما عني بدراسة الوحي, كدراسة محمود ماضي “الوحي القرآني في المنظور الإستشراقي ونقده”(5)، ومنها ما عني بالقرآن الكريم عموماً, كدراسة محمد خليفة “الاستشراق والقرآن العظيم”(6).
3.دراسات عنيت بالرسول rوسنته وسيرته, كدراسة محمد بهاء الدين “المستشرقون والحديث النبوي”, ودراسة عبد الله محمد الأمين “الاستشراق في السيرة النبوية”.
4.دراسات عنيت بالدراسات المعنية بتاريخ الإسلام, ومنها: دراسة عماد الدين خليل “المستشرقون والسيرة النبوية”, وأكرم ضياء العمري، “موقف الاستشراق من السيرة والسنّة النبوية “(7).
5.دراسات عنيت بالاستشراق نفسه: نشأته ومناهجه وأهدفه ووسائله وبواعثه, ومنها, دراسات علي إبراهيم النملة, ومازن صلاح مطبقاني.
6.دراسات عنيت بالكشف عن علاقة الاستشراق بالتنصير, ومنها: دراسة عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني “أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها التبشير- الاستشراق-الاستعمار”(8), ودراسة أنور الجندي, “التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة”.
7.دراسات فكرية عنيت بالكشف عن تطور موقف المستشرقين المتحسِّس من الإسلام والمعادي له, وأثر المؤسسات الاستشراقية في الفكر السياسي الغربي وفي صنع القرار إزاء الشرق, وأخصُّ منها دراسة عبد الله يوسف سهر محمد، “مؤسسات الاستشراق والسياسة الغربية تجاه العرب والمسلمين”(9).
تقسيم البحث:
قُسِّم البحث إلى ما يمكِّن من بلوغ أهدافه والتحقُّق من فرضياته بالآتي:
المقدمة:وتضمَّنت بياناً لأهميّة الموضوع, وموضع الإضافة التي يحقِّقها البحث بين الدراسات السابقة, ومنهجية التعامل مع الموضوع, وتقسيم البحث بما يحقِّق أهداف البحث.
المبحث الأول:اهتمام الدراسات الاستشراقية بالإسلام والمسلمين:
المطلب الأول: ارتباط الاستشراق بالمجالات الباعثة له.
المطلب الثاني: من آثار الدراسات الاستشراقية في التقديم الموضوعي للإسلام.
المطلب الثالث: من آثار البعد الذاتي والمعياري للمستشرقين في بلورة النظرة السلبية للإسلام.
المبحث الثاني:أسس بناء استراتيجية الردِّ على كتابات المستشرقين:
المطلب الأوَّل: مكانة الإسلام ومتضمّناته, وفق الخطاب القرآني والنبوي.
المطلب الثاني: المنطلقات المفاهيميّة لبناء استراتيجيّة الردِّ على المخالفين لمنهج التوحيد.
الخاتمة:تلخِّص ما تمَّ بحثه, وما يراد اعتماده حال البحث مستقبلاً من المدافعين عن الإسلام.
المبحث الأول
اهتمام الدراسات الاستشراقية بالإسلام والمسلمين
ما يعنينا في هذا المقام من الدراسات الاستشراقية, اهتمامهم بدراسة الإسلام والمسلمين, في إطار الدفاع عن الإسلام وأمّته, وصولاً إلى تحديد ملامح استراتيجيّة التصدّي, لكلِّ ما من شأنه النيل من الإسلام: أصولاً, وعقيدةً, وشريعةً, وقيماً, ومقاصدَ, وكذلك التصدّي لما مِنْ شأنه المساس بأمَّة المسلمين: نشأةً, وخصائصَ, وحركةً.
ويتمثَّل ذلك الاهتمام في تقديم الإسلام والتعريف به من قبل المستشرقين, بما يعبِّر عن دراستهم لواقع الإسلام في إطار البعد الموضوعي, ولانطباعاتهم عنه في إطار البعد الذاتي.
وقد أكّد المستشرقون أنفسُهُم-في مواضع كثيرة من كتاباتهم التحليلية والنقديّة- حقيقةَ تحيُّز الغربيين المعنيين بدراسة الإسلام, ولاسيّما فترة القرون الوسطى(10)، في الوقت الذي يرى بعض المستشرقين فيه, أنَّ الفلسفة الإسلامية كانت ذات تأثير حاسم, في تكوين الفلسفة الغربية, وتحديداً في تلكم العصور(11)، والموصوفة بالمظلمة في أوربا, والتي واكبتها حركةٌ علميّةٌ غزيرةُ الآثار, في مختلف العلوم في بلاد الإسلام, ومع ذلك تبقى الحقيقة -المتَّصلة بالاستشراق- قيد البحث الدقيق, وصفاً وتحليلاً ونقداً, في إطار ما يأتي من محاور:
المطلب الأول: ارتباط الاستشراق بالمجالات الباعثة له:
ويراد منه بيان آثار المجالات المتعدِّدة للشروع بالدراسات الاستشراقية, والتي تشكِّل بدورها دوافع الدراسات الاستشراقية, وتكشف عن غاياتها, ويمكن إجمالها في الآتي:
المقصد الأوّل:ارتباط الاستشراق بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية: فقد ارتبط الاستشراق بمؤسسات أنشئت لرعاية الدراسات الاستشراقية, وهو ما يؤكّد مستوى الاهتمام به, ويؤكِّد الدافع العلمي لتلكم الدراسات, والذي لا ينفي اختلاطَه بدوافع أخرى ترعاها مؤسسات ترتبط بالمؤسسات الأكاديمية, لتحقِّقَ أغراضاً متعدِّدة, ومن أقدمها: وصيّة “مجمع فينَّا الكنسيّ”, وتشريع تأسيس كراسي لدراسة اللغات الشرقية في الجامعات الرئيسة(12)، وممَّا يؤكِّد ارتباط العلم بغايات أخرى: ما نقل عن الفيلسوف البريطاني “برتراند سل” قوله: “كان العلم وسيلةً لمعرفة العالم, أمّا اليوم فأصبح وسيلةً لتغيير العالم”(13).
ومن بين تلكم المؤسسات الأكاديميّة: “الجمعية الآسيوية في باريس”, التي أسسها المستشرق “سلفستر دو ساسي” في عام 1822, وضمَّت عدداً من المستشرقين بمختلف اختصاصاتهم(14)، و”الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانيا وإيرلندا”, المعنية بالتراث الآسيوي 1823م, وضمت 324 مستشرقاً, فكانت من أهم مؤسسات الاستشراق في العالم, وأثمرت-بدورها- تأسيس “كلية الدراسات الشرقية في لندن”, وتأسست عقبها “مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية”, ومن أبرز أعلامها”توماس آرنولد”(15)، و”الجمعية الشرقية الأمريكية”, 1842م, برئاسة “جون بكيرينج”, وعنيت بالدرجة الأساس باللغات الشرقية القديمة(16)، و”جمعية المستشرقين الألمان”, برئاسة المستشرق”فلايشر”(17).
ولم تَغِبْ مثلُ تلكمُ المؤسساتُ المعنيةُ بدراسة الاستشراق في العصر الحديث وفي حاضرنا المعاصر, مع ظاهرة عزوف الغرب عن إطلاق تسمية الاستشراق على مثل نمط تلكم الدراسات(18) – والذي شهد تطوراً وتزويقاً- لأسباب, فعنوا بدراسة الحضارات والثقافات, في إطار إعادة هيكلة دراسات الاستشراق ومنهجته(19)، تحت مسمّيات: “الشرق أوسطية”, أو “علم الإسلاميات”(20)، ومن بين أبرز المراكز المتّصلة بالاستشراق: “قسم دراسات الشرق الأدنى” بجامعة نيويورك, وجامعة جورجيا الأمريكية, و”مركز التفاهم الإسلامي/المسيحي” بجامعة جورج تاون 1993, و”معهد الدراسات الشرقية” بجامعة مارتن لوثر بألمانيا, و”معهد نوردك للدراسات الآسيوية”, و”مركز دراسات الشرق الأوسط بتكساس”(21).
وقد أثمرت هذه كماً هائلاً من الدراسات, بترجمة الكتب, وبإجراء الدراسات الأخرى, في مختلف المجالات, كان من بين أبرز دوافعها: الانتفاع منها في إحداث التقدُّم العلمي والنهوض الحضاري(22).
المقصد الثاني:ارتباط الاستشراق بحركة الاستكشافات والمشاريع الاستعمارية والاستثمارية: وهو أمر مرتبط ابتداءاً بالنهضة الأوربيّة, وازدهار الصناعة فيها, مع ما رافقها من حاجة أوربا إلى توفير المواد الأولية, وإلى الحصول على مصادر الطاقة, ومن ثمَّ البحث عن الأسواق الخارجيّة لتصريف منتجاتها التي فاقت حاجة الأسواق الأوربية, ما دفع إلى إرسال حملات الاستكشاف الجغرافي, وما أعقبها من محاولات الاستكشاف السكاني ومن ثمَّ الثقافي, بدءاً بدراسة الأرض فمواردها, والبيئة, ومروراً بالشعوب ولغاتها, لتكون باباً لدراسة ثقافاتها وحضاراتها, والتي تصبُّ فيما بعدُ-في مجملها- بإعادة توجيه الإنتاج بما يحقِّق رواجاً وقبولاً عند تلكم الشعوب, ويسهِّل ذلك كلُّه الحصولَ على بعض عوامل الإنتاج من مصادر طاقة, ومواد أولية, وأيدي عاملة, وأسواق مستهلكة.
وقد وفَّر المستشرقون للحملات الاستعماريّة المعلومات الوافيّة عن الدول التي وقعت في دائرة رغبات القوى الاستعمارية, بعد أن أرفدتها بكمٍ هائل من المعلومات, التي تأسست عليها تلكم الرغبات والنوايا, والتي تُرجِمت فيما بعد بمشاريعَ وحملاتٍ استعماريةٍ ومن أمثلتها: الدراسة الموسوعية البريطانية عن الخليج العربي عنوانها: “دليل الخليج الجغرافي والتاريخي”(23).
وعمل بعض المستشرقين مع طلائع القوات المحتلّة لبلدان الشرق, ليرفدهم بالمعلومات اللازمة للاستعمار, ومنهم من وصف بأنَّه: دعيُّ الإسلام الهولندي “سنوك هور كرونييه”, الذي عمل ضمن القوات الهولندية- التي احتلَّت إندونيسيا- مستشاراً لإدارة المستعمرات في العام 1891,24 فقد خدم “سنوك”الاستعمار خدمات كبيرة, وسخّر علمه لهذا الغرض(25).
أمّا ما يتصل بالاستثمار, فإنَّ بعض البنوك تصدرُ تقاريرَ دوريّةً, تعين في الكشف عن المداخل والمجالات الاستثماريّة في بلدان العالم العربي والإسلامي, وتعتمد مصادر استشراقيّة متعدّدة المجالات والتخصُّصات(26).
المقصد الثالث:ارتباط الاستشراق بالسلطة السياسية والبعثات الدبلوماسية الغربيّة(27) ويتمثَّل هذا الأمر في المستشرقين ممّن تسنّموا مواقع سياسية ودبلوماسيّة, ولا سيّما في البعثات الخارجية لبلدانهم, ما جعل الاستشراق ممزوجاً بدوافع سياسية, بدت في مظاهرَ ومهامَّ متعدَّدةٍ, كلُّها مبنيٌّ على مصالحَ, سعت الدول الغربية- وبعثاتها ومبعوثيها ومنهم المستشرقون- إلى تحقيقها.
وارتبط الاستشراق بالسلطة السياسيّة بدءاً بتأسيس المؤسسات الاستشراقية, وتمويلها, وتوجيهها إلى الاهتمام بمواضيع بعينها, فقد أُسِّسَتْ مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن, بدفعٍ من البرلمان البريطاني, وقد شكَّلت الحكومة البريطانيةُ – عقب الحرب العالمية الثانية- لجنةً لتقصّي أسباب انحسار النفوذ البريطاني في العالم, والعمل على معالجته من خلال دراسة وضع الدراسات الاستشراقية في الولايات المتحدة الأمريكية, وفي كندا, ومن ثمَّ دعم المؤسسات الاستشراقية البريطانية, وفقاً لنتائج تلك اللجنة وتوصياتها(28)، وقدَّم “برنارد لويس”خدماته واستشاراته للحكومة البريطانية عقب القيام برحلة إلى الجامعات الأمريكية وإجراء اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية عام 1954، وقدم استشارته للكونجرس الأمريكي أكثر من مرة, وفي عام 1974 ألقى محاضرة في أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأمريكي, حول قضية الشرق الأوسط(29).
وقد مولت الحكومة الأمريكية-في نفس الإطار- بعضاً من المؤسسات الاستشراقية فيها, وشجَّعت بعضاً من شركات القطّاع الخاص على تمويلها ودعمها, ومنها شركة فورد(30).
وكذلك قدَّمت حكومة بروسيا دعماً ماليّاً سنوياً لجمعية المستشرقين الألمان, إضافةً للدعم السويدي والنرويجي والنمساوي المالي والوقفي لها(31)، أمّا معهد هامبورج الاستعماري فقد أنشأته الحكومة الألمانية, لمساعدتها في تعاملها مع الشعوب العربية والأفريقية برئاسة “كارل هاينرتش بيكر” (1876-1933).
وقد عمل “دي ساسي” لدى حكومة فرنسا وقد ترجم بياناتها التي نُشرت عند احتلال الجزائر واحتلال مصر في عام 1797.
وكشف انتماء بعض المستشرقين عن ارتباط الدراسات الاستشراقية بالغايات الحكومية وسياساتها, لاسيّما تلكم السياسات الخارجيّة التي أكَّدها قيام الكثير من الدبلوماسيين لدى الحكومات الغربية بدراساتهم الاستشراقية, ومنها دراسة الإسلام والمسلمين, ومن أمثلتهم: المستشرق الفرنسي “رينيه بيست” الذي عمل لدى الحكومة الفرنسية قنصلاً بالجزائر, وعمل “إميليو جارثيا جوميز” سفيراً لبلاده في بغداد وفي لبنان, أمّا”جورج رنتز”فقد عمل في السفارة الأمريكية في القاهرة(32).
المقصد الرابع:ارتباط الاستشراق بالفكر التبشيري والحملات التنصيريّة:
وقد تلاقى الاستشراق مع التنصير في دائرة التربُّص بالإسلام والمسلمين, في إطار ما خلَّفته الحروب الصليبية التي امتدّت زهاء قرنين من الزمان (1095-1291), من العداء, والخشية من امتداد الإسلام ودعوته, ومن ارتداد المسيحيين بدخول الإسلام, الأمر الذي ولَّدَ “فكرة التبشير” وتحوّلها إلى “استراتيجية تنصير” يستهدف البلدان الإسلاميّة, أو ما وصلته دعوة الإسلام في إفريقيا وجنوب شرق آسيا(33)، كما يبدو هذا الترابط واضحاً بارتباط بعض المستشرقين بالمدارس اللاهوتية, أو بالعمل في مهام تبشيرية تنصيريّة, أو بالعمل لدى مؤسسات كنسيّة, أو بما كتبوه بما يخدمها كلِّها.
وأكَّد بعض العلماء المعنيين بدراسة الاستشراق ارتباط بداياته بجهود الرهبان في هذا الاتجاه, فقد كان من أوائلهم الراهب الفرنسيّ”جربت”وهو بابا الكنيسة المنتخب في عام 999م, و”جربر أورغليك” (938-1003)م, وهو بابا الكنيسة الملقَّب بـ”سلفستر الثاني”, وبطرس المحترم (1094-1156)م, وهو راعي دير بفرنسا, والأسقف “تشستر”, و”توما الأكويني” (1225-1274)م, وقد كان لهم اهتمام -على الإجمال- بنقد الإسلام(34).
وقد كان “سيلفستر دي ساسي” قد درس على بعض القساوسة ومنهم: القس “مور”, والأب “ارتارو”، ثم درس العربية والفارسية والتركية, وكان من بين المستشرقين الأب الفرنسي لويس جارديه, والبلجيكي الأصل الفرنسي الجنسية “الأب لامانس”.
والتحقَ “جورج سـيل” بدايةً بالتعليم اللاهوتي, ثمّ تعلّم العربية والعبرية, ومن أبرز أعماله ترجمته لمعاني القرآن الكريم, قدّم لها بمقدمة ضمّنهـا كثـيراً من الافـتراءات والشبهات, وكـان “وليـام ميور” مستشـرقاً ومبشّراً وإدارياً إنجليزياً، شارك في أعمـال جمعيـة تنصيرية بالهند, وألَّف ميور كتاباً يدعم جهود التنصير بعنوان “شهادة القـرآن على الكتـب اليهوديـة والمسيحيـة”, وألف كتاباً حـول القرآن الكريم بعنوان “القرآن تأليفه وتعاليمـه”, وكان ابن المستشـرق “مونتجمري وات” أندرو وات قد عمل قسيساً راعياً لعدة كنائس في لندن وأدنبره, وعمل متخصصاً في الإسـلام لدى القـس الإنجليكاني بالقدس, أمَّا “هنري لامانـس” فقد تعلـم في الكليـة اليسوعيـة ببيروت, وبدأ حياة الرهبنـة, وكـان شـديد التعصب ضد الإسـلام, ومثالاً سيئاً للباحثين في قضايا الإسـلام, وعمل معلماً في الكلية اليسوعيـة ببيروت, وتـولّى إدارة مجلـة “البشـير” التنصيرية(35)، وتركَّزت جُلُّ جهود ماكدونالـد (1863-1943)م في إطار التنصـير, مع اهتمامه بعلم الكلام في الإسلام(36).
وممّا تجدر الإشارة إليه, ارتباط التنصير بمؤسسات تُنشأُ في البلدان الإسلامية, وتتبع مراكزها الأم في البلدان الغربيّة, لتتمكّن من الاحتكاك بمن هم في إطار هدف المؤسسات التنصيريّة وحملاتها, وقد ذُكِرَت كثير من هذه المؤسسات(37)، ونذكر-ما عاصرناه- من بينها: المستشفى المعمداني في جبلة, بمدينة إب في اليمن, والمكتبة المعمدانية في عمّان, عن طريق تقديم مختلف الخدمات لمرتاديهما, وللباحث تجربة خاصة معهما, تثبت نشاطهما التنصيريّ, وأشكال مداخله فيهما, ووجود صلات بينهما, وآثار التنصير على بسطاء المسلمين, ومحدودي الدخل منهم, وهو ما يؤكّد على دور السلطة ومؤسسات المجتمع في التوعية, وفي سد حاجات أفراده بوصفها وسائل تحصينيّة.
المقصد الخامس:ارتباط الاستشراق بالحركة الصهيونية والثقافة الإسرائيليّة: ويتمثَّل في أمور كثيرةٍ من بينها: إعلان بعض المستشرقين اليهود انتماءَهم الصريح للصهيونيّة, ومن أمثلتهم “برنارد لويس”(38)، ويتمثَّل كذلك فيما كتبه الفرنسي “مكسيم رودنسون” 1915, بشأن: “إسرائيل والرفض العربي”, أمّا “ديفيد صموئيل مرجليوث” فقد اهتم بدراسة اللغات السامية, وكتب عن”علاقات العرب واليهود”, وكان “بول كراوس” يهودياً، هاجر إلى فلسطين ودرس في مدرسة الدراسات الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس، وانتقل إلى برلين لينال الدكتوراه, أمّا “إجناز جولدزيهر” فهو من أسرة يهودية، وهو ذو تأثير في الدراسات الاستشراقية, فقد انتشرت كتبه بمختلف اللغات الأوروبية(39).
ويرتكز الاستشراق الاسرائيلي على أمور, من أبرزها:
أولاً:ارتباط الدراسات الاستشراقية بالموروث التوراتي, والانطلاق منه ومراعاته.
ثانياً:ارتباطه بقضية الاستيطان اليهودي في فلسطين, وتأكيد الارتباط التاريخي لليهود بفلسطين(40).
ثالثاً:مراعاة وجود إسرائيل وأمنها.
رابعاً:البحث عن الوطن البديل-في إطار الاهتمام بمستقبل إسرائيل- ليس للفلسطينيين المهجَّرين وحسب, بل ولليهود الإسرائيليّين أنفسهم, ومنها بعض بلدان المغرب, بعد كشف دراساتهم عن ميّزاته المتعدِّدة الجوانب, ويماشي ما ورد في “أولاً” من معتقداتهم بزوال إسرائيل.
المطلب الثاني: من آثار الدراسات الاستشراقية في التقديم الموضوعي للإسلام:ويعرض هذا المطلب إلى الجهود الموضوعية, التي أضافها المستشرقون في مجال دراسة الإسلام, ومنها ما يمكن إجماله في الآتي:
المقصد الأول:دراسة الإسلام بلغته الأم -أعني العربية- بعد تعلُّمها, وحتّى التخصُّص بدراستها وبتدريسها, وتجاوز قبول دراسة الإسلام وقضاياه عن طريق اعتماد الكتب الأجنبية التي وصفها بعض المستشرقين بأنّها مضلِّلة, ولا ترتبط بالحقيقة, لكونها مصادر منحازة, وتضمر للإسلام العداوة بغير وجه حق؛ فثمّةَ تصحيح -ولو جزئيّاً- لنظرة الغرب للإسلام, الذي يعدُّ- قبل انتشار بعض دراسات المستشرقين الموضوعية- ضرباً من التلفيق, ومثالاً للأباطيل, ومجالاً للخيال, إلى الحدِّ الذي أدرجت معه الكنيسة الرومانية منعاً لقراءة تلكم الكتابات, المنصفة للإسلام لكونها موضوعيةً- فلا تصف الإسلام بمعايب لا تتَّصل به, نتيجة الـتأثُّر بالثقافة الغربية السائدة- وأخصُّ منها كتاب أستاذ اللغات الشرقية بجامعة “أوترشت” الهولندي: “هادريان ريلاند” (1676-1718) الموسوم بـ: الدين المحمَّدي, وقد بيَّن في مقدمته زور ما وَصَفَ به المسيحيونَ الإسلامَ مدفوعين بأحقادهم, بعيداً عن الموضوعيّة, وقد برَّر “ريلاند” موضوعيّته, بغيرته على المسيحية, والدفاع عن موقعها, ليتمكن من رصد الإسلام وثغراته, فتكون مدخلاً لتقويضه(41)، وما يعنينا منه في هذا الموضع موضوعيَّةَ ما كتب بحقِّ الإسلام.
المقصد الثاني:توفير مراجع موضوعية عن الإسلام باللغات الأجنبية, تتجاوز -ولو إلى حدٍّ مقدَّرٍ- الموقفَ السلبي المنحاز للمسيحية ضدَّ الإسلام, ومنها -إلى جانب ما ذكرناه عن “ريلاند”- مقدِّمة المستشرق الإنجليزي: “جورج سل” (1697-1736) التي مهَّد بها لترجمتِهِ القرآنَ الكريم, إلى جانب ما كتبه “ريلاند” عن الإسلام, وعُدَّ “جورج سل” نصفَ مسلمٍ, مع أنّه أساء للإسلام في عدّة مواضع, شأنه- في ذلك- شأن الكثير من المستشرقين وإن وُصِفَت دراساتُهُم بشيءٍ من الموضوعيّة.
أما “جار سين دي تاسي” فقد شكَّل دفعةً في كتابات المستشرقين, عندما ضمّن كتاباتِهِ اقتباساتٍ من القرآن الكريم نفسه, بل وترجم كتباً كما هي في مجال العقيدة, وفي الفقه(42).
وقدّم المستشرق “سنوك هورنجورجنه” مراجعَ شاملةً ومتشعِّبةً عن الإسلام وقضاياه المختلفة, امتدّت من الدين وأثره في المجتمع العربي مجتمع التنـزل, والسيرة المحمّدية, والمؤسسات الدينية, والعمارة الإسلامية, ورواسب الديانات الأخرى في المجتمع الإسلامي في إطار دراسته للتصوّف(43).
وكان للمستشرق الفرنسي “كارادي فو” الأثر المهم في البحث في قضايا الإسلام: عقيدةً, وحديثاً, وتاريخاً(44).
المقصد الثالث:الإسهام في توفير مراجع متخصِّصة في مجالات العلوم الإسلامية- هذا إلى جانب الكمِّ الهائل من كتب التراث الإسلاميّ المترجمة- ومن تلكم المجالات: التشريع, وأبواب الفقه بدءاً بالاعتقاد, وانتهاءاً بالأخلاق وبالتصوّف, وأريد بالتحديد الإشارةَ إلى إسهامات المستشرق “مرادجيا دوهسون”(45).
المقصد الرابع:دراسة الإسلام في إطار السنن الحضاريّة الثابتة, فقد حدَّد “الفريد فون كريمر” سيرورة الحضارة الإسلامية, فيما كان وسيكون في إطار ثلاثية: الله, النبوة, والدولة(46)، وهو أمر يفتح المجال واسعاً لدراسة الإسلام, في إطار تفكير منهجيٍّ, يبقي الباب مفتوحاً للمهتمين بالإسلام وبدراسته, والتعرُّف إليه من زوايا مختلفة, وإن كانت ذات مداخل عقليّة تتناول قضايا تنـزيليّة.
المقصد الخامس:التأكيد على كون الإسلام ثورةً تصحيحيةً عقدية اجتماعية, كرَّست في النتيجة فكرة المساواة ولو بشيء من التدريج, وقد أكّد هاتين القضيّتين المستشرق المجري: “أجناتس كولد تسهير”(1850-1921)(47).
المقصد السادس:دراسة التاريخ الإسلامي في أطر نظرية تطورية وتراكميّة, ومنها دراسة “ماكدونالد” (1863-1943)(48)، لكلٍّ من: تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية في الإسلام, والنظرية السياسية في الإسلام, والمؤسسات السياسية, وقد اتّسمت دراساته بالوضوح وبالاهتمام بحاضر المسلمين الذي عاصره, فكانت من أبرز الدراسات التي اعتمدها المنصِّرون في إطار الحركة التبشيرية, لمعرفة الإسلام والمسلمين, وتحديد مداخل تنصيرهم(49).
المقصد السابع:دراسة الوحي والتنـزل, وأنَّ الوحيَ قد عالج قضايا المجتمع المسلم على عهد النبي محمد r, وهو عهد تنـزل القرآن الكريم ونـزوله, ومع أنَّ هذه الدراسات تُقِرُّ بنـزول الوحي على الرسول محمد r, إلاَّ أنّها عدَّت القرآن قاصراً عن الإجابة على تساؤلات كثيرة, ولاسيّما تلك التي خرجت عن سياق المجتمع الإسلامي على عهد النبوّة, والتي احتاجت فيما بعد إلى جهودٍ بشريةٍ- من المسلمين صحابةً وتابعين- تعالجها, ومن تلكم الدراسات دراسات المستشرق “مرجليوث”(50) للإسلام في إطار دراسة الدين والحضارة الإنسانية(51).
وهذه القضيّة تفتح الباب أمام بيان قضيّة عالميّة الإسلام, وتُعالَجُ في إطارها, كونها تشير إلى ضرورة الانطلاق من الأصول الإسلامية والنصوص- بوصفها من ثوابت الاستقامة- إلى معالجة الواقع ومتغيراته, بوصفه مجالاً تفعيليّاً لمقتضيات الاستقامة, في إطار الضبط والتوجيه.
المقصد الثامن:دراسات ركَّزت على كون الإسلام ديناً مستقلاً, أي أنّه لم يكن نتيجة تأثُّر بما سبقه من الأديان ولاسيّما السماويّة منها, وبذلك تكون من آثار هذه الحقيقة وجود وحدة مستقلّة, جامعة للحضارة الإسلامية, تتأسس على الدين, ونعني منها: دراسة “برونو فيوليت”(52), الذي اعتمد القرآن الكريم في دراسته, وفي استخلاص نتائجها.
المقصد التاسع:دراسات ركّزت على قضيّة التوحيد في إطار دراسة الأديان التوحيدية غير المسيحيّة, وخصوصاً الدين الإسلامي, وأريد بها تحديداً دراسة”هانـز فون شوبرت”(53).
وثمة دراسات تؤكد على كون الإسلام ديناً مطهراً لانحرافات أهل الأديان الأخرى, ولاسيما اليهودية والمسيحية, وتشير إلى قضية الوحي لرجل-من مكة- وهو من خارج دائرتي الديانتين, وهو أمر تناولته الدراسة بشيء من الاستغراب, لتوقعها أن يكون النبيّ المطهّر الموحى إليه موحداً -على سبيل الفرض- ولكن من تلكما الديانتين, وهو أمر في المحصلة- وبغض النظر عن انحراف الدراسة عن الحق- يثري قضية دراسة التوحيد, ويفتح الباب البحثي عليها, والإقرار بما أصاب اليهودية والمسيحية من خلل في التوحيد, ويدفع للبحث عن بديل توحيديٍّ, يستند إلى منهج توحيديٍّ حق, وأخصُّ دراسة “أسفالد شبنجلر”(54).
المقصد العاشر:ومن الدراسات الاستشراقية ما ألمح إلى عالمية الإسلام, ومنها دراسة المستشرق “فرانس بول”(55) في كتابه “المذهب المحمدي بوصفه ديناً عالمياً”, وأشار المستشرق “أويستروب” إلى حركة الوحدة الإسلامية(56).
المطلب الثالث: من آثار البعد الذاتي والمعياري للمستشرقين في بلورة النظرة السلبية للإسلام:
ولعلَّ من أبرز ما ينضوي تحت هذا الإطار قضايا سجَّلتها دراسات كثيرة, عنيت بما قدَّمه الاستشراق من آثار, تحدَّدت في دراسة الإسلام والكتابة عنه, ويمكن إجمال تلكم القضايا في النقاط المصنَّفةِ موضوعيّاً, والتي تكشف بدورها عن مبررات ودوافع تلكم المواقف الذاتيّة, والتي اصطبغت بالعداء للإسلام, أو بالتصدِّي لامتداده ولدعوته, أو بنقده في أخفِّ الأحوال.
وقد بُنِيَتْ مواقف المستشرقين-أسوةً بعموم الغربيين – على مشاعر الحقد على الإسلام والمسلمين, وعلى الانحيازية, وتجاوز أصول البحث العلمي, تأثُّراً برواسب العداء والكراهية إزاء الإسلام والمسلمين, وكان ذلك من مضمون شهادة المستشرق “ليويولد فايس” وهو “محمد أسد” الذي أكد أنَّ أزمة الأوربي تتركَّز في كرهه واستخفافه بسائر الأديان والثقافات -غير دينه وثقافته- ما يجعل البحث في الإسلام والمسلمين تصيُّداً للزلاّت, وبحثاً عن الثغرات, وكأنَّ البحثَ محاكمةٌ يراد من ورائها إبطال دعاوى الإسلام, والتصدِّي لدعوته, تأثُّراً برواسب ثقافة الهزيمة التي اصطبغت بها الثقافة الغربية إزاء الإسلام من هزيمة الصليب في حروبه الخاسرة ضدَّ الإسلام والمسلمين(57).
المقصد الأول:ما ذكر من إشارة بعضٍ من الدراسات الاستشراقية إلى البعد العالمي للإسلام كانت وراء بعضٍ منها التنبيه إلى خطورة امتداد الإسلام, بما كان من العالميّة بوصفها واحدةً من خصائصه الكلِّية التي تؤسس لحمل الدعوة إليه, وهو ما أدركه-بشكل مشوَّه- بعض المستشرقين, فنقلوا الأمر من دائرة الدعوة- والتي تدور مادّتها حول الخطاب, وتتأسس حركتها التفاعليّة الخطابية على مبدأ اللاإكراه, وتنبني غاياتها على الرحمة بالعالمين, وعلى مقاصدها في: مراعاة حقِّ الله, وتحقيق المساواة بتعبيد الناس لربِّهم- إلى جعلها قضيَّةً استراتيجيّةً, تؤسس للرؤية المستقبلية للعلاقات بين الشرق والغرب, يؤرِّق الغربَ من إمكانيّة التبعيّة للإسلام والمسلمين بدل استتباعهما, فقد درس المستشرق “باول شمتز”(58) الإسلام والعالم الإسلامي, مركِّزاً على عناصر القوة فيهما, في كتابه: “الإسلام قوة الغد العالمية” الذي ضمّنه صرخاتِ التنبيه لأوربا من صحوة ماردٍ, يوشك أن ينقضَّ عليها(59).
ومن مثل ذلك حذَّر “ألبير شاميدور” في كتابه “حمراء غرناطة”, وهو يتنبأ بهيمنة المسلمين على العالم مجدّداً, وأنه لن يقف في طريقه أسلحة الغرب الصاروخية, ولا الذريّة منها(60).
المقصد الثاني:انتقاد المستشرقين لشخصية الرسول r, ولاسيّما أهليّته لتلقّي الوحي في إطار بشريّة الرسول وما كان من تعايشه مع الناس في إطارها, والإشارة إلى ضعف أدلة نبوته, وهو أمر وضعه المستشرقون في ميزان الوضعية, ما جعل الجانب البشري لشخصية الرسول- في نظرهم- دليلاً يدحض ارتباط هذه الشخصية- ذات البعد البشري والمادي في علاقاتها التعايشية -بالوحي وعالم الغيب- وقد ألّهوا عيسى قبلُ-ومن هذه الدراسات دراسة “زايتس” في كتابه “تأسيس محمد للدين”(61).
المقصد الثالث:وقد أنكر بعض المستشرقين حقيقة أن يكون القرآنُ الكريمُ وحياً من عند الله تعالى(62)، ومنه قولهم في سياق الحديث عن القرآن الكريم: “قال محمّد”, أو وصفهم للإسلام –في نفس الإطار- بالدين المحمّدي, أو دين محمّد(63).
وفي حالات يقرُّ البعض منهم بكون القرآن وحياً من عند الله, ولكنّه للعرب وحدهم, بل ويجعله بعضهم محصوراً, في إطار تأريخي من حياة العرب على عهد النبوة, أو أنّ الإسلام تعبيرٌ عن رؤيةٍ فلسفيّة, تخصُّ شخصية محمّد, عليه الصلاة والسلام, وقد يصفه بعضٌ من المتأثرين بالغرب- وبما أفرزه من نشوء الدولة القومية- وهم من التيار العلماني في الوطن العربي, وصفوا الرسول الأكرم rبالرسول العربي, ووصفوا رسالته بكونها ثورةً تجديديّةً في الإطار القومي العربي, في حين طبع بعضهم الرسالة في كونها جاءت لتروِّج لعالميّة العرب, بوصفهم جنس, قد سمت بهم إنسانيتهم في إطار تمجيدهم لعنصرهم(64).
وفي معرض الحديث عن تبرير نـزول الوحي على الرسول محمد rوما يتعرَّض له من المشقَّة, قالوا أنَّها نوبات صرع أو غيبوبة, لطمس حقيقة الوحي وآثار تنـزله, التي شهد لها من عاصر رسول الله r, وهم من خَبَرَ الصرعَ وأعراضَه ونوباتِهِ, ولعلَّ حديث المرأة(65)، التي جاءت رسول الله r, وسألته الدعاء لها بالشفاء من الصرع, دليلٌ يدحض مزاعم من أسقط ما تعلَّمه هو من الطبِّ الحديث بعد طول جهل, وظنِّهم أنّ مثل هذا المرض لم يكن معهوداً عهد الرسالة.
المقصد الرابع:اعتماد مناهج متعدِّدة للجدل, وحتّى للنظر لموضوع واحد -أعني الكيل بمكيالين- فلو حدَّثتَ بعضَهم عن مزايا الدين الإسلامي, وسلَّم بها, أرجع ذلك إلى الدين عموماً, ولمصدر الدين وهو الله تعالى, مؤكِّداً وحدةَ الأديان, وأنَّ الإسلام –إذن- لمْ يأتِ بجديد, وفقاً لقناعاتهم, ولو حدّثك عن مزايا المسيحيّة, لأرجعها إلى خصائصها ومزاياها عن سواها, ومنها قضيَّةُ المحبَّةِ, متذرِّعين بتقسيم الإسلام للناس إلى: مؤمنين, وكافرين, وقضيّةُ السلامِ, وأنَّ الإسلام هو دين قتال وسيف, في الوقت التي عجَّت به كتبهم المقدسة بما يخالف السلام(66).
المقصد الخامس:زعمهم أنّ الإسلام ضربٌ من التلفيق, مأخوذٌ عن اليهودية والنصرانية, وهو أمر يستخدمونه حال وقوفهم على ما لا يصدر إلاَّ عن وحي, في إطار عجزهم عن دحض ما في الإسلام من قضايا يصدِّقها الوحيُ, ولا يعارضها العلم, وهو ما لا يصدر عن غير التعصُّب الدينيّ, الذي يرفض الحقَّ ولا يسلِّم لعلوِّه(67).
المقصد السادس:محاولة التصدي للإسلام في قدرته على تشكيل الثقافة المصطبغة به, والتصدّي لكل ما من شأنه جعلها مرجعاً, يشكِّل للعقل المسلم رؤيتَه, ويكشف له منهجه, ويحدِّد له مصادره, ويضمن له استقامته, وبناءاً على تلكم المحاولة – المعادية للإسلام- كانت دعاوى تمجيد النسق الغربي, واعتباره قمَّةَ ما يمكن أن يصله العقل الإنسانيّ, هذا من جانب, وادّعاء عالميّة المسيحيّة, لتكون بديلاً عن عالميّة الإسلام, وهو ما استدعى منهم مراجعة المسيحيةِ, مصادرِها, وأدبياتِها, وتلفيق معاني أوسع من مداها المفهومي, من قبيل مفهوم التكريز, الذي يعني الدعوة للمسيحية, الذي يؤسس للتبشير, وهذا من جانب آخر(68).
المقصد السابع:اتهام الفكر المسلم بالعاطفية, وبالانطلاق من مسلّمات مسبقة, تحول دون الوصول إلى نتائج مقبولة, كونها تنافي العِلْميّةَ في هذين الأمرين, وهي محاولةٌ غربيّة لاستتباع العقل العربي والمسلم, للحوق بركب الحضارة والتقدُّم, إذا ما تخلَّى العقل المسلم عن عوامل تخلُّفه وعجزه, النابعة من تسليمه للموروث الثقافيّ الذي يحدُّ من حرّيّته, ويدخله في عالم الماورائيات, وفقاً لمزاعمهم(69).
المقصد الثامن:اتهامهم الإسلام بأنَّه دين يمجِّد القوّة, ويأمر بالقتال, وأنَّه دين حرب وغزوات, ويظهر ذلك من خلال تخوُّفهم من مستقبل الإسلام, وما قيل بشأن دراسة سيرة الرسول r, وغزوات المسلمين على عهد رسول الله r.
المبحث الثاني
أسس بناء استراتيجية الردِّ على كتابات المستشرقين
يراد من هذا المبحث محاولة الوقوف عند أصول الفكر القادر على بناء استراتيجيّة فكرية, يمكن وصفها بأنّها “إسلاميّة” للردِّ على ما قاله المستشرقون أو سواهم بشأن الإسلام, ولن يكون الأمر -إذن- بعيداً عن مصادر الإسلام, والوحي قرآناً وسنَّةً تحديداً.
وبما أنَّ الإسلامَ يتضمّن – الدين بوصفه نظاماً اجتماعيَّاً متكاملاً, والمصدر بوصفه المُنـزلَ لمنهجِ الإسلامِ وموضِعَ إرادة التنـزيل, والرسالةَ وهي القرآن الكريم بوصفه محتوى منهج الإسلام, والرسولَ rبوصفه حاملَ الرسالة ومبلِّغَها وأنموذجَهَا, والأمةَ بوصفها المحيطَ البشريَّ للتنـزل- فلا بدَّ من بحثها انطلاقاً من الخطاب القرآنيّ نفسه ومن السنَّةِ, لتحديد القضايا المعنيّة بالبحث, ولاستجلاء المحاورِ الأَولَى بالرعاية ضمن تلكم القضايا, حال مناقشة ما يقال بشأن الإسلام من الناقدين مستشرقين وغيرهم, بما يضمن التوازن وفقاً لمنهج التوحيد, ليبقى النقاش والردُّ بعيدين عن احتماليّة الشطط عن استقامة المنهج التوحيدي, والانجرار إلى دائرة الجدل العقيم, في إطار الفعل وردِّ الفعل, المبنيِّ على غير هدى من الله تعالى, وسيُبحَثُ هذا الأمرُ في محورين اثنين:
المطلب الأوَّل: مكانة الإسلام ومتضمّناته, وفق الخطاب القرآني والنبوي:
ويراد منه معرفة الإسلام وفق الخطاب القرآني والنبوي, في إطار وصفها, وبيان وظيفتها, وما يتَّصل بها, بما يبيِّن حقائقها, وبما يكشف بالمقابل حقيقة ما يقال بشأنها, ويصف مسافتها عن الحقيقة, سواء ما كان من آثار دراسات المستشرقين أو من غيرهم.
