مفهوم الأمة كسائر المفاهيم الإنسانية مركبة حقيقته؛ متعددة الأبعاد والمستويات صورته؛ فالمسافة بين مستويات وجودها اللغوي والذهني والخارجي هي التي تبني أي تصور لها، وهي ذاتها التي تكسبها هلامية قد تنفلت بها إلى فضاءات العبثية؛ بحيث يُستخدم اللفظ الواحد ليُراد به دلالات متضاربة. ولذا فلا بد من مرجعية حاكمة عند بناء أي مفهوم؛ ترسم له دلالاته ومساحات حركته، وتنتظم أدوار وأطوار جدله مع الواقع والإنسان.
وتنطلق هذه الدراسة من مرجعية القرآن الحاكمة باعتبارها المرجعية المتماسكة مبنىً والمُنشئة معنىً، فكله بنية واحدة قطعية الثبوت؛ تتساوى كل آياته في ذلك؛ فهي ليست آيات مبعثرة يُبحث في ثبوت كل منها منفردة، وإنما هو بناء متماسك (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)؛ ونسيج متكامل؛ منسجمة أجزاؤه، بما يعين على استجلاء – على سبيل المقاربة – المقومات والمحددات التي ينهض عليها المفهوم القرآني؛ اطمئنانا إلى اتساق المصدر الذي نجرد منه تلك المحددات الحاكمة للمفهوم، ثم الانتقال إلى السنة النبوية الصحيحة لتتبع منهج تنـزيله على الواقع كما كان في العهد النبوي(1). وأما حركة المفهوم في التراث فلا تُقرأ بوصفها مرجعاً؛ وإنما بوصفها انعكاساً لأطوار التمثل البشري للمفهوم في سياقات تاريخية مختلفة. وهنا لا بد من الاحتراز من التصورات التي علقت بالمفهومتراثيا، وقراءة المساحة التي شغلها تراثيا قياسا على المساحة التي شغلها قرآنيا.
إنّ المستقرئ لتراثنا الإسلامي يجد أن هناك مفهومين قد سيطرا على رؤى التغيير – على مستوى التنظير – وهما مفهوم الفرقة -؛ والفرقة الناجية(2) بالتحديد، ومفهوم ولي الأمر أو السلطان، وبقدر تمدد هذين المفهومين كانت المساحة المتاحة للأمة في التراث تتقلص. نعم كان مفهوم الأمة يفصح عن نفسه بشكل أو بآخر في الواقع، إلا أن فاعليته كانت تتراجع باضطراد لصالح المفهومين الآخرين في الرؤى المطروحة. فقد تشوهت صورة الأمة بقدر ما اختُزلت في الفرقة أوالمذهب، وبقدر ما اختُزلت في فرد.
هذا على صعيد التراث؛ وهو اجتهاد بشري حاول أصحابه أن يجيبوا عن أسئلة واقعهم، فلا إلزام علينا بأن نأخذ به كإجابات نهائية متجاوزة لسياقها التاريخي. وهنا لا بد أن نعود لمرجعيتنا؛ وهي كتاب الله باعتباره المصدر المُنشئ في الإسلام؛ لنستجلي مقومات التغيير التي أرشدنا إليها، ونقارب المحددات المنهجية للتغيير، وللحركة في الواقع.
فعند تدبر الخطاب القرآني سنجد أنّ القرآن قد توجه إلى المؤمنين جميعًا بالخطاب حينما ألزمهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71] أو الخارجي: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) الآية [آل عمران: 110].
وعندما اختص منها؛ اختص منهم أمة – وليس فرقة أو طائفة أو حزب – قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:102- 104].
فقد طرح القرآن التغيير من خلال نموذج الأمة؛ لا من خلال نموذج آخر.
وهنا يتحتم علينا مقاربة مفهوم الأمة قرآنيا:
الأمة:
لغوياً: “الهمزة والميم: أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي: الأصل، المرجع، الجماعة، الدين، وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة وهي: القامة والحين والقصد… قال الخليل: كل شيء يُضم إليه ما سواه مما يليه فإنّ العرب تسمي ذلك الشيء أُمّاً؛ ومن ذلك أمّ الرأس وهو الدماغ… قال الخليل: الأمة: الدين… وكل قوم نسبوا إلى شيء وأضيفوا إليه فهم أمة، وكل جيل من الناس أمة على حدة… قال الخليل: الأَمم: القصد. قال يونس: “هذا أمر مأموم: يأخذ به الناس” [مقاييس اللغة، ابن فارس، ج1، ص20-30].
وقد وردت مادة (الهمزة والميم) في القرآن بمعنى الأصل الذي ينضم إليه ما سواه كما في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 59]. وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: 7].
ووردت بمعنى القصد (وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)، وبمعنى من يُتّبع (فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ). وبمعنى المرجع في قوله تعالى: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) وكلها تقوم على ركنين: الأصل، والانجماع حول هذا الأصل.
وأما مفردة (أمّة) فقد وردت في القرآن ستين مرة “بصيغة المطلق (بتعبير الأصوليين) أو النكرة (بتعبير اللغويين)”(3) وفي هذه المواضع جميعاً جاءت بمعنى الأصل الذي يُقصد ويُرجع إليه، فيشد إليه أو ينجمع إليه ما سواه، فمفهوم (أمة) في القرآن يقوم على الأصل والانجماع إليه؛ ومن هنا جاء الإمام؛ سواء أكان إمام هدى أم ضلال. وعلى ذلك -أيضا – قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:22] أي: وجدناهم مجمعين على دين أو طريقة أو أصل.
وتنكير أو إطلاق مفهوم الأمة يدل على كونه مفهوما مركباً حركيا ضَرَمياً (دينامياً) تتحرك دائرته طبقاً للأصل الذي يشد إليه ما سواه، وتضيق وتتسع بحسب ما ينضمّ إليه، ولا يتوقف على الكثرة أو القلة؛ فقد يُطلق على الفرد وقد يُطلق على الناس جميعا ً.
وبهذا المعنى وصف القرآن الكريم إبراهيم uبأنه أمة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[ النحل: 120]؛ فكل من أتى بعده نسب إليه، وكل الرسل من بعده كانوا من نسله، وقد وجهنا القرآن إلى اتباع ملته (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)[النساء: 125]، (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ) الآية [الحج: 78].
وعلى الجانب الآخر يخبرنا القرآن بأنّ الناس كانوا أمة واحدة، وقد كانوا كذلك في عبوديتهم لخالقهم فهم سواء فكلهم لآدم عليه السلام، وكلهم عباد لله الواحد الأحد، فاختلفوا، (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: 19]. فكان أن أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنـزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:213].
هكذا؛ لم يعد الناس أمة واحدة، فقد اختلفوا وصاروا أمما؛ فكل جماعة من الناس اجتمعوا على أصلٍ أو ما اعتبروه أصلاً صاروا أمّة فأرسل الله الرسل ليبينوا للناس ما اختلفوا فيه (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 36].
ويخبرنا الله جل شأنه أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة – أي بعد اختلافهم – رغماً عنهم، لكنه شاء بحكمته العلية أن يختبرنا ويبلونا فيما آتانا من رسل وكتب وبينات، ثم نُردّ إليه ليقضي بيننا ويبين لنا ما كنا نختلف فيه (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [يونس: 118-119]. وعلى ذلك فلكل أمة شرعة ومنهاج؛ بهما تتميز عن سائر الأمم، فبعد ذكر التوراة والإنجيل يخاطب الله رسوله وصفيّه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].
ورغم اختلاف الشرعة والمنهاج فإن من يتبعون الحق من البشر أمة واحدة مهما تباعدت بينهم المسافات الزمنية والمكانية، فهم أمة وإن لم يعرف بعضهم بعضًا، فقد جمعهم المنهاج (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 181]، فالحق واحد.
الأمة ليست فرعا من أصل أو جزءا من كل:
إذن الأمة هي الأصل أو المقصد أو المرجع ينجمع حوله جماعة من الناس أو مما سواهم؛ فتتشكل المشتركات بينهم طبقاً له (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [هود: 48]، (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38]. وهــذا يدل على أنّ هذه المخلوقات ليست ذات طبيعة مادية أحادية، بل لها وجود معنوي روحي فهي تسبح وتعبد الله.
وعلى ذلك فقد تكون الأمة – باعتبار الزمن – جيلاً أو أجيالاً اجتمعت على أصل أو مقصد ما، فيُعبّر بها عن الزمن – من باب التعبير عن الشيء بلازمه كالقرن – وذلك في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [هود8] , وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) [يوسف45].
ومما سبق يمكن القول بأنّ قوام مفهوم الأمة ركنان: أصل يشد إليه ما سواه، وانجماع إلى هذا الأصل، فالمفهوم – كسائر المفاهيم القرآنية – يعطينا صورة مركبة وحركية، وليس مفهوما بسيطاً ساكناً، كما سيأتي بيانه. والأصل الذي يشد إليه ما سواه لابد أن يكون هو المصدر المُنشئ لها والمشيد لخصائصها؛ وهو كتاب الله المُنـزل، إن كانت أمة كتابية.
فالأمة – على ذلك – لا تكون فرعاً من أصل، أو جزءاً من كل، وإن كان هذا الاستخلاص صحيحاً فكيف نفهم – إذن – آيات كقوله تعالى: (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف 159]، وقوله: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران: 113]، وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة 65- 66]؟
كما سبق فإنّ الأمة تدور مع الأصل الذي تأسست عليه، فأمة الكتاب التي استُحفظت على كتابها (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء..) الآية [المائدة:55]، فلم يحفظوه بل اختلفوا فيه (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)، فكان أن فُككت لديهم مقومات الأمة (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) الآية [البقرة: 145]، بقدر ما فُكك الأصل الذي بُنيت عليه، لأنّ كتاب الله المُنـزل هو المصدر المؤسس للدين، ومن ثَمّ هو المؤسس للأمة. وبتكامل الآيات المختلفة يُفهم من (الآية 159 من سورة الأعراف) أنّ أمة من أهل الكتاب وصف للنهج الذي التزمه بعض منهم في التمسك بالأصل أو المرجعية الحقّة.
المفاهيم القرآنية المرتبطة بمفهوم الأمة:
وهنا سنجد أنّ مفهوم الأمة مرتبط بشبكة مفاهيمية؛ منها: الفُرقة أو التفرق والطائفة والحزب، وحتى يتسنى لنا مقاربة مفهوم الأمة في القرآن لا بد لنا من التعريج على تلك المفاهيم المرتبطة به.
فمن اللافت إيراد القرآن لمفهوم الأمة في مقابل الافتراق والاختلاف (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 51-53].
وكذلك (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 104-105]. وإن كانت الآيتان الأولتان تتحدثان عن افتراق الناس واختلافهم بعد أن كانوا أمة واحدة بأصل العبودية لله – وهو محل الابتلاء والاختبار في الدنيا بأن يعمل كل على شاكلته – فإنّ آية آل عمران تتكلم عن “أمة” وعن الاختلاف والافتراق من زاوية أخرى؛ وهي موضوع الدراسة. فما المراد بالافتراق.
سنبدأ بالتفرق؛ فقد وردت مادة (فرق) في القرآن سبعين مرة، لتدل جميعها على المباينة؛ فبعضها أتى ليتلبس فوق ذلك المعنى بمعنى التقسيم والتجزيء فيدل على جزء من كل كقوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 146]، وقوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: 63]. وبعضها تلبس بمعنى الفصل والتمييز بين أعيان لكل منها وجود مستقل، وهي بذلك تدل على عكس الجمع: (وقال يا بَنِيّ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) الآية، [يوسف:67]، وقوله: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 78].
ولم تحمل جميعها دلالة سلبية؛ فبعضها أتى بمعنى التمييز والفصل بين أهل الحق وأهل الباطل؛ قال تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 25]، وقوله جل شأنه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [الشورى: 7-8]، وقوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الأعراف:30] وهي تأكيد لحقيقة أكد عليها القرآن مراراً أن لو شاء الله لآمن من في الأرض جميعاً، ولدفعهم دفعاً إلى ذلك، فيسلك الناس جميعا طريقاً واحداً، إلاأنه أراد تعالى أن تكون الدنيا دار اختبار، لأنه ترك لنا الاختيار، ثم يتحمل الناس تبعات اختياراتهم في الدنيا والآخرة (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 13-15].
وأتت مادة (فرق) – أيضاً – بمعنى الفصل بين الحق والباطل وصفاً لكتاب الله؛ ومن ذلك: قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان:1]، وكذلك (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء: 48]، وأيضاً وصفًا ليوم بدر (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية [الأنفال: 41].
وأما ما أتى منها بدلالة سلبية فهو تفريق الدين و التفرق فيه؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام:156]، وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:30-32]، وكذلك (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى:13-14]، (وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء:152]، (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
تبين لنا الآيات السابقة منشأ الافتراق المنبوذ والذي يُسلم إلى الاختلاف والتحزب؛ وهو تفريق الدين وتجزيئه، وهو ما نبه إليه القرآن في موضع آخر ووصف من يفعلون ذلك بالمقتسمين الذي جعلوا القرآن عضين (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [الحجر:90-91]، ما يجعل فهمه مشوبا بالتناقض والتضارب.
فالدين هو الأصل الذي به تكونت الأمة؛ فحينما يُجزّأ إما بالعبث في التنـزيل – كما كان في الأمم السابقة – أو يُجزّأ عند التفسير والفهم كما هو الحال في أمتنا – فيتم التعاطي مع الدين باعتباره أجزاء أو أحكام جزئية؛ دون الالتفات إلى بنيته الكلية؛ ويُفهم كل جزء منه بمعزل عن سائره؛ ولاحقا يُقتطع ليُبنى عليه تصور للدين؛ فإن ذلك يُسلم إلى تفاوتٍ وتباينٍ في صورة المرجعية كما يدركها المنتسبون إليها – وهذا بدوره يؤدي إلى الاختلاف، ومن ثَمّ إلى الصراع والتحارب. وما ذلك إلا لأنّ تقسيم الدين وتفريقه حال بيننا وبين مرجعيته، وحجب عنا حاكميته وفاعليته في حياتنا، فيبغي بعضنا على بعض ويظلم بعضنا بعضا، ونقطع ما أمر الله به أن يوصل؛ وكلٌ يعزو فعله إلى الإسلام. وبذلك لا يقف الأمر عند الاختلاف في آراء مجردة، بل تقوم عليها بنىً ثقافية واجتماعية متباينة.
غير أنّ ما تتميز به أمة الإسلام عن غيرها هو أنّ كتابها (القرآن المجيد) محفوظ من قبل الله تعالى، فالأصل الذي يشد إليه ما سواه؛ معينها الذي لا ينضب؛ محفوظ قائم إلى يوم الدين.فإن وقع تفريق الدين في فهم أتباعه (أي في التدين)، فلن يكون في الدين ذاته، لأن مرجعيته أو نواته الصلبة – إذا صح التعبير – منفصلة عنهم، ومتجاوزة لهم، فلم تتفكك في ذاتها حتى تتنازعها التفاسير، ليتحول كل تفسير في ذاته إلى مرجعية.
قصور الفرقة عن إقامة الدين:
فالفِرقة – على ما سبق – هي جزء من الأمة لا تستطيع أن تقيم الدين لسببين: الأول متعلق ببنيتها الفكرية والمتمثلة في النظر والفهم الاجتزائي للدين؛ أي: تفكيكه والتعامل معه كمجموعة من الأدلة والأحكام الجزئية. فتذهب كل فرقة ببعض منه وتفهمه بمعزل عن سائره، لتبني على هذا الفهم الجزئي تصوراتها الكلية عن الدين. والثاني أنها لا تستطيع تجاوز دائرتها الضيقة في الحركة وما ذلك إلا لأنها ترى نفسها الإسلام، فالمرجعية لم تعد مقصدا تتحرك نحوه، لأنها طابقتها، فتجعل من نفسها مركزا يُقاس عليه الآخرون، مما يثمر خطاباً استعلائياً على المخالفين. فهي بذلك نموذج تفكيكي في فهم الدين وفي الحركة في الواقع بتقطيعها لما أمر الله به أن يوصل.
والحق أن نسبية الإدراك الإنساني وقصوره، تجعل القابلية لتعضية الدين نزوعاً كامناً في الإنسان وليس عارضاً، ولكنه كأي نزوع بشري لابد من مدافعته طلباً للحق، ومدافعته لن تتأتى إلا بفهم المسافة الفاصلة بين المطلق (الوحي) والنسبي (التفسير الإنساني)، ومدافعة وهم انطباقهما؛ إما بسحب مطلقية الوحي على التفسير، أو بإسقاط نسبية التفسير على الوحي، فكلاهما يؤدي إلى ذات النتيجة؛ وإن عبْر طريقتين متضادين. فالنتيجة المحتومة لكلا المسارين – إن حدث التماهي فيهما – هو تعطيل حاكمية الوحي، ولكن – كما سبق – ما يحول دون هذا التماهي هو حفظ الله لكتابه.
وبذلك فإن الفيصل في تعريف الفرقة هو العلاقة بين المطلق والنسبي كما هو في وعيها. وهذا هو ما ستفصل فيه الدراسة فيما هو آت.
مقارنة بين نموذج الأمة ونموذج الفرقة (الناجية):
ولعله من الأهمية بمكان أن نتوقف عند الأبعاد التي يختلف فيها نموذج الفرقة عن نموذج الأمة. فنموذج الأمة – كما سبق – يقوم على أصل يشد إليه ما سواه؛ يتحرك الناس نحوه ويجتمعون عليه (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ). فالأمة ليست هي جماعة الناس في وجودها المادي الساكن، وإنما في قصدهم وحركتهم تجاه هذا الأصل؛ وبذلك فإن نموذج الأمة يطرح لنا صورة حركية لا ساكنة(4)، وهو ما يعني أيضا أنه لا يشير إلى جماعة معينة تعيينا ثابتا، ولذلك جاءت لفظة “أمة” منكّرة بلا (ال) التعريف. وهنا يتضح لنا فداحة الخطأ الذي وقعنا فيه لما فهمنا قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، وقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) بوصفه خطابا تعيينيا؛ يستدعي صورة ساكنة لجماعة محددة من الناس؛ وإنما هي وصف لشخصية هذا الدين (الأصل)؛ التي يجب أن يتمثلها من ينتسب إليه في حركته نحوه وقصدِه إياه؛ فهي – إذن – صورة حركية مركبة.
وينبني على ما سبق أنّ مركز النسْق (الأصل الذي يشد إليه ما سواه وهو الإسلام بأصليه المنشئ والمُبيِّن وهما القرآن و السنة النبوية الصحيحة المتعاضدة معه) يبقى في نموذج الأمة خارج النسق، وأتباعه – أو المنتسبون له – يتحركون نحوه مقاربة وتسديدا؛ تفسيراً وفهماً، دون الانطباق؛ أو بالأحرى ادعاء الانطباق. فالحكم بالإصابة هو لله وحده (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:49].
أي أنّ أحدنا لا يستطيع أن يدعي أنه بتفسيره وفهمه أصاب مراد الله وطابقه؛ حتى صار هو المركز، فتحُلّ المرجعية في تفسيره أو تطبيقه، ويقيس الآخرين على نفسه؛ وهذا هو نموذج الفرقة الناجية.
ففي نموذج الفرقة الناجية تتلاشى المسافة بين الذات والمرجعية؛ وتسحب مطلقية الوحي على التفسير، وتحل تزكية النفس محل النفس اللوامة. بمعنى أنها نموذج حلولي على طريقة (نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). بينما تظل تلك المسافة قائمة في نموذج الأمة؛ وهي المسافة التي أكد القرآن عليها؛ حتى بين الأنبياء والرسل المبلِّغين كما في حال موسى uعندما قتل خطأً رجلاً من عدوه بغير حق، وحينما عاتب القرآن محمدا rلما عبس بوجه الأعمى وإن كان ذلك من فرط حرصه على التمكين للدعوة. ولعل هذا ما يلفتنا إليه قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) [الفتح: 1-2]، فكل أنبياء الله عباد له وهذا ما أكد عليه القرآن في غير موضع بما يقتضيه هذا من أنهم مبتلون ومحاسبون. وكذلك نجد القرآن قد أكّد على المسافة بين الصفة والموصوف، فلا يكون انطباق الصفة على الموصوف ساكنا أبديا – وهذا ما سيتضح عند معالجة الحنيفية-.
كيف أبرز القرآن دور الطائفة؟
(ط و ف): أصل واحد صحيح يدل على دوران الشيء على الشيء، وأن يحُفّ به، ثم يُحمل عليه…. فأما الطائفة من الناس: فكأنها جماعة تطيف بالواحد أو بالشيء… ثم يتوسعون في ذلك… فيقولون أخذت طائفة من الثوب: أي قطعة منه،… لأنّ الطائفة من الناس كالفرقة والقطعة منهم”(5).
وقد وردت (طائفة) في القرآن لتدل على جماعة من الناس تشكل جزءاً من كل. ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) الآية [النساء:102]، وكذلك: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً) [الأحزاب:12-13] ولعلنا نستطيع أن نقارب الفرق بين الطائفة والفريق إذ وردا في الآية السابقة؛ فقد وردت “طائفة” في مقام التعبير عن مجموعة من المنافقين جاهروا بما في صدورهم يوم الأحزاب وخاطبوا أهل يثرب بقصد إيقاع الفتنة بين المهاجرين والأنصار بأن لا مقام لكم، أي أنّها تميزت عن سائر المنافقين بالمجاهرة. وأما فريق فقد وردت في مقام التعبير عن مجموعة من هؤلاء المنافقين أرادو الانفصال والفرار.
فالطائفة هي جماعة تمثل جزءاً من كل حال تمايزها عن سائر الأجزاء بصفات أو أفعال، وأما الفرقة أو الفريق فهو الجماعة حال انفصالها عن الكل أو للدلالة على أعيان لكل منها وجود مستقل. فاتجاه الحركة لكل من الطائفة والفرقة مختلف قد يصل إلى درجة التضاد. وعلى ذلك فالطائفة هي جماعة تمثل جزءاً من جماعة أكبر دون أن تنفصل عنها فإذا ما انفصلت تحولت إلى فريق أو فِرقة. وبطريقة أخرى هي دائرة انتماء أصغر تتحرك داخل دائرة أكبر، وهي بذلك قد تصلح لأن تكون نموذجاً للتغيير؛ ولإقامة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنّ القرآن لم يقدمها لهذا الدور، بل على العكس من ذلك أوضح أنها لا تصلح له.
فعندما توجد أكثر من طائفة داخل الأمة، وينشب بينها صراع، يبرز دور الأمة كحَكَم لاحتواء الصراع وحل النـزاع (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:9-10]. فالقرآن هنا لا يخاطب طائفة ثالثة وإنما يخاطب المؤمنين؛ أي الأمة، التي يجب أن تصلح بين المتقاتلين، فإن بغت إحداهما بعد الصلح، كان قتالها للطائفة الباغية مرهون بكونها أمة، حتى يكون قتالها كفاً للبغي وليس توسيعا لدائرة الصراع، ثم تعود للإصلاح طبقاً للعدل والقسط لأنها ليست طرفاً، وإنما حَكَم وملاذ فلا إقصاء ولا إلغاء.
وبذلك فإن الطائفة هي إفراز طبيعي للتفاعل الإنساني والاجتماعي بين أبناء الأمة، وهي في ذلك تبقى ناظرة في حركتها تجاه المركز، لكنها لا تستطيع أن تتصدى للقيام بالتغيير، لأنها جزء من الواقع الذي يجب تغييره أو معالجته، ومع ذلك فهي لا تفكك مفهوم الأمة كما هو الحال مع الفرقة.
فماذا عن الحزب(6)؟
حزب: جاء في مقاييس اللغة: “الحاء والزاي والباء أصل واحد هو تجمع الشيء…”(7) وقد وردت في القرآن ثمانية عشر مرة لتدل على من جمعهم هوى ورأي واحد، حتى وإن لم يجمعهم الزمان والمكان (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) [ص: 12-14]. وكما أنه هناك حزب الشيطان (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة:18-19]، وقوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]. ففي المقابل هناك حزب الله (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56]، وقوله: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].
وجاءت الأحزاب – جمعاً – على نقيض الصراط الواحد المستقيم (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم: 34-37]، وكذلك في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف: 63-65].
وجاءت “حزب” على نقيض “أمة” وعلى نقيض الدين القيم لتدل على تفريق الدين (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون: 51-54]، وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 30-32]. فقد وردت “حزب” مفردة بمعنى التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل، فالأولون كلهم حزب واحد هو حزب الله، والآخرون كلهم حزب هو حزب الشيطان؛ وتلك دلالة إيجابية. وأما “أحزاب” – بالجمع – فقد وردت بدلالة سلبية لتدل على تفريق الدين.
المفاهيم القرآنية بين الحال والمآل:
وهنا لا بد أن نتوقف عند قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة) – فكما سبق – فإنّ الخطاب موجه للمؤمنين؛ ويطالبهم أن يكون منهم أمة؛ فنحن إذن بين وجودين: وجود قائم يشمل كل المنتسبين لهذا الدين، ووجود منشود لإقامة الدين. وأيضاً فإنّ لفظة “منكم” سواء أكانت تدل على التبعيض أو التبيين، فهي تدل على أنّ الاستجابة لن تتحقق من كل المؤمنين كما لو قال (فلتكونوا أمة)، وهذا يعني أن هذا البعض يجب أن ينحو كأمة لا كفرقة، ولا كحزب، ولا كطائفة، فيكف نفهم هذا؟
وقبل النظر في الفرق بين الأمة وبين الحزب والفرقة، يحسن أن نشير إلى ما تشترك فيه هذه المفاهيم، فكل من مفهوم أمة، وفرقة أو فريق، وحزب، يدل على جماعات بشرية يربطها رابط النهج أو الطريق، وليست روابط طبيعية كالعشيرة والقوم والشعوب والقبائل، وأما الطائفة فتحتمل كلا النوعين من الروابط؛ ولذلك فلن نأتي على ذكرها عند المقارنة باعتبار أنّ ما سيصدق على الفرقة والحزب سيصدق عليها ضمناً.
وبالتدبر لموارد تلك المفاهيم – على سبيل المقاربة دون ادعاء الإصابة – سنجد أنّ هناك مستويين لتلك المفاهيم؛ فهناك مفاهيم متعلقة بـ المآل، ومفاهيم متعلقة بـ الحال في دار الابتلاء.
فمفاهيم المآل ترتبط بالحكم النهائي الذي يحكم الله به على بعض خلقه تعييناً باستحقاقهم لوصفٍ أو تصنيفٍ معين، وهذا الحكم ليس لأحد من البشر وإنما هو لله فقط، فيرد في القرآن على سبيل استحثاث المؤمنين لنيل هذا الوصف أو تجنبه، وأما الحكم باستحقاقه فللّه وحده هو الذي يقضي بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَـلِفُـونَ) [يونس: 19] وقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة:48]، وقوله: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل:92]، وكذلك (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر: 46].
فللّه وحده الحكم بمن يستحق النجاة فيكون من فريق الجنة، ومن يستحق الهلاك فيكون من فريق السعير. ومن يستحق أن يُصنف من حزب الله، أو أن يصنف من الحزب المضاد، حزب الشيطان، وأما في دار العمل فليس لنا أن نـزكي أنفسنا، وإنما نجتهد لنيل هذا الوصف، أو اتقائه.
وعلى ذلك فإنّ كلاً من مفهومي الفِرقة أو الفريق، والحزب يندرجان تحت مفاهيم المآل، وأما مفهوم الأمة فهو من مفاهيم الحال، لأنه يبين لنا النهج الذي يجب أن نسلكه في دار الابتلاء كي نصل إلى حسن العاقبة. ولذا نجد القرآن قد ربط بين مفهوم الأمة والابتلاء (كما في آيات المائدة 48، والنحل 92)، وكذلك ربطها بالعمل وبالقيام بأمر الدين في دار العمل (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 181]، و(وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 159]، و(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) الآية: [الحج: 34]، (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 113-114]، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) الآية: [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:107-108]، ولما ذكر الأمة في سياق الحديث عن يوم الحساب قال جل شأنه: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 28] فقد أحالتنا الآية إلى دار العمل؛ فكلٌ يُجازى بعمله، ولم تحدثنا عن أمة هالكة أو ناجية، فمفهوم الأمة يستحضر نهج الحركة في دار العمل والابتلاء. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولكن ليبلوهم فيما آتاهم، ولِيعمل كل على شاكلته، ثم يأتي يوم الحساب والجزاء؛ ففريق في الجنة وفريق في السعير.
إنّ الخلط بين المستويين باستحضار مفاهيم المآل كنماذج للحركة في دار الابتلاء يؤدي إلى ضمور المسافة بين الذات والمرجعية، وذلك بتنـزيلها على الواقع تعيينا، لأننا لا يسعنا استحضارها في دار العمل دون استبطانٍ لتصنيفات وأحكام نهائية وتعميمية بالنجاة أو الهلاك؛ تُستنـزل تعيينا(8)، في حين أنّ الحكم باستحقاقها تعيينا ليس لأحد إلا الله. وباستنـزالها على الواقع تتشكل عند الفرد أو الجماعة صورة “مقدسة عن الذات” تورث وهْم الاصطفاء على شاكلة “أبناء الله وأحباؤه”، وهذه هي الإشكالية البنيوية الكامنة في خطاب التعيين حينما يكون صادرا من بشر غير مُبلَّغ من الله(9).
وربما يقدم التمييز بين مفاهيم المآل والحال تفسيراً أكثر اتساقاً – على سبيل المقاربة – لإيراد القرآن لفظ “الفرقة أو الفريق أو التفريق”، وكذلك “الحزب” بدلالة سلبية في بعض المواضع وإيجابية في مواضع أخرى.
فهل يعني ما سبق استواء الصواب والخطأ وعدم القدرة على التمييز بينهما في الدنيا؟
مما لا شك فيه أنّ الإنسان إن لم يصل إلى قناعة مُطَمْئنة بأنه على صواب فلن يختار طريقاً من بين الطرق ليمضي فيه، فلو تساوت عنده كل الاتجاهات سيتجمد مكانه بلا حراك، أو يخبط خبط العشواء بلا دليل، أو يُسْلِم نفسه لنداء الغرائز؛ فهي وحدها ما يمكن التيقن منه والحال كذلك.
ولقد كانت من دعاوى الكافرين أنهم لم يتبينوا الحق، فقادهم عدم التبين أو الاشتباه إلى طريق الكفر. ولذلك أكد القرآن مرارا على قضية “البينونة”؛ فوصف الله كتابه وآياته ورسله ونذره والبلاغ والحق والفضل والرشد بذلك، وعلى الجانب الآخر وصف الضلال والغي والظلم والإفك والكفر بذلك أيضاً. فنجدها في القرآن وُصِفت بالبيِّن والمُبين؛ ما يدل على أن تمييزها من بعضها البعض ممكن في الدنيا، وإلا لما تمت حجة الله على الناس.
والبينونة في القرآن تغطي كل المساحات؛ بدءاً من الحسيات التي يستطيع الإنسان تَبيُّنَها بمباشرة حواسه كثعبان موسى (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ) [الأعراف: 107] فكان بوسع الحاضرين أن يتبينوا حقيقته في مقابل مَخْرَقات سحرة فرعون، وكان من إبانته أنه لقف ما يأفكون.
وهناك بينات بحاجة إلى التدبر كما في قوله تعالى: (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) [إبراهيم:44-45]. فقد غرهم الأمل في الخلود رغم أنهم سكنوا في مساكن من سبقوهم، وبدلا من أن يعتبروا بحالهم ويوقنوا بأنهم إلى زوال، اطمأنوا إلى الحياة الدنيا وفرحوا بها.
وهناك آيات يُستدل بها على الغيبيات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) [الحج:5-7]. والبينات التي تتحدث عنها الآيات ليست واحدة في مستوى التبيُّن؛ استنادا إلى معرفة الإنسان؛ فبعضها ظاهر لكل الناس في كل زمان ومكان، وبعضها يعتمد على اكتساب معرفي، ولكل قوم أو جيل آية تصلح لأن تكون حجة عليهم، فلا يخلو زمان أو مكان من تلك البينات.
وفي قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) دلالة لا لبس فيها على أنّ كلا الطريقين بيِّن ولكلٍ أن يختار هذا أو ذاك.
وقد طمأن الله المؤمنين الذين فتحوا قلوبهم لتعي آيات الله، وبشرهم برحمته، وأنه لن يتركهم للجهالة فيسقطون في الذنوب، دون تنبيه لهم، فسيُبيّن لهم سبيل المجرمين، وهم بدورهم متى تبينوا لم يصروا على ما فعلوا، فيتوبوا، فيغفر لهم (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:54-55] فيُبيّن لهم سبيل المجرمين حتى يتجنبوه، والآية تُشعر بأنّ المؤمن يتعلم من جدله مع الواقع، فتفصيل الآيات يأتي بمُنازلة الوقائع، وقد تشتبه على المؤمن بعض الوقائع؛ فيعمل سوءا بجهالة، فإذا ما تبيّن له سوء عمله تاب وأصلح. فالجهالة هنا – والله أعلم – ليست جهالة بالكليات، وإنما بتنـزيلها على الوقائع الجزئية، ولذا كانت مجانبة سبيل المجرمين هي المحك.
وفي مقابل ذلك (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
فالبينات قائمة ولكن الإنسان قد يتبينها ويجحدها، وقد يحول بينه وبين قراءتها على الوجه الذي يجب حُجُبٌ عدة. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [آل عمران: 23-24] فما حال بينهم وبين حاكمية الكتاب أنهم غرّوا أنفسهم بوهْم الإفلات من العقاب، وكذلك بأنهم أبناء الله وأحباؤه (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية [المائدة:18]، تلك المقولة التي افتروها في دين الله؛ والتي بها ضمرت المسافة بينهم وبين المرجعية التي آمنوا بها في وعيهم، وحينها لا يكون الإنسان قادرا على توصيف أفعاله طبقاً لهذه المرجعية فيكذب على نفسه (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [الأنعام:22-24].
إذن؛ هناك النفس المُكلَّفة المُبتلاة، والمرجعية، والقضية محلُ الابتلاء، فحتى تحسن النفس قراءة القضية محل الابتلاء؛ وتتبيّن فيها سبيل الرشد من الغي لا بد أن تعود إلى المرجعية، فإذا ما ضمرت المسافة بين النفس والمرجعية، سيختلط ما تسوّله النفس بما ترشد إليه المرجعية، ويتداخل صوت المرجعية مع أصوات الرغبات والأهواء والمصالح؛ حتى إذا ما سلكت النفس سبيل الغي أخذت تزين لصاحبها فعله وتسوغه له وتجادل المرجعيةَ عنه، فيصرّ عليه، وبذلك تتحول ذاته إلى مرجعية فعلية تُقاس عليها المرجعية التي ينتسب إليها. فهذا هو طريق الضلال والخسران (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) [الكهف: 103-105]، وأما النفس اللوامة فتجادل نفسَها(10) – لا عن نفسها – لتصل بها إلى الإقرار بظلمها، كما قال موسى u: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي). فإن كانت كل نفس ستجادل عن نفسها يوم القيامة لأنه يوم الحساب(11)، فمن باب أوْلى ألا تنشغل بذلك في دار العمل، وأن تنصرف إلى لومها. هذا هو المكون النفسي الذي يهيئ لقراءة آيات الله والاعتبار بها.
والقصد: أنّ الحفاظ على المسافة بين الذات والمرجعية في وعي المؤمن وإدراكه ليس هو ما يؤدي إلى تمويع الحقائق؛ وإنما توهم انطباقهما (أي حلول المرجعية في الذات) هو ما يؤدي إلى ذلك. فالمؤمن متى وعى بهذه المسافة فإنه يختار – متى صدق العزم – ما يرى أنه أقرب إلى رضى الله، لكنه لا يطمئن إلى كونه بلغ الغاية في ذلك، فيظل مراقباً لتغيرات نفسه وتغيرات الواقع. بما يعني أنّ حركته متوجهة صوب مرضاة الله، فليست كل الاتجاهات عنده سواء، وفي ذات الوقت لا يرى لحركته تلك نهاية إلا بانقطاع التكليف والتحول عن دار العمل؛ وهذا هو قوام وسطية الإسلام. في حين أنّ توهّم انطباق الذات والمرجعية، لا يعني إلا انقطاع هذه الحركة، التي باتت بالنسبة لصاحب هذا الوهم مرحلة تم تجاوزها، فيُسلمه ذلك شيئاً فشيئاً – بالتداعي التلقائي – إلى فقدان المقصد، فتتساوى عنده كل الجهات. وإن كانت شخصية هذا الدين تحول دون تمام أدوار هذا التداعي على مستوى الأمة، مهما بلغ استعداد المنتسبين له، أو بعضهم، لذلك.
ونعود للأمة فنقول:
الأمة ليست َنسْقاً مغلقاً:
فالأمة – كما سبق – قد تتسع لتشمل الناس جميعاً، فالانتساب لها يتحقق بالانتساب إلى أصلها، وهي بذلك ليست نسقا مغلقا يعتمد الانتماء إليه على عوامل وروابط وجودية لا حيلة للإنسان فيها؛ كما هو الحال في الانتساب لقوم أو قبيلة أو شعب، وعلى ذلك فإن خطاب الأمة لا بد أن يكون ناظرا إلى الناس جميعاً باعتبارهم منتمين مُحتملين لها.
وهذا فارق رئيس بين النسق الإسلامي والنسق الإسرائيلي؛ فالأخير نسق قومي مغلق، حيث قصُر بنو اسرائيل عن تخطي حواجزه؛ فقد أخفقوا في الاستجابة لأمر الله لهم بأن يبينوا للناس ما أُنـزل إليهم و يقولوا للناس حسنا ً، فانتهجوا نهجا استعلائيا على الأغيار وقالوا (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
إن تحويل الانتساب إلى أمة الإسلام إلى انتساب قبلي أو ما يشبه الانتساب إلى نسق مغلق هو انحراف خطير عن النهج القرآني، لأنه يقوم على حكم نهائي بملازمة الحق لجماعة بشرية معينة دائما وفي كل أحوالها، وكل من سواها مُبطِل دائما وفي كل أحواله، ولعل هذا ما وجهنا إليه القرآن من خلال قصة موسى uحينما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان؛ هذا من شيعته (إسرائيلي)، وهذا من عدوه (قبطي) فانحاز مباشرة للذي من شيعته. وهنا تستوقفنا دقة التعبير القرآني؛ فلم يصفهما القرآن بأن الأول مؤمن والثاني كافر- رغم صدق هذا الوصف عليهما -، كما أنّه لم يوضح لنا أيهما محق وأيهما مبطل، بل إنه وصف لنا ما رأته عينا موسى uوما اعتمل في صدره للوهلة الأولى، فقد استحضر مظلومية بني اسرائيل وما حل بهم من استضعاف (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:4]، فلما تبين قال: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ) ولما عيره فرعون – على طغيانه وظلمه – بفعلته قال عليه السلام: (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).
وقد أخبرنا القرآن كيف يصير الانتماء لأمة الإسلام انتماء لنسق مغلق، بتتبعه لتلك الصيرورة كما وقع فيها بنو إسرائيل؛ حينما تلاشت في وعيهم المسافة بين المرجعية وبين التطبيق البشري، أو بين الذات والمرجعية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ)، وانطبق المثال على الواقع في وعيهم، فأُضفيت قداسة مُتوهَّمَة على تلك الجماعة البشرية تعيينا، إذ وصفوا أنفسهم بأنهم (أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فرد عليهم القرآن: (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ)، وادّعوا لأنفسهم النجاة في الآخرة بقولهم: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ).
وهنا لا بد أن نتوقف عند خطر القراءة السكونية للقرآن؛ والتي تتعامل معه – عند تنـزيله على الواقع – بوصفه خطابا وصفياً متعينا في قالب تطبيقي، أو تمثل مادي معين، لا خطابا متجاوزا ومطلقاً، حتى لا يكاد يُفهم الخطاب القرآني بمعزل عنه، فتحل المرجعية فيه شيئا فشيئا، ليصير لا حقا في وعي البعض هو المرجعية، وكأنّ القرآن أنـزل ليوافق هؤلاء أو أولئك. وبذلك يُوُثّن ذلك التمثُّل التفسيري أو التطبيقي، فتتحول حينها الأمة في وعي هؤلاء إلى نسق مغلق يضيق شيئا فشيئا، ليصير الفرقة الناجية. فحينما ينغلق النسق في وعي البعض بالقراءة السكونية لن تكون أمة، وإنما الفرقة الناجية، التي تحل فيها المرجعية، لتصبح هي المركز وتُصاغ المعايير على قياسها.
إلا أنّ ما يحول دون تمام الانغلاق في الأنساق المتفرعة عن الإسلام هو أن نواة الإسلام الصلبة – كتاب الله – محفوظة من قبله U، فالتفاسير نسبية مهما ادّعت أنها أصابت مراد الله وطابقته، والتطبيقات البشرية تُطوى صفحاتها بمداولة الأيام بين الناس، وتبقى المرجعية مطلقة متجاوزة لكل السياقات، متأبِّيَة على محاولات البشر لأسرها؛ وهذا هو جوهر التوحيد.
وعلى ما سبق فلا يمكن أن نفهم “أمة” في قوله تعالى وهو يخاطب المؤمنين: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ) على أنها دائرة انتماء صغيرة بين دوائر أخرى تتحرك داخل دائرة أكبر أو بمعزل عنها، كما نفهم من الفرقة والطائفة والحزب؛ ذلك أنّ الفيصل في عدم تحول مجموعة من المسلمين أو المؤمنين في حركتهم لإقامة الدين إلى طائفة أو فرقة أو حزب هو جلاء المسافة بين الذات والمرجعية في وعيهم بأنفسهم وبأنّ تفسيرهم للدين وتطبيقهم له هو على سبيل التسديد والمقاربة؛ لا الإصابة، وبقدر تضاؤل هذه المسافة في وعيهم بقدر ما تتحول حركتهم شيئاً فشيئاً عن كونها أمة، لتتخذ منحى الفرقة أو الحزب، وبذلك تعجز عن إقامة الدين، لتكون سبباً في تفريقه وتفكيك أمة الإسلام، “فالأمة من ذات الأمة هو ما يتخللها لا بما يتجسد بمعزل عنها…”(12) فلا مكان للخطاب العصبوي أو الاستعلائي الذي يستبطن وهم التفويض بدلاً من التكليف.
إنّ (أمة من أمة) تعني تجدد فاعلية الأمة كلما خبت، روحاً تنبثق مجدداً كلما زهقت، إنها شروق متجدد بعد كل غروب، كخروج الحي من الميت، وخروج النهار من الليل. وقد تقوم مجموعة من المسلمين بهذا الدور في انطلاقتهم الأولى، ولكن انطباق الذات على المرجعية في وعيهم يحرف مسار الحركة، ليصبح الانتماء لجماعتهم مساوياً للانتماء للإسلام، فيكون تبني هذا التفسير والانتماء لهذا التطبيق هو محك الولاء والبراء، وبذلك تتحول إلى دائرة انتماء عصبوية، وتمضي صيرورة تفريق الدين إلى غايتها، فتتصارع تلك الأفراق على شرعية تمثيل الإسلام، لنصل إلى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). ثم يخرج غيرهم ليقوم بهذا الدور حتى حين، وهكذا تمضي سنة الاستخلاف ومداولة الأيام بين الناس.
فنحن مأمورون – إذن – بإقامة الأمة لأنها هي المؤهلة والمخولة بإقامة الدين (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [ آل عمران: 104-105]، وحينما أمر الله بإقامة الدين خاطب المؤمنين جميعاً؛ أي الأمة التي تنتسب إلى هذا الدين أو تدعي ذلك: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الآية، [الشورى:13].
فالأمة هي صاحبة الحق الأصيل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس الحاكم أو الدولة ولا الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة. إنه لفارق كبير بين رؤى التغيير التي يولدها نموذج الأمة وبين تلك التي يولدها نموذج الفرقة الناجية، فارق يصل لحد التضاد، فبينما يولد نموذج الأمة رؤى كلية، يولّد نموذج الفرقة الناجية رؤى جزئية استعلائية وعصبوية تقطّع ما أمر الله به أن يوصل، وتقطّع الأرحام وهو من الإفساد في الأرض باستبطانها لوهم التفويض بصياغة تصورات المآل، بدلاً من الحال. ولذلك فهي تفكيكية (على المستوى الفكري والاجتماعي)؛ تنساق خلف تشعبات وتشظيات لا نهائية؛ لا طاقة لها بتسكين القضايا في سياق أكبر، أو ربط الجزئي بالكلي، ليصل الأمر إلى تعطيل المرجعية بقراءتها قراءة تعيينية.
العلاقة بين الأمة والفرد:
وبعد أن توصلنا إلى أنّ الأمة ليست جزءا من كل، وأنها على نقيض العصبوية في الحركة، فهل هذا يعني تكبيلا لأبنائها؛ وكأنها كيان جمعي متعالٍ يقهر أبناءه ماديا ومعنويا، من خلال سيطرة نخبة عليه توجهه حيث تشاء؟! فلنعد إلى كتاب الله لنستهديه. يقول تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً). ويقول أيضا جل شأنه في وصف من ضلوا السبيل من خلال اتباعهم لقوالب متوارثة (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) فقد أنكر القرآن أن يكون الاتباع للآباء دون نظر في الأصل أو النهج الذي اجتمعوا عليه.
ولأنّ مفهوم الأمة حركي مطلق – كما سبق – ولأن نموذج الأمة يُبقي على مرجعية متجاوزة لأتباعها، ويقطع الطريق على ادعاء مطابقتها، ولأن المنتسبين لها يتحركون نحوها مقاربة وتسديدا – أقول لكل هذا – فإنها تترك لأبنائها أفقاً واسعاً للحركة ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وليس فردا معيناً أو جماعة معينة تُختزل فيه الأمة والمرجعية لحد التوثين. وفكريا على كل فرد ألا ينصاع للسائد فعليه أن يراجع ويتفكر ويتدبر (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا..) الآية [سبأ:46]. ومع ذلك فالفرد في حركته يستحضر كل ما يربطه بمن حوله، وإلا كانت حركته إفسادا في الأرض وتقطيعا لما أمر الله به أن يوصل. وهو في حركته يقارب ويسدد؛ دون توهم احتكار الحق في إقامة الدين استعلاءً و استناداً إلى ما يظنه تفويضاً إلهياً، ما يحول دون تشكل سلطةكهنوتية.
إقامة الأمة(13):
بداية، لا بد من التمييز بين إقامة الأمة وإنشائها، فالرسول rهو من أنشأها بوصفه مبلغًا عن الله – عز وجل -، فلحظة الإنشاء تلك لا يمكن تكرارها أو إعادتها لأنها مرتبطة بنـزول الوحي مُنجَّمًا، وأما إعادة إقامتها فمرتبطة بقراءته وتفسيره في وحدته البنائية وتنـزيله على الواقع.
دولة أم أمة:
هناك من يرى أنّ الرسول rقد أنشأ دولة، ورغم أنّ هذا ليس فضلاً ولا مكرمة يمتاز بها رسول الله على سائر البشر فما أكثر من أسسوا دولاً ثم دالت من بعد ذلك، متغاضين عن حقيقة ساطعة لا مراء فيها أنّ رسول الله rقد أنشأ أمة. وتقوم بعض رؤى التغيير على فكرة رئيسة وهي أنّ الرسول rقد أنشأ دولة الإسلام، حتى يتسنى له إقامة الدين وتثبيت أركان الدعوة؛ بمعنى أنها أمر إلهي وليست تطورا طبيعيا واستجابة لاحتياجات الاجتماع السياسي، وينبني على هذا أن الإسلام دين ودولة؛ فتدخل الدولة بذلك في قضايا الأصول، وتُصاغ للإسلام تصورات سلطوية فوقية مغيبة للأمة. ولذا نحن بحاجة إلى تحرير تلك المقولات.
وحتى لا ندخل في جدال حول ما إذا كان رسول الله rقد أسس دولة من عدمه، سنكتفي بالبرهنة على أنّ بنية سلطوية (هرمية) تتكون من مستويين؛ قمة تتخذ القرار وقاعدة تنفذ لا أثر لها في سيرة رسول الله rوطريقة تعامله مع صحابته الكرام.
ومستندنا في ذلك قوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] فالآية تحدثنا عن (معية) تلخص علاقة رسول الله rبصحابته، لا تبعية، فهم أصحاب لا أتباع؛ فيتقاسمون كل شيء، ويتراحمون فيما بينهم، فلم يكن هناك آمر ومأمور، إلا فيما يوحيه الله إليه – بوصفه مبلغا ومبيناً -، وهو في ذلك مأمور من الله كما هم مأمورون، إلا أنه مبلِّغ عنه تعالى ومُبيِّن.
وقد أتت هذه الآية في نهاية سورة الفتح التي تناولت شئون الاجتماع السياسي للجماعة المسلمة؛ – أي: للأمة – (والتي تجسدت آنذاك في جيل التلقي)، وتتناول الجوانب الروحية والمادية لمجتمع المدينة. فيتناول في أول السورة قضية الإيمان، وميز لنا بين المؤمنين والمنافقين، ليمهد لحقيقة أنّ من يبايع الرسول فإنه يبايع الله؛ فالأمر ليس بين المؤمنين ورسول الله، والرسول ليس كأي قائد – فلا يُقاس عليه -، وبالتالي يُصنف الناس طبقا لهذه البيعة وطبقا للوفاء بها إلى مؤمنين وغير مؤمنين.
ثم ينتقل الحديث إلى المُخلّفين (المنافقين) الذين ينشطون عند جمع الغنائم وينتحلون الأعذار عندما يحين البذل والعطاء، ثم تشير السورة إلى نقلة نوعية وهي الخروج بالدعوة خارج الدائرة الضيقة التي كانت تتحرك فيها؛ فقد كانت كل المواجهات السابقة مع قوم النبي rفي دائرة ضيقة داخل الجزيرة العربية؛ وذلك في قوله تعالى: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الآية: الفتح: 16].
سورة الفتح إذن تصف لنا البنية الاجتماعية والسياسية القائمة آنذاك في مجتمع المدينة، بتطورها ودخولها في مرحلة جديدة استحقت أن توصف بالفتح، ورغم ذلك فهيكلية الأمر أو اتخاذ القرار لم تتخذ بنية سلطوية هرمية وإنما بنية “المعية”. و”المعية” التي يحدثنا عنها القرآن تحكي لنا السيرة النبوية كيف تحققت حينما تذمر المسلمون من بنود صلح الحديبية – والذي لم يصدر فيه رسول الله من تلقاء نفسه وإنما بأمر من الله U(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح:24 ]- والتي بموجبها حيل بينهم وبين دخول مكة لعامهم هذا، ورُدّ المسلمون الفارون من قريش إليها، فقالوا له: “يا رسول الله، تكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً” فلما أمرهم الرسول rبأن “ينحروا الهدي ويحلقوا رؤوسهم وكرر ذلك ثلاثاً لم يقم منهم أحد، فلما رأوه قام – بمشورة من أم سلمة (رضي الله عنها) – فذبح بدنه وحلق رأسه، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً”(14). كان ذلك رغم أنّ الأمر لا مجال فيه للرأي، إنها المعية – إذن – التي كانت تربطهم برسول الله rوليست التبعية، فقد ألّف الله بين قلوبهم، فأين هذا مما صيغ من تصورات سلطوية فوقية وأبوية للإمام أو الخليفة (من خلال نظرية الراعي والرعية) والتي تجعل منه حارساً للملة وللأمة، ثم أخذ بها البعض في عصرنا الحديث، وبنوا عليها بما يتراكب مع الدولة الحديثة وأذرعها الأخطبوطية.
ما نريد البرهنة عليه هو أنّ رسول الله rعاش حياته وهو يؤسس أمة لتحمل رسالة، وعليها أن تشق طريقها لتخرج بها إلى العالمين (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(15)، وقد يتطلب هذا الخروج مدافعة إمبراطوريات لينفتح الطريق أمام الدعوة – ولهذا طرحت الآية (السادسة عشر من الفتح) خيار القتال قبل الإسلام، فيؤمن من يؤمن ويكفر من يكفر عن بينة – هذه المدافعة مع الإمبراطوريات القائمة آنذاك أسهمت في نشوء الدولة كحاجة طبيعية ثم تطورت لتأخذ شكلاً إمبراطوريا – أي في إطار الجدل مع الواقع، دون أن يكون ذلك بنص أو أمر إلهي؛ ومما يدل على ذلك الرسائل التي أرسلها الرسول rللأمراء والملوك؛ فهي لا تنمّ عن شكل محدد لكيان سياسي بقدر ما أنها دعوية. ومع ذلك فقد بعدت الشُّقة لاحقاً بين الدعوة والدولة، لأنّ للدولة نداء يتعارض مع نداء الدعوة، فالدولة كيان مادي له متطلباته المتعلقة بالتدافع المادي مع من يشكلون خطراً على وجودها، ومن ثم تطورها(16)؛ وحينما تنفصل الدولة عن الأمة تصبح الدولة عبئاً على الدعوة لأنها تُلهب أسباب الانقسام والصراعات.
إذن إقامة الأمة أصل، وإقامة الدولة فرع عنها، وليس العكس، وقيام الدولة التي توصف بأنها إسلامية مع غياب الأمة سوف يكون معطلاً لحركة الدعوة، لأنها لن تكون دولة الأمة، وإنما دولة الفرقة أو الطائفة أو الجماعة أو القبيلة أو الأسرة أو الطبقة؛ ما يكرس تعارض المصالح و يعمق الصراعات.
فدولة الخلافة الإسلامية التي تُعتبر إقامتها هدفاً للكثيرين لا يمكن أن تقوم دون إقامة الأمة، لأنّ الخلافة هي خلافة أمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). فالخلافة مرتهنة بوحدة الأمة لا وحدنة السلطة، فقد تبني الأخيرة إمبراطورية مترامية الأطراف كما كان في أزمنة سالفة، لكنها لا تبني خلافة(17). وكيف يتسنى ذلك مع خطابات لاهوتية فِرَقية ضيقة لا تتسع لما في الأمة (باعتبار الانتساب للإسلام) من تنوع وتعدد.
إنّ النـزعة السلطوية التي نجدها في بعض خطابات التغيير – حتى لا نقع في خطأ التعميم – ليست جديدة، فقد اختزلت بعض كتابات السياسة الشرعية قديماً الأمة في ولي الأمر(18) (السلطان أو الخليفة)، ثم حديثاً في الدولة، وكلاهما غيّب الأمة، فأصبح حائز السلطة حارسا للملة والأمة، ما يجعل السلطان رادعاً باعتبار حيازته للقوة المادية. فحينما يعجز المجتمع عن حل خلافاته فإنه بذلك يستدعي سلطة متغوّلة، والسلطة لا تتغول إلا بقدر ما يسمح لها المجتمع، وحينما تغيب الأمة عن الخطاب، تماهياً مع الفِرَقيّة، تصبح القوة المادية وحدها الحاسمة لمن تكون الغلبة، ويصبح التغيير عبر السلطة وبأساليب فوقية هو السبيل الناجع(19).
وهذا ليس إنكاراً لأهمية القوة المادية في تغيير الواقع، وإنما تقييدها إلى مفهوم الأمة وليس إلى السلطة أو الفرقة الناجية، حتى لا يشتد بأسنا على بعضنا البعض، وما ذاك إلا من صور العذاب (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) الآية [الأنعام: 65].
هل تصلح الرؤية السكونية لإعادة إقامة الأمة؟
ونقصد بالرؤية السكونية تلك التي ترى السكون أصلاً والتغير طارئًا بغيضًا، وأنه كان يجب أن يبقَ المسلمون على الحال التي كان عليها جيل التلقي(20) في حياة رسول الله r،وأنّ التغيير الذي طرأ بعد هذا الجيل هو ما فتح باب الانحراف عن الدين.
والسؤال الذي نود طرحه هنا: هل استدعاء الوقائع الجزئية التي وقعت في جيل التلقي ثم القياس عليها، أو استرجاع السياق التاريخي للحظة الإنشاء باعتباره السياق الوحيد الصالح لإعادة إقامة الأمة هو ما سيعين على إقامة الدين؟
هذه الرؤية السكونية يعارضها الواقع التاريخي، فقد اختلف أبناء هذا الجيل أنفسهم لما تغيرت معطيات الواقع بعد موت الرسول r، فلم يتوقف جدل الإنسان مع الواقع.
وإلى ذلك فإنّ هذه الرؤية السكونية لا يمكن أن تتوافق إلا مع نموذج الفرقة الناجية لا نموذج الأمة، وذلك لأنها تستند إلى رؤية استرجاعية لفترة كانت تتمحور حول نـزول الوحي، وعلى رأسها رسول الله rبوصفه مبلغاً بما يمنحه مكانة مفارقة للانتماءات الأرضية والتحيزات البشرية. وأي تجربة تقوم بعد ذلك إنما هي تجربة تقوم على تفسير لكتاب الله وسنة نبيه، وليس التفسير كالتبليغ، فالمفسر مهما بلغ لن يستطيع التحرر الكامل من موجبات التحيز البشري وقصوره الإدراكي والتطبيقي، وإنكار ذلك يورث وهم الانطباق بين تفسيره وبين الإسلام، ومن ثَمّ توهُّم إمكانية استرجاع هذا المجتمع (مجتمع التلقي) بكل خصوصياته – بما فيها مكانة الرسول الأكرم rوالقياس عليها، وكذلك سياقه التاريخي والاجتماعي، وصولاً إلى الادعاء بأنّ تجربة ما – تنهض على تفسير وفهم بشري للدين – قد ماثلت أو تماثل مجتمع التلقي – وهو تماثلٌ لا يمكن أن يكون إلا ً صورياً، يُذهل أصحاب هذه التجربة عن قصورها وانحرافاتها.
إنّ هذه الفترة لها من الخصوصية ما يجعل محاولة استنساخها تأتي بمولود مشوه أبعد ما يكون عنها إلا في الصفات الشكلية، فجيل التلقي كان كل الأمة وليس جزءًا منها، ومحاولة قياس الجزء على الكل حتمًا ستؤدي إلى إسقاطات خاطئة واختزالات مُخِلّة، فتُختصر الأمة كلها في تلك الطائفة أو الفرقة أو الجماعة أو الحركة، فنعود مرة أخرى إلى نموذج الفرقة التي تفرق الدين.
وأي رؤية تمضي على ذات النهج الاسترجاعي الماضوي – وإن بصور متفاوتة – فتطرح خطاباً يشخص الداء بأنه التغير، والدواء بأنه العودة لما كان، فتنطلق من تطبيقٍ كان تبييناً لمنهج التنـزيل على واقع في سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي، ويعتبرون السياق بتفصيلاته هو الأصل فيقيسون عليه، وليس منهج التنـزيل الذي بينه لنا رسول الله r، فإنها تعاني من الفصام عن الزمان؛ لأنّ الوقائع الجزئية التي يقيسون عليها إنما كانت والأمة عمرها يحسب بالسنوات أو عشرات السنوات، فكيف يُقاس على ذات الوقائع والأحكام ونحن اليوم أمة عمرها أربعة عشر قرناً ويزيد، بعد أن اندمجت فيها شعوب بثقافاتها وتاريخها بدرجات متفاوتة، وامتدت في رقعة جغرافية واسعة، وافترق أبناؤها وصاروا شيعاً وأحزابا، فكيف يمكن تجاهل كل هذا والظن بأنه يمكن العودة إلى النقطة الأولى قبل كل هذه التغيرات، وكأنها لمتكن.
فحاكمية القرآن حتى تتحقق، لا بد من استنـزال كلياته على واقعنا الذي نعيشه،استهداء بمنهج الرسول r؛ لا على واقع مضى، وباتت تفصلنا عنه قرون.
الحنيفية كمنهج لإقامة الأمة:
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[ الروم: 30-32].
وإقامة الوجه هي “تقويم المقصد” حيث شبه المأمور باتباع الدين القيم والالتزام به بمن أُمر بتسديد نظره وتوجيه وجهه مستقيماً لأمرٍ ما لتحري اتباعه والحرص على اقتفائه في كل خطوة وكل حركة أو سَكَنة. وهذا المقصد القويم السديد في فهم الدين وتطبيقه لا بد وأن يُعرف بمغايرته لمقاصد ووجهات أخرى، وهنا يأتي دور (حنيفاً) فماذا تعني؟
(حنف): “مال عن الشيء… والحنيف: المائل من شر إلى خير”، ووصف منهاج إبراهيم uبالحنيفية، فقد رسم لنا منهاجا للوصول إلى الحق.
فكانت البداية أنه أنِف ما ساد بين قومه من عبادة أصنام حجرية يصنعونها بأيديهم ويقدرون على تحطيمها بأيديهم، فانعتق من مفاعيل النـزعة الوثنية التي أفرزت هذه التصورات الحسية المادية للإله؛ فجعلته صنيعة لمعبوده، وجال بنظره في ملكوت السماوات والأرض بحثاً عمن يصلح إلهاً يُعبد، وأخذ يختبر كل الفرضيات المستندة إلى مشاهدات حسية، فيقارن بينها ويحللها طبقاً لمحكات حسية، فإذا ما سقط أحدها انتقل إلى الآخر، حتى تأكّد له أنّ كلا من الكوكب والقمر والشمس – رغم مفارقتهم للإنسان – تعرض عليهم العوارض كما تعرض على سائر الماديات فتبزغ وتأفل وتمر بمراحل عبر الزمن، وهي بذلك ليست متفوقة على الإنسان، حتى وصل إلى أنّ الخالق لا بد أن يكون مفارقاً لكل هذه الكائنات، ولا بد أن يكون سابقاً عليها فهو فاطرها (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 79].
إذن، يعطينا قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) صورة حركية للحال التي يجب أن يكون عليها المؤمن في اتباعه للدين القويم، كمن يجول بمنظاره في الأفق، فيقوم بتحريك بؤرته شيئاً فشيئاً باحثاً عن مقصده، مقارباً ومسددا، فهل تتوقف الحركة عند ذلك.
ومن الجدير بالتأمل أنّ لفظة (حنيفاً) لم ترد في القرآن صفة سواء لإبراهيم uأو لملته، فقد وردت في اثني عشر موضعاً، منها عشرة وردت فيها حالاً، كقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً).. الآية [الروم: 30]، وقوله: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة:135]، وكذلك جمعها (حنفاء) كما في قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5]. وأما الموضعان المتبقيان فقد وردت فيهما (حنيفاً) خبراً لكان، أحدهما: قوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 67]، ومعلوم أنّ خبر كان قد يخبر عن صفة أو حال المخبر عنه (اسمها)، وعلى ذلك فهذان الموضعان يُعدّان محايدين بحيث لا يقدحان في كون أنّ القرآن قد استخدم (حنيفاً) حالاً تصف فاعلية لا تصف ذاتاً، فليس المقصود هنا التحرك نحو نقطة نهائية ببلوغها يتحقق النموذج المثالي مستقراً في ثبات، فتنقطع الحاجة إلى الحركة والتغيير. ولا يصح هذا إلا إذا كانت حنيفاً صفة على المؤمن أن يكتسبها ويثبُت عليها، ولكنها حال تصف المؤمن في حركته الدؤوبة والمتجددة من الباطل إلى الحق، نحو مرجعيته، فلا تنتهي إلا بانقطاع التكليف.
وعلى ذلك فالحنيفية هي منهاج يقوم على الحركة الدؤوبة المتجددة بالميل عن الباطل باتجاه الحق، وعلى التحرك معرفياً وإدراكياً من النفي إلى الإثبات. وهي بذلك تنهض على مسلَّمة مفادها أنّ الأصل في الأشياء التغير وليس الثبات. فالتغير واقع لا محالة(21).
فهناك حركة ناتجة عن كوامن ونوازع تميل بالإنسان – في تفاعلها مع الواقع – عن الحق إلى الباطل (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُـونَ) [الأنبياء: 44]، (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً) [الفرقان: 18]، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]، إنه التغير الذي يتحقق عبر تطاول العهد أو العمر؛ أي: عبر الزمن.
ثم هناك التغير عبر التدافع بين الناس ومداولة الأيام بينهم؛ والناس في ذلك ماضون في صيرورة الخُسر (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ولعله من اللافت هنا أن يقسم الله بالزمن أو ببعض منه لينبهنا إلى تلك العلاقة الطردية – إذا صح التعبير – بين الزمن والخسر والتي لا تنقطع إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
إذن هناك تلازم بين حركة الزمن و التغيرات المادية والمعنوية لا يسع إنكارها ولا إيقافها؛ وإنما على الإنسان أن يدخل في جدل معها ليميل شيئاً فشيئاً عن الباطل نحو الحق، وهكذا دائماً في حركة دؤوبة لا تنقطع ما اختلف الليل والنهار.
فالحنيفية بما تعنيه من ميل عن الباطل إلى الحق إنما تطرح منهجاً للتغيير يقوم على الجدل مع الواقع بالانتقال من رفض ما هو قائم من بنى وقوالب تجسدت فيها القيم أو المثل في لحظة زمنية معينة، ثم بالتداعي التلقائي انحرفت عن غايتها، وتخلفت عن دورها، وصارت رسما مشوهاً، تُختزل القيمة فيها، فتحولت بتقليد الآباء والأجداد إلى وثن، لا تستند إلا إلى سلطة الإلف والتعود “هكذا وجدنا آباءنا يفعلون”. وحينها لا يتسنى التغيير إلا بالانعتاق من النماذج الإدراكية المرتبطة بها بتفكيكها – وهذا ما فعله إبراهيم عليه السلام بهدمه أصنام قومه حتى جعلهم جذاذاً إلا كبيرهم ليرجع عليهم القول، والتحرك شيئاً فشيئاً باتجاه تركيب نماذج معرفية وإدراكية استناداً إلى المرجعية (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)، ومن ثمّ تتشكل تمثلات جديدة، وهكذا تمضي الأيام دولةً بين الناس. فلا ثبات وإنما حركة دائمة، لأنّ الثبات مُتوهّم في الوعي، لا حقيقة له في الواقع، وهذا الوهم يولِّد الجمود على صورة أو قالب لتطبيق المثال في الواقع، وبذلك يتحول القالب أو الصورة إلى وثن.
ومما يسترعي الانتباه أنّ القرآن طرح الحنيفية في مقابل الوثنية(22) في سورة الحج، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:30-31] فقد جاء ذكر الأوثان بعد تعظيم حرمات الله وتحليل الأنعام إلا ما يُتلى؛ ما يدل على أنها ليست تلك الأوثان المخرجة من الملة كتلك التي جاءت في خطاب إبراهيم uلقومه(23).
فالإنسان ينـزع لتوثين الماديات، لأنّ القيم والمثل لا تتحرك في الواقع إلا عبر تجسدات وتشخصات، تتوجه لها عواطفنا بقدر ولائنا لما تمثله من قيم، ثم لاحقا تقودنا تلك العاطفة إلى اختزال القيمة في التشخص أو التجسد المادي الذي يمثلها، ليصبح ولاؤنا لتلك التمثلات المادية مقدمًا على ولائنا للقيم، بظن الانطباق الكامل، فلا نعود قادرين على رؤية تلك المسافة بين القيمة وبين تمثلاتها المادية، والتي تتسع وتزداد شيئا فشيئا بتعاقب الليل والنهار (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ما يحولها إلى أوثان تصرف الناس عن قيمها وتضللها، فيكون المؤمن كمن خر من السماء بعد تحليق؛ فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
فالحنيفية – إذن – تقتضي حضورا قويا للوعي بأنّ المرجعية تبقى دائما وأبداً مفارقة للذات وللتجربة، وأنه لا سبيل للانطباق؛ وإلا فكيف للإنسان أن يدرك انحرافه عن الحق، فالمفسد لا يرى نفسه مفسدا وإنما مصلحا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12]، وكذلك من سقط في الشرك لا يرى نفسه كذلك (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [الأنعام:22-24] فكل حزب بما لديهم فرحون.
إذ كيف للنفس اللوامة أن تلوم صاحبها إن لم ترَ المسافة بينه وبين المرجعية. إنّ الذين يُزكّون أنفسهم هم الذين يتوهمون الانطباق، وهؤلاء هم من يغفلون عن أصل الابتلاء في الدنيا بالشر وبالخير فتنة، فيأمنون مكر الله، ويفسرون كل ما يحل بهم في سياق هذا الوهم. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) [94-102].
إذن، الحنيفية تنفي اليوتوبيا لأنها تنفي الانطباق التام والمستمر بين الواقع والمثال؛ فحركة الإصلاح لا يجب أن تنقطع، لأنّ حركة الفساد لا تتوقف قال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 116-119].
فالمرجعية واحدة وتتعدد المقاربات، وفي كل منها إصابة وخطأ والحكم النهائي في ذلك إلى الله. والحركة نحو المرجعية لا تنقطع، ما اختلف الليل والنهار، فلا مكان للانطباق لأنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار؛ وهذا هو نموذج الأمة كما أرادها القرآن فالوسطية على نقيض القدسية المزعومة والاصطفاء، والشهادة على نقيض الاستعلاء ووهم التفويض. وكلاهما – أي الوسطية والشهادة – لا يتحققان إلا بالحنيفية، وإلا فكل أمةٍ ترى نفسها خير الأمم (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 107-108]. والحنيفية لا سبيل إليها إلا بالنفس اللوامة التي تعي المسافة بين صاحبها والمرجعية التي ينتسب إليها.
وبذلك فإن مفهوم “أمة” في القرآن – بحسب استنتاج الدراسة – هو مفهوم منهجي يبيّن لنا منهج قراءة الوحي وتنـزيله على الواقع المتغير، وليس مفهومًا وجوديًا يصف وجودًا ما متى توفرت فيه شروط معينة استحق وصف أمة.
هذا والله أعلى وأعلم
* * *
الهوامش
(1) وهذا ما سيأتي في الجزء الثاني من الدراسة بإذنه تعالى.
(2) أنطلق هنا من مسلمة لا جدال فيها باستحالة وقوع تعارض بين القرآن والسنة، وتفصيل ذلك على ما يلي:
ذهب الشاطبي في الموافقات إلى “أنّ السنة راجعة في معناها إلى الكتاب” واستطرد الشاطبي بقوله: “فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دلّ على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وأيضاً كل ما دل على أنّ القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها..” [الموافقات، الشاطبي، م2، ث4، ص9-10].
ويقول أيضا: “كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا أو ظنياً، فإن كان قطعيا فلا إشكال في اعتباره… وإن كان ظنيا؛ فإما ان يرجع إلى أصل قطعي، أو لا. فإن رجع إلى أصل قطعي فهو المعتبر، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه، ولم يصح إطلاق القول بقبوله، ولكنه قسمان: لا يُضاد أصلاً، وقسم لا يُضاده ولا يوافقه، فالجميع أربعة أقسام.
فأما الأول: فلا يفتقر إلى بيان. وأما الثاني: وهو الطني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضاً ظاهر، وعليه عامة أخبار الآحاد، فإنها بيان للكتاب. وأما الثالث: وهو الظني المعارض لأصل قطعي، ولا يشهد به أصل قطعي، فمردود بلا إشكال… فإذا تقرر هذا فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفاً فيها، ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى، فقالوا خبر الواحد إذا كملت شروط صحته، هل يجب عرضه على الكتاب؟ أم لا؟ فقال الشافعي: لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب. وعند عيسى بن أبان: يجب، محتجا بحديث في هذا المعنى، وهو قوله: (إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه، وإلا فردوه). فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق. وللمسألة أصل في السلف الصالح: فقد ردّت عائشة رضي الله عنها حديث (إنّ الميت ليُعذّب ببكاء أهله عليه) بهذا الأصل نفسه لقوله تعالى: (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)[النجم: 38-39]…….. وأما الرابع: وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلاً قطعيا فهو في محل النظر…… واعلم أنّ المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به، كالدليل على أنّ العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلاً، بل المراد ما هو أخص من ذلك.. وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون، والله أعلم”. [الموافقات، م2، ق4، ص3-18].
فالقرآن – إذن – هو المصدر المنشئ، والسنة هي المصدر المُبيِّن، وبينهما وحدة بنائية وتعاضد، والقرآن مهيمن على ما سواه، فلا بد من إعمال التصديق القرآني على الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المنسوبة إليه. [يُراجع في ذلك معالم في المنهج القرآني لطه جابر العلواني، دار السلام. والعالمية الإسلامية الثانية لمحمد أبو القاسم حاج حمد، دار الساقي].
وتأسيسا على ما سبق لا يجب أن يتم الاعتماد على فحص السند وحده لقبول رواية أو ردها، فالمنهج السندي هو متمم للتصديق القرآني. وقد حاولت الدراسة أن تثبت تعارض نموذج الفرقة الناجية مع القرآن الكريم، وأما السند فنحيل القارئ في ذلك إلى الدراسة التي قام بها محمد يحيى سالم عزان والموسومة بـ (حديث افتراق الأمة تحت المجهر) والتي تتبع فيها أسانيد الحديث وألفاظه المختلفة، وأوضح ما فيها من الاضطراب متناً وسنداً. ومنها: “إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأنتم تفترقون على مثلها، كلها في النار إلا فرقة” ثم اختلفت الروايات في تحديد تلك الفرقة الناجية [محمد يحيى سالم عزان، حديث افتراق الأمة تحت المجهر، مركز التراث والبحوث اليمني، ط1، 2001م] ولعلني أتوقف عند أسانيد تلك الرواية عندما أفرد مفهوم الفرقة الناجية بدراسة بحوله تعالى.
(3) عبد الرحمن الحاج، الخطاب السياسي في القرآن، ص50، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2012م.
(4) أقصد بالحركية أنها لا تنطبق على جماعة بشرية تعيينا؛ دائما وباستمرار، على عكس استخدامها البشري. وهنا لا بد أن نتوقف عند الفارق بين بناء القرآن للمصطلحات والمفاهيم وبين إدراك البشر لها. فالقرآن الكريم خطاب الله إلى العالمين وحجته عليهم إلى يوم الدين؛ فهو مطلق متجاوز للزمان والمكان ولذا فإنّ مفاهيمه غير متعيَّنة تعيينا ثابتا ساكنا، فلو كانت كذلك لسقطت في أسر الحيز الزماني والمكاني والبشري، وما عادت صالحة لأي سياق آخر، ولأسلم ذلك بالتداعي التلقائي إلى توثين القوالب البشرية والمادية التي تتمثل فيها تلك المفاهيم، ولتحول النسق الإسلامي إلى نسق مغلق على جماعة بشرية معينة؛ بحيث تحل المرجعية فيها؛ وتصبح هي المرجعية الفعلية لا الإسلام (الجماعة المقدسة). وأما الإنسان فكائن نسبي في إدراكه وحركته، لا يسعه أن يدرك الأشياء والموجودات إدراكا مطلقا، متجاوزا لسياقه التاريخي ولتحيزاته الزمانية والمكانية والبشرية، فهو يميل إلى إدراك المعنوي المتجاوز من خلال تمثلاته المادية النسبية، أي أنه يدركها من داخل السياق التاريخي لا من خارجه، ولذا فهو يدرك تلك المفاهيم في سكونها أو يحاول أن يضفي عليها قدرا من السكون ومن ثَمَّ الاختزال ليعيها ويتعامل معها، لكنه سكون متوهم.؛ فتلك التمثلات والقوالب المادية الزمنية لا تبقى معبرة عن القيم التي تمثلها دائما بكيفية ثابتة، فبتطاول الأمد وقسوة القلوب، والاغترار بإقبال الدنيا ، وتغير الواقع ، تزيد المسافة تباعدا بين القيم وتمثلاتها الظرفية.
ولذلك يجب دائما وأبدا الرجوع إلى كتاب الله لتقويم تصوراتنا ونفي ما علق بها من وثنية؛ لا أن نرجع إليه لنقرأه بوصفه خطابا تعيينيا منطبقا على حالة بشرية بعينها؛ ما يُضفي قداسة متوهمة عليها، ويحرمنا من مطلقية الخطاب القرآني والتي هي قوام حاكميته.
(5) معجم مقاييس اللغة،ج3، ص432-433.
(6) لا بد من التنبيه على عدم الخلط بين الدلالات القرآنية لتلك الألفاظ والمصطلحات، وبين ما ركبه الناس عليها من دلالات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
(7) ابن فارس، مقاييس اللغة، ج2، ص55.
(8) إشكالية التعيين:
لعله من المناسب أن نتساءل هل التوقف عند إشكالية التعيين هو من أثر تحيزاتٍ أورثها لنا السياق التاريخي المعاصر؛ سواء أكانت وافدة تحت وطْأَة التبعية الفكرية للغرب أو تحت تأثير تجارب معينة؟
هنا تصبح العودة للتراث ضرورة منهجية لاكتشاف هذه التحيزات، ومُعادلة أثرها، حتى لا نسقط سقوطا كاملاً في أَسْرِها عند تفسيرنا للقرآن.
ولأنّ الدراسة – كما سبق في مقدمتها – غير معنية بدراسة حركة المفاهيم التي تعالجها تراثيا، فستكتفي بنموذج يوضح لنا أنّ إشكالية التعيين ليست مُفتعلة ولا طارئة، وإنما أدركها أسلافنا. فسيُقتصر هنا على الرجوع إلى أبي إسحاق الشاطبي بما يفي بهذه الغاية.
فقد انشغل الإمام الشاطبي بإشكالية التعيين – وتحديدا تعيين الفرقة الناجية – في كتابه الاعتصام، فقال في المسألة السادسة والعشرين:
“إنّ ها هنا نظرا لفظياً في الحديث – هو من تمام الكلام فيه – وذلك أنه لما أخبر – عليه الصلاة والسلام – أنّ جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة؛ وهي الجماعة المُفسّرة في الحديث الآخر. فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها – سؤال التعيين – فقالوا من هي يا رسول الله؟ فأصل الجواب أن يُقال: (أنا وأصحابي ومن عمل مثل عملنا)، أو ما أشبه ذلك، مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة إليها، أو بوصف من أوصافها، إلا أنّ ذلك لم يقع، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف…والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها rوأصحابه y…… فالمُقدَّم في الاعتبار هو العمل لا العامل….. ويمكن أن يُقال: إنّ ما سألوا عنه لا يتعين؛ إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر… ومن شأن هذا السؤال التعيين، وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين، وانصرف القصد إلىتعيين الوصف الضابط للجميع وهو ما كان عليه هو وأصحابه.
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم، وهو بالنسبة إلى السائل مُعيَّن؛ لأنّ أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين، فلم يُحتج إلى أكثر من ذلك، لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم، ولم ينظر أعمالهم، فليس مثلهم، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود”. [ الاعتصام، ج2، ص 491-492، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط1، 1994].
وفي تفسيره لـ (ما أنا عليه وأصحابي) قال الشاطبي: “.. وحاصل الأمر أنّ أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم ، وأثنى على متبوعهم محمد r، وإنما خلقه القرآن، فقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبيِّنة له، فالمتبع للسنة متبع للقرآن….. فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم.. هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي r، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله: (وهي الجماعة)، لأنّ الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف…
ثم إنّ في هذا التعريف نظراً لا بد من الكلام عليه فيه؛ وذلك أنّ كل داخل تحت ترجمة الإسلام من سُني أو مبتدع مُدعٍ أنه هو الذي نال رتبة النجاة، ودخل في غمار تلك الفرقة؛ إذ لا يدعي خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام..كاليهود والنصارى، وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين. وأما من لم يرضَ لنفسه إلا بوصف الإسلام، وقاتل سائر الملل على هذه الملة، فلا يمكن أن يرض لنفسه بأخسّ مراتبها – وهو مُدعٍ أحسنَها – فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبقَ على تلك الحالة، ولم يصاحب أهلها، فضلاً عن أن يتخذها دينا يدين به لله، وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل.
فإذا كان كذلك؛ فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة. ألا ترى أنّ المبتدع آخذ أبداً في تحسين حالته شرعا وتقبيح حالة غيره… وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنيّة على الخصوص فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا. فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله) وفي رواية (لا يضرهم خلاف من خالفهم، ومن قُتل منهم دون ماله فهو شهيد). والقاعد يحتج بقوله: (عليكم بالجماعة فإنّ يد الله مع الجماعة، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وقوله: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل). والمُرجئ يحتج بقوله: (من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة، وإن زنى، وإن سرق)، والمخالف له محتج بقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). والقدري يحتج بقوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، وبحديث (كلمولود يولد على الفطرة…).
ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر، فإنها متدافعة متناقضة، وإنما يمكن الجمع فيها إذا جُعل بعضها أصلا، فيُردّ البعض الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل. وكذلك فعلت كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة، وترد ما سواها إليها، أو تهمل اعتبارها بالترجيح إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح أو تدّعي أنّ أصلها الذي ترجع إليه قطعي، والمعارض له ظني فلا يتعارضان.
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة، أما وقد استقرت مآخذ الخلاف، فمحال. وهذا الموضع مما يتضمنه قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
والحاصل: أنّ تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب، ومع ذلك فلا بد من النظر فيه، وهو نكتة هذا الكتاب..” [ج2،ص465-468].
وعند معالجته لمعنى (الصراط المستقيم) تطرق إلى إشكالية التعيين مجددا: “قد تقدم قبل هذا أنّ كل فرقة وكل طائفة تدعي أنها على الصراط المستقيم، وأنّ ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيات الطريق. فوقع الاختلاف إذن في تعيينه وبيانه حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها، حتى قال من قال (كل مجتهد في العقليات والنقليات مصيب)، فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق، وذلك من أعظم الاختلاف ؛ إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف فيها العلماء على بضع وسبعين قولا إلا هذه المسألة. فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليها النبي rوأصحابه من أغمض المسائل.
ووجه ثانً: أنّ الطريق المستقيم لو تعيّن بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف أصلا، لأنّ الاختلاف مع تعيين محله مُحال، والفرض أنّ الخلاف ليس بقصد العناد، لأنه على ذلك الوجه مُخرج عن الإسلام وكلامنا في الفرق.
ووجه ثالث: أنه قد تقدم أنّ البدع لا تقع من راسخ في العلم… والشهادة بأنّ فلاناً راسخ في العلم وفلاناً غير راسخ في غاية الصعوبة، فإنّ كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه راسخ، وغير قاصر النظر، فإن فُرض على ذلك المطلب علامة وقع النـزاع إما في العلامة، وإما في مناطها.
ومثال ذلك:
– أنّ علامة الخروج من الجماعة الفُرقة المُنبه عليها بقوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ) [آل عمران:105] والفُرقة بشهادة الجميع إضافية، فكل طائفة تزعم أنها هي الجماعة، ومن سواها مفارق للجماعة.
– ومن العلامات اتباع ما تشابه من الأدلة، وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك، وأنها هي التي اتبعت أم الكتاب دون الأخرى، فتجعل دليلها عمدة وتردّ إليه سائر المواضع بالتأويل، على عكس الأخرى.
–ومنها اتباع الهوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها، وتبرئ نفسها منه، فلا يمكن في الظاهر أن يتفقوا على مناط هذه العلامات، وإذا لم يتفقوا لم يمكن ضبطهم بها، بحيث تشير إليهم بتلك العلامات، وأنهم في التحصيل متفقون عليها، وبذلك صارت علامات. فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات.!!
ووجه رابع: وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة، وإن حصل التعيين بالاجتهاد، فالاجتهاد لا يقتضي الاتفاق في محله.
ووجه خامس: وهو ما تقدم تقريره في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:188-189] الآية – يشعر في هذا المطلوب بأنّ الخلاف لا يرتفع…
فإذا تقرر هذا ظهر به أنّ التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي لا ينقطع الخلاف فيه، وإن ادُعي فيه القطع دون الظن فهو نظري لا ضروري، ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة – بحول الله – مسلكا وسطاً يذعن إلى قبوله عقل الموفَّق..والله الموفِّق إلى الصواب” [الاعتصام،ج2، ص493-495].
ثم انتقل إلى أسباب الإحداث في الشريعة، وحصرها في أربع: الجهل بأدوات الفهم، والجهل بالمقاصد، وتحسين الظن بالعقل، واتباع الهوى..
ففي النوع الأول تكلم عن أن القرآن عربي لا عُجمة فيه، فلا يُفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نـزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.. فلا بد من تنـزيل الكتاب والسنة على العربية.
وفي النوع الثاني: نبّه على كمال الشريعة باعتبار الكليات لا الجزئيات، فلا بد أن ينظر الناظر إليها بعين الكمال ، وأن يوقن بألا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر بل الجميع جار على مهيع واحد، ومُنتظم على معنى واحد.
وفي النوع الثالث: عالج مكانة العقل وكيف أنه متناهٍ في إدراكه، فلا يجب أن يُجعل حاكما بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، لأنه لا يصح تقديم الناقص على الكامل.
وأما النوع الرابع: فكان مداره على أنّ الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله. وأنّ الله وضع الشريعة حجة على الخلق جميعهم، حتى أن المرسلين بالشرائع داخلين تحت أحكامها. فالشريعة المنـزلة حجة حاكمة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالة له على الصراط المستقيم، فمن باب أولى أن تكون كذلك على سائر الناس. ثم رتّب على ذلك دور أهل العلم، وأنّ الله شرفهم من حيث اتصافهم بالعلم، ولكن اتباعهم مشروط من حيث توجههم نحو الشريعة، ومتى خالف العالم تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات لم يجز اتباعه فيها، ومتى تبيّن خطؤه لا يجوز التعصب له لأية اعتبارات أخرى، فبسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال ضلّ أقوام وزلّوا. [كانت هذه خلاصة مقتضبة لدواعي الانحراف الأربعة عن الصراط المستقيم كما عالجها الشاطبي فيُراجع الاعتصام، ج2، ص526-544].
التعقيب:
المتأمل في كلام الشاطبي يجده مستشعرا بعمق لإشكالية التعيين، رغم أنه من المقرين بحديث الفرقة الناجية – وإن لم يتوقف عند أسانيده – كما و اجتهد في شرحه وتفسير ألفاظه المفسرة للفرقة الناجية. إلا أنه – كما ترى الدراسة – كان يحوِّم حول مفهوم الأمة كما سبقت مقاربته، لأنه كان معنيا بالمحكات التي يستند إليها أتباع فرقة ما إلى توصيف أنفسهم بأنهم الفرقة الناجية؛ أي المسافة بين الذات والمرجعية كما وصفتها الدراسة. ومع ذلك فإشكالية التعيين كامنة في مفهوم الفرقة الناجية وليست مُضافة إليه، فمتى استُحضر للحركة في الواقع لإقامة الدين حضرت تلك الإشكالية بشكل طاغ لا يسعنا تجنبه، لأنها تقوم على تصنيف نهائي بأنّ جماعة ما هي المُحقة دائما (أي انطبقت المرجعية عليها أو حلّت فيها)، وهذا ما عمل الشاطبي على هدمه، بل إنه ذهب إلى كون الشريعة حاكمة على الرسول r.
وما نريد الاستدلال عليه: أن كل ناظر لتلك القضية من خارج الخنادق الِفرَقية يدرك حجم إشكالية التعيين، كما تطفح بها كتب الفرق المختلفة، فالتنبه لها ليس نابتا لا أصل له، أو طارئا تحت وطأة تحيزات فكرية معاصرة، أو إفرازا لاندفاع عاطفي نحو الوحدة في زمن الانقسامات والتقسيمات؛ ما قد يستدعي خطابا وحدويا تعبويا لمواجهة أخطار سياسية واستراتيجية؛ وإنما هي إشكالية معرفية بنيوية كامنة في التراث وفاعلة في التاريخ لا يسع إنكارها. فطالما أنها رُصدت من قِبلِ أناس عاشوا في سياقات تاريخية مختلفة – بما يعني اختلاف تحيزاتهم وسياقاتهم الاجتماعية والسياسية وسقوفهم المعرفية – فإنّ هذا يورث اطمئنانا – إلى حد يمكن البناء عليه – بأنّ الإشكالية المعينة المتعلقة بالتراث المعرفي لها وجود حقيقي. والله أعلى وأعلم.
(9) والدراسة هنا معنية بتعيين الناجي لا الهالك فذلك مبحث آخر؛ ورغم أنه متمم له – فكلاهما لا ينفصلان – إلا أن الدراسة مهمومة بالعلاقة بين الذات والمرجعية، والتي ينبني عليها تصور الذات في علاقتها بالمرجعية، وهذا هو الساس الذي ينبني عليه ما سواه بما في ذلك تصور الآخر المخالف؛ والأخير لا بد له من دراسة مستقلة.
(10) لست متيقنة من انسجام هذا التعبير (النفس تجادل نفسها) مع ما نفهمه من كتاب الله في علاقة النفس بنفسها، وما دفعني إلى استخدامه ليس مشاكلة التعبير القرآني (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)، وإنما استنادا إلى أن التزام النفس تجاه نفسها، التزام لا فكاك منه، وليس كالتزامها تجاه الآخرين مهما كان قربهم (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) فهذه الدرجة من الإلزام لم يتحدث عنها القرآن في أي علاقة أخرى؛ إلا في علاقة النفس بنفسها. وهذا يتطلب مسافة بين النفس ونفسها أو بين الإنسان ونفسه حتى ينعتق الإنسان من ذاتيته، وإلا تحولت نفسه إلى مركز الكون في وعيه؛ عنه ينطلق وإليه يعود. وهذا الانعتاق بحاجة إلى مكابدة و جهاد لا ينقطع؛ وهو الجهاد الأكبر. ولكن التساؤل: هل في تعبير (النفس تجادل نفسها) قسوة على النفس قد تدفع بها إلى التمرد، أو الانكسار؟
(11) قال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل:111].
(12) محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، دار الساقي، بيروت، ط3، 2012 ص595.
(13) وإقامة الأمة لتقوم بالدين هو ما نفهمه من آيات تتكامل مع بعضها البعض؛ فقال تعالى: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)[آل عمران: 113-114] وإذا ما تأملنا الربط بين إقامة الدين وعدم التفرق فيه قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الآية [الشورى: 13] سندرك هذه العلاقة الشرطية بين الأمة وإقامة الدين.
(14) أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة ، مكتبة العبيكان، الرياض، ط4، 2001م، الرياض، ج2، ص44614.
(15) ذهبت بعض التفاسير إلى أنّ الخطاب في هذه الآية موجه إلى الصحابة؛ أي: جيل التلقي، وهناك من عممها، وبعد تحرير مفهوم الأمة قرآنيا لن نجد تعارضاً، ذلك لأنّه مفهوم حركي متجدد، نعم أنشأ الرسول الأكرم أمة، وهذه الأمة هي التي خرجت بالدعوة من المدينة المنورة إلى الجزيرة العربية، ثم إلى خارجها، لكن مواصلة الدور يتطلب إقامتها مجدداً.
(16)متطلبات التدافع في الواقع المادي ليست في ذاتها مستهجنة، بل قد تكون في كثير من الأحيان سببا في إزالة المعوقات والحواجز من طريق الدعوة، ولكنها مع التداعي التلقائي لمفاعيلها قد تتحول إلى عقبة في طريق الدعوة. ولعل هذه المسافة بين الأمرين هو ما نبهتنا إليه سورة عبس، فقد انشغل الرسول الأكرم rفي الموقف الذي تقصه علينا تلك السورة بمتطلبات التدافع المادي، ورأى أنّ إسلام صناديد قريش سيفتح الباب أمام دعوة التوحيد وخاصة أمام المستضعفين الذين يخشون بطش سادتهم وكبرائهم، فتلهّى بكبراء قريش عن ضعيف أعمى جاءه يسعى ، فعاتبه رب العزة وأخبره بأنها تذكرة ومن شاء ذكره ، هذه المفارقة حدثت حينما كانت الدعوة هي الهدف الرئيس وما سواه يخدمه ويرفده، فكيف إذا تراجعت وأصبحت هدفا ضمن أهداف، أو تتراجع أكثر فتصبح وسيلة!!!
(17) الخلافة:
وردت مادة (خ ل ف) مائه وخمس وعشرين مرة فى القرآن الكريم. وما جاء منها بمعنى الخلافة (استخلافا من الله) بتصريفاتها المختلفة ورد فى عشرة مواضع. وبتدبر هذه المواضع نستطيع أن نصنفها إلى ثلاث مستويات:-
المجموعة الأولى: قال تعالى: (وِإذ َقال رُّبك للملائكة إنِّى جاعِلٌ فى الأرض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفسْدُ فيها ويَسفِكُ الدِّمَاءَ ونحن نُسبِّح بحمدِك ونُقدِّسُ لكْ قال إنِّى أعْلمَ مَا لا تعلمون وعلم آدمَ الآسماء كلها ثم عَرضَهم على الملائكة فقال أنْبئُونى ِبأسماء هؤلاء إن كنتُم صادِقين * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 30 – 33].
فآيات البقرة تناولت الأصل العام للاستخلاف أى استخلاف الإنسان فى الأرض وأوضحت أن الله قد أودعه مقومات لا تتوافر عند غيره من المخلوقات تهيئة لحمل هذا التكليف. فرغم أن الملائكة تفوق آدم فى التسبيح والتقديس إلا أّنّ هذا لم يكن كافيا ً ليهيئها لحمل هذا التكليف. فبعد أن خلق الله السموات والأرض والإنسان، عرض الأمانة عليهم، فأبت السماء والأرض أن يحملنها، وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً، فالاستخلاف هو حمل الأمانة في سياق الابتلاء، وعبر مداولة الأيام بين الناس. فجعْل آدم خليفة في الأرض يفسره قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165]، فخلافة آدم تعني خلافة نسله لبعضهم البعض، فلن تخرج منهم لمخلوق آخر، فآدم ليس خليفة الله، والائتمان يقتضي الاختبار والابتلاء، بما يعني ترك مساحة لإرادة المؤتمن تضيق أو تتسع وهذا ما جعل الملائكة تتوقع الفساد من هذا الخليفة – أياً من كان – فى مقابلها، وهى التى تفعل ما تؤمر فكان هذا موطن استفهام الملائكة، وليس جعل آدم خليفة. وأما ما جعل آدم مـُهيئا لحمل هذا التكليف فهو القدرة والقابلية التى أودعها الله فيه كي يتمكن من التفاعل والتجاوب مع ما أودعه الله فى الأرض من سـُنن وأسرار. فقد علّمه الله طبيعة هذه الأمانة (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) لأن تصرف الإنسان في هذه المانة ليس اصيلاً، وإنما بوصفه مؤتمنًا من قبل الخالق U، فهو لا يتصرف في تلك الأمانة كما يحلو له، وإنما كما وجهه الله، وفي حدود ما أودعه الله من مقدرة نسبية (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) فقدرته ليست مطلقة، كما وأنه في حركته في الأرض مكلف ومبتلى ومحاسب، وهذا يتنافى مع ما يتوهمه البعض من كونه خليفة الله في الأرض، بما يتضمنه هذا التصور الأخير من دلالات مشاركة الإنسان لله في بعض صفاته؛ تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وفي ضوء هذا الأصل العام للاستخلاف يفهم استخلاف الأمم والأقوام.
المجموعة الثانية: استخلاف الأقوام وتداول الأمم:
وهذه الآيات هى: (1) قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً) الآية حتى قوله تعالى: (..وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)، [الأعراف: 65 -69].
(2) قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً) الآية حتى قوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً) الاية [الأعراف: 73-74].
(3) قال تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [هود: 57].
(4) قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 13- 14].
(5) قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ) … الآية حتى قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) [يونس: 71 – 73].
(6) قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
(7) قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
تتناول هذه الآيات استخلاف الأمم والأقوام، وهو على هذا استخلاف خاص متفرع عن الأصل العام لاستخلاف بنى البشر من بين سائر المخلوقات وكما هو واضح من الآيات فإن هذا الاستخلاف ليس امتيازا ً أو جزاءا ً نهائيا ً وإنما دور من أدوار مـُداولة الأيام بين الناس والأمم والأقوام، وحينما تكون الدولة لبعضهم دون بعض بالتغلب والقوة يكون تكليفهم أشد وحملهم أثقل. وهم فى هذا مُمهلون حتى ما إذا بلغ الفساد ذروته، دالت الدولة إلى غيرهم، ليُستخلفوا بدلاً منهم وليختبروا، وينظر ماذا هم صانعون. وهكذا دواليك.
إذن فالاستخلاف بالمعنى الخاص ليس خاصاً بالمؤمنين والصالحين، وإنما هو مُتاح لكل أمة ولأى قوم يأخذوا بأسباب القوة والغلبة فإذا ما تمكنوا من ذلك يكون ذلك اختبارا ً وابتلاءً لهم.
المجموعة الثالثة: الاستخلاف الفردى:
وهو نوعان؛ الأول كما فى قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) الآية [ص: 26] وهذا الاستخلاف الفردي لفرد معين على سبيل الاصطفاء انتهى ولم يعد قائما، فلم يصف القرآن رسول الله rبأنه خليفة في الأرض رغم عالمية رسالته.
وأما النوع الثانى فقد جاء فى قوله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد: 7].
وبتدبر الآيات السابقة – جميعها – سنلحظ أن القاسم المشترك بينها هو أن الاستخلاف من الله سبحانه وتعالى لبعض خلقه، وليس كاستخلاف موسى uلأخيه هارون (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 142] إلى قوله تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) الآية [الأعراف: 150] ومع ذلك فإن الجامع المعنوى الذى يربط بين استخلاف الله لبعض خلقه واستخلاف الناس لبعضهم البعض هو أن الاستخلاف يتضمن معنى الاستئمان، وليس مجرد الأيلولة أو الصيرورة كما هو الحال فى الوراثة قال تعالى: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)، إلى قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء 53 – 59] بل إن الوراثة تقف على نقيض الاستخلاف حينما ينسبان إلى الله Uفبعد أنْ ينتهى استخلاف الله لآدم وبنيه يرث الله الأرض ومن عليها (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40].
ومما سبق نستطيع أن نستنتج أن الخلافة أعقد بكثير من مجرد تعاقب الأمم أو تعاقب الأفراد، سواء على السلطة أم على غير ذلك، بل هى إجابة جامعة مانعة وافية عن علاقة الإنسان ببني جنسه وبسائر المخلوقات، وعن طبيعة ما كُلف به وما سيُحاسب عليه، فقد خلق الله جميع خلقه ليعبدوه ومن ضمنهم الإنسان ورغم أنّ كل أنواع وأجناس هذه المخلوقات يسبح بحمد الله (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراًً) [الإسراء: 44]، إلا أن لكل جنس طريقته كما يـُفهم من الآيه. وعندما يستخلف الله آدم وبنيه من بين هذه المخلوقات، ومنها الملائكة التى تفوق آدم تسبيحاً وتقديساً لله، فإن لهذا دلالة على أن لآدم دور يختلف عن بقيه هذه المخلوقات وأن عبادته لله يجب ان تقوم فى إطار هذا الاستخلاف، وليس خارجه وإلا كان ذلك إخلالاً وتقصيراً فى القيام بما كلف به.
فى ضوء هذا المفهوم القرآنى للخلافة لابد وأن يفهم المسلمون ماذا تعنى خلافتهم فإذا كان استخلاف الله الإنسان على الأرض يُلقى على عاتقه عبئاً كبيراً – مع الاحتراز عن معاني التفويض والاصطفاء -، فبالتأكيد أن نصيب المسلمين من هذا العبء – بوصفهم أتباع الرسالة الخاتمة – أكبر وأكبر فالخلافة الإسلامية هى خلافة أمة، وليست خلافة فرد، لأن القيام باستحقاقات هذه الأمانة، والسير فيها بمنهاج الله، حفظاً لها وإصلاحاً لما يعتريها من فساد – بما كسبت أيدى الناس – لا يتأتى إلا بإقامة الأمة؛ لأنها القادرة على إقامة الدين.
(18)كم هي المسافة شاسعة بين مفهوم أولي الأمر كما رسمه القرآن وبين ما نجده في تراثنا؛ مسافة تصل لحد التناقض؛ ففي الأخير نجد المفهوم قد حُمّل بدلالات فوقية استعلائية؛ فأصبح ولي الأمر هو السلطان الذي هو ظل الله في الأرض؛ من أعزه أعزه الله ومن أذله أذله الله، إن عدل فله الأجر وإن ظلم فعليه الوزر وله الطاعة وحسابه على الله. وما هذا إلا استنادا إلى روايات ضعيفة أخذت بعيدا عن القرآن وأسس عليها فهم ثم وعي، ثم رجعوا للقرآن ليُستشهد به على صحة هذه الرؤى، فلا يجدون إلا قوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ). وبتدبر الآية سنجد أنّ القرآن يحدثنا عن (أولي الأمر “منكم” لا “عليكم” بما يورث استعلاء ولا “فيكم” بما يورث نخبوية) – كما نبه إلى ذلك أبو القاسم حاج حمد -، فأولي الأمر منكم هو تصنيف أفقي لا رأسي.
(19) في تاريخنا ما يشهد لهذا فالصراعات بين أتباع المذاهب كانت تدفعهم إلى الاستقواء بالسلطان على بعضهم البعض؛ كما حدث بين المعتزلة وأهل الحديث في زمن المأمون، ثم استقوى أهل الحديث بالمتوكل، وكذلك ما كان بين الأشاعرة والحنابلة ، بما يستتبع بطش السلطان بالمخالفين وتتبعهم وهو ما يطول الحديث عنه، ويخرج بنا عن غاية البحث.
(20) آثرت استخدام هذا التعبير كما استخدمه د. أبو القاسم حاج حمد ود. طه جابر العلواني لأنه يوضح الاختلاف بين هذا الجيل وبين من أتى بعده من أجيال، والمتمثل في كونهم عايشوا تنـزيل الوحي منجمًا، فصحبتهم لرسول الله rكانت صحبة لمُبلِّغ ومبيِّن، وليس لمفسر، وكذلك لتجاوز الخلافات المذهبية حول أشخاص الصحابة وأهل البيت.
(21) انظر: “نحو تفسير ملهم للقرآن الكريم” رانيا رجب، مكتبة الشروق الدولية، ط1 2005، ص15-23. هذا ما أدركه المجتهدون من الصحابة – رضوان الله عليهم – فلما اتسعت رقعة الأراضي التي غنمها المسلمون بالقتال في عهد عمر بن الخطاب، وبات واضحا أنّ نصيب الصحابة المشاركين في الفتوح من الغنائم سيتضخم بما يحولهم إلى طبقة مُترفة، حينها قال عمر بن الخطاب – وشاركه في ذلك علي بن أبي طالب -: “لولا آخر المسلمين ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم النبي rخيبر” [الجامع الصحيح المختصر، محمد بن إسماعيل البخاري، ج4، ص1548]. والمسافة الزمنية بين فتح خيبر وفتوح العراق والشام ومصر تقل عن العقدين من الزمان، ولكن معطيات الواقع قد تغيرت، ما استتبع العودة إلى الأصول الكلية القرآنية؛ والتي منها قوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) وتوجيه حركة الحكم الجزئي في الواقع المتغير طبقاً لها، حتى لا تفقد حركة الاجتهاد بوصلتها، باللهاث وراء الحكم الجزئيفقط، دون نظر كلي؛ ما يُذهلنا عن تحولات الواقع وتغيراته عبر الزمن؛ فالوقائع التي هي مناطات الأحكام لا تبق كما هي.
(22) فالوثن لغة هو: “الشيءُ بالمكان.. يَثِن وَثْنَاً: أقام وثبت فهو واثن” [المعجم الوسيط، ج2، ص1054، مجمع اللغة العربية. بالقاهرة، ط3]. وعلى ذلك فإنّ الوثنية لا بد لها من شرطين لتحقق معناها: التجسد المادي، والجمود ؛ فليس كل تجسد مادي يُعد وثنية، بل لا بد من الجمود. وهي بذلك قد تشير إلى اختزال قيمة معنوية ما في صورة مادية وكأنها ملازمة لها لا تنفك عنها، وبذلك يتضح وجه المقابلة بين الوثنية بما تتضمنه من دلالة على الجمود وبين الحنيفية بما تتضمنه من دلالة على الحركة الدؤوبة والمتجددة.
(23) فقد وردت مادة (وثن) في القرآن ثلاث مرات: مرة في الآيات السابقة، وفي سورة العنكبوت مرتين. الأولى: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، والثانية؛ وهي امتداد لحوار إبراهيم uمع قومه: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ) [العنكبوت: 16 ،17 ،25]. ويتضح من الآيات السابقة أنها معنية بتلك الأوثان التي اتُخذت من دون الله فكانت ملة مناهضة لملة التوحيد، كما وتتحدث الآية (الخامسة والعشرون) عن الوظيفة الاجتماعية لتلك الأوثان فقد تواضع من عبدوها على مصالح وتوازنات اجتماعية واقتصادية في إطار ذلك التصور لآلهة هم من اختلقوها وركبوا لها ما يرونه متماشيا مع تلك المصالح والتوازنات – رغم أنها في ذاتها لا ترزق ولا تضر ولا تنفع -. ومن اللافت أنّ الحديث في تلك الآيات لا يدور عن الأصنام الحجرية التي أقسم إبراهيم uبتحطيمها (تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء:57-58]. فعبادة الأصنام شكل من أشكال الوثنية، بينما تتسع الوثنية لما هو أوسع من ذلك.