الحمد لله القائل في الكتاب العزيز: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [سورة الكهف 18/109]. وبعد
فلم يكن هذا المفتتح مقصودًا به الوقوف عند حدود التأسي بواحد من أخلاق المؤلفين في الحضارة العربية الإسلامية؛ بتأثير من الروح التي بثها في أوصالها الذكر الحكيم فقط.
وإنما المقصود منه بجوار ما سبق أن يكون مدخلاً لبيان السياق المعرفي لهذه المحاولة التأصيلية في سعيها للكشف عما يسمى باسم مفاتيح التعامل مع التراث العربي الإسلامي؛ ذلك أن قولاً من أقوال أهل التفسير في توجيه البحر “أنه العلم بالقرآن” كما قال مجاهد، رضي الله عنه، على ما أخرجه الماوردي في النكت والعيون (2/ 575).
وهو ما هداني إلى أن أقرر أن التراث العربي الإسلامي متمدد جدًّا، بسبب كونه في الحقيقة حاشية موسعة على الكتاب العزيز، تخطب وده، وترجو رضاه!
جاء هذا البحث استجابة لدعوة كريمة من مركز (تراث) بالقاهرة، لإلقاء محاضرتين في الدورة العلمية التي كان عنوانها: (مدخل إلى التراث العربي الإسلامي: المقدمات) على امتداد يومين هما: الجمعة والسبت من شهر رجب المحرم 1435هـ الموافق 16 و17 من مايو 2014م، وكان مما جاء في خطاب الدعوة والتكليف: “غني عن الييان أن التراث المكتوب لأي أمة هو ذاكرتها الفكرية، والمقصود بتلك الذاكرة: مجموع الأفكار التي نشأت في تلك الأمة، وكيف نشأت؟ وفي أي سياق تاريخي نمت، وتطورت…؟ وأي نوع من الأفكار هي؟ وما المناهج والأساليب التي اعتمد عليها العالِمُ المسلم في توليد هذه الأفكار؟ وما طبيعة التنوع المعرفي الذي امتازت به تلك الأفكار؟”. ثم أردفت الدعوة فكلفتني بالقيام بعبء “عرض التنوع المعرفي للتراث العربي، ومحاولة استنباط مفاتيح للتعامل مع هذا التراث المتنوع الممتد”!
وقد جاءت الدعوة أو التكليف واعية بالفراغ المروع الذي تشهده مكتبة الأدبيات المعاصرة في ميدان التعامل مع التراث، وهو ما تجلى في إحسان تعبيرها عن مطلوبها بقولها: استنباط!
وقد كان لزامًا عليّ بشكل منهجي أن أستعرض المقاربات المعاصرة لمفهوم التراث، ليكون هذا الاستعراض والتحليل بوابة الولوج إلى عالم استنباط مفاتيح التعامل مع التراث العربي الإسلامي تكشف عن طريقة عمل العقل في استنباطها، وتفسر- إلى حد ما- ما سوف يعلق بها من تنوع وتراتب.
لقد كانت جدة الموضوع، وخطورة القضية داعيين إلى طول المكث والتأني والتواضع معًا.
وهو ما عبرت عنه في عنوان البحث الجانبي عندما قلت: إنها محاولة تأصيلية، تحتاج إلى أن يردفها المختصون والمهتمون بشئون التراث العربي الإسلامي بالفحص والاختبار من جانب، وتقديم النصح لصاحبها.
إنني على يقين أنني أشبه الجراح الذي أسند إليه مهمة إنقاذ حياة نفر جليل من الخلق؛ ولذلك فالمهمة شاقة جدًّا؛ لأن نتائجها المرجوة خطيرة جدًّا ربما غيّرت بعضًا من مسارات عدد من الباحثين والمحققين والمثقفين معًا.
إنني أكتب هذه المحاولة بعد إذ حاضرت بها نفرًا من كرام الدارسين، وبعد إذ رأيت تأثيرها في بعض منهم، ورأيت عنف مواجهتها، ومناقشة طرحها؛ بسبب ما تتبناه من رؤى، وتطرحه من تفريعات، وحسبي أنني حاولت بها تحقيق انتعاشة روح رأيت نفسي مسئولاً عن انتعاشتها.
والحمد لله الذي أعان، وأسأل القبول.
(1) مدخل: في الطريق إلى شجرة النور!
لم يزل يمثل التراث العربي الإسلامي –وسيظل- الخطوة الأولى التي لا بد منها في الطريق إلى إحياء هذه الأمة؛ بتقدير طبيعتها التي تأسست بسبب من الإيمان بالتصور الجديد الذي جاء به الإسلام للوجود والحياة، وبسبب من أن هذا التراث تفجرت ينابيعه من إرادة خدمة الكتاب الأعظم لهذا الدين العظيم، حتى صح ما يقال إن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة استوعبت كل جنبات الوجود الإنساني في تعالقاته السماوية والأرضية، المادية والروحية معًا. وبسبب من أنّ تجليات هذا التراث صدرت – ساعة صدرت- حاملة خصائص الدين، ومصطبغة بطوابعه، ومسقيّة بمائه.
من أجل ذلك كله فإن الانشغال بالبحث عن مفاتيح التعامل مع التراث العربي الإسلامي يمثل نقطة محورية لكل المتعاملين معه، أيًّا ما كانت المقاربة التي يلتزمها في فهمه لمفهوم التراث.
لقد سبق مني في مقالة مطولة نسبية أن وقفت أمام مقاربتين أساسيتين لمفهوم التراث هما (انظر: في تحقيق النصوص ونقد الكتب، دار الكتب المصرية، القاهرة، 2013م، ص15):
أولاً-مقاربة مفهوم التراث الذي هو المنجَز المكتوب الذي خلَّفه لنا الآباء والأجداد من علماء الأمة، وهو المفهوم الذي يدور حوله علم تحقيق النصوص بالمعنى المهني، وهي المقاربة التي افتتح التبشير بها، وخدمها تأصيليًّا الراحل الكريم عبد السلام هارون، المتوفى 1988م ومعه أو قريبًا منه الراحل الكريم عبد الرحمن المعلمي المتوفى 1386هـ = 1966م، ونظمها، وأتم مساراتها التطبيقية الراحل الكريم رمضان عبد التواب المتوفى 2001م. (انظر: التراث العربي، 1978م ص14، ورسائل المعلمي 23/ 114، ومناهج تحقيق النصوص، ص8).
ثانيًا-مقاربة مفهوم التراث بما هو أوسع من المغزى الفكري المكتوب، الذي يتسع ليضم المكتوب والنظم والمدركات، وهي المقاربة التي استنبتها في التربة المعاصرة الراحل الكريم حامد ربيع المتوفى 1989م في مقدمة نشرته لكتاب ابن أبي الربيع: سلوك المالك إلى تدبير الممالك (انظره: 1/ 18).
لقد التقت هاتان المقاربتان واتفقتا على مجموعة محددات مركزية هي:
أولاً-وجوب الإيمان بالتراث.
ثانيًا-وجوب إحياء التراث.
واختلفتا في الوجهة والغاية. فتوقفت المقاربة الأولى عند حدود التطبيقات الإيمانية بالتراث العربي الإسلامي عند ما يلي:
أولاً-تحقيق نصوصه، بكل ما يحيط بهذا التحقيق من تنظير ووسائل مساعدة.
ثانيًا-نقد النشرات المحققة.
ثالثًا-الدفاع عنه.
رابعًا-تخريج أجيال جديدة من المحققين.
وتجاوزت المقاربة الثانية إلى آفاق أرحب وأوسع مدى من أختها، لتقرير أن وظائف الإحياء للتراث متنوعة تستوعب ما عُنيت به المقاربة الأولى، وتتجاوز إلى غيره مما هو معدود في الحقيقة الوظيفة الأم لكل عمليات العناية بالتراث والإيمان به وهي:
●وظيفة فهم الذات؛ واستعادة الإنسان العربي المسلم لهويته، في إطار من نسق يلزم استعادته أيضًا.
لقد كانت هاتان المقاربتان اللتان صدرتا عن إيمان بالتراث، وشعور غامر بضرورة استنقاذ الإنسان العربي المسلم من بين التيه الذي بُني فوقه في التاريخ الحديث والمعاصر- باعثتين على ضرورة البحث عن مفاتيح التعامل مع هذا التراث العريق الممتد؛ لكي نصل إلى شجرة النور!
إن شجرة النور هذه هي التراث العربي الإسلامي الممتد بنصوصه وفروعه وأوراقه وثرياته!
(2) هل ثمة شرعية للعنوان؟
إن واحدة من أهم ما ميَّز الثقافة العربية الإسلامية هي ارتكازها على مبدأ التيسير، واستبطانها تذليل العقبات في طريق الحياة. وهو المدخل الفكري الذي يسوّغ البحث في مفاتيح التعامل مع التراث العربي الإسلامي بما هو سعي نحو تهيئة المناخ بصورة عملية من أجل فهم التراث والإيمان به، وخدمته بالإحياء، وتفعيله في فهم الذات واكتشافها واستثماره من أجل استعادة الذات الفردية والجماعية للأمة بعد زمان من الخبط في بيت التيه المعاصر.
وقديمًا تنبه المجتمع المعرفي العربي الإسلامي إلى نوع من المفاتيح في بعض المجالات المعرفية، وهو تجلى عنوانًا لكثير من الأدبيات في ميادين متنوعة، من مثل:
أ- مفاتيح العلوم، للخوارزمي الكاتب المتوفى 387هـ.
ب- مقاليد العلوم، المنسوب للسيوطي المتوفى 911هـ (وانظر قائمة طويلة بما حمل لفظة المفاتيح في عنوانه في كتاب: كشف الظنون، لحاجي خليفة، 2/ 1755، طبعة دار الفكر (مصورة)، القاهرة 1982م).
وهذان الكتابان تعيينًا يدخلان بنا إلى المقصود هنا من أقرب طريق، لأنهما صنعا في الحقيقة ليكونا أداة دالة للدخول إلى عوالم العلوم المختلفة في هذه الحضارة العريقة.
ومن ثم فإن استعمال لفظة المفاتيح في باب البحث عن آلات التعامل مع التراث العربي الإسلامي يمتلك الشرعية اللغوية والدلالية والتاريخية الاستعمالية معًا، وهو ما يمنح مستعمليه ومستقبليه معًا نوعًا من اطمئنان حقيقي عند الاطلاع عليه، وتداوله في أروقة البحث التراثي.
وهذا الاستعمال وإن كان كافيًا في سياق البحث عن شرعية استعمال المفاتيح بمعناها المادي في باب التعامل مع التراث، يستند إلى دليل ظاهر في دعم شرعية استعماله، وهو وروده في الذكر الحكيم مرتين هما:
الأولى:(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) [سورة الأنعام 6/ 59].
والآخرة:(أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ) [سورة النور 24/ 61].
إن هذين الموضعين يفتحان الباب أمام مجموعة كبيرة من المعاني الكامنة في الخلف من استعمال المفردة (مفاتح) تنطق بامتلاك الخزائن المكتنـزة، وتنطق كذلك بتوافر الخير العميم المستوعب الشامل.
وهو ما قصد إليه القاصدون عند إطلاق استعمال مفاتيح على أدوات التعامل مع التراث؛ إذ رأوا في هذا التراث كنوزًا متراكبة مودعة في خزائن؛ هي أوعيتها المادية، ولا سبيل إلى استثمار الكنـز بغير كشاف، واستخراج، وفحص، وتقييم، وتثمين. وهي جميعًا عمليات تالية لما بعد استعمال المفاتيح.
والمفاتيح، جمع: مفتاح، وهو اسم آلة مشتق، على وزن قياسي، وهو يدور حول معانٍ ودلالات مركزية صالحة ومرادة جميعًا هنا، وهي:
أ- المفتاح: آلة الفتح.
ب- المفتاح: آلة الحركة.
ج- المفتاح: آلة التهيئة.
د- المفتاح: آلة التوصيل.
هـ- المفتاح: آلة الإضاءة.
و- المفتاح: آلة التشغيل.
وهذه المعاني جميعًا وغيرها مما يدور في فلكها صالحة ومرادة في سياقنا. وثمة معانٍ أخرى هامشية يمكن التقاطها من سياقات استعمالها في اللغة؛ من مثل:
أ- المفتاح: آلة للتحكم والحسم. (من فتح بمعنى حكم).
ب- المفتاح: وسيلة رزق.
إن هذه المعالجة تقصد إلى فحص مجموعة من الأدوات والآلات المادية والمعنوية مما تتخذها وسائل إلى التعامل مع مادة التراث العربي الإسلامي. وهو الأمر الذي يعني منذ زمان بعيد حرص هذه الحضارة على إتاحة المعرفة، وبذلها للناس جميعًا، وهو المعنى الظاهر من العناية البالغة بثقافة التباحث حول المفاتيح!
(3) أنواع مجموعات المفاتيح اللازمة للتعامل مع التراث العربي الإسلامي:
إن تراثًا بهذا التنوع المعرفي، وبهذا الامتداد في الزمان والمكان، وبهذا الكم، يفرض نظريًا الدخول على عالمه مجموعة من المفاتيح والأدوات اللازمة للتعامل معه. إن تأمل شكلاً من أشكال مستويات حضور المفاتيح في الكتاب العزيز ربما تسهم في تفهم مسألة كيف يكون الدخول إلى عالم ما من العوالم مستلزم مجموعات من المفاتيح لا مفتاحًا واحدًا، ولا مجموعة واحدة؛ يقول تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [سورة القصص 28/ 76]. وقد فسّرت المفاتح في الآية الكريمة في واحد من تفاسيرها بمفاتيح خزائنه [انظر: النكت والعيون، للماوردي، تحقيق خضر محمد خضر، دار الصفوة، ووزارة الأوقاف الكويتية، القاهرة، والكويت، 1413هـ = 1993م] (3/ 268). ويقول ابن عطية الأندلسي (المتوفى 546هـ) في تفسير الآية الكريمة (11/ 330 من المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد الله بن إبراهيم الأنصاري والسيد عبد السيد إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، مصورة عن طبعة الدوحة 1398هـ = 1977م): “والمفاتيح: ظاهرها أنها التي يفتح بها”. وهذا الذي قرره ابن عطية الأندلسي سبق ورواه الطبري (المتوفى 310هـ) في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ومركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية، بدار هجر، القاهرة، 1422هـ = 2001؛ 18/ 312)وعن خيثمة ومجاهد قالا: “كانت مفاتح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة”.
إن كثرة مفاتح كنوز قارون دالة نصًا وعقلاً على كثرة ثرواته وهو ما يفسر استلزامها كثرة المفاتيح. والاستنتاج حامل على أن نقرر أن تمدد التراث العربي الإسلامي وثرائه مستلزم كثرة مجموعات المفاتيح؛ من أجل الدخول إلى عوامله والتعامل معه.
وقد سعيت إلى محاولة، لعلها الأولى فيما أعلم، أن أجتهد في جمعها، وتنظيمها، وترتيبها. وقد كان الحاكم في عمليات جمعها وتنظيمها وترتيبها ما يلي:
أولاً-الإيمان بوحدة هذا التراث العربي الإسلامي.
ثانيًا-الإيمان بتنوعه، وتوزعه على ما به إقامة البدن وتزكية الروح، وعمران الوجود، وإرشاده إلى الله تعالى.
ثالثًا-امتداده في عمق الزمان.
رابعًا-امتداده على الخريطة الشاسعة للعالم العربي الإسلامي.
خامسًا-تنوع وظائفه.
سادسًا-تنوع مقاصده.
سابعًا-تنوع مجالات خدمته، وتنوع مسارات إحيائه؛ تحقيقًا ونشرًا، ودراسة وفحصًا، واستلهامًا وتفعيلاً، واستدعاءً وتنـزيلاً.
وقد أنتجت هذه المحاولة -التي ما تزال من وجهة نظري مجرد اقتراح مبدئي، أسوقه سوقًا أوليًا، مؤمنًا بأن خطر القضية التي يشتبك معها ويتغياها تفرض التواضع في الطرح، والبعد عن الحسم في العرض والفحص – تقسيم المفاتيح ثلاثة أقسام، لا يمكن أن تثمر الثمرة المرجوة منها إلا باستحضارها جميعًا، والتحرك بها جميعًا، وتشغيلها جميعًا، وهي كما يلي:
(3. 1) مجموعة المفاتيح الإدراكية: (مفاتيح الوعي).
(3. 2) مجموعة المفاتيح المعرفية.
(3. 3) مجموعة المفاتيح الإجرائية (الأدوات).
وفي ما يلي محاولة لبيان موجز يسعى إلى الكشف عن المقصود من كل مجموعة، وما يندرج تحتها من آحاد المفاتيح، أو وحداته:
(3. 1) مجموعة المفاتيح الإدراكية: (مفاتيح الوعي)
جديد التنبه إلى استعمال بعض الخصائص الذاتية مفاتيح للدخول إلى الثروات على ما هو حاصل في حفظ ودائع نفر من الأثرياء في المصارف العالمية، فيما يعرف بالبصمة الصوتية، وغيرها. ولعل الدافع إلى استثمار هذا النوع من المفاتيح كان مرده إلى تحقيق نوع تأمين وحماية زائدين. ولعله جديد من جانبي جمع ما سميته بمفاتيح الوعي اللازمة للتعامل مع التراث في سلك واحد.
ذلك أن الوعي في السياق الفلسفي والنفسي يمثل القمة في معرفة الذات لنفسها، ويمثل شيئًا أعلى من المعرفة، أو هو: “إدراك المرء لذاته وأحواله وأفعاله إدراكًا مباشرًا، هو أساس كل معرفة، وبه تدرك الذات أنها تشعر، وأنها تعرف”. (المعجم الفلسفي، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1403 هـ= 1983م؛ ص215 مصطلح 1117. وانظر علم النفس المعاصر، لبتروفسكي وياروسفسكي، تحرير سعيد الفيشاوي، وترجمة حمدي عبد الجواد وعبد السلام رضوان، ومراجعة الدكتور عاطف أحمد، دار العالم الجديد، القاهرة، 1996م). وأنا هنا أسوي بين الإدراك والوعي، وإن كانا يجمعهما رباط واحد في التحليل النفسي، وعلم النفس قاصدًا إلى أن أقرر أن الإدراك والوعي بطبيعة التراث العربي الإسلامي من الجوانب المختلفة هو أساس كل تعامل معه.
ومن ثم فإن المفاتيح الإدراكية في هذا السياق هي الأساس الذي يلزم تحصيله وامتلاكه والتحرك به بعد تحويله ملكة في النفس عند التعامل مع التراث. وهو ما يمكن تكثيفه في العناصر التالية:
(3. 1. 1) مفتاح إدراك روح التراث والوعي بخصائصه:
إن أول قطعة/ أو مفتاح من مفاتيح الوعي اللازمة للتعامل مع التراث العربي الإسلامي هو إدراك روحه وخصائصه الكلية العامة، والسر الكامن وراء ذلك كله هو الوعي بانبثاقه وولادته من التصور الإسلامي للوجود والحياة والكون؛ بمعنى ضرورة استصحاب جوهر الفكرة الإسلامية بربانيتها، وإنسانيتها، وتيسيرها، وطموحها نحو صناعة الإنسان، وتنمية مواهبه، وتزكية نفسه، وتحقيق العمران، ومراعاة الله تعالى، ومراقبته، والنظر إلى العلم على أنه دين وأمانة، وسبيل لترقي الإنسانية ماديًّا وأدبيًّا.
وهو الأمر الذي يلزم معه الإيمان بأنّ التراث العربي الإسلامي ما هو إلا حاشية موسّعة تسعى نحو تفسير الكتاب العزيز، وتفعيله الحي في الوجود الإنساني، وهو بعض ما يفسر لنا وللمتعاملين مع تنوعات هذا التراث العريق مجموعة من العلامات المصاحبة لتجلياته المادية، من مثل:
أولاً-اتساعه المدهش معرفيًّا، بحيث يمكننا من دون مبالغة أن نقرر أن خريطة معارفه لا تعرف منطقة مظلمة على الإطلاق. إن كل مدن هذا التراث وقراه، ونجوعه وحاراته، وطرقه، وأزمنته منيرة المصابيح، على ما في هذا التعبير من مجازية أرجو تقدير بواعثها!
ثانيًا-تراكمه المثير، ذلك أن ميادينه ومجالاته وفروعه لا تعرف اليتم؛ فلا يوجد ميدان أو فرع معرفي من شجرته لم يعرف التشابك والتنامي، والتكاثف.
ثالثًا-طموحه نحو الكمال بسبب من وعيه بالنقص المستولي على جملة الإنسان. لقد حرص العقل العربي المسلم على الإضافة المستمرة إلى ما ورثه من آبائه العلماء، تحقيقًا للوفاء لهم، وإيمانًا بأهميته وتنمية ما ورثوه، وهي روح منسربة مستقرة بسبب من التصور الإسلامي للحياة. وهو ما يفسر لنا ظهور تراث الاستدراك، والتكملات، والتنبيهات، وتصحيح الأغلاط، ورد الأوهام في ميادين هذا التراث ومجالاته وفروعه العلمية جميعًا.
رابعًا-سعيه لإبهاج الروح، وهو ما تجلى في القيم الجمالية والزخرفية التي ظهرت على أوعيته المادية. إن امتلاك هذا المفتاح من مفاتيح الوعي مؤذن بالإيمان بالتراث، والعطف عليه، وتقديره، والورع في محراب التعامل معه.
(3. 1. 2) مفتاح الوعي بمقاصد التراث العربي الإسلامي:
ومن جانب آخر فإن ثمة مفتاحًا آخر من المفاتيح الإدراكية واجب التحصيل، يتمثل في الوعي بمقاصد التراث العربي الإسلامي.
إن وعي عقول الأمة بطبيعة التصور الإسلامي الفريد للحياة والوجود، ووعيهم الذاتي المتمثل في فهمهم لذواتهم جعل من التراث الذي أنتجوه هو التجلي المادي والعقلي لمقاصد هذا الدين العظيم، فسعى هذا التراث إلى خدمة المقاصد العليا التالية:
أولاً-تحقيق التوحيد، وتنـزيه الله تعالى، والإدلال عليه.
ثانيًا-تحقيق التزكية، والسعي نحو الكمال الإنساني، والترقي الروحي.
ثالثًا-تحقيق العمران، بكل تجلياته المادية في البناء والتشييد، والطبيعة، والأثاث والملابس، والأطعمة والرياضة إلخ.
إن هذا النموذج – الذي جلاه الدكتور طه جابر العلواني في العصر الحديث لمقاصد الدين – يلزم تحصيله بما هو مفتاح إدراكي للتعامل مع عوالم التراث العربي الإسلامي.
وهو النموذج الذي ينفسح وينبسط في النموذج القديم لمقاصد الشريعة أو كلياتها المعروفة الواضحة في ما يلي:
أولاً-حفظ الدين.
ثانيًا-حفظ النفس.
ثالثًا-حفظ العقل.
رابعًا-حفظ العرض.
خامسًا-حفظ المال.
مضافًا إليها ما أضافه المقاصديون المعاصرون من أمثال: الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، وأحمد الريسوني من:
أولاً-تحقيق مقصد الحرية الإنسانية.
ثانيًا-تحقيق مقصد الكرامة الإنسانية.
وهذا المفتاح الإدراكي يتسع وينبسط ليحقق مجموعات من قوائم المقاصد التفريعية من مثل:
أولاً-بناء العقل، وتكوينه، وزيادة مروءة الإنسان.
ثانيًا-تقويم النظر، وتسديد الفكر.
ثالثًا-السلام المجتمعي، بمحاصرة أسباب الخلاف.
رابعًا-التيسير على عموم الدارسين والمتعاملين مع التراث.
خامسًا-العدل مع الدارسين والمتعاملين مع التراث.
إن تجليات هذا المفتاح الإدراكي مثمر جدًّا عند استصحابها وتحويلها إلى مفتاح بالمعنى اللغوي الذي سبق إيراده هنا- في باب التعامل مع التراث العربي الإسلامي- ومن شأنه أن يقضي على جبال من تراكمات السوء حلت بعالم التعامل مع هذا التراث المظلوم.
(3. 1. 3) مفتاح الوعي بآداب التعامل والسلوك مع التراث العربي الإسلامي:
لقد قدّر التراث العربي الإسلامي الإنسان الذي أنجز من أجله، فواجهه بما سمي في تاريخ التأليف في الحضارة العربية الإسلامية بآداب التأليف، وهو ما يفرض عند التعامل مع التحلي بنمط موازٍ من آداب التعامل! وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
لقد تنبه مثلاً، الدكتور فرانتز روزنتال إلى ما سماه: بآداب تصحيح النص واحترام الرواية (ص60). إن فحص مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي الذي اضطلع به روزنتال أوقفه على أن ثمة روحًا منسربة قيدها نفر من علماء المسلمين وضعت يدها على هذا المفتاح بضرورة التحلي بأخلاق التواضع والحدب على المنجَز العلمي للسابقين واستصحاب منظومة من الأخلاق السامية عند التعامل مع التراث، وهي الأخلاق التي أفرزت مجموعة من القواعد العلمية اللازم استصحابها عند تحقيق هذا التراث أو دراسته أو العناية به وبحفظه إلخ.
(3. 1. 4) مفتاح الوعي بوظائف التراث في الحياة المعاصرة:
إن الوظيفة بما هي الدور الذي يضطلع به صاحبه، تشير إلى أن على المتعامل مع التراث تحصيل الوعي بمجموعة من وظائف هذا التراث في الحياة المعاصرة. وأنا أظن ظنًّا هو إلى اليقين أقرب أن وظائف التراث غير محصورة ولا مقيدة، ولكننا بإمكاننا أن نشير إلى أهمية الوعي بكليات عدد من الوظائف هي:
أولاً- الوظيفة الإحيائية
وهي التي يستثمر فيها التراث لإعادة إحياء النفس العربية المسلمة، وهي التي سماها حامد ربيع بوظيفة فهم الذات، وهي متضمنة في عمقها الإيمان، والأخلاق، وتقدير اتصال الأرض بالسماء وانعكاسه على بناء الإنسان والمجتمع.
ثانيًا- الوظيفة الحضارية
وهي أن هذا التراث بإمكانه أن يهيأ للمجتمع العربي الإسلامي استعادة وضعه الحضاري على الأرض، بما يختزنه من مصادر القوة الكامنة.
ثالثًا- الوظيفة السياسية
إن هذا التراث قادر على توحيد العرب والمسلمين جميعًا بما يكنـزه في رحمه من محددات الوحدة.
رابعًا- الوظيفة اللسانية
إن التعامل مع هذا التراث بالشكل اللائق به من شأنه أن يحقق التعافي من أزمة اللسان العربي الذي يمثل أعظم بوابات الولوج إلى عوالمه. صحيح أن هذه الوظائف قابلة للزيادة عليها، لكننا دللنا على رءوسها الكبرى.
إن أول مجموعة من مفاتيح التعامل مع التراث العربي الإسلامي تمثل بحق أهم مجموعات المفاتيح من جهة تقدير الأوزان النسبية لمجموعات المفاتيح؛ ذلك أن الوعي هو الأساس، والأساس دائمًا يلزمه من الإنفاق، والوقت، والجهد ما لا ينازعه غيره فيه.
إن تقدير التراث هو البوابة العظمى للإفادة منه، ولا تقدير له بغير امتلاك مفاتيح الوعي بقيمته.
(3. 2) مجموعة المفاتيح المعرفية:
تمثل المعرفة: “ثمرة التعامل والاتصال بين ذات مدركة وموضوع مدرك” على ما تقرر في المعجمية الفلسفية (معجم الفلسفة، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1983م؛ ص186/ مصطلح 968). وهي هنا مستعملة بمعنى العلم؛ أي: الإحاطة بالشيء على ما هو عليه، وهذا المفهوم قديم موروث من بنية علم الأصول. على ما تقرر في الحدود في الأصول، لأبي الوليد الباجي (ص24، بتحقيق الدكتور نـزيه حماد، دمشق، 1392هـ)، ومن جاء بعده من أصحاب المعاجم الأصولية في العربية.
وتقدم المفاتيح المعرفية لتشغل المرتبة التالية للمفاتيح الإدراكية مقصود؛ ذلك أن ذلك الارتداف منطقي؛ لترتب المعرفة على الوعي. ومن هنا فإن الوزن النسبي للمفاتيح المعرفية اللازمة للتعامل مع التراث تلي في الدرجة الوزن النسبي لمفاتيح الوعي؛ لكنه لا ينبغي أن يفهم بمعزل عن مسألة ترابطهما، وتعالقهما، بشكل عضوي.
ومثلما وقفنا أمام المفاتيح الإدراكية الأربعة، وحاولنا إماطة اللثام عن مدى أهميتها لكل متعامل مع التراث العربي الإسلامي؛ وهو الوقوف الذي اجتهد في فك شفرة العلاقة بين أهمية تحصيل تلك المفاتيح والتهيئة الضرورية لهذا التعامل- نقف أمام عدد من المفاتيح المعرفية التي لا غنى عنها لمن يروم وصل أسبابه بأسباب هذه الشجرة الكثيفة، أو الغابة الملتفة التي تسمى بالتراث.
(3. 2. 1) مفتاح معرفة موضوعات العلم:
إن واحدًا من مفاتيح المعرفة الجوهرية في هذا السياق هو ضرورة العلم بموضوعات العلم، وفوارق ما بينها، وحدود الاشتراك، وهو ما كان مشغلة تراث عريق رعى قضية تصنيف العلوم في هذه الحضارة العربية الإسلامية، وهي الرعاية التي أنتجت توزيعها على مجموعات ثلاثة هي:
الأولى:مجموعة العلوم الشرعية (علوم الغايات).
الثانية:مجموعة العلوم العربية (علوم الآلات).
الثالثة:مجموعة العلوم الحكمية (علوم اليونان).
وقد تراكم في هذا التراث أدبيات كثيرة انشغلت ببيان هذه المجموعات وتفريعاتها. وإليك قائمة بمصنفات تصنيف العلوم في التراث العربي الإسلامي: (وهي قائمة خالصة لكتب تصنيف العلوم تعيينًا):
أ- إحصاء العلوم، للفارابي، المتوفى 329هـ.
ب- طبقات الأمم، لصاعد الأندلسي، المتوفى 462هـ.
ج- إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، لابن ساعد الأنصاري الأكفاني، المتوفى 749هـ.
د- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لطاسن كبري زاده، المتوفى 968هـ.
هـ- ترتيب العلوم، لساجعلي زاده، المتوفى 1145هـ.
و- أبجد العلوم، للقنوجي، المتوفى 1307هـ.
وتنبع أهمية تحصيل هذا المفتاح وامتلاكه من جوانب كثيرة؛ ذلك أنه ضروري لتعيين الانتماءات المعرفية للكتب والنصوص الذي هو الشرط المبدئي لعمل المحققين والباحثين وطالبي العلم عمومًا، وهو ضروري لما بعد ذلك من مطالب مهمة للغاية في مجال التعامل مع النصوص في هذا التراث العريق.
إن تحصيل مفتاح العلم بموضوعات العلم الذي قامت عليه ووفَّرته مؤلفات تصنيف العلوم التي تعين على ما يلي:
أولاً-صناعة فهارس كتب التراث؛ ذلك أن واحدًا من أهم المفردات التي ينبغي أن تتضمنها بطاقة الفهرسة كامن في بيان انتماء الكتاب المعرفي، أو تعيين موضوعه.
ثانيًا-تيسير اختيار النص، وهي الخطوة الأولى لعمل المحققين للنصوص.
ثالثًا-بناء الملكة الاختصاصية أو التكوين العلمي للباحثين في المجالات العلمية المختلفة، بإرشادهم إلى أصول كل اختصاص يلزم تحصيلها، وقراءتها، والعكوف عليها. وتشكيل رؤيته لعلاقات العلم الذي يختص به مع غيره من العلوم الأخرى قربًا وبعدًا.
رابعًا-تعيين نوع العلم للكتاب، وهو ما يترتب عليه تصميم المكملات والملاحق، وما يلزم معه الإلمام بتصنيف العلوم وفق نظرية المعرفة (الإبستمولوجي).
خامسًا- تعيين النَّافع من الكتب، وتراتب الكتب من جهة نفعها للناس ودرجتها، فثمة تقسيم في كتب تصنيف العلوم العربية قائم على النظرية الأخلاقية (الأكسيولوجي).
إن هذا المفتاح المعرفي- كما نرى- شديد الاتصال بمفاتيح الوعي من جانب، وخادم لها، ومحقق لها، ومعين على الإمساك بها عند التعامل مع التراث العربي الإسلامي من جانب آخر.
(3. 2. 2) مفتاح العلم بعلاقات النصوص:
كشف الذين انشغلوا ببحث قضية التأليف عند العرب عن حقيقة أساسية، وإن اختلفت طرق تعبيرهم عنها، وهي تمدد هذا التراث وتشابك فروعه وأغصانه بشكل مذهل، استقر التعبير عنه بالعبارة الكاشفة المبينة: “عبقرية التأليف العربي”، وهي عبارة جرت معانيها من وحي الشعور بها عند كثيرين من أمثال: فرانتز روزنتال، في كتابه: مناهج البحث العلمي عند المسلمين، وآدم جاسيك في مقدمة كتابه: تقاليد المخطوط العربي، والدكتور مصطفى الشكعة في كتابه: مناهج التأليف عند العرب.
ولكن العبارة سكها الراحل الكريم الأستاذ عبد السلام هارون، ووضعها عنوانًا جانبيًا في كتيبه: التراث العربي (ص24)، ثم انتقلت عنوانًا لواحد من أهم الكتب الكاشفة عن هذا المفتاح المعرفي، وهو كتاب الدكتور كمال عرفات نبهان: عبقرية التأليف العربي، الذي افتتح فيه الكشف عن نظرية علاقات النصوص من بوابة الببليوجرافيا، أو علم المكتبات.
إن فارق ما بين مقاربة عبد السلام هارون لعبقرية التأليف العربي ومقاربة نبهان، فارق مهم؛ ذلك أن قائد عبد السلام هارون إلى الوعي بهذه العبقرية كان معتمدًا على البنية العلمية للتراث، حيث وقف على الملامح المائزة التالية:
أولاً-توافر النماذج محكمة التأليف، متقنة النظام، يقول: (ص24)”على أننا كذلك نلقى نماذج أخرى من جياد الكتب محكمة في التأليف، رائعة في نظامه”.
ثانيًا-التنوع المنهجي في التأليف في العلم الواحد. ويضرب مثالًا على ذلك بكتب التفسير، فيقول (ص24- 25): “كما نجد كتب تفسير القرآن الكريم لكل منها منهج خاص، يرضي مختلف الأذهان والأذواق”. وهو الأمر الذي يلمح إلى توافر العناية بأنواع المستعملين، وهو فرع عن السمة العامة التي رسختها الشريعة وهي أنها شريعة إنسانية، وإلى توافر العناية بفحص التعقد العلمي وتشابك أنواع النظر.
ثالثًا-الكثرة المفرطة والتراكم المذهل في فنون العلم في التراث، يقول (ص26): “إن المكتبة العربية مكتبة قوية حقًا. وإن في أدبائها وعلمائها لمجموعة صالحة مفرطة العدد من الأدباء والعلماء الذين ارتقوا إلى الصف العالمي، عبقرية وامتيازًا”.
أما مقاربة كمال عرفات نبهان الفذة فقد كان مدخلها علاقات النصوص وشبكة الاتصال العلمي، وهو الطريق الذي سهل له ابتكار نظريته في علاقات النصوص التي ارتكزت على النظر إلى المكتبة العربية بما هي “موضوع التأليف كظاهرة اتصال، واستجابة لحاجات علمية وتعليمية وثقافية” حكمت ظهور: “آليات وأصول في صنعة التأليف وتكوين النصوص في التأليف العربي- الإسلامي” على حد تعبيره في الكتاب (ص24/م، طبعة مركز دراسات المعلومات والنصوص العربية، القاهرة، 2006م).
وفي هذا السياق تتضح سهمة كمال عرفات نبهان الذي فتح الباب أمام واحد من أعظم المفاتيح المعرفية اللازمة للتعامل مع التراث أيًّا من كانت طبيعة المتعامل التي يمكن حصرها إجماليًّا في:
أ- المحقق، المعنيّ بتحقيق نصوص التراث، ومن يرتبط من نقاد النشرات أو الطبعات المحققة.
ب- الباحث والدارس، المعنيّ بدراسة ظاهرة علمية لها امتداد في إحدى التجليات التراثية، ولو من باب التأريخ للظاهرة، ورصد أنماط ظهورها، وتحولها وتطورها.
ج- المثقف العام، الذي يلزمه في رحلة التكوين العقلي والنفسي أن يتصل نوع اتصال بهذا التراث العربي الإسلامي.
د- المخطط، الذي يشغله التخطيط للمستقبل، وكل تخطيط يرنو إلى المستقبل لا يضع في حساباته فحص التراث بما هو المفسر للذات العربية المسلمة= يرتكب خطيئة لا اغتفار لها!
إن التعامل مع التراث في ضوء هذا المفتاح المعرفي تفرض استصحاب العلم بمخططات علاقات النصوص، بأنواع هذه المخطوطات المختلفة؛ لأنها في حالتنا تمثل أداة لا يجوز إهمالها، سواء أكانت مخططات إشعاعية، أو شجرية، أو تفارعية، أو زمنية إلخ.
إن العلم بمخططات علاقات النصوص أصبح أداة ومفتاحًا بالمعنى المادي الحقيقي، لا يتصور الاستئذان في الدخول إلى ميادين التراث العربي الإسلامي دون امتلاكه. ذلك أن العلم بأنظمة التأليف وعلاقاته كاشف عن أنواع الوظائف الكامنة خلفها، والمرادة من تشغيل التراث عند التعامل معه؛ ذلك أن المنظومات والمختصرات وظيفتها تيسير الحفظ والتذكر، وأن الشروح محققة للفهم، والاستدراكات للتكملة ومعالجة النقص، والمفاتيح والأطراف؛ للبحث والاسترجاع، والتهذيب؛ للسيطرة على النص وتطويعه، والردود؛ للمناقشة وإسقاط الأوهام (انظر: عبقرية التأليف العربي، ص432).
(3. 2. 4) مفتاح العلم بمستويات المؤلفين ومذاهبهم:
إن مفتاح العلم بمستويات المؤلفين وبيئاتهم ومذاهبهم، وإن اتصل بالمفتاح المعرفي المتقدم عليه هنا، مهم في هذا السياق، لاعتبارات عديدة ظاهرة مؤثرة في طريقة التعامل مع المنتج الفكري التراثي، ومؤثرة في طريقة تلقيه واستقباله.
لقد تنوعت غايات المؤلفين من جانب، وتنوعت ظروف تكوينهم، والدوافع التي حكمت إنتاجهم الفكري، تأسيسًا لعلوم ابتداء، على ما نرى في صنيع سيبويه في النحو، والشافعي في الأصول، وعبد القاهر الجرجاني في البلاغة، والخليل في الأصوات، والعروض، والمعجم إلخ. أو تفنيدًا وبسطًا لما تأسس من هذه العلوم، أو تفريعًا وتعميقًا، أو تلخيصًا وتهذيبًا مما هو مشغلة تطبيقات نظرية علاقات النصوص كما مرّ في المفتاح المعرفي السابق (3. 2. 2).
على أن هذا المفتاح المعرفي مفيد ومهم في تحصيل أسس تنبني عليها منهجية الدخول إلى عوالم التراث منها:
أولاً-تكوين العالم المؤلف، وما حصله واستأهل به أن يكون منتجًا للعلم في هذه الحضارة.
ثانيًا-روافد تكوينه المباشرة من الشيوخ الذين تلقى على أيديهم العلم.
ثالثًا-زمان ظهوره.
رابعًا-بيئة ظهوره.
خامسًا-المناخ العلمي الذي عاش فيه.
سادسًا-مذهبه العقدي والفقهي.
سابعًا-شبكة علاقاته، وانتقالاته، ووظائفه، الحاكمة في منجزه الفكري.
ثامنًا-مدى إفادته من المنجز العلمي المتراكم في مجاله واختصاصه.
تاسعًا-مستوى إضافته بما أنجزه في مجال التأليف العلمي.
عاشرًا-مستوى الاعتراف العلمي به في هذا التراث، والذي يمكن أن يكشف عنه أمران أساسيان هما:
أ- كثافة الاستشهاد المرجعي بآرائه وأقواله في العلم.
ب- حجم ما تعالق به وارتبط بمنجزه من نصوص شارحة أو مختصرة أو مصححة إلخ.
إن هذه المفاتيح المعرفية الثلاثة تبدو مهمة جدًّا لكل من يتطلع إلى التعامل مع التراث العربي الإسلامي بأي طريقة من طرق التعامل. وهي كما رأينا مرتبطة بالمفاتيح الإدراكية، ومنبثقة عنها، ومستظلة بظلها.
وهي في الوقت نفسه ممهدة، ومهيئة الطرق أمام تحصيل المجموعة الثالثة من مفاتيح التعامل مع هذا التراث العريق؛ المعروفة باسم المفاتيح الأدوات أو المفاتيح الإجرائية، أو التشغيلية.
(3. 3) مجموعة مفاتيح التشغيل: (المفاتيح الإجرائية)
لعل أوضح طريق لعرض هذه المجموعة من المفاتيح أن نقف قليلاً أمام مفهوم الأدوات في منهجية البحث العلمي المعاصرة في ميدان التجريبية والتطبيقية تعيينًا، ذلك أن الأدوات Toolsتعطي دلالة مفيدة ومهمة في هذا السياق. وهو ما أحب أن أفسرها بوسائل العمل، وآلات التشغيل، وترتبط بها كلمة أخرى هي: المهارات Skillsوأقصد بها إتقان الاستعمال لهذه الأدوات.
ربما أكون قاسيًا لو قررت أنني أرى كثيرين ممن يتعاملون مع التراث العربي الإسلامي ينفقون أعمارهم في تحصيل مفاتيح التشغيل أو الأدوات بمعناها هنا دون تنبه إلى قيمة المفاتيح الإدراكية والمفاتيح المعرفية، وهو إن كان يكون إهدارًا في الطريق الخطأ، ويكون أمر من يفعل ذلك كمن يقضي عمره في الحصول على رخصة التعامل مع الحاسوب: (Icdl) ذاهلاً عن ما يفرضه اختصاصه العلمي الأصيل من استحقاقات إدراكية ومعرفية، فيضيع من حيث رأى أنه يستجمع قوة، ويحصل ثروة!
إن كثيرين من الذين توجهوا لتحقيق نصوص التراث العربي الإسلامي تعيينًا انشغلوا بتصميم الهوامش، والتفنن في صناعة الكشافات، وهي أمور على خطرها وفائدتها تظل بمنأى عن حقيقة التحقيق الذي هو في الأساس إحياء النص، وإقامته، ثم الكشف عن منـزلته، وسبل تشغيله في الحياة، وهو ما لا يمكن تنفيذه دون استصحاب المفاتيح الإدراكية والمفاتيح المعرفية، صحيح أن الأدوات المنفذة هي المفاتيح الإجرائية (أو مهارات استعمال الأدوات)، لكنها أبدًا ليست بكافية وحدها، ولا بمغنية عن غيرها من مجموعتي المفاتيح السابقتين المتقدمتين هنا.
ومن ثم فإن الوقت قد حان لإعادة تصنيف طبقات المحققين المعاصرين تبعًا لتأمل اجتيازهم لأنواع مجموعات هذه المفاتيح!
ومن ثم أيضًا فإن الوقت قد حان كذلك لإعادة اكتشاف كل متعامل مع هذا التراث العريق لنفسه على ضوء ما حصله في نفسه وعقله من مجموعات هذه المفاتيح؛ وليعلم كل من يروم التعامل مع هذا التراث الرحيب أن تقصيه في حيازة مجموعات هذه المفاتيح جميعًا مؤذن بمخاطر مرعبة تبدأ من اغتيال هذا التراث، وتتدرج نحو إهانته وتشويهه، وما شئت من صنوف الإزدراء والإسقاط.
ومن أجل ذلك ننبه على أن كثرة المفردات في قائمة مجموعة المفاتيح الإجرائية أو الأدوات لا يصح أن تكون داعية للانخداع في أمرها، ولا يصح أن تحْمِلنا على تقديرها التقدير الزائف الذي يمنحها وزنًا نسبيًّا غير صحيح ولا منضبط؛ إذ لابد أن تبقى الأدوات- مع تقدير أهميتها وجلالها- أدوات، ولا يصح أن تنازع المفاتيح الإدراكية والمعرفية مكانتهما بأي حال، مهما تخايلت أمامنا.
ومن ثم سيبقى المصمم مثلاً في ميدان العمارة الذي يصدر تصميمه عن مفاتيح الوعي، ويخرج على الورق بموجب المفاتيح المعرفية، أعلى شأنًا من المهني الذي يتعب ويشقى من أجل تنفيذ التصميم واقعيًّا بأدوات معروفة ومعلومة، ولم نسمع عن صانع، حدادًا كان أو نجارًا أو بناءً نازع الأستاذ المصمم الواعي العالِم مكانته، ولو كان منه ذلك لصبت عليه صنوف الاتهامات صبًّا!
وسيجتهد هذا البحث في محاولة استقصاء مفردات المفاتيح الإجرائية (الأدوات) قدر الإمكان، لأهميتها غير المنكورة في باب التهيئة للتعامل مع التراث تحقيقًا، أو دراسة وفحصًا، أو قراءة وتثقيفًا، وبناء للذات وفهمًا.
(3. 3. 1) مفتاح العلم بالمصادر العامة وإتقان التعامل معها:
تفاوت أمر معالجة هذه الأداة في كتب تحقيق النصوص حتى جاء الأستاذ المرحوم عصام الشنطي المتوفى 2012م فأفردها في كتاب مستقل، يمثل استقلاله مقدمة مهمة لتعميق بحوث تحقيق النصوص وقضاياه العلمية. صحيح أنه مسبوق بعدد من أعلام التنظير للتحقيق ووسائله وأدواته، لكنه أول من أفرد المصادر العامة بما هي أدوات لتحقيق النصوص بتأليف مستقل. وقد قسمها وفق موقعها من عمليات التحقيق ونقد الكتب على ما يلي:
أولاً-مصادر عامة تعين على جمع النسخ، وترتيبها، ومن أعلاها:
أ- تاريخ الأدب العربي بملاحقه، لكارل بروكلمان، وقد أنجزت ترجمته في خمسة عشر جزءًا إلى العربية.
ب- تاريخ التراث العربي، للدكتور محمد فؤاد سيزكين، وقد ترجم إلى العربية.
ثانيًا-المصادر العامة للتعريف بالمطبوع من كتب التراث العربي الإسلامي، من مثل:
أ- اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، لإدوارد فانديك.
ب- معجم المطبوعات العربية والمعربة، ليوسف إليان سركيس.
ج- معجم المخطوطات المطبوعة، للدكتور صلاح الدين المنجد.
د- المعجم الشامل للتراث العربي، للدكتور محمد عيسى صالحية، والمستدركات عليه لهلال ناجي وعمر عبد السلام تدمري، ومحمد المعصراني، ومكملاته لمحمد جبار المعيبد.
هـ- معجم المطبوعات العربية في شبه القارة الهندية الباكستانية، لأحمد خان.
ثالثًا-المصادر العامة اللازمة لتوثيق العنوان، وبيان شبكة علاقات النص؛ من مثل:
أ- كشف الظنون لحاجي خليفة.
ب- إيضاح المكنون، لإسماعيل باشا البغدادي.
رابعًا-المصادر العامة اللازمة لصناعة تراجم المؤلفين، كوحدة لازمة في بناء مكملات التحقيق في تقديم النص؛ من مثل:
أ- وفيات الأعيان، لابن خلكان.
ب- سير أعلام النبلاء، للذهبي.
ج- الأعلام، لخير الدين الزركلي.
وتعد القائمة المئوية لهذا النوع من المصادر العامة، التي صنعها العلامة الراحل رمضان عبد التواب في مقدمة كتابه: مناهج تحقيق النصوص، من أوفى ما جاء في هذا الباب، إحاطة وترتيبًا.
خامسًا-المصادر العامة الكاشفة عن موضوعات العلوم؛ من مثل:
أ- الفهرست، لابن النديم.
ب- ما سبق أن ذكرناها في المفاتيح المعرفية تحت كتب تصنيف العلوم عند العرب.
سادسًا-المصادر العامة اللازمة للعلم بمستويات العلماء وتكوينهم وشبكة علاقاتهم العلمية، من مثل:
أ- المصادر المعروفة بالمشيخات، ومعاجم الشيوخ، وفهارس الرواة، وبرامجهم إلخ.
وقد حرصنا أن نورد تقسيمات هذه الأداة، وأنواعها المختلفة لتكون مرتبطة بالمفاتيح المعرفية من جانب، وخادمة للوظائف المطلوبة من التراث من جانب آخر.
(3. 3. 2) إتقان التعامل مع المفتاح اللغوي: (الأداة اللغوية)
إن واحدًا من أهم العناصر الجوهرية المؤسسة لماهية التراث أو هويته ظاهر في اللغة أو اللسان، وهو الأمر الذي لم ينفك يظهر نعتًا وقيدًا معرّفًا لماهية التراث الذي أنجزه التصور الإسلامي للحياة والوجود باللسان العربي تعيينًا بعد تطوره المذهل بسبب من نـزول الكتاب العزيز به، وبسبب من مبعث النبي rعربيًا، يقول تعالى: (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 16/ 103] ويقول جلا وعلا: (وَإِنَّهُ لَتَنـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء: 26/ 192- 195].
وقد استقرت في العلم العربي قاعدة عظيمة مفادها أن تحصيل العلم بالعربية من الديانة [كما قرر ذلك الثعالبي في مقدمة فقه اللغة 1/ 3] ومما سكه الشافعي فكان قاعدة قوله في الرسالة (ص40): “ومن جماع علم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما نـزل بلسان العرب” صحيح أنها قاعدة مؤصلة لما نطق به الكتاب العزيز من شأن تعيين ماهيته وهويته اللغوية، لكنها تجاوزت، فأعلنت إذ أسست للدور المحوري لمفهوم التراث في الحضارة العربية- الإسلامية.
وهو الأمر الذي يلزم معه امتلاك مفاتيح وأدوات تعين على تجاوز عقبات اللغة عند التعامل معه من مثل:
أ- المصادر الصوتية.
ب- المصادر الصرفية.
ج- المصادر النحوية.
د- المصادر الأسلوبية (أو ما عرف باسم كتب أسرار مجازي كلام العرب، كالصحابي لابن فارس، والقسم الثاني من فقه اللغة وسر العربية للثعالبي).
على أن العلم بالمعاجم -بما هي أداة- يشغل منـزلة مائزة في مجموعة المفاتيح الإجرائية (الأدوات) نظرًا لأهميتها البالغة، ولاستيعابها المدهش المنظم للمعلومات اللغوية المتنوعة.
وفي هذا السياق يحسن أن يمتلك المتعامل مع التراث العلم بالمعاجم بما هي وسائل وأدوات من جانبين:
الأول-أنواع المعاجم، الموزعة في المخطط التالي:
مخطط كاشف عن أنواع المعجمعات في التراث العربي الإسلامي
|
||||||||||||||
2 معجمات مختصة |
|
1 معجمات عامة |
||||||||||||
ب معاجم المصطلحات |
أ المختصة بمصطلحات علم بعينه
|
|
ب معاجم المعاني |
|
أ معاجم الألفاظ |
|||||||||
3 كشاف اصطلاحات الفنون |
2 التعريفات |
1 -مفاتيح العلوم |
|
3 الكلامية |
2 الطبيعة |
1 الحدود النحوية |
|
معاجم المعاني المعتمدة |
رسائل لغوية قصيرة |
|
4 مدرسة الأبنية المعجمية |
3 مدرسة لاقافية المعجمية |
2 مدرسة الترتيب الهجائي التقليدي
|
1 مدرسة الترتيب الصوتي |
|
|
|
|
|
|
|
|
فقه اللغة المخصص |
|
|
ديوان الأدب شمس العلوم |
الصحاح اللسان القاموس المحيط تاج العورس |
الجيم أساس البلاغة |
العين تهذيب اللغة المحكم المحيط |
وهذه الأداة مفيدة جدًّا على مستويات الفهم والتفاعل والاستثمار، والتشغيل، والتحقيق، والبحث بما هي تجليات للتعامل مع التراث العربي الإسلامي.
الجانب الثاني:مناهج استعمال هذه المعاجم وتعالق بعضها ببعض.
إنني من المؤمنين أن المعجم العربي بما هو أداة أو مفتاح صالح للتعامل مع التراث بما هو انعكاس فكري لتصوراته للعالم والحياة.
(3. 3. 3) إتقان مفتاح الرسم أو الخط والكتابة:
إن الوجه الذي أسفر عن مكنوز هذا التراث جاءنا متدثرًا بالخط العربي، وهو ما يلزم معه امتلاك مفتاح يهيئ السبيل للتعامل معه، بتيسير قراءته توصلاً إلى كل العمليات التي تستتبع قراءته وفك رموزه.
وهو الأمر الذي يحتم امتلاك أداة تمثلت في ما يلي:
أولاً-تحصيل العلم بمصادر الكتابة العربية. ولعلي لا أبالغ إن قررت أن العمل الموسوعي الذي قام عليه الدكتور عبد اللطيف الخطيب يعد عملاً رائدًا في هذا الباب، وهو موسوعة قواعد الكتابة العربية، الذي صدر في مجلدين وتنشره مكتبة دار العروبة، بالكويت، (طبعة 2011م). وهو جامع منظم مفسر!
ثانيًا-تحصيل العلم بمصادر معالجة التصحيف والتحريف؛ من مثل الكتب التالية:
أ- التنبيه على حدوث التصحيف، لحمزة الأصفهاني.
ب- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، لأبي أحمد العسكري.
ج- تحرير التحريف وتصحيح التصحيف، لابن أيبك الصفدي.
د- محاضرة التصحيف والتحريف للطناحي في كتاب مدخل إلى نشر التراث.
ويتفرع عن هذه الأداة، ويتصل بها، ويكمل عملها، ويتمم أثرها ما يعرف بكتب علامات الترقيم؛ فهي أداة مهمة جدًّا للمحقق، وللمتعامل مع التراث بشكل عام.
وقد ظهرت في العصر الحديث بعض الكتب التي اهتمت برصد علامات الترقيم وتطورها من مثل:
أ- علامات الترقيم، لأحمد زكي باشا.
ب- الإملاء وعلامات الترقيم، لعبد السلام هارون.
ج- علامات الترقيم، لعبد الفتاح الحموز.
كما يتفرع عن هذه الأداة، ويتصل بها، ويكمل عملها، ويتمم أثرها، ويعين على فهم التراث مخطوطًا ومنشورًا ما يسمى بكتب تفسير المختصرات والرموز المستعملة في كتب التراث العربي الإسلامي، وقد وردت العناية بتفسيرها في عدد من المصادر المعاصرة المعنية بقواعد تحقيق النصوص.
وهذه المصادر أداة بالمعنى المتداول للوسائل والأدوات، مهمة في خدمة نصوص التراث عند التعامل المهني معها، تحقيقًا، أو نقد للمحقق منها، أو قراءة متقنة لرسوم كلماتها تحصيلًا لمادة العلم التي تحملها.
(3. 3. 4) تحصيل مفتاح العلم بقواعد تحقيق النصوص، ونقدها وتصحيحها وضبطها:
إن تحقيق نصوص التراث بما هو علم مستقر القواعد يمثل أداة ووسيلة ومفتاحًا إجرائيًا ضروريًّا لمن يتعامل مع التراث مهنيًّا (تحقيقًا ونقدًا للنشرات المحققة) أو ثقافيًا وبحثيًّا، أو منأي باب آخر، ذلك أن هذا المفتاح حاسم في بيان ما يلزم إعادة نشره وتحقيقه، وحاسم في تقييم مجهود المحققين، وحاسم في الاطمئنان للمنشور من نصوص التراث، وهي جميعًا عمليات في غاية الخطر في باب التعامل معه.
وقد تنوعت الأدبيات المعاصرة في مجال التنظير لقواعد تحقيق نصوص المخطوطات، ونقد الكتب، وتوزعت على اتجاهين أساسيين هما:
الأول-الاتجاه الاستشراقي في تحقيق النصوص، ويمثله في المكتبة العربية:
أ- كتاب برجشتراسر: أصول نقد النصوص ونشر الكتب.
ب- كتاب بلاشير وسوفاجيه: قواعد تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها.
الأخير-الاتجاه العربي في تحقيق النصوص، وتمثله أدبيات كثيرة جدًّا ومهمة ويضيف بعضها إلى بعض، وإن برز منها ما يلي:
أ- كتاب الأستاذ عبد السلام هارون: تحقيق النصوص ونشرها.
ب- كتاب عبد الرحمن يحيى المعلمي: مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص.
ج- كتاب رمضان عبد التواب: مناهج تحقيق النصوص بين القدامى والمحدثين.
إن الحاجة إلى معرفة قواعد التحقيق مسألة يشترك فيها المحقق، والناقد، والباحث، والدارس، والمثقف، ليحكم على النص قبل استعماله في أي مجال من مجالات التعامل معه.
ومن المهم في هذا السياق التنويه بنوع من الأدوات والوسائل والمفاتيح الإجرائية المندرجة تحت مفهوم هذه الأداة- هو تجارب المحققين الكبار المدونة التي يحكون فيها سيرهم الذاتية الأكاديمية في هذا المجال العلمي الدقيق؛ وأذكر في هذا الباب ما كتبه حسين نصار والعلامة رمضان عبد التواب والعلامة محمود الطناحي رحمهم الله تعالى.
ويتصل بهذه الأداة أداة أخرى متفرعة عنها هي الكتب التي جمع فيها أصحابها من المحققين المعاصرين ما كتبوه في نقد الكتب المحققة، ولعل أهم هذه الأدبيات ما يلي:
أ- قطوف أدبية، لعبد السلام هارون.
ب- ما كتبه الدكتور رمضان عبد التواب في نقد عددمن الكتب المحققة في القسم الثاني من مناهج تحقيق النصوص.
ج- ما كتبه الدكتور محمود الطناحي، وجمع بعد وفاته في مقالاته.
د- ما كتبه الدكتور بشار عواد معروف.
وغير هؤلاء. وقد نبه على أهمية قراءة هذه الأدوات كثيرون من أهل العلم.
ويتفرع عن هذه الأداة كذلك كتب تصحيح النصوص، وضبطها، ومن أهم من عالج وكتب في هذه الأداة:
أ- أحمد شاكر، في تصحيح الكتب.
ب- بشار عواد معروف، في ضبط النص والتعليق عليه.
ويتفرع أيضًا عن هذه الأداة الكتب التي تترجم لأعلام المحققين المعاصرين من المستشرقين والعرب، من مثل:
أ- كتاب المستشرقون، لنجيب العقيقي (في ثلاثة أجزاء).
ب- شوامخ المحققين الذي حرره الدكتور حسام عبد الظاهر (في جزأين).
ت-
(3. 3. 5) تحصيل مفتاح العلم بفهارس المخطوطات:
إن واحدًا من أهم المفاتيح الإجرائية (الأدوات الوسائل) التي يلزم امتلاكها عند إرادة التعامل مع التراث العربي- الإسلامي هو مفتاح العلم بفهارس المخطوطات؛ لأنها الخزائن الدالة على كنوز هذا التراث، والمعرفة بها، والدالة على أماكن حفظها، ومظان وجودها المتعين.
وقد نشط عدد من المؤسسات المعنية بشئون حفظ المخطوطات، والأولية المادية للتراث بنشر عدد من الفهارس المعرفة بمحتوياتها. وقد سبق رواد على هذا الطريق من أمثال المرحوم الأستاذ/ فؤاد سيد بما أخرجه من فهارس عن دار الكتب المصرية.
وفي هذا السياق تذكر سهمة المؤسسات التالية:
أ- الفهارس التي أخرجتها دار الكتب المصرية.
ب- الفهارس التي أخرجها معهد المخطوطات العربية.
ج- الفهارس التي أخرجتها مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
د- الفهارس التي أخرجتها مكتبة الإسكندرية.
فضلاً عن عدد كبير من الفهارس التي أنجزها مفهرسون كثيرون، وهي أداة لازمة، ولا غنى عنها بحال من الأحوال.
ويتعلق بهذه الأداة (المفتاح) الأدلة الإرشادية التي صنعت لبيان المكتبات التي تحتفظ بمخطوطات التراث العربي الإسلامي في العالم كله.
كما يتعلق بهذه الأداة أعمال الندوات والمؤتمرات التعريفية بمنجز العرب المسلمين في باب علمي بعينه، على ما نرى في أعمال الندوات والمؤتمرات حول التراث العلمي عند العرب، والتراث السياسي، وتراث القدس إلخ.
وفروع هذا المفتاح (الأداة) كثيرة جدًّا وتشهد إنجازات متتالية، يلزم دوام متابعتها والاتصال بها، وتحصيلها.
ويتصل بهذه الأداة (المفتاح) فرع آخر مختلف عنها، وإن حمل اللفظ نفسه، ولكن بمفهوم مختلف، يتمثل في: فهارس الكتب والموسوعات التراثية، وهو المصطلح الذي شهد انضباطًا علميًّا على أيدي علماء المكتبات فيما بعد، وسمى عندهم باسم الكشافات.
وقد شاع عند نفر من علماء التراث والمحققين صناعة الكشافات (فهارس فنية) تكشف عن الكنوز المخبوءة في عدد من عيون كتب التراث، وتسهل استعمالها، والتعامل معها.
وقد كتب عدد من المحققين وعلماء التراث عن أهمية هذه الأداة، بما يكشف قيمتها وأهميتها بما هي وسيلة بالغة النفع للمتعاملين مع التراث العربي الإسلامي المتشابك المتعالق، فقالوا: إن الكتاب بلا فهارس كالغابة يضل السائر فيها (على حد تعبير كمال نبهان في افتتاح كتابه عن التكشيف) وقد سبقه كثيرون أفاضوا في بيان قيمة الكشافات في الإعانة على استخراج كنوز التراث من أمثال محمود الطناحي في مقالاته في اللغة والأدب، ومحمود شاكر من قبله، وإن جاء تنويهه على قيم الكشافات (الفهارس الفنية) موجزًا مكثفًا صدره أحيانًا ليضعه أسفل عنوان الكتاب على الغلاف!
(3. 3. 6) تحصيل مفتاح العلم بالنقد التاريخي لكتب التراث:
إن التراث العربي الإسلامي بما هو شبكة ممتدة متداخلة متراكمة الحلقات تحمل التعامل معها على امتلاك أداة تمكنه من تقييم كتبه، وهو الأمر الذي يتحتم معه معرفة طرق النقد الخارجي والنقد الداخلي للنصوص.
ومن الوسائل المهمة للغاية في هذا السبيل ما جمعه وكتبه الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوي، ولا سيما في الجزء الذي ترجمه عن بول ماس بعنوان: نقد النص. والمدخل إلى الدراسات التاريخية لاننجلوا وسنيويوس.
بالإضافة إلى ما سبق إليه العلماء العرب المسلمون في مؤلفاتهم المختصة بعلم مصطلح الحديث في الأجزاء المتعلقة بنقد المتن، ونقد السند، وعلامات معرفة الصحيح من غيره.
إن هذا النوع من الأدوات أو المفاتيح مهم جدًّا في تحقيق الاطمئنان من عدمه بإزاء المعرفة المحصلة من نصوص هذا التراث.
(3. 3. 7) تحصيل مفتاح العلم بالوصف المادي لأوعية المعلومات التراثية: (الوصف الكوديكولوجي)
إن الوصف الكوديكولوجي (أو المادي والخارجي للمخطوطات) يمثل مفتاحًا وأداة مهمة جدًّا على طريق التعامل مع التراث؛ ذلك أن هذا الوصف حاسم في أحيان كثيرة جدًّا في:
أ- حسم عملية اختيار النص.
ب- حسم قيمة النص العلمية تبعًا لما يظهر من خطها، ونسختها الخطية، هل هي من الأصول، بخط مؤلفها؟ وهل عليها خط أحد من العلماء؟ إلخ.
ج- حسم درجة الوثاقة بالنص (مسوّدة/ مبيضة/ مجددة).
فضلاً عما يمكن أن يقدمه امتلاك هذا المفتاح لدراسات التاريخ الحضاري المرتبط بالكتاب من جهة الصناعة المادية من جوانب خطه، وقيمه الجمالية، وزخرفته، وتجليده، وتسفيره، وتجارته، وعلاقات العائلات من بعض الكتب بما هي تركات تورث، إلخ.
وقد ظهرت كتب في العربية خادمة لهذا المجال من مثل:
أ- المخطوط العربي، للدكتور عبد الستار الحلوجي.
ب- نحو علم مخطوطات عربي، للدكتور عبد الستار الحلوجي.
ج- المدخل إلى علم المخطوط العربي، لفرانسوا ديروش، ترجمة الدكتور أيمن فؤاد سيد.
ويتفرع عن هذه الأداة (المفتاح) ما يخدم مصطلحية المخطوطات، والتعامل معه؛ من مثل:
أ- تقاليد المخطوط العربي، لآدم جاسيك.
ب- معجم مصطلحات علم المخطوطات، لأحمد شوقي بنبين، ومصطفى طوبي.
خاتمة:
إن واحدًا من مهام هذه المحاولة مطاردة النظر إلى التعامل مع التراث العربي الإسلامي على أنه صناعة بالمعنى الضيق للكلمة. وهو الخطر الذي حول عمل كثير من المحققين إلى عمل آلي يفتقد روح الإيمان بالنص مشغلة التحقيق، والتعاطف معه، والعطف عليه، والصبر على الوفاء لخدمته.
إن مطالب التعامل مع التراث بما هو شجرة للنور تحتاج إلى استحضار مفاتيح كثيرة؛ لأنه تراث عملاق ممتد مرتبط بالنص المركزي في الحضارة العربية الإسلامية.
ومن هنا فقد خلصت هذه المحاولة إلى ضرورة استصحاب ثلاث مجموعات من المفاتيح عند إرادة التعامل معه هي:
أولاً-مجموعة المفاتيح الإدراكية (مفاتيح الوعي)، وانضوى تحتها:
أ- مفتاح الوعي بروح هذا التراث وخصائصه.
ب- مفتاح الوعي بمقاصد هذا التراث.
ج- مفتاح الوعي بآداب التعامل مع التراث العربي الإسلامي.
د- مفتاح الوعي بوظائف التراث في الحياة المعاصرة.
ثانيًا-مجموعة المفاتيح المعرفية، وانضوى تحتها:
أ- مفتاح معرفة موضوعات العلم في هذا التراث.
ب- مفتاح العلم بعلاقات النصوص في هذا التراث.
ج- مفتاح العلم بمستويات المؤلفين ومذاهبهم.
ثالثًا-مجموعة المفاتيح (الأدوات) الإجرائية، وانضوى تحتها:
أ- مفتاح المصادر العامة.
ب- المفتاح اللغوي (أداة اللغة).
ج- مفتاح الرسم والخط والكتابة.
د- مفتاح مصادر قواعد التحقيق.
هـ- مفتاح الفهارس.
و- مفتاح النقد التاريخي.
ز- مفتاح الوصف الكوديكولوجي (الخارجي الظاهري).
أما عن النتائج التي يمكن التحاور معها، وتأملها، وفحصها، فهي:
أولاً-أفرزت هذه المحاولة الحاجة الملحة إلى تعميق قضايا التعامل مع التراث العربي الإسلامي، وتفريع القول في مسائله، ومقدماته التأسيسية.
ثانيًا-أظهرت هذه المحاولة الغياب شبه التام للمفردات الأساسية اللازمة التحصيل للعاملين في مجالات تحقيق التراث، وفهرسته، ونقد طبعاته، ودراسته.
ثالثًا-كشفت هذه المحاولة عن ضرورة فحص مقاربات فهم التراث أولًا لتعيين المفاتيح المتنوعة للتعامل معه.
رابعًا– كشفت هذه المحاولة عن ضرورة فحص خصائص هذا التراث؛ لأنه مقدمة منهجية لتعيين مجموعات المفاتيح اللازمة للدخول إلى عالمه.
خامسًا-كشفت هذه المحاولة عن حاجة هذا المجال إلى المزيد من الدراسة والمناقشة والتحليل.
إن قراءة هذه المفاتيح بأنواع مجموعاتها المختلفة التي عرضت هنا تعكس أن الإيمان بهذا التراث هو الباعث الحقيقي للعناية به، والتعامل معه، ومخطئ من يتصور أن الإيمان به ينعكس بطريقة واحدة. وإن الإيمان بهذا التراث يلزمه التحرك في مسارات متنوعة لخدمته واستثماره والإفادة منه.
وليس يصح النظر إلى كثرة المفاتيح بما هي مانعة من إجلال هذا التراث وتقديره والاحتشاد بتحصيل المفاتيح المتنوعة للتعامل معه؛ ذلك أن جلاله ينبغي أن يكون باعثًا على الارتباط به، ومحبة الاقتراب منه.
إن سعينا لفهم ذواتنا، واستعادة شمس مجدنا يهون في سبيل أي جهد وإنفاق!
هذا هو الصوت الأخير الذي ينبغي أن يبقى في ضمائرنا بعد فحص هذه المحاولة التأصيلية التي استهدفت بيان المفاتيح اللازمة للتعامل مع شجرة هذا التراث العظيم؛ لأن العناية هي انتعاشة الروح بوصلها بجذورها!
* * *
المراجع
1. التراث العربي، عبد السلام هارون، 1978م.
2. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ومركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية، بدار هجر، القاهرة، 1422هـ = 2001.
3. الحدود في الأصول، لأبي الوليد الباجي، تحقيق: الدكتور نـزيه حماد، دمشق، 1392هـ.
4. سلوك المالك إلى تدبير الممالك، ابن أبي ربيعة، تحقيق: حامد ربيع. دار الشعب، القاهرة.
5. عبقرية التأليف العربي، د. كمال عرفات نبهان، طبعة مركز دراسات المعلومات والنصوص العربية، القاهرة، 2006م.
6. علم النفس المعاصر، لبتروفسكي وياروسفسكي، تحرير: سعيد الفيشاوي، وترجمة: حمدي عبد الجواد وعبد السلام رضوان، ومراجعة: الدكتور عاطف أحمد، دار العالم الجديد، القاهرة، 1996م.
7. في تحقيق النصوص ونقد الكتب، د. خالد فهمي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 2013م.
8. كشف الظنون، لحاجي خليفة، 2/ 1755، طبعة دار الفكر (مصورة)، القاهرة 1982م.
9. مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص، عبد الرحمن يحيى المعلمي. الرياض، دار الفوئد سنة 1434هـ.
10. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري والسيد عبد السيد إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، مصورة عن طبعة الدوحة 1398هـ = 1977م.
11. المعجم الفلسفي، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1403 هـ= 1983م.
12. مناهج تحقيق النصوص بين القدامى والمحدثين، د/ رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، سنة 1986م.
13. النكت والعيون، للماوردي، تحقيق: خضر محمد خضر، دار الصفوة، ووزارة الأوقاف الكويتية، القاهرة، والكويت، 1413هـ = 1993م.