المقصد الأوَّل: الإسلام في الخطاب القرآني والنبوي:
الإسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده, ويمكن الوقوف عند الإسلام وصفاته ووظيفته وفقاً لما يأتي من النقاط:
1.الإسلام بوصفه تعبيراً عن تناسق حركة الخلق, في إطار الخضوع لقيّوميّة الله في الكون, وقهره فوق عباده, وفق قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83), فيكون تسبيح الناس المقصود لله تعالى, الذي فطرهم وفق دينه المرتضى, موافقاً لتسبيح الكون الفطريّ لربِّه, الذي أبدعه.
2.الإسلامُ بوصفه دينَ الله, الذي يمثلِّ علاقة العباد – من البشر في الأرض- بربِّهم, يحدِّدُ وجهتها, وينظِّمها, ويجعل الدين واحداً في الناس, وفق قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَّكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) (آل عمران:19), وقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيهِ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي إِلَيهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى:13), قال القرطبي: “أن أقيموا الدين” وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله, وكتبه, وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً، ولم يرد الشرائع, التي هي مصالح الأمم على حسن أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة، قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (المائدة: 48)”(70), فالدين هو الإسلام, وهو الانتماء الذي يؤكِّد: إقامة التوحيد ونبذ الشرك, والائتلاف على التوحيد ونبذ الفرقة, واجتباء الأنبياء والمرسلين وفق إرادة الله, وتحقُّق هداية الناس بالأنبياء والمرسلين وفق إرادة الله ومشيئته(71).
والملَّة الإبراهيمية ممتدّة إلى إسلام إبراهيم, فمن رغب فيها دخل الإسلام, ومن رغب عنها فارقه, سفهاً من النفس, واستخفافاً بما ستلقاه من العذاب, بخلاف الفطرة التي تستجيب لإرادة الله تعالى الشرعية, ومثال صفاء الفطرة ما كان عليه إبراهيم u, وحتَّى قبل إسلامه, فكانت معرفته آلاء الله, من خلال أمارات الربوبيّة إسلاماً, قبل أن يتلمَّس أمارات الألوهية بالوحي, فإسلامه وفق الآيتين كان لربِّ العالمين, وفق قوله تعالى: (وَمَن يَّرْغَبُ عَن مِّلَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ) (البقرة: 130-131), فجاء التأكيد المحمَّديّ على متابعة ملَّة إبراهيم, وهي ملَّةُ التوحيد, والتسليم لله تعالى ربِّ العالمين, وفق قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (الأنعام:161).
3.الإسلام بوصفه ديناً محمَّدياً: جاء في إطار وحدة الدين, ووحدة الإرادة الشرعية في الناس, ممّن استخلفوا في الأرض, ويكون بالتسليم لإرادة الله تعالى الشرعية, ومظهرها الإيمان بما جاء به المرسلون, من غير تفريق بين أحد منهم, قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30).
والإسلام بوصفه ديناً خاتِماً للأديان, خوطب به الناس كلُّهم أجمعون- في إطار عالميّة خطابه- بمنهجه وبشريعته, وبخصوصيَّاته, التي تجعله جزءاً من الإطار العام للدين, وتلك التي تجعله ذا خصوصيّة تميِّزه عن سائر الأديان, ويأتي وفق قوله تعالى: (اِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) (الزمر:2) الذي يؤكِّد أنَّ التديُّن لا يكون ببعثة محمَّد r, ونـزول الكتاب عليه إلاَّ وفق أحكامه الشرعيّة, ورعاية كلِّ ما فيه.
أمّا قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيـنِ كُلِّـهِ وَلَـوْ كَـرِهَ المُشْرِكُونَ) (التوبة:33), فيؤكِّد إرادة الله تعالى للإسلام المحمّديّ في أن يكون خاتِـمَ الأديان والظاهر عليها, ما يجعـل الديـن والتديُّنَ محصوراً في الدين الخاتم, وفق قوله تعالى: (وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ) (آل عمران:85), وهو ما يفتح الباب لمناقشة ما قد أصاب الأديان من التحريف, الذي يخرجها عن إطار التديُّن, الموصوف بالإسلام, وبهذا يكون الإسلام تعبيراً عن السـويَّة في الدين وفي التديُّن, ويترجمه ما جاء في الحديث الشريف: “… الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً”(72).
المقصد الثاني: القرآن الكريم وفق الخطاب القرآني:
1. أنّ القرآن الكريم منـزل من الله تعالى, يوضِّحه قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ…) (البقرة:185), ففي الآية دليل صريح على أنَّه منـزلٌ, وبأنَّ مصدره العلوُّ؛ فمصدر القرآن الكريم هو الله تعالى.
وفي قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114), تأكيد على كون القرآن وحياً من عند الله العليم, فهو مصدرٌ للعلم الحقّ, ينهل من معينه من أراد من الناس, المخاطبين به.
وثمَّة دليل على أنَّ تنـزيل القرآن متَّصل بالله تعالى وحده, ويفصح عن إرادة إلهيّة علويّة, وفق قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15), فالقرآن تعبيرٌ عن إرادة الله في شأن نـزوله, وكذلك في شأن محتواه البيانيّ, فهو خطاب إلهيّ ثابت في محتواه, متجدّد في شموله, وبهذا يكون اتّباع وحيه طاعةً لله, ويكون هجره معصية له.
2. القرآن محتوى منهج التوحيد العلميّ, وفق قوله تعالى: (… وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114), وظيفته تحقيق الهدى في الناس, وبهذه الوظيفة وُصِفَ حديثُهُ بالحُسن في دائرة المفاضلة بكل منهج سواه, يرادُ له أن يكون مصدر هداية للناس, وفق قوله تعالى: (اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وُ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23), وأنَّ من ينتفع من علمه بتحقُّق تزكيته بالهدى هو الموصوف بالسمو, من دنوِّ النفس إلى علوِّ الفطرة, بما يمكن وصفه بالطهر, وفق قوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79).
3.من سمات القرآن الكريم:
أ.موافقة لغة القرآن ظرف تنـزله, وعربيَّته جزء من إعجازه, قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًا لقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَاعْجَمِيٌ وعَرَبِيٌ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وهُوَ عَلَيْهِم عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت: 44), ويؤكِّد سنّة الله في إنـزال الكتب بلغة من نـزلت عليهم من الرسل في الناس, فعربيّة القرآن وافقت لسان الرسول r, والأمران: عربيّة القرآن, وعربيّة الرسول r, مقيّدة بإرادة الله, ولها مبرراتها الأخرى.
ب.أنَّه معجز لخلق الله في الإتيان بمثله، وفق قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: 88), وهو ما يجعل من يوجِّه النقد إليه في إطار الدعوة للإتيان بمثله, أو حتّى بمثل بعضه, في لفظه ومعانيه ودلالاته البيانيّة, وحتّى في مقاصده وآثار متابعته وحكمته.
ت. أنَّه مادّة الدعوة العالمية ومنهجها, ففيه الكفاية والإلزام بتحقُّق تشغيلها, وفق قوله تعالى: (وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنمَّا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المُنْذِرِينَ) (النمل:92), ولا تحتاج الدعوة لصياغة منهجها إلى العقل بوجود النصِّ القرآني.
4. من سمات القرآن كفايته لتحقيق الهدى لبني آدم:
أ. ففي قوله تعالى: (طس تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ) (النمل:1) بيان لمنهح القرآن بوصفه مبيناً, يمكن للإنسان استيعاب ما فيه بيسر.
ب.تضمُّن القرآن الكريم ما يفهم الناس مراد الله من إنـزاله, ومراده منهم حال متابعته, قال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف:54), ففي القرآن ما يحقِّق للناس فهم حقيقة الحياة, وموقع التوحيد منها.
ت. في القرآن الكريم الكفاية في تحقيق الفهم للناس بكنه الدعوة, وبمنهجها وهو التوحيد, وانَّ القرآن الكريم آيته الإعجازية تفوق ما كان من آيات الله تعالى للأقوام السالفة, من حيث حقيقته وما فيه, ومن حيث دوامه آيةً لا تختفي آثارها عن الناس, وفق قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:51), ووفق ما جاء به البيضاوي(73).
ث. تضمّن القرآن ما يحقِّق الفهم المنهجي العالمي لكلِّ الناس, فمن مظاهر رحمة الله في الناس “خَلْقُهُم”, ومن مظاهر الرحمة عقب خلقهم “ابتلاؤهم”, ومن مظاهر الرحمة بهم عقب ابتلائهم “إنـزال ما في القرآن من علم”, فتكون الرحمة بالناس, وبابتلائهم وبإيجادهم من قبل قد تحقَّقت بنـزوله فيهم وبخطابهم به, وبما فيه من الهدى، وفق قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ القُرْءانَ*خَلَقَ الإِنْسَانَ*علَّمَهُ البيان) (الرحمن:1-4).
5.علاقته بسائر التنـزيل:
أ.أنّه محفوظ من التحريف, وهو ما يجعله في منأى عن التحريف البياني, وعن التحريف في محتواه, وهو من مقتضيات عالميّة خطابه, والحفظ عن الاختلاف: قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء:82), القرآن سالم من الاختلاف, لأنّ مصدره الله, وليس ثمّة ما سلم من الاختلاف ممّا كان مصدره من الخطابات غيره, ولم يسلم من التحريف من التنـزيل إلاَّ ما تعهَّد الله تعالى بحفظه, قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
ب. أنَّه مصدق لما سبقه من التنـزيل: قال تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العَالَمِينَ) (يونس: 37), فيكون تصديقه حدَّاً فاصلاً بين ما حُرِّف, وما لمْ يُحَرَّف من سابق التنـزيل, فيكون محتوى القرآن محتوى ما قد كان من الكتب السماويّة من قبل, في علاقةٍ تماثل علاقة الجزء بالكلِّ, ويماثل علاقة العالميِّ المتجاوِزِ, بالأمميِّ والقوميِّ المُتَجَاوَزِ.
ت. أنّه مهيمن على ما كان من سابق التنـزيل, وفق قوله تعالى: (وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48), فالقرآن رقيب على سائر الكتب, يحفظها عن التغيير, ويشهد لها بالصحة والثبات, ومن آثار هيمنته قدرته في إعادة من اختلف عن الحقِّ ممَّن حُرِّفت كتبهم, إلى منهج التوحيد القادر على تخليتهم, ممّا أصاب اعتقادهم من خلل, وتحليتهم بما يعيدهم إلى أمَّة التوحيد, قال تعالى: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (النمل: 76).
ث.أنّه محتوى الرحمة والتخفيف, الذي تاقت نفوس أهل الكتاب لنـزوله, وترقَّبوا مبعث المؤهَّل لحمل رسالته وتبليغها, وفق قوله تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنـزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) (الإعراف: 156, 157).
6.وقد وصف رسول الله rالقرآن بأنّه: (فيه نبأ من كان قبلكم, وخبر ما بعدكم, وحكم ما بينكم, وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبّارٍ قصمه الله, ومن ابتغى الهدى في غيره اضلَّه الله, وهو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, وهو الذي لا تزيغ به الأهواء, ولا الألسن, ولا يشبع منه العلماء, ولا يخلق من كثرة الردِّ, و لاتنقضي عجائبه, هو الذي لم تنته الجنُّ إذ سمعته حتّى قالوا: “إنَّا سمعنا قرآناً عجباً, يهدي إلى الرشد”, من قال به صدق, ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)(74).
المقصد الثالث: الرسول rفي الخطاب القرآني والنبوي:
ما خرج الرسول rعن إطار عبوديّته لله تعالى, وما ينبغي له, قال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّيِنَ) (الزمر:11). ويمكن متابعة ما يوضِّح مكانته فيما يأتي:
1.فضَّله الله تعالى على سائر خلقه, بما علّمه من الكتاب والحكمة, فكانت بهما بمشيئة الله تعالى تزكيته, ويمكن تلمُّس ذلك في الآتي:
أ. قال تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُّضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنـزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113).
ب. قال الزهري: أخبرني محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه tقال: سمعت رسول الله rيقول: “إن لي أسماءً أنا محمد, وأنا أحمد, وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي”(75).
ت. روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو, أنّه قال: خرج علينا رسول الله rيوما كالمودِّع فقال: “أنا محمّد النبي الأمي, أنا محمّد النبي الأمي, أنا محمّد النبي الأمي, ولا نبي بعدي, أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه, وعُلِّمتُ كم خزنةُ النار, وحملةُ العرش, وتُجُوِّزَ بي, عوفيتُ وعوفِيَتْ أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإذا ذُهِبَ بي فعليكم بكتاب الله, أحِلُّوا حلالَه وحرِّموا حرامَه”(76).
2.إنّه بشر تتأكّد بشريّته وفق قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَّنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144), ويستنبط منه ما يأتي:
أ. أنَّه من زمرة الرسل عليهم السلام, وهم بشر رجال, وفق قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43).
ب. أنّه يموت, والموت من سمات البشر, كونهم أحياءاً, قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر: 30).
ت. أنَّه يأخذ بالأسباب, ومنه السعي في تحقيق النصر.
ث. أنَّه يقاتل فيَقتُل أو يُقتَل وهما من سمات البشر.
ج. أنَّ بقاء التوحيد في الناس أحبُّ إلى الله من بقاء الرسل, أو خلودهم, فمكانتهم تأتي تبعاً لمكانة التوحيد في الناس, لأنّ التوحيد أمر بخصُّ الله تعالى وحده.
3. وفي قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب:40), أمور ابرزها:
أ.أنّ الرسول r, تأتي مكانته ليس من كثرة ابنائه الرجال, وإنّما تستمدُّ رفعته, من كونه نبيّاً رسولاً وخاتم النبيين.
ب.قضية ختم النبوة والرسالة تعني أنَّه خيرهم, فلا يحتاج البشر من بعثته وحتّى قيام الساعة نبيّاً رسولاً, لبلوغ رسالة محمد rمبلغاً عالميّاً, بعالمية منهج رسالته القيِّم.
4. ومن مهام الرسول r, ما يمكن تلخيص أبرزه في الآتي:
أ. أنّ دور النبي rتبليغ الناس ما نـزل عليه بإرادة الله العلوية, وليتحقَّق إيمانهم, ويصدّقه عملهم, بسعيه في بيان ما قد نـزل عليه -وهو الموصوف بالحقِّ فلله الفضل في هداهم- فتكون توبتهم ممّا كانوا عليه, فيكفِّر الله عنهم سيِّئاتهم, التي سبقت معرفتهم بما نـزل عليه, وإيمانهم به والعمل بمقتضاه, وفق قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نـزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيَّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (محمد: 2).
ب. جعله الله تعالى ممّا منَّ به على المؤمنين من عباده, بمبعثه وبرسالته وبحرصه, وفق قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران:164).
ت. أنَّه مخرج الناس من الظلمات إلى النور, بما أنـزله الله تعالى إليه من الكتاب, وقوله إليك, يجعل الأمر ممازجاً أثر ما في التنـزيل من تحقُّق الهدى في الناس بإخراجهم ذاك, وما كان من بيان رسول الله rلذلك التنـزيل, وفق قوله تعالى: (الر.. كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ) (إبراهيم: 1).
ث. وأنَّه المبلِّغ للتنـزيل إلى الناس, وما يكون من تدبُّرهم له أثره في تحقيق هداهم, بأن يُنسَبَ فعل تحقُّق الهدى فيهم, لما كان من تفكُّرهم, بما يظهر هذه المرَّةَ مسؤولية الهدى, فلا يعقد للرسول, ولكن لكلِّ إنسان يبلغه الرسول ما قد أنـزله الله “إليهم” وليس “عليه” ولا “إليه”, وفق قوله تعالى: (بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44).
ج. وممّا يبيِّن حقيقة الرسول r, ما كان من الوحي, وبيان أثره في الرسول وتعليمه, وفي جعلهما سبباً لتحقيق الهدى في الناس, بفضل الله وبما كان من تنـزيله, وفق قوله تعالى: (وكذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِن أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدرِي مَا الكِتَابُ ولا الإِيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِن عِبَادِنَا وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52).
5.وممّا يستنبط من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِيِنِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا*مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهٌ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِن اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّورَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح:28-29), أمور منها:
أ. أنَّ الله تبارك وتعالى له الفضل في إرسال رسوله محمّد r: بالهدى, في عهد الضلال, وبدين الحقِّ في عهد تحريف الدين, فصار باطلاً.
ب. أنَّ غاية إرساله rإظهار دين الحقِّ على الدين كلِّه, بما لا يسمح لإرادة بشريّة في صدِّ إرادة الله في هذا الظهور, ما يعني أنَّ الظهور ضرب من التحدِّي المعجز, وبشارةٌ بالفتح, لمن اتَّبع الرسول الخاتم r, في وقت لم يكن الظهور قد تحقَّق, ولم تظهر بعد مقدِّماته.
ت. أنَّ الله تعالى شهيد على أنَّ ما جاء به الرسول rهو الدين الحقُّ, وأنَّ الله شهيد على أنَّه سيظهر.
ث. أنَّ ظهور الدين هو من معاني عالميَّته.
ج. أنّ محمداً رسول الله حقاً, وأنَّه واصحابه موصوفون في التوراة وفي الإنجيل, فلا مجال لإنكار ما جاء به من الدين الحق.
6.أنّه الرسول العالميِّ, وفق ما يأتي:
أ. هو الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل, لتتحوَّل الرسالة من بني إسرائيل, إلى عالميَّتها ببعثها في بني إسماعيل, وفق قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة:129).
ب. إنَّه بشارة عيسى عليهما السلام, (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْكَم فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ*وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَم مُّصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِن التَّورَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (الصف:5-6), فتبرير مبعث عيسى زيغ بني إسرائيل, والذي يتطلب تقويمه، تصديقه بما جاء به موسى, وتبشيره بمبعث الرسول العالميّ الخاتم, الرحمة المخفِّف, وهو من مقتضيات العالمية.
ت. أنّه المأمور بتبليغ رسالته إلى العالم كافَّة, وفق قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:158).
7.أنَّه خير الخلق, والمفضَّلُ على الرسل, ولا يسعهم حال إدراك بعثته غير اتِّباعه, فما جاء به خير مما جاءوا به, وفق ما يأتي:
أ. قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81).
ب. وصفه لنفسه r: “عن أبي هريرة tأن رسول الله rقال: “فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأرسلت إلى الخلق كافة, وختم بي النبيون”(77).
المقصد الرابع: الأمّة في الخطاب القرآني والنبوي:
1.بناء كيان الأمم وعوامله: فالأمة في الخطاب القرآني والنبوي تبنى ويكون كيانها على عوامل, تبتعد عمَّا يشاع من قيامها على عرق أو قومية, وهو ما يحتاج إلى بيانه وفق الآتي:
أ. يبنى كيان الأمة على أساس من قضية التكليف والابتلاء, وفق قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (يونس:47), فالرسول لا يبعث في قومه إلاّ وتحوَّلوا إلى أمَّةٍ, فيكون قومه أمَّةً بعد تحقُّق نذارتها وبشارتها برسولها, ويكون بتبليغهم خطاب الدعوة, قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24).
ب. ناظمها التوحيد, بوصفها حقيقة صدقها الواقع, وفق قوله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَّاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (يونس:19), فالأمَّة الواحدة هي أمة التوحيد الفطري, وبتفرُّقها عنه صارت أقواماً, فلا تعود أمَّةً, تحمل مؤهِّلات الانتظام السليم, إلاّ بتصديق رسولها وإن من نفر منهم.
2. نشأة الأمة المحمَّديّة:
أ. تحول العرب من كونهم ذريةً تنتسب إلى النسب الإبراهيميّ, إلى أمة تنتسب إلى اعتقاد إبراهيم التوحيديّ, وفق قوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة:128-129), فدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بجعل جزءٍ من ذريتهما أمَّةً, يعني الدعوة بتحويلهم من الذريّة التي تنتسب إلى النسب, إلى الأمَّة التي تنبعث برسول منهم, يقوم بمهام البشارة والنذارة, فالأمّة إذن تتمتَّع باتّباع رسولها, وهو ما تضمّنه الدعاء الذي لا يكتفي ببلوغ الذريّة النذارة والبشارة, بل وتمتدُّ إلى تحقُّق الاتِّباع.
ب. التحول من الأميّة بما كان من جهلها ومظهره الشرك, إلى الكتابية, ومظهرها العلم بالتوحيد وبمنهج التوحيد, وفق قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمْيِينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمَهُمْ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبَيْنٍ) (الجمعة:2), ويتكامل الوجهان في النقطتين:أ,ب, بأنَّ الاتّباع المفترض والمستنبط من الدعوة الإبراهيمية الإسماعيلية, يتحقَّق بعد العلم بمنهج التوحيد, الذي تحدَّثت عنه النقطة “ب”.
3.ترقِّي الأمّة المحمَّدية من أمَّة توحيد إلى أمة الإسلام:
أ. أمة التوحيد تتطلب الإيمان بالله, ولو لأول الأمر, “فالتوحيد مدخل لبناء الأمّة, وفق قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) (النحل:36), فأُمَّة التوحيد تكون بمعرفتها التوحيد ابتداءاً.
ب. أمة الإسلام تتطلب منهم الإيمان تصديقاً بكلِّ من أسلم من ذي قبل, ليكونوا في إطار “الشعور بالانتماء الإسلامي العام” وهو ما يدعم فرضية “قيام الانتماء على التوحيد وعلى التكليف في إطار الابتلاء, وفق قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنـزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنـزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136), وهو أمر يتطلَّب تحقُّقُه معرفةً بمن كان على التوحيد ورسله, وفقاً لتعلُّم منهج التوحيد تفصيلاً.
4.”عوامل بعث الأمة”:
أثر الرسالة والرسول في بعث الأمة, ويلامسه قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة:129), ومنه:
أ. الرسالة: فلا يتحقَّق التحوُّل من الذرِّيّة إلى أمّة التوحيد, ولا يتحقَّق الترقِّي من التوحيد إلى الإسلام, ولا يكون للأمّة كيانها, ولا تتحقَّق تزكيتها إلاّ, بتلاوة منهج التوحيد, في إطار آيات الله تعالى وما فيها من الحكمة.
ب. الرسول r: ويكون هذا كلُّه بما يتلوه عليهم رسولهم r, فيعلّمهم الكتاب, ويعلمهم الحكمة.
ج. التلاوة والتعليم بوصفه عمليّة تخلية وتحلية, بالجهد المبذول من الرسول عليه الصلاة والسلام, لتبليغ الرسالة ومقاصدها التعليمية, وبها كلِّها تتحقَّق التزكية, وفق قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمْيِينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمَهُمْ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبَيْنٍ) (الجمعة:2).
5. دوام الأمة ولوازم فاعليتها:
أ.الحفاظ على نقاء التوحيد: وهو ما يحفظ الاعتقاد من الانحراف, ويحفظ الأمة ووحدتها من التمزُّق نتيجةَ الانحراف العقديّ, وفق قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ*مُنِيبِيْنَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المشْرِكِينَ*مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ ِبمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:30-32), وثمرة الالتزام بالتوحيد الحقِّ بتحقيق العبادة لله-إذن- وحدة الأمة من التفرُّق والتنازع والتمزق, قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92), وينعكس أثر تحقيق الإلوهية, الحقّ في تحقيق التقوى, التي محلُّها القلب, فتكون وحدتهم بوحدة الشعور, المبني على التقوى وفق قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52),فالتفرُّق لا يمتُّ للدين الحقِّ بصلة, إنّما يكون بالفسق والسفه عنه, قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103).
ب. تحكيم شريعة الكتاب في إطار الأمة: ومنه ما يأتي في إطار قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89), فيكون الكتاب مبيِّناً للأحكام التي تنظِّم شؤون الجماعة المسلمة, في إطار دائرة تحكيم الشريعة, ومنه ما يأتي في إطار قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ) (الحج:67), نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما, قوله: منسكاً أي شريعة هم عاملون بها(78).
ج. أثر القيم في الحفاظ على وحدة الأمة: وهو مبني على احترام رابطة التآخي في الدين, وفق قوله تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَّأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71), وقوله تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10), وعن أبي هريرة tقال: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض, وكونوا عباد الله إخوانا, المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره, التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره الشريف ثلاثاً- بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم, كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)(79).
6. دور الأمة الخيري القيمي العالمي خارج كيانها:
أ. الشهادة على الناس وفق قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَّتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَّنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة:143), والشهادة الحضور في الناس, ويكون بتمسُّك الأمّة بدينها ليكون أنموذجاً للآخرين, بما انعكس عليهم من آثار الدين في حسن تديُّنهم, وبما أهَّلهم به من العلم والمعرفة, وبما كان من تزكية نفوسهم, التي تدفعهم إلى التحلّي بالوسطية في الناس.
ب. دعوة الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بوصفه من مظاهر الخيريّة, وفق قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
المطلب الثاني: المنطلقات المفاهيميّة لبناء استراتيجيّة الردِّ على المخالفين لمنهج التوحيد.
يراد من هذا المطلب تحديد المنطلقات المفاهيميّة التي تسهم في بلورة منهجيّةٍ فكريَّةٍ, تحدِّد الفكر الإسلاميَّ -بمفكريه- وهو يتصدَّى لقضيَّة الدفاع عن الإسلام ورسالته ورسوله وأمّته, والتي تتحلَّى بسمات الثبات, المستمدَّة من ثوابت مصادر الإسلام, وما فيها من متضمَّنات, ممّا لا يَخلِقُ بالتقادم, ولا تنقضي فاعليّته بما يستجدُّ من القضايا, التي تفجَّرُ أمام مسيرة الفكر الإسلاميّ من لدنِّ المتربِّصين به, وهو ما يدفع الباحث مرّة أخرى لاعتماد المرجعيَّة الإسلاميّة المعتبرة, والمركَّزة في الوحي:قرآناً, وسنَّةً.
ولعلَّ ما يحقِّقه بناء البعد المفاهيمي في هذا الإطار, هو بناء مرجعيّة فكريّة واقعيّةٍ, قادرةٍ على التعامل السريع في الواقع, الذي يشهد محاولات فكريّة تشكيكيّة بمرجعية الإسلام المعتبرة, وبمعالم الإسلام الرئيسة من أركانه, والتي تبنى -أعني المرجعية الفكرية الواقعية- بإنـزال النصِّ على الواقع, بعد عمليّات فكريّة, يباشرها العقل المسلم في تصنيف ما يفرزه واقع المخالفين والمتربصين المشككين, وبالتقيد بما جاء في الخطاب القرآني من عرض لمثيلاتها, تعرَّضت له الدعوة المحمّدية, وشهدتها دعوات الرسل من قبل, والتي بدا منها خلاصاتها الفكريّة, المستخدمة في حوار الدعاة, وجدالهم تلكم الأصنافَ من الناس, فبقيت المنظومة الفكريّة شاخصةً, وتوارت النصوص, التي أسست لهذه الأفكار, وإن بفعل غير مقصود, يبرِّره الجوُّ النفسيُّ لعمليّة الجدل والحوار السريع في هذا الإطار.
وبعد؛ فيمكن تحديد أبرز القضايا المفاهيميّة- التي تشكِّل المرجعيَّة الفكريَّة, لمن يتصدَّى للدفاع عن الإسلام, بل ولمن يريد -قبل ذلك- بيان معالم الإسلام في إطار فكريٍّ- وفق الآتي من القضايا:
المقصد الأوَّل: مراعاة الغيب والشهادة:
وفي هذا الإطار تراعى قضايا, تسهم في ضبط المرجعية الفكرية وبلورتها, ويمكن إدراجها في الآتي من النقاط:
1.الذاتُ الإلهيَّةُ: عُرِف اللهُ تعالى بآثار ربوبيَّته, وبما أنـزل من الوحي على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام, ويصدِّقهما الفطرة السليمة, بما كان من معرفة الحقِّ, وبالنـزوع إلى التأليه, وبمعرفة أنَّه الله تعالى جدُّ ربّها, ومع ذلك فلا يكون معرفةُ التوحيد, ولا ما يترتَّب عليها من التكليف بالعبادة, ولا المسؤوليَّة عليهما إلاَّ بالتنـزيل, وفق ما قاله العلماء(80).
والأصل في أن يكون التفكُّر في الله تعالى متَّجهاً إلى أفعاله, التي بدت في دلائل ربوبيَّته, ويكون التفكُّر والاسترشاد باتجاه صفاته تعالى, المنعكسةِ آثارُها في خلقه, لتكون دليلاً على التصديق بصفاته الذاتيَّة, التي بيَّنها الوحي, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «تفكَّروا في كلِّ شيء ولا تفكَّروا في ذاتِ الله»(81)، ويؤكِّد الغزالي على أن معرفة ذات الله تعالى ضيّقة المجال على البحث, وعسيرة المنال على الفكر, وبعيدة عن الذكر, ولم يأت ذكرها في القرآن إلا في مجال تقديس الله تعالى, كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى:11), وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (الأنعام: 100، 101), وأما الحديث في الصفات فأوسع, وأما ذكر الأفعال فكثير(82)، ولم يتحدَّث رسول الله rفي ذات الله تعالى إلاّ بهدي الوحي.
فمقتضى الإيمان بالله تعالى: ذاتاً, ووجوداً، الإيمان بكلّ صفاته, التي ذكرها الوحي(83)، إيماناً يثبتها, ودون إسقاطها في ميزان الماديَّة وأبعادِها؛ فلا ينبغي تكييف صفات الله تعالى, ولا تشبيهُهَا, ولا ينبغي تحريفها, ولا تعطيلها.
وفي القرآن الكريم ما يؤكِّد الفصلَ بين منـزلتي: الإله ومَا سواه, لكي لا تنـزلق العقولُ, ولا الألسنُ في التعرُّض لله تعالى وذاته, ولصفاتِه وأفعاله, بما يلغي ذلك التمايز؛ فمن المحظور التجرؤُ على الله تعالى في التقوُّلِ, بدلاً من اتِّباع ما كان من بيّنِ التنـزيل(84).
والصحابة الكرام قد حاجّوا أهل الكتاب في إثبات نبوَّة الرسول rبأدلَّة القرآن, وبيان منـزلته, فما زادوا عليها, وما تكلَّفوا وضع المقاييس العقليَّة, لما تثيره من الفتن(85)، واتِّباعاً لمنهج رسول الله r, فلم يكن يعجل في الردّ في أمر لمْ يحطْه الله تعالى به علماً حتَّى يأتيه تنـزيل من الله تعالى بشيء من أمره.
2. الموقف من خلق عيسى u: ولم يخرج رسول الله rعن منهج التوحيد, ومقتضاه -وقد كان القرآن يتنـزل عليه- من عدم الردِّ إلاَّ إذا نـزل عليه من الله تعالى علمٌ فيبلِّغه, فقد جاء في أسباب النـزول: أنَّ راهِبَا نجرانَ سألا رسول الله rفي شأن عيسى u, فما أجابهما حتَّى أُنـزلَ عليه قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *الَحُّق مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ) (آل عمران: 59, 60)(86)؛ فإحجام الرسول الكريم عن وصفِ عيسى عليهما الصلاة والسلام- وهو يَعْلَمُ عنه يقيناً بشريَّة عيسى, إلاّ في شأن الإيجادِ والإنشاء- بقي حتَّى أنـزلَه الله عليه.
3. الروح: وتمسَّك الرسول الكريم rبمنهج التوحيد, ومقتضاه من التقيُّد بما جاء به التنـزيل, فقد أحجم عن الكلام في الروح يوم سأله عنها بعض من اليهود, فقام ساعةً, ورفع رأسَه يترقَّب ما سينـزله الله تعالى بشأنها, فأوحيَ إليه قولُ الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاّ قَلِيلا) (الإسراء: 85)(87)، فيشمل إقرار وصف العلم البشري بالقليل حتّى الرسول r, مع كونه أعلم الناس بربِّه وأعبدهم له وأتقاهم؛ فكانت الروح من قضايا الإعجاز, والتحدّي بها(88).
4.الساعة: ولم تخرج الساعة وأوانها عن منهج التوحيد, فلم يُجِبْ الرسول الكريم r, حتَّى أُنـزل عليه قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَّسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 187).
المقصد الثاني: عالمية الرسالة ومقتضياتها:ما يعنينا من الرسالة في هذا الموضع عالمية خطابها, وهو ما يعني أنَّ كلَّ إنسانٍ عاقل – أريده عاقلاً في ميزان الحواس لا في ميزان الاتِّباع- له الأهلية في قراءة الخطاب القرآني, بل ومن الواجب عليه قراءته وتدبُّر آياتِه, فإنَّ في القرآن الكفايةَ في البيان والتبيين, وفق قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالقُرْءانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق: 45), رغم ما يكون من قولهم في شأن الوحي, والرسول, والرسالة, فالله تعالى ضمَّن القرآن ما يحدث الذكر في القلوب, وبما أنَّ ما يكتبه المستشرقون وسواهم ناجم عن شيء من التدبُّر, فهم في حال من القراءة التدبرية, التي أمر الله تعالى بها ودفع الإنسان إليها, وفق قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24), وأما ما يكون من النوايا فالله تعالى بها وبقلوبهم أعلم, والتدبر السليم يقود إلى التذكرة بعد البيان, وعلامته تحقُّق الهدى, أمّا من لم يحدث له القرآن ذكراً, فهو داخلٌ في إطار اللاإكراه.
المقصد الثالث: الأقوميَّة(89)
وقد بيَّنها قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء:9), وممَّا تجدر ملاحظته أمور, منها:
1.التأكيد على أنَّ مَن يحقِّق الهداية هو القرآن, ما يبرز التأكيد على ما في منهج التوحيد الذي جاء به القرآن من قدرات تحقق الهداية لمتدبِّره.
2.تكون الهداية إلى الأقوم في إطار العمل الصالح, لافتراض الآية أنَّ من يتدبر الخطاب القرآني, ووضع نفسه على أولى درجات الهدى هو مؤمن, بدليل إشارة الآية إلى المؤمنين.
3.الإشارة إلى الإيمان بالجمع, وهو ما يشير ضمناً إلى أنَّ تدبر القرآن ومن ثمَّ إحداث الهدى والإقدام على العمل الصالح, لا يكون في إطار ما يوصف بالأقوم إلا في إطار الجماعة, وما لها من اثر في تحقيق الربح بالنجاة, بما يكون من الإيمان والتواصي بالحقِّ, والتواصي بالصبر, ألا ترى أنَّ الأجر الكبير قرين الدعوة والفوز بمثل أجر من تحقَّق هداه بدعوتك؟
4.أن “أقوم” اسم فضيل, والأصل في أسلوب التفضيل في اللغة أن يأتي بين طرفين, كقولك: الصلاة خير من النوم, وأمَّا ما يأتي من اسماء التفضيل من غير مفضول, فهو من البلاغة بما يجعل الفاضل أفضل من ايِّ شيء سواه, وهو ما يوصف “باستدعاء التفاضل”, بل ويمهد للسعي للتفاضل, ثقةً باقوميّة منهج التوحيد, وتماشياً مع مهمّة الداعي, في تحقيق عالميّة الخطاب القرآني, التي تتحقَّق بإبطال مزاعم أئمة الكفر, ومتَّبعي الضلال, وبجعلهم في دائرة الدعوة وخطابها.
وعوداً على ذي بدء, فيأتي في إطار النقطة المتصلة بعالمية الخطاب أمران, يفتحان للأقومية فاعليّتها وحركتها, وهما:
1.وجود وجهتين للإيمان والكفر, لاثالث لهما, بعد إجراء القراءة التدبُّريّة للخطاب القرآنيّ, وهما:
أ.كفر بالطاغوت وإيمان بالله, وهو استقامة قد بيَّن الله آثارها وحسن ثوابها.
ب.وكفر بالله وإيمان بالطاغوت. وهذا الانحراف قد بيَّن القرآن ميزان التقاوم والأقومية بينهما بتبيان المصير, في سياق آيات اللاإكراه, وبيَن موضع الخلل فيهم بسفه القلوب, وانغلاقها بما عليها من أقفال, وهو ما لايحتاج كثير عناء من الدعاة والمدافعين عن الإسلام, وعن منهجه ورسوله وأمّته, في التعامل معه؛ فقد تكفَّل الله تعالى في آياته ببيانها, ووضعها في ميزان التقاوم والمقاومة, بما يجعلها من ثوابتهما, بل وأمثلتهما تشكِّل سوابق شرعيّة, وأصول فكريّة, وأمثلة منهجية في مجال الأقومية.
2. ويتَّصل الأمر الآخر بنتيجة قراءة التدبر من لدن المدعوين, ما لم تثمر نتيجتها إيماناً بالله, وتسليماً باستقامة منهج التوحيد, الذي جاء به القرآن الكريم, يكون من الطبيعي تبرير أسباب عدم تحقُّق الإيمان, ومن الطبيعيّ كذلك تبرير رفضهم الاستجابة تحت مبرّرات تصف من لدنِّهم بالعقلانيّة, أو بمتابعة منهج الآباء وفاءاً لهم, وإباءاً لربِّهم أجمعين, وهو ما يكون ولا شكَ مفارقاً للاستقامة, سائراً في سبيل الانحراف والسفه, وهو أمر حدَّد منهج التوحيد أصول التعامل معه, لحملة الدعوة, وأسس بناء الحوار, بهدف الدخول في ميزان التقاوم والمقاومة معاً, لمن لم يتحقَّق إيمانه بعد قراءته التدبيرية, وكان قد دخل دائرة اللاإكراه في الدين.
المقصد الرابع: اللاإكراه وضوابط الحوار السلاميّة وحدوده:
اللاإكراه مبدأ أساس في الدعوة, واللاإكراه مفهوم قرآنيٌّ له مساحته المقدَّرة في الخطاب القرآني, ينبني على أدلَّة كثيرةٍ, منها قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَّشَاءُ وَمَا…) (البقرة:272), وقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام:107).
وشرط إقرار الدعاة بمبدأ “اللاإكراه” حقاً مفروضاً – لمن لم يتحقق إيمانه من المدعوين- “أن يكون بعد تحقُّق تمام البيان وكمال التبيين”, وملامسة البيان تكون بالقراءة, والتبيين يكون بتمييز مصير ما تتركه القراءة في قلب الإنسان, فيختار ما يريد من المسارين:رشداً, أو غيّاً, وتستبين له غايتها: نوراً, أو ظلمةً, وفق قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256), فالاختيار يكون، بعد أن يتحقَّق من البيان، إقرار المسؤولية على الفعل في إطار التكليف, وإقرار أقوميّة الهدى القرآني, وارتباطهما وتبريرهما حقَّ الاختيار والمحاسبة عليه معاً, يدعمه قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (يونس: 108).
أمَّا السلاميّة الخطابيّة, فهي قضيّةٌ يراعى فيها بناء خطاب الدعوة, الموصوف بقول السلام, تأسيساً على سمات الرسالة, وعلى سمات دعوتها, وعلى اللاإكراه, وعلى الأقومية, وعلى العالمية معاً, فتكون السلاميّة بالتالي من سمات خطاب عباد الرحمن, في ظلِّ رفض المدعو خطاب الدعوة, وتهكُّمهم بالدعاة جهلاً وانحرافاً, بعد الفراغ من فاعليّة اللاإكراه بتشغيله, فكانت النتيجة رفضاً للدعوة, ودخول المخاطبين في إطار السلاميّة الخطابية, بعد تجاوزهم طغياناً وظلماً حدود الاختيار, وإطار المسؤولية, فرفضوا الدعوة وتربّصوا بالتهكم بحملتها, وهي مرحلة تمهِّد للصدام المادِّي, إذا ما تفاقمت وتكرَّرت, وتتأسس السلامية على قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَونًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان:63), وهو ما يضمن بقاء الآخرين في حال من السلام, الذي يفسح لاستمرار خطابهم المتجدِّد بالدعوة إلى الحقِّ, ويأتي براءةً للذمم, لمن عليه واجب الدعوة, ويأتي تأكيداً على رحمة الخطاب ومقاصده التي تؤخذ من الدين وسمات رسالته, ومن اللاإكراه, بوصفهما من محدِّدات العلاقة بالآخرين, من غير المسلمين.
ومن ضوابط الحوار وحدوده, التي تدور في إطار السلاميّة, ما يتصل بخطاب المسلمين والدعاة, وفق قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:108), ومن ما يتصل بخطاب المخالفين, وفق قوله تعالى: (وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء:140).
المقصد الخامس: القيم الكلية, ومقاصد الخلافة:
القيم الكلّية أبعاد قيميّة تضمّنها الخطاب القرآنيّ, تصلح أن تكون مساحات مفاهيميّة, لا يكاد يخرج عن دوائرها أمرٌ يتَّصل باتخاذ الإنسان خليفةً في الأرض, أو ما يتَّصل بفعله في الحياة, ولهذا عُدَّت القيم حاكمةً لما سبق, في كونها تؤسس لمنظمومةٍ مقاصديةٍ, تنسجها الشريعةُ الإسلاميّةُ, وتنحصر في: التوحيد, والتزكية, والعمران(90)، ويتبوأ التوحيد فيها مكانة التأسيس لتلك المنظومة- التي تمازج بين البعد القيمي والبعد المقاصدي- فيكون التوحيد أمُّ القيم وإمامها, فتسري من الشعور إلى الفاعلية الضابطة لفعل الإنسان, في دائرة التكليف والمسؤولية, بما يمازج بين الاعتقاد والنوايا والعمل.
فهذه المنطومة هي التي تولِّد معياراً لمقايسة الفعل الإنساني المقبول في إطار الخلافة في الأرض, ذلك الفعل الذي يتوزَّع في ثلاثة اتّجاهات: الفعل التوحيديّ المتَّجه للحقيقة الإلهيّة, والفعل التزكويّ المتّجه لنفس الإنسان ولمجتمعه, والفعل العمراني المتَّجه لبيئته ومسكنه.
فالتوحيد ومنظومته القيمية المقاصدية, هو ما يوفّر الإجابة الثابتة على الأسئلة الفلسفيّة الثلاث: من اين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى اين مصيرنا؟
المقصد السادس: خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها:
ومن القضايا التي تلامس اصول الفكر السياسي الإسلامي لبناء استراتيجية الردّ على المستشرقين وسواهم, التركيز على خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها, بما يمكّن من إبراز: خلود الإسلام, وصلاحيّته للتطبيق في كلِّ زمان ومكان.
1.فصلاحيّة الإسلام منهجاً, وشريعةً, ومبادئ, لكلّ زمان ومكان, تثبت عالميّة الإسلام, وتفرُّده بهذه الصلاحيّة, بمراعاة الدلائل العلميّة على صحة ثبوت عالميّة الإسلام, فيكون الإسلام ذا مهمّةٍ عالميّةٍ حضاريّة يؤدِّيها, ومنها ذكر شهادات صدقيّة عالميّة الإسلام, التي أفادها الوحي: قرآناً, وسنّةً, وشهادة التاريخ, وشهادة المنصفين من غير المسلمين على أصالة الشريعة الإسلاميّة وحيويّتها, وسبقها في معالجة قضايا البشرية المتجدِّدة, والتي تحقِّقها الخصائص الآتية: الربّانيّة, والإنسانيّة العالميّة, والعدل المطلق, والموازنة بين الفرد والجماعة, والجمع بين الثبات والمرونة(91).
2.وأمَّا مقاصد الشريعة, فقد حدَّدها العلماء بحفظ الدين, والنفس, والعقل, والمال, والنسل, فكأنَّ الشريعة الإسلاميةَ وأحكامها لا تكاد تخرج عن دائرة هذه المقاصد, والتي تعدُّ آثاراً للقيم الكلّية التي تفرزها الخلافة الإنسانية في الأرض, لتكون منطلقاً فكريَّاً تأسيسيّاً للبحث في مواضيع كثيرةٍ, تتّصل بالإسلام وتنطلق من قضاياه, ومنها الدراسات الاستشراقية, وبناء استراتيجية الردّ عليها(92).
المقصد السابع: مراعاة البعد القيمي للعلاقات:
فالعلاقات الإنسانية-الإنسانية محكومةٌ بمنظومةٍ قيميَّةٍ, تحدِّدها الخلافة الإنسانية في الأرض, وتجد جذورها القرآنيّة في قوله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36), وفي قوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38), وعلى ذلك تكون منظومة قيم العلاقات الإنسانية ممثَّلةً في: “الاستقرار, والاستمتاع, الاستقامة”.
ومنها يكون البحث في بيان صلاحيتها, لضبط الفعل الإنساني في إطار الخلافة الإنسانية في الأرض, يكشفها مشهد الهبوط الإنساني إلى الأرض, فتدور الحياة التفاعلية بين الناس, في إطار تلكم القيم, وتنضبط بها.
وبهذا, تخرج الحياة من إطار العبثيّة, إلى إطار الفعل الخلاّق والمسؤول, وصولاً إلى مستقرِّ السلامة والسعادة, الذي يثمر للإنسانيّة ترقِّيها في معارج التزكية والعمران, بما ينسجه التوحيد كمنهج للخلافة, الذي جاء به الوحي: قرآناً, وسنّةً.
الخاتمة:
يتعرَّضُ الإسلام إلى تحدِّيات شرسة, منها ما كان من قبيل الشبهة المقصودة, أو من سوء فهم, أو قلَّة تدبُّرٍ, ما يدفع باتّجاه متابعة مصادره ولا سيّما الوحي:قرآناً وسنّةً, واستهداء هديهما بما يحقِّق الفهم الصحيح لمنهج التوحيد الذي جاء الوحي به, وبما يكوِّن خبرةً للردِّ على تلكم الشبهات وإساءة الفهم والقصور؛ ويخرجنا عمّا ننتقد به المستشرقين من تجاهل الوحي وعالم الغيب, ما يوفِّر أبرز عوامل بناء استراتيجية الردِّ عليهم, ممّا يتّصل بكلِّ ما يدخل في الإسهام ببنائها, عدا ما يكون من فهم الواقع, وإنـزال تلكم القضايا المأخوذة من الوحي على الواقع الذي أمرنا القرآن والسنةُ بقراءته, والذي يعتمد العمل الإنسانيَّ المسؤول في إطار الإصلاح بوصفه المهمّة الأولى في خلافة الإنسان في الأرض.
والتصدّي للاستشراق “العدائيّ” يتطلب التركيز على أمور أبرزها: استحضار دوافعه, وبيان جذوره اليهودية والنصرانية والعلمانية, وهو أمر يكشف بالتالي عن استراتيجياتهم في التصدّي للإسلام, مثلما يكشف عن تكتيكاتهم الجزئية في نفس الإطار؛ فكونهم أصحاب كتاب يكون من المفيد محاولة توجيه الخطاب الدعوي لهم, بانتخاب قضايا بيَّن الوحي جدواها مع من يرجى إيمانه منهم, ومن ذلك:
1.دعوتهم إلى كلمة سواء, تتأسس على التوحيد وخلوصه لله تعالى, بما حوته مصادرهم قبل تحريفها, والدعوة إلى كلمة سواء تكشف عن موقف متوسط من الجدل, يراعي عوامل الاشتراك, وتبدأ عملية النقاش في قضايا الاشتباك, لتفنيد ما خرج منها عن السوية, والكلمة الفصل في ذلك لمنهج التوحيد, الذي رسم حدود الكلمة السواء, وينبذ ما تجاوزه, وهو ما يتطلب من الباحث في قضايا الاستشراق النظر لما كان في كتبهم المقدّسة, ولما قالوه, ممّا يقبله منهج السوية.
2.التأكيد على قضية تصديق القرآن الكريم على التوراة والإنجيل, بما يكشف عن: وحدة التنـزيل ومصدره, وعن صدقية القرآن الكريم نفسه, وفق قوله تعالى: (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ) (البقرة:41), ما يؤكِّد أنَّ إيمانهم بالقرآن قرين اكتشافهم تصديقه لما معهم.
3.التأكيد على ما جاء في سياق (الأعراف:155-157), في قضيّة الرحمة, ورفع الإصر والأغلال, فهي قضايا تاقت نفوس بني إسرائيل إليها, ولم يحقِّقها سوى القرآن.
4.التأكيد على حفظ القرآن الكريم, وتحريف ما قد كان من سابق التنـزيل, سواء في إطار البيان المقارن, أو الإعجاز والتحدِّي.
ومن بين ما يسمح بالحوار معهم, بل ويستدعي السعي إليه, قضيّة الأقومية, التي تؤكِّد على: ضرورة الانطلاق من القرآن, وعلى حتمية التفوّق فيها بترجيح مَنْ يهدي للتي هي أقوم, فيكون ما سواه – ومهما كان مصدره- مرجوحاً.
فنحن -إذن- أمام استراتيجية تتضمن ما يتجاوز الدفاع والتصدي والرد, إلى بناء خطاب دعويٍّ بشريٍّ مؤسس على خطاب القرآن والسنة, وهو أمر يستدعي مراعاة البحث في قضايا جاذبةٍ – تثير فضول المدعويين المعرفي – من مثل:
1.البعد المقاصدي: فللقرآن الكريم والإسلام غايات عليا.
2.البعد القيمي: بوصف القرآن ضابطاً للفعل الإنساني.
3. البعد العالمي: بوصف القرآن خطاباً إنسانياً.
4.البعد التشريعي المحكم الحكيم: بوصف القرآن تعبيراً عن الإرادة الإلهية الشرعية, في إطار ما يوافق الإرادة الكونية.
5.والبعد الإرشادي: بوصف القرآن الكريم محتوى تعليميّاً تربويّاً.
ولابدّ للمسلمين- كونهم أمّةً- من التعامل مع موضوع الاستشراق, وما يشاكله في إطار ثلاثة أبعاد:
الأول: البعد الخيريّ للأمة, والانطلاق منه إليهم بدعوتهم للانتساب إليها.
الثاني: البعد الوسطي: بتحقيق الشهود الحضاري, لفهم واقع الغرب وفهم سماته ومعاناته.
الثالث: البعد العالمي, فهم شركاؤنا في: الاستقرار, والاستمتاع, والاستقامة.
وهو أمر يخرجنا – مع ما تقدَّم- من السجال في دائرة الفعل ورد الفعل, بما يجعل الفكر محصورا في الجزئيات ومتغافلاً عن تلكم الكليات.
* * *
الهوامش
(1) د. مازن بن صلاح مطبقاني, الاستشراق, “محاضرات” ألقاها قسم الاستشراق/ كلية الدعوة بالمدينة المنورة/جامعة الإمام محمد بن سعود, ص3.
(2) مطبقاني, المصدر السابق, ص2.
(3) من مثل من يجعل الدراسات الاستشراقية في إطار محاولة الغرب لإخضاع المسلمين, وكونه تربُّصاً بهم. أ.د. إبراهيم محمد الفيومي, الاستشراق في ميزان الفكر الإسلامي, القاهرة: 1414هـ/1994م, سلسلة قضايا إسلامية, تصدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف, ص 10, وما نقله فيها عن إدوارد سعيد.
(4) أ.د. عبد القهار داوود عبد الله العاني, الاستشراق والدراسات الإسلاميّة, ط1, دار الفرقان, عمّان: 1421هـ/2001م.
(5) د. محمود ماضي, الوحي القرآني في المنظور الإستشراقي ونقده, دار الدعوة, الإسكندرية, ط1, 1416هـ/1996م.
(6) محمد خليفة. الاستشراق والقرآن العظيم. ترجمة: مروان عبد الصبور شاهين, دار الاعتصام, القاهرة: 1414هـ/1994م.
(7) أ.د. عماد الدين خليل, المستشرقون والسيرة النبوية, دار الثقافة, الدوحة: قطر: 1401هـ/1989م. و أكرم ضياء العمري. موقف الاستشراق من السيرة والسنّة النبوية, دار أشبيلية, الرياض: 141هـ-1997م.
(8) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني, “أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها التبشير- الاستشراق-الاستعمار, دراسة وتحليل وتوجيه, سلسلة أعداء الإسلام (3), ط8, دار القلم, دمشق: 1420هـ/2000م.
(9) عبد الله يوسف سهر محمد, مؤسسات الاستشراق والسياسة الغربية تجاه العرب والمسلمين, مركز الإمارات للدراسات والبحوث, ط1,الإمارات: 2001م.
(10) جوستاف بفانموللر, الإسلام في الفكر الاستشراقي, ترجمة: الدكتور محمود حمدي زقزوق, هامش ص 106.
(11) المصدر السابق, ص 105.
(12) إدوارد سعيد, الاستشراق: المعرفة, السلطة الإنشاء, ترجمة كمال أبو ديب, ط2, دار الكتاب الإسلامي, مدينة قم, 1984م, ص 328.
(13) محمود حمدي زقزوق, الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري, سلسلة كتاب الأمة, العدد 5, الدوحة, 1404 هـ, ص 55.
(14) يوهان فوك, تاريخ حركة الاستشراق, ترجمة: عمر لطفي العالم, دار المدار الإسلامي, بنغازي, ط1: 200م, ص 205.
(15) أ.د. عبد الرحمن بدوي, موسوعة المستشرقين, ط3, دار العلم للملاين, بيروت: 1993, ص 529.
(16) يوهان فوك, مصدر سابق, ص 290.
(17) يوهان فوك, مصدر سابق, ص 251.
(18) مطبقاني, مصدر سابق, ص 5.
(19) محمود حمدي زقزوق, مصدر سابق, ص 55.
(20) علي بن إبراهيم الحمد النملة, مصدر سابق, ص 11, “المقدمة”.
(21) محمود زقزوق, مصدر سابق, ص 58 وما بعدها.
(22) ينظر؛ ريتشارد سوذرن, صورة الإسلام في العصور الوسطى, ترجمة: رضوان السيد, بيروت, معهد الإنماء العربي,1984م, ص 36, وينظر: مطبقاني, مصدر سابق, ص 8.
(23) مطبقاني, مصدر سابق, ص9.
(24) د.قاسم السامرائي, الاستشراق بين الموضوعية والانفعالية, ط1, دار الرفاعي, الرياض: 1983, ص 102.
(25) انظر ترجمته بتوسع في كتاب الدكتور قاسم السامرائي. مرجع سابق الصفحات 110-140.
(26) مطبقاني, مصدر سابق, ص 9.
(27) راجع كتاب , عبد الله يوسف سهر, محمد, مؤسسات الاستشراق والسياسة الغربية تجاه العرب والمسلمين, مركز الإمارات والبحوث الاستراتيجية, ط1, 2001.
(28) مطبقاني, مصدر سابق, ص 10.
(29) –C. E. Bosworth, et al.(ed.) The Islamic World From Classical To Modern Times. (Princeton,1989)p. p. IX-X and Also Who’s Who in the USA 1989. نقلاً عن رسالة الدكتوراه التي أعدها الباحث بعنوان منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، ونشرت لدى مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض عام 1416بعنوان: الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، ص 69 وما بعدها.
(30) مطبقاني, مصدر سابق, ص 11.
(31) يوهان فوك, مصدر سابق, ص 251.
(32) نفس المصدر السابق.
(33) أ.د. علي بن إبراهيم الحمد النملة, مصدر سابق, ص 15.
(34) د.مصطفى السباعي, الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم, دار الوراق, والمكتب الإسلامي, ص 17.
(35) أ. د. عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، مرجع سابق. وبالرغم من أن كثيراً من المستشرقين ينتقدون منهج لامانس لكنك تجدهم يرجعون إليه ويستندون إلى بعض آرائه ومن هؤلاء توماس آرنولد في كتابه (الخلافة).
(36) أ.د. عبد الرحمن بدوي, مصدر سابق, ص 538.
(37) كالجامعة اليسوعية والجامعة الأمريكية في لبنان, والجامعة الأمريكية في القاهرة, وفي اسطنبول, والكلية الفرنسية في لاهور. محمد البهيّ, المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام, مطبعة الأزهر, (الجامع الأزهر/الإدارة العامة لثقافة الإسلامية), بلا تاريخ ص 9-10.
(38) أ.د. علي إبراهيم الحمد النملة, ص 16. وينظر؛ د. مازن مطبقاني, الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي, دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس, الرياض, مكتبة الملك فهد الوطنية, 1416هـ, 1995م, ص 72-73.
(39) من هذه البحوث التكميلية دراسة بعنوان (أساليب المستشرق قولدزيهر في عرضه للإسلام:دراسة استقرائية) قدمها الطالب علي بن عبد الله بن محفوظ. عام 1410.
(40) محمد جلاء إدريس, الاستشراق الإسرائيلي, العربي للنشر, ط1, القاهرة: 1416هـ/1995م, ص87. وينظر؛ إبراهيم عبد الكريم, الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل, دار الجيل للنشر, عمان, ط1, 1993م.
(41) جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص 107- 108.
(42) جوستاف بفانموللر, ص113-114.
(43) جوستاف بفانموللر, المصدر السابق. ص 122- 124.
(44) جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص 146-148.
(45) وهو قائم بأعمال ملك السويد في بلاط إسطنبول, ولد في 1740م. انظر, جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص 110-111.
(46) جوستاف بفانموللر, ص 120-122.
(47) جوستاف بفانموللر, ص124-129.
(48) وهو مستشرق أمريكيّ عمل أستاذاً في معهد اللاهوت بهارت فورد, وشارك صمويل زويمر في إنشاء مجلة عالم الإسلام, وشارك سارتون في إنشاء مجلة إيزيس. انظر؛جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص129.
(49) جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص 129- ص 134.
(50) مستشرق إنجليزي, (1858-1840), جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص 135.
(51) جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص135- ص 137.
(52) مستشرق ألماني, صاحب كتاب: “الدين الإسلامي وحضارته”. انظر؛ جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص139- ص 140.
(53) مستشرق ألماني, صدر له كتاب: “وضعنا الديني الكنسي في صلاته التاريخية” في العام 1920. انظر
(54) مستشرق ألماني, عالج ما ذكرنا في كتابه”غروب الحضارة الغربية”. انظر؛ جوستاف بفانموللر, ص142.
(55) مستشرق دانماركي, نشر كتابه في 1914. انظر؛ بفانموللر, المصدر السابق, ص143.
(56) مستشرق دانماركي, له بحوث متنوعة في الإسلام. جوستاف بفانموللر, المصدر السابق, ص144.
(57) د. عبد العظيم الديب, المنهج عند المستشرقين, مصدر سابق, ص 344. وينظر؛ محمد أسد, الإسلام على مفترق الطرق, ط9, ص 52-60.
(58) مستشرق ألماني. انظر؛ عبد العظيم الديب, المنهج عند المستشرقين, المصدر السابق, ص 341.
(59) انظر؛ نفس المصدر السابق.
(60) عبد العظيم الديب,المنهج عند المستشرقين, المصدر سابق, ص342.
(61) جوستاف بفانمللر, مصدر سابق, ص141.
(62) د. أحمد عبد الرحيم السايح, الاستشراق ومنهج نقده, ص 447.
(63) سعدي, ياسين, البرهان في سلامة القرآن من الزيادة والنقصان, المكتب الإسلامي, دمشق: 1398هـ/1978, ص86.
(64) انظر؛ ما كتبه ميشيل عفلق في هذا السياق, ضمن أدبيات حزب البعث العربي الإشتراكي, ومقولته”لقد كان محمَّدٌ كلُّ العرب, فليكن اليوم كلُّ العرب محمّداً” يريد بذلك أن ينسب الثورية لمحمد, وليس الرسالة, التي كان شعار الحزب نسخاً لها, ولمقتضى تصديقها من الشهادتين, فشعار الحزب: أمة عربية واحدة, ذات رسالة خالدة”, لتحل محل: أشهد أن لا إله إلا الله, وأنَّ محمداً رسول الله. وانظر في هذا الإطار, شبلي العيسمي, عروبة الإسلام وعالميته, دار الطليعة, بيروت, ط1: 1985م. وينظر؛ مصطفى جابر العلواني, عالمية الخطاب القرآني دراسة تحليلية في السور المسبحات الخمس, رسالة ماجستير, جامعة الجزيرة, 2004م, ص 39-40.
(65) أبو الحسين مسلم النيسابوري, الجامع الصحيح”صحيح مسلم”, دار الجيل, ودار الآفاق الجديدة, بيروت: باب ثواب المؤمن, ج 8, مجلد 4, ص 16. “عن عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى. قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ rقَالَتْ إِنِّى أُصْرَعُ وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى. قَالَ «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. قَالَتْ أَصْبِرُ. قَالَتْ فَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا”.
(66) جاء في إنجيل متّى 10/11, تحت عنوان: “يسوع والعالم”: لا تظنّوا أنّي جئت لأرسيَ سلاماً على الأرض. ما جئت لأرسيَ سلاماً بل سيفاً. فإنّي جئت لأجعل الإنسان على خلافٍ مع أبيه, والبنت مع أمّها, والكنَّة مع حماتها. وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته”. مقطع 34-36 ص31. الإنجيل كتاب الحياة, ط5, IBS 1982.
(67) د. مصطفى السباعي, المستشرقون ما لهم وما عليهم, مصدر سابق, ص 18. وينظر؛ أ.د. عماد الدين خليل, المستشرقون والسيرة النبوية, مصدر سابق, ص15.
(68) ينظر, د. أحمد السايح, مصدر سابق, ص 452.
(69) المصدر السابق نفسه.
(70) القرطبيّ, محمّد بن أحمد بن أبي بكر أبو عبد الله, الجامع لأحكام القرآن, تحقيق: أحمد عبد العليم البردّونيّ, ط2, دار الشعب, القاهرة: 1372هـ, المعروف بـ “تفسير القرطبي”, الشورى:13.
(71) ينظر؛ الحسين بن مسعود الفراء البغوي أبو محمد, معالم التنـزيل, تحقيق: خالد العك ومروان سوار, دار المعرفة, بيروت, ط2: 1407هـ/1987م, المعروف ب”تفسير البغوي”, الشورى:13.
(72) صحيح مسلم, مصدر سابق, باب: معرفة الإيمان, ج1, مجلد 1, ص 28, رقم الحديث 102.
(73) البيضاوي, تفسير البيضاويّ, تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسّونة, دار الفكر, بيروت: 1416 هـ/1996م, المعروف بـ”تفسير البيضاوي”, العنكبوت:51.
(74) جلال الدين السيوطي, الدر المنثور, دار الفكر, بيروت: 1993م, ج6, ط376.
(75) صحيح مسلم, مصدر سابق, ج7, مجلد 4, ص 89, باب في أسمائه عليه الصلاة والسلام, رقم الحديث 2526.
(76) أحمد بن حنبل, مسند أحمد بن حنبل, مؤسسة قرطبة, القاهرة, ج2, ص212, رقم الحديث 6981.
(77) صحيح مسلم, باب الغنيمة, ج 4, مجلد 2, 123, رقم الحديث 1195.
(78) تفسير البغوي, “الحج:67”.
(79) صحيح مسلم, مصدر سابق, ج8, مجلد 4, ص10, رقم الحديث: 6706.
(80) النابلسي, عبد الغني بن إسماعيل,حقائق الإسلام وأسراره, دراسة وتحقيق: عبد القادر أحمد عطا, القاهرة: ط1، 1406هـ/1986م، ص92-93.
(81) البيهقيّ، كتاب الأسماء والصفات, مرجع سابق، ص360. وينظر؛ الغزاليّ, أبو حامد محمّد بن محمّد. جواهر القرآن, تحقيق: محمّد رشيد رضا القبانيّ, بيروت: دار إحياء العلوم, ط1، 1985م, ج1, ص25-27.
(82) الغزاليّ, أبو حامد محمّد بن محمّد, المصدر السابق نفسه.
(83) الدارمي, عثمان بن سعيد. الردّ على الجهميّة, قدّم له وخرّج أحاديثه: بدر البدر, الكويت: الدار السلفيّة، ط1، 1405هـ/1985م, ص13-14.
(84) فمصدر معرفة الأسماء والصفات هوالقرآن الكريم والسنّة المطهّرة. انظر: النابلسي, عبد الغني بن إسماعيل, مصدر سابق, ص92-93.
(85) الصلاّبي, عليّ محمّد. صفات ربّ البريّة على العقيدة السلفيّة, الشارقة: مكتبة الصحابة، ط1, 1422هـ/2001م, ص148-158.
(86) السيوطي, جلال الدين. لباب النقول في أسباب النـزول, بذيل تفسير الجلالين, مراجعة وضبط: أحمد خالد شكري, دمشق: دار ابن كثير، ط9، 1419هـ/1998م, ص111-114.
(87) المرجع السابق, ص201, ص258.
(88) اقرأ: الواقعة: 83-87.
(89) الأقومية بوصفه مفهوماً تلقيته لأول مرة يطرق فيها مسامعي عن مشرفي في الدكتوراه وموجهي فيها أ.د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل, في إطار توجيهاته لي خلال دراستي.
(90) د. طه جابر العلواني, التوحيد والتزكية والعمران, محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة, ط1, دار الهادي, بيروت: 1424هـ/2003م. وينظر؛ مصطفى جابر العلواني, القيم السياسية العالمية في الخطاب القرآني, مدخل منهاجي لدراسة العلاقات الدولية, دراسة تحليلية مقارنة, رسالة دكتوراه, جامعة أم درمان الإسلامية, 2008م, ص13.
(91) القرضاويّ، يوسف. شريعة الإسلام: خلودها, وصلاحها للتطبيق في كلِّ زمان ومكان, بيروت ودمشق: المكتب الإسلامي, ط4, 1407هـ/1987م.
(92) ينظر؛ العالم, يوسف حامد. المقاصد العامّة للشريعة الإسلاميّة, فرجينيا- الرياض: الدار العالميّة للكتاب الإسلاميّ, المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ, ط2، 1415هـ/1994م. وراجع كتابات أستاذنا والمشرف على دراساتنا التخصصية: أ.د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل, ومنها: إسماعيل, سيف الدين عبد الفتاح. العلاقات الدوليّة في الإسلام: مدخل القيم: إطار مرجعيّ لدراسة العلاقات الدوليّة في الإسلام, القاهرة: المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ, ط1، 1419هـ/1999م.