أبحاث

ما قبل المقاصد والنسق الغائب

العدد 154

“مقاصد الشريعة” علم قديم قدم تنـزل القرآن، ورغم ذلك فلازال يتعثر ويتأخر، وكلما تقدمخطوة، توقف فترة، أو تأخر خطوتين. شأنه فى ذلك شأن كثير من جهود الأمة، لا تجد من يتفرغ لها، ويحمل أثقالها، ولو بشق الأنفس حتى تستوى على سوقها تعجب الزراع. ولو تنبهت المؤسسات العلمية الدعوية والبحثية لضرورة التفرغ والتخصص الدقيق فى العلم والفكر لتعافت الأمة مما تعانيه، واستطاعت أن تؤدىواجباتها نحو ذاتها أولا، بل وتقوم بحق الأمم الأخرى فتخرجها من الظلمات إلى النور.

ونحمد الله كثيرا، فها هى مياه كثيرة جرت فى نهر المقاصد، فشجعت سفنا محملة بالعزائم على الإبحارسعيا للوصول إلى ما يرضى الله ويصلح الأمة وينفع الإنسانية. وأبرز تلك السفن الرائدة: “إسلامية المعرفة”(1) و”المسلم المعاصر”(2) وكلتاهما بشكل أو بآخر ذواتا قربىبـ “المعهد العالمى للفكر الإسلامى”(3) ذلك الفنار المرتفع وسط محيط الفكر يهدى الباحثين إذ يضيئ لهم مجالالإبحار الآمن، والأسرع وصولا.

وقد ازداد فضل الله على الأمة وعلى المقاصد حيث شعرت ثلة طيبة من أهل العلم بأهمية المقاصد فأنشأوا “مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية”(4) التابع لـ”مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامى”(5) إذ أصبح هذاالمركز بمثابة “الميناء المقاصدى” الواعد يستقبل السفن والبحارة والملاحين، يستفرغ ما معهم، ويتناولهافرزا وتصنيفا، ثم تقعيدا وتنظيرا، ثم تنظيما وتنسيقا، ثم يعيد تصديره للأمة، وربما لخارج الحدود إن شاءالله.

ولكننا نرى الكتابة المقاصدية تتبوأ مقعدًا فى “حقل الفقه وأصوله” تارة مثل الموجة الأولى ورأسها “الشاطبى في كتابه الموافقات”، وتارة أخرى جاءت المقاصد فى “حقل الفلسفة والدعوة” كما رأيناالموجة الثانية ورأسها “ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية”، وإن كان كتاب ابن عاشور قدحوى فصولا فقهية متميزة خصوصا فصل: “انتصاب الشارع للتشريع”، وعلى كلتى الطريقتين كتب قديما”الإسنوى والبدخشى، والبيضاوى، والجوينى، والرازى، والزركشى، والسبكى، والسيوطى، وابن عبدالسلام، والغزالى أبو حامد، وابن فرحون والقرافى وغيرهم.

كما كتب حديثا كل من إسماعيل الحسنى، وحسين حامد حسان، والحفناوى، والخادمى، والخمليشى، والريسونى، والزحيلى، والزرقا، والميساوى، وطه جابر العلوانى، ويحيى محمد، والكيلانى وغيرهم وغيرهم، ونستطيع التعرف على السابقين واللاحقين من الكشاف الضخم لكتابات المقاصد الصادر عن “مركزالمقاصد” التابع “لمؤسسة الفرقان”، والذى توفر على إخراجه د. محمد كمال الدين إمام، أحد المشهود لهمبالإحاطة الواسعة بالمؤلفات والمؤلفين.. ولعلى أهيب “بمركز المقاصد” الواعد أن يحول هذا الكشاف إلى مكتبة إليكترونية تضم نصوص جميع الكتب والمقالات الواردة فى الدليل وذلك سواء على موقع المركز فىالشبكة العالمية للمعلومات، أو على أقراص مدمجة، فقد يكون هذا العمل مباركا يدفع المقاصد إلى الأمامويخلصها مما تعانيه من “قلق وتعثر وتأخر نضج” حال بينها وبين مكانتها اللائقة بها “قسيمة طبيعية لعلمأصول الفقه”، وما ذلك على الله بعزيز.

وقد أقدمت على الكتابة فى “تفصيل المقاصد وتنظيرها” تفاعلاً مع الكتاب المتميز “نحو تفعيلمقاصد الشريعة” للأستاذ الدكتور “جمال الدين عطية”، إذ رسم الكتاب لوحة بيانية لواقع المقاصد يستطيعالقارئ أن يرصد فيها ثلاثة اتجاهات للمقاصديين:

أولها:اتجاه الدوران فى فلك “الشاطبى فى الموافقات” حيث وضعوا المقاصد فى موقعها الرئيس بين “الأصول والفقه”.

ثانيها:اتجاه يدور فى فلك “ابن عاشور” حيث أخذوا المقاصد إلى حقل “المحاسن والحكم والفلسفة والدعوة”.

وآخر الاتجاهات:هؤلاء الأفاضل الذين “يغردون خارج السرب” يطلقون صيحاتهم الخاصة (قديما أو حديثا) تحت مصطلح المقاصد، وليس بين تلك الصيحات وبين الفقه وأصوله أى نسب، ولا بينها وبينالمحاسن والدعوة أي صلة.

كما أن كتاب “نحو تفعيل مقاصد الشريعة” قد زكى عندى ما يشغلنى من “هموم مقاصدية” أحاول الإشارةالسريعة إليها:

(أ) همّ لغة الخطاب المقاصدى: فمقاصد الشريعة وإن كان لها أكثر من وظيفة، إلا أن لها “جذور أصولية” يتفرع عليها قواعد وأحكام، ولغة الفقه وأصوله لغة منضبطة محكمة مقيدة غير مطلقة، ولا شك أن أهلالمجال يفرقون ويميزون بين “إحكام عبارات الشاطبى” رغم انتمائها لزمن بعيد، وبين انفتاح واتساع -“عبارات ابن عاشور” رحمهما الله.

فالخطاب المقاصدى الحديث والمعاصر قد خلط بين لغة الفقه وأصوله، وبين لغة الفلسفة والدعوة، وإذاجاز تبادل المواقع بين الفقه والدعوة لظرف خاص أو لمناسبة موقوتة، فإن “المنهجية” لا تجيز معالجةالأصول والقواعد والأحكام بلغة الفلسفة والفكر والدعوة، وذلك بغض النظر عن علاقة التكامل بينالخطابين، فالأصوليون ينشئون النظريات ثم يقوم الدعاة بإعادة عرضها وتبليغها وتقريبها للمسلمين وربمالغيرهم خارج الأمة. ولا ننسى جميعنا أن:

– لغة الفقه وأصوله لغة تحقيق وتوثيق، أما لغة الدعوة فهى لغة تشويق وتنميق.

– لغة الفقه وأصوله لغة تقعيد وفرض، أما لغة الدعوة فهى لغة إبلاغ وعرض.

– لغة الفقه وأصوله لغة حدود وتكليف، أما لغة الدعوة فهى لغة تقارب وتعريف.

وإذا سمعنا من يقول أن فى لغتنا بل فى القرآن كما يقولون – حاشاه وسامحهم الله- ألفاظا مترادفة، فلابد أننتذكر قوله تعالى شأنه: (…مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب…) (آل عمران: 7) والآيات المحكمات ألفاظها محكمات، ففى العربية ألفاظ محكمة لا حصر لها، ولله در حافظ إبراهيم إذ ينطق على لسان لغتنا فيقول(6):

وسعتُ كتاب الله لفظا وغاية

وما ضقت عن آى به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

وتنسيق أسماء لمخترعات

والألفاظ المحكمة هى مادة الأصول والفقه وهى منوال المقاصد الذى تنسج عليه.

(ب) همّ المصطلح المقاصدى: ويعرف الجميع أن “فن الاصطلاح” أحد أكبر الوسائل العلميةوالمنهجية، ويكفى أن نشير إلى التعريف اللغوى “للمصطلح”: فهو اختزال “صالح فى نفسه” و(مبين) لمعنى “صالح لا فساد فيه”.

– ثم أنه “تصالح” (توافق) بين الباحثين الفاعلين فى المجال ناتج عن مشورة و”مصالحة”.

– ثم أنه مُصلح (مُيسّر) لاستقامة الفكر حيث الضبط والخصوصية والبيان فيحقق “مصلحة”..

وبقدر ما أنست النفس إلى مصطلحات الشاطبى تحديدا ووضوحا (طبقا لمعايير زمانه) بقدر ما قلقت النفسأمام سيل المصطلحات الجارف فى كتابات كثيرة تحتاج إلى ترشيد.

وإذا كان أجدادنا قد أفرطوا فى “سماحتهم العلمية” فقالوا (لا مشاحة فى الإصطلاح) فإن زمننا هذا ومناخالعولمة المحيط بنا يأبى عدم الضبط، وعدم الإحكام، فالمنهجية تفرض استقامة المصطلح والمشاحة فيه، فإنلكل عصر موازينه وإلا بقيت أمتنا خارج مضمار التنافس الحضارى خصوصا مناخه العلمي.

غير أن هذا الهم – هم المصطلح- آخذ فى التلاشى والخفوت بسبب تلك الجهود الجبارة التى أفاء الله بها على “د. الشاهد بوشيخى” فرعاها حق رعايتها حتى أسس “معهد الدراسات المصطلحية”(7) الذى حالما أطلت تباشيره ونضجت بعض أزهايره، فلهذا المعهد وشيخه ورجاله رضا الله وشكر الناس.

(ج) همّ تأخير التفصيل والتنظير: وعدم التوافر والتتابع والتراكم على التأصيل والتنظير والتوثيقوالتنسيق والتحديد والتحرير للمقاصد، كل ذلك يفقد الفكر المقاصدى جدواه رغم ظهور رونقه، كما يبقىساكنا أسيرا فى عالم “المحاسن والحكم والاعتبار”، كما قد يتسبب ذلك التأخر فى بقاء المقاصد “محضأمانى” تطاولت عليها العُصر دون الانتفاع بها فى منظومة تشريعية تعيد للشريعة حقها وللأمة مكانتها بينالأمم.

إذ أن “مقاصد الشريعة” تعانى ما يعانيه كثير من “درر القرآن وجواهره” مثل “السنن الإلهية”و”منظومات القيم والسلوك” و”الرؤية القرآنية للكون” و”المنظومة الهرمية للدعوة الإسلامية” حيثلازال كل هذا بعيدًا عن الضبط، والتحرير، والتدقيق، والتوثيق، ثم الاعتماد والتقرير، ثم الظهور والتفعيل.

ولعلي لا أشرد بعيدًا إذا تذكرت قولة لعمر بن الخطاب tإذ رأى زحام الحجيج وقلة الالتزام فقال: الوفدكثير والحج قليل، ثم أقلدها قائلا: الفكر كثير، لكن الفقه قليل.

(د) همّ نسيان التأصيل والتوثيق: ورغم استمساكى واعتصامى بالمقاصد، فلازلت أتعجب كيف غابتالدراسات الوصفية والتحليلية لمقاصد الشريعة واستنباطها من الوحى القرآنى والبيان النبوى، إذ لازالت جميعالكتابات المقاصدية تستند إلى قناعة المؤمن بشريعته فتكتفى بضرب الأمثلة المحدودة، منذ بدأت المقاصدوحتى يومنا هذا. ولم تجر دراسات مسحية شاملة للقرآن الكريم والبيان النبوي بحثًا عن مظان المقاصدومصدرها، ومالم تجر تلك الدراسات المسحية فلا أمل فى دراسات وصفية أو تحليلية تنتج المواد الخامالملائمة لصناعة فقه المقاصد.

(هـ) همّ هوية مقاصد الشريعة: وهذا هم مؤرق أشد الأرق، فإن الكتابة فى مقاصد الشريعة قد أعتراها كثير من القلق.

فتحت مصطلح “مقاصد الشريعة” يكتب بعضهم فى “المقاصد” مطلقا دون تفريق بين الشريعة والعقيدة والسلوك، – وفى تقديرى- فإن معالجة “التقصيد مطلقة” فهو فرع من فروع علم الكلام والجدل قديما أو علمالحوار حديثا.

ويكتب بعضهم تحت ذات العنوان ثم يستدرجه الحديث إلى القرآن الكريم كله، فيعالج “مقاصد القرآن” تحتمصطلح “مقاصد الشريعة”، ومن الثابت المستقر أن القرآن الكريم كل، والشريعة جزء وإن كان بينهما عموموخصوص، فبينما يجب أن تقف “مقاصد الشريعة” عند حدود التكليف والعمل والحراك البشرى وتصرفاته،فإن “مقاصد القرآن” أوسع مدى من مقاصد الشريعة فهو المصدر الرئيس للشريعة والحقيقة والعقيدة والأخلاق وغيرها مما أثبتناه فى كتابنا “مقاصد القرآن الكريم”(8) وهذا ما تسبب فى خلط المقاصد بالقيم، إذ المقاصدتكاليف شرعية ملزمة تدفع الملتزمين بها إلى تحقيق القيم وشيوعها.

فالمقاصد هي الخطوات العملية المقننة فقها وتشريعا، بينما القيم هى الحكم والمحاسن الناتجة من تفعيلالمقاصد ومراعاتها.

المقاصد بحاجة لنسق يفعلها:

اختلطت “مقاصد الشريعة” بـ “خصائص الإسلام ومحاسنه” من ناحية، و بـ “قيم القرآنالكبرى” من ناحية أخرى نظرا لما بين كل ذلك من عموم وخصوص. لكن المنهجية تفرض تمايز كل منهملتخرج تلك البحوث من دائرة النقاش والفكر إلى دائرة العلم والفقه.

لقد تصور البعض قدرة المقاصد على الطيران والتحليق فى سماء الشريعة، دون ارتباطها “بمجال جوى” (نسق خاص) يكون لها بمثابة فلك خاص تسبح فيه من الواقع إلى الشريعة، فالملاحة فى الأجواء العاليةلا تستغنى عن فلك خاص يضمن سلامة الطيران كما يوطئ الوصول إلى الغاية المحددة دون زيادة أو نقصان.

فحينما أدمجوا المقاصد الخمسة المشهورة سواء بـ “خصائص الإسلام ومحاسنه” كـ “الفطرة والسماحة”كما فعل “ابن عاشور” رحمه الله، أو بـ “قيم الدين العليا” مثل “التوحيد والتزكية والعمران” كما رسم”د. طه جابر العلواني” بارك الله في عمره وقلمه، بذلك جعلوا المقاصد الخمسة تبدو لى مثل الأصابع الخمسةتحاول الالتصاق بالجسم البشرى بدون الذراع المحركة لها، فإذا بتلك الأصابع لا وظيفة لها بل وفقدت موقعهاالطبيعى فيما جعله الله فى “أحسن تقويم”، أما إذا عادت الأصابع الخمس إلى موقعها فى نسقها الطبيعى فىطرف الذراع حيث يتصل طرفه الآخر بالجسم فسوف تعود مسرعة إلى مكانتها الفاعلة ومكانها المرموق فى”أحسن تقويم”، فالمقاصد المشهورة عناصر وأجزاء، أما مصالح الأمة وكرامة الإنسان وحريته فتلك قيمإطارية أوسع مدى من النفس والعقل والمال.

فبينما تشكل المقاصد الخمسة “كليات ضرورية ولا غناء عنها”، تراها شيئا قليلا بالنسبة لـ”خصائص الدين ومحاسنه”، وكذلك المقاصد والخصائص ما هي إلا فرعيات لا تؤتى أكلها إلا بانطوائهاتحت لواء “القيم العليا للإسلام”.

النسق المقاصدى الغائب:

تحتاج المقاصد الخمسة – فى تقديرى- أن تسعى وتصل إلى “غاية عليا” تتحقق وتظهر وتزدهر من أثر المحافظة على المقاصد والتزامها، كما أن الوصول لتلك الغاية المنشودة أحوج إلى “وجهة مستقيمةمحددة” تسلكها المقاصد فى وصولها إلى الغاية. “فما هى الغاية؟” و”ماهى الوجهة؟”

الغاية العليا للشريعة:

إذا نظرنا إلى كل ما أمر الشرع بفعله أو تركه فنحن أمام تكاليف عديدة تفوق الحصر ترصدهاأبواب الفقه فى كتب المذاهب المتعددة. وتتراوح هذه التكاليف بين تطهير النفس والجسد والقلب أو بإقامةالشعائر الموقوتة أو ضوابط العلاقات الأسرية والمجتمعية والأممية والعالمية فضلا عن منظومة التجريموالجزاء إلخ. وهذه التكاليف سواء فرائض وواجبات أم منهيات ومحرمات فكلها ينتظم في عقد الشريعة، ذلكالعقد الذي يمكن وصفه بـ “ملائمة الفطرة” مرة وبـ “السماحة” ثانية و”المساواة” ثالثا و”السلم والسلام”رابعا، وهكذا. لكن الأمر “بعبادة الله وطاعته وتوحيده وتنـزيهه وابتغاء مرضاته”، وإن كان مطلوبا مثلالتكاليف التى أشرنا إليها إلا أن “عبادة الله وتوحيده وطاعته” إطار جامع لكل تلك التكاليف، إذ لا تتحقق طاعةالله إلا باستيفاء جميع الأوامر والنواهى.

مصطلح الغاية العليا للشريعة:

فهل يستوى الكل مع الجزء؟! لا يمكن أن تستوى عبادة الله وطاعته بالصلاة أو الصيام فالمطلق الجامع غيرالفروع والأجزاء، بل يزداد الكل على أى جزء من أجزائه، وإلا أمكن الاكتفاء بالجزء عن الكل!! فإذا كانت”الأجزاء مقاصدا” فليكن الجامع االمهيمن عليها “غاية” تنتهى إليها تلك المقاصد، فلنعتبر عبادة الله وطاعته وتوحيده غاية عليا للشريعة، أى أنها قيمة إطارية جامعة تتسع لكل عناصر الشريعة. وهذه ” الغاية العليا”تختزل وتجمع كل ما جاء فى الشريعة من حقوق الله كعبادته وطاعته وذكره ومراقبته إلخ.

“غاية الشريعة” إذن هى: تحصين جميع التكاليف الشرعية بإدخالها فى إطار (رضوان الله وطاعته).

لقد قام الفقهاء بمحاولات موفقة لحصر مقاصد التكليف الشرعى فى خمسة مقاصد على الأشهر، وها نحننقترح خطوة إجرائية فى اعتبار “توحيده تعالى وطاعته” غاية عليا تسعى تلك المقاصد الخمسة للوصولإليها متحرية الخضوع لها وتوافقها معها، فلا قيمة للحفاظ على النفس بعمل لا يرضى الله عنه، مثل منيبادرون إلى اعتزال الأمة وعدم الاهتمام بشئونها ويقبعون فى خصوصياتهم يتأولون ما رواه عبد الله ابنعمرو عن الرسول rقال: بينما نحن حول رسول الله rإذ ذكروا الفتنة أو ذكرتعنده قال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه، قال فقمتإليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك وأملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة»(9)مع أنه مشروط بشروط لم تتوافر، أو على الأقل لمتتوفر شروط الاعتزال في نخب كثيرة قادرة على التغيير والتجديد. ومادام التوحيد وعبادة الله غاية عليافكيف تصل تلك المقاصد إلى الغاية العليا؟

للوصول إلى تلك الغاية العظيمة (توحيد الله وطاعته) لابد من “وجهة” مستقيمة آمنة يسلكها السائر ليصلللغاية المنشودة دون انحراف، أو تضاد.

الوجهة الموصلة للغاية

ماذا تعنى الوجهة؟

اتجاه سلوكى يتكون من عنصرين:

أ- طريق مستقيم معتاد يوصل للغاية مباشرة.

ب- طريقة سلوكية: (حركة / سكون) (مبادرة / اتباع) (بقوة / بقصد) (سرعة / بطئ) (جماعى /فردى) إلخ.

فما هى وجهة الشريعة؟

الباحث المدقق فى عناصر الشريعة يجدها تحث أتباعها دائما على فعل كل الأنشطة المحافظة دائما على وحدةالأمة وقوتها،فالأمة ووحدتها هى الإطار الحافظ والمناخ الدافع والبوصلة المعينة على تحقيق الجميع لغايتهم.

فإذا كانت الغاية -كما اتفقنا- توحيد الله وطاعته وتنـزيهه فإن الإطار الجامع لسلوكيات وأنشطة المسلم هو (وحدة الأمة وتماسكها وقوتها).

وتتحقق وحدة الأمة وقوتها من خلال: أ) الطريق.    ب) الطريقة.

أ) الطريق: طريق الإعمار والإصلاح لكل مقومات الأمة مع استثمار كافة مواردها. وهو طريق الكدح -لتأكيد الانتماء إلى الأمة إعمارا وإصلاحا، مع الحرص على العضوية الفاعلة في كيان “خير أمة”،وذلك باستخراج واستثمار جميع موارد الأمة لتحقيق غايتها (إِن هَذِهِ أُمتُكُم أُمة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمفَاعبُدُونِ) (الأنبياء: 29)

ب) الطريقة: تكريم الإنسان وحريته ودوام ضمان حقوقه موفورة وكرامته محققة بإحساسه بحريته وقدرته على اتخاذ قراره وتحمل مسئوليته، كما يحب ويريد. وممارسة الإنسان لحريته متوقفعلى استيفائه لضرورات الحياة، مع تمكينه من السعى لتحقيق “الهام” (ذو الأهمية) (المعبر عنه بـ “الحاجى” عند السلف y) و”التحسينى” مع دوام التحسين دون “فضول” بإسراف أو تبذير.

علما بأن تناسق وتكاتف الطريق مع الطريقة يضمن تحقق المراتب الخمسة.

اليقين التشريعى:

يتحقق اليقين التشريعى حