التعارف في بناء أمة الصدر الأول:
التعارف في الإنسانية هو ضرورة روحية، يذوب معها جميع حواجز العنصرية، والألوان، والأنساب، واللغات.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
(ومِنْ آيَاتِـهِ خَلْـقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتـِلافُ أَلْسـِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُـمْ إِنَّ فِـي ذَلِكَ لآيَـاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22)
(ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) (الأحزاب:5).
وعن رسول الله rأنه قال: “لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى” أخرجه أحمد: 23536. “وسلمان منا آل البيت” رواه الحاكم في المستدرك: 3/598، والطبراني: 6/261. ونحن نعلم أن سلمان فارسي ليس من آل البيت نسباً، ولكن إيماناً وصلاحاً.
“يا معشر قريش لا تأتوني بأنسابكم ويأتوني بأعمالهم”
وعنه صلى الله عليه وسلم في وصية حجة الوداع:
( يا معشر الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد) رواه البخاري.
ورغم كل هـذا نرى جمهور “المسلمين” حتى هذا اليوم يمارسون الكثير من ألوان العنصرية والاستعلاء على كل من هـو ليـس أعلى منهم مكانة ونسباً. والله يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُـمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُـم مِّـنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُـمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70).
وهو القائل جل جلاله: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُـمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُـمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِيَتَّخِـذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُـخْرِيّاً وَرَحْمَـتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32).
ومن الواضح أن هذا يعني أن تفاوت القدرات لا يتعارض مع تساوي الكرامات، ومن الواضح أيضاً أن التكافل والتعاون والتراحم جزء لا يتجزأ من تحقيق الكرامة الإنسانية، فليس مكرماً من يمد يده عن حاجة.
وهذا ابن الخطاب tيقول: (سيدنا أعتق سيدنا) يعني أبا بكر t، وبلال بن رباح العبد الحبشي المؤذن الذي لا تقاس قدراته بقدرات “الخليفة” أبي بكر t، ولكنهما يتساويان في الكرامة.
وهذا رسول الله rيسأل أبا بكر في عام العسرة فيقول له: (بم تصدقت يا أبا بكر؟ فيقول: تصدقت بكل مالي. فيقول له النبي r: فماذا تركت لأبنائك؟ فيقول سيدنا أبو بكر: تركت لهم الله ورسوله).
واعتبر البعض أن هذه التضحية تدل على عظم إيمان أبي بكر. والحقيقة أن عظم إيمان أبي بكر ليس موضوع شك أو تساؤل، ولكن المعنى الكامن لما قاله أبو بكر tفي هذا المقام، هو أنه ترك لأبنائه قبل كل شيء وبعد كل شيء الله سبحانه وتعالى ثم رسول الله بصفته رئيس الدولة، ولذلك هو لا يضن بشيء من ماله في عون إخوانه المسلمين.
ولو أن أبا بكر – كما يحدث اليوم – بيننا، وقد أمسينا أفراداً يتكالبون على اللقمة، كلّ لذاته، وليس منا من يجد في حوجته عوناً ولا رعاية من أحد، وهذا هو حالنا أبناء الأمة اليوم، حيث ليس منا إلا ما ندر من هو سند لأي أحد يمد يده طلباً لسد جوعته وسقمه – لما أعطى أي شيء من ماله، والسبب أنه يعلم أنه لا عون ولا سند له إلا ذاته وما لديه من مال كسبه وفي حوزته، لا يشارك فيه أحد، ولا ينفق منه على أحد.
لقد تصدق أبو بكر tوأمثاله من رجال الصدر الأول بكل ماله أو بجُل ماله، لأنه يعلم أنه إن أصابته، أو أي أحد من أهله حاجة، لكفاه الرسول rالذي هو رأس الدولة.
ولذلك لا غرابة أن نرى هذا العطاء السخي وهذا التكافل المخلص، نجد الأنصار يتقاسمون أموالهم، بل وزوجاتهم – إن اقتضى الأمر- مع إخوانهم المهاجرين الذين هاجروا إلى “المدينة المنورة” حفظاً لدينهم وعوناً لإخوانهم في المدينة، تاركين خلفهم أموالهم وديارهم، ليجدوا لدى إخوانهم الأوس والخزرج إخاءً وتكافلاً لا يفرق فيه بينهم – مهاجرين وأنصار- ديار ولا لون ولا عرق ولا أنساب.
بذلك كان أبناء العهد الإسلامي الأول حقاً أمة واحدة لا يألو أحد فيها العون والعطاء لكل ذي حاجة.
ولهذا فإن من يفقد أباه استشهاداً أو موتاً وهو “يتيم قاصر”، سيجد من القادرين من يضحي بالزواج من الأرامل مَنْ هُنّ “أمهات الأيتام” صوناً لكرامتهم، ولبذل المال والعناية والرعاية تضحية وحملاً للمسؤولية لإعالة هؤلاء اليتامى وصون كرامة أمهاتهم، هذا اللون من التكافل يجعل المسلم يبذل نفسه في سبيل خدمة أمته، ولا يخشى الموت والقتل دفاعاً عنها.
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُـواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَـابَ لَكُم مِّنَ النِّسَـاء مَثْنَى وَثُـلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُـمْ أَلاَّ تَعْـدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَـتْ أَيْمَانُكُـمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) (النساء: 3).
عرفة لتعارفوا:
ومن صور تجسيد الوحدة الإنسانية للأمة الإسلامية بحق على – عهد النبوة والخلافة الراشدة- والذي أخطأنا وشوهنا فهمه؛ هو لقاء أبناء الأمة في فريضة الحج، من كل صوب وحدب، وبشكل مرئي وملموس في أنهم أمة واحدة – رغم اختلاف الديار والألوان واللغات والقسمات.
ولذلك فإنه من غير المفهوم، أننا نجد أمتنا من بعد ذلك العهد، تفسر لقاء الحجيج من أبناء الأمة في يوم عرفة، بشكل “أسطوري خرافي” غافلة عن معناه الحقيقي المرئي والملموس، ليقولوا: إن ساحة عرفة سميت عرفة لأنها الموقع الذي التقى فيه أبونا آدم بأمنا حواء، ولذلك سمي ذلك المكان “عرفة”.
ورغم أنه لا يخفى على أحد أن أمنا حواء خلقها الله من آدم، ولذلك وسوس الشيطان لهما لأنهما زوجان لا يتفرقان.
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَـا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِـكُمْ أَزْوَاجـاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَـاتٍ لِّقَـوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُـنْ أَنتَ وَزَوْجُـكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْـرَبَا هَـذِهِ الشَّـجَرَةَ فَتَكُونَا مِـنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَـا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْـضٍ عَدُوٌّ وَلَكُـمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِـينٍ) (البقرة: 35، 36)
ولما كنت من أبناء “مكة المكرمة” والذي كان يصحب والديه إلى الحج كل عام منذ ولادته حتى سن الثامنة عشرة – حين توجه إلى مصر وسواها طلباً للعلم – فقد كان ذلك الطفل، يجلس على قارعة الطريق يرقب الحجيج في ساعة “النفرة” من عرفة إلى المزدلفة، وهو يتفحص وجوههم على اختلاف ألوانهم وسماتهم، يرتدون قطعتين من القماش الأبيض، وقد عريت رؤوسهم بحيث لا تستطيع أن تفرق بين وزير ولا مدير ولا خفير، يحملون أطفالهم، ويصحبون نساءهم، في لباسهم الأبيض، متسترات “محجبات”.
ومن يشاهد هذا المنظر، ويتمعن فيما يرى، ويتدبر دلالته، ومعناه، فلا بد له أن يدرك على الحقيقة لماذا سميت عرفة.
لقاء الإخاء والمودة والتراحم:
ففي هذا الموقف العظيم، يأتي البشر من كل حدب وصوب بألوان وسمات ولغات مختلفة، لا يجمعهم إلا أنهم إخوة مؤمنون، وأنهم رغم كل الاختلافات إخوة في الإنسانية، وأنهم جميعهم أمة واحدة في الإنسانية وفي الدين، لا مجال في إخائهم الإنساني والديني للعنصرية، ولا للاستعلاء بالمال، أو الجاه، أو الأنساب.
يقول الله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُـوا إِنَّ أَكْرَمَكُـمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُـمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيـمٌ خَـبِيرٌ) (الحجرات: 13).
(ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّـمْ تَعْلَمُـوا آبَاءهُـمْ فَإِخْوَانُكُـمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُـمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب: 5).
فأين هذا المعنى السامي والغاية العظمى للحج في عرفات!؟ التي يستشعر فيها المسلمون مشاعر الإخاء والود والتراحم، بغض النظر عن أي اعتبار آخر، وليستشعر وينعم كل واحد وكل شعب منهم بالكرامة والإخاء الإنساني والإسلامي.
يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَـرِّ وَالْبَحْـرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70).
فالكرامة لكل إنسان، والرزق والتكافل حق لكل إنسان، فمن لا يجد لقمته ويمد يده تسولاً فإنه لا كرامة له، وغير ذلك هو تشويه لمعاني الوحي وآياته، وسوء فهم للفطرة السليمة، فلا غرابة حين يفقد” المسلمون” هذه المفاهيم، وهذه المعاني في واقع حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، فلا بد عندئذ أن يصبحوا “أفراداً” لا “أمة”، تتشوه علاقاتهم، وتتمزق وحدتهم، وينحط أداؤهم، وتنهار حضارتهم، ويصبحون عوناً لأعدائهم على أنفسهم.
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً
وإذا افترقن تكسرت آحاداً
هذا التحريف وهذا التخريف في فهم دلالة كلمة “عرفة” رغم وضوحها، لمن يتدبر، يقودنا إلى إشكالية أخرى أكبر، تتعلق بتشويه العلاقات الإنسانية ذاتها، وللأسف أن ينسب هذا التشويه إلى الدين، والدين منه براء، وإنما هي مفاهيم وتقاليد وواقع أناني عنصري يسيء إلى الدين، ويصد الناس عنه، ويدفعهم بعيداً عن الإسلام، نحمل نحن “المسلمين” وزره، لما سببناه من تشوه رؤيتنا الكونية الحضارية القرآنية ومفاهيمنا الاجتماعية الإنسانية الروحية على كل صعيد.
لهذا فإننا رغم كثرة عدد “المسلمين” اليوم، إلا أننا أمسينا من أكثر الأمم تخلفاً وضعفاً وضلالاً وهواناً، ليس لنا عطاء في الحياة، ونحن أدعياء”الخلافة” أو “الاستخلاف”، وكل ما نتطلع إليه في الحياة، ليس إلا لقمة عيش لكي نسد بها الرمق، ونحن في انتظار الموت، فلا نعمل، ولا ننتج، ولا نسهم حقاً في مواكبة العطاء والسعي والإحسان والإتقان.
وهكذا أصبحنا في مجملنا عالة على الآخرين، ومجمل ما يميز واقع ثقافتهم، ونظمهم التعليمية، ومفاهيمهم التربوية، هو الجمود، والخرافة، والجهل، والمرض، لتتضور الشعوب فقراً، وجوعاً، ومرضاً، ولتنحني رؤوسهم أمام أعدائهم، ضعفاً، ومهانة، ولا يملكون إلا أنهم مجرد ورثة حضارة منهارة ليس لهم منها اليوم إلا التفاخر بالذكريات.
دور المفكرين في استنقاذ الأمة:
ولذلك فإنه لابد لعلماء الأمة ومفكريها من إمعان في النظر، والبحث في كل جانب من جوانب واقع الأمة، لإدراك سبب التشوه الذي لحق بعقيدة الأمة ورؤيتها الكونية وممارساتها الاجتماعية الحياتية، حتى يمكن أن تصبح الأمة المسلمة أمة خُلفَاء الأرض، ومثال الهداية والعدل، والإخاء والتكافل والإعمار والإتقان والسلام.
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْـرُوفِ وَتَنْهَـوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَـيْراً لَّهُـم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
ولهذا فإن من المهم أن ندرك، أن عرفة سميت عرفة لأنها ساحة لقاء الإخاء الإنساني والإسلامي العظيم، وليس مجرد أسطورة، هي دعوى لقاء أبينا آدم وأمنا حواء في ساحة أرض عرفة التي هي نموذج مؤسف لما سيطر على ثقافتنا من الأساطير والخرافات التي تركت، وما تزال تترك من آثارها البلاء العظيم الذي انتهى بالأمة”الإسلامية” إلى ما انتهت إليه اليوم.
وبالله العون إنه على كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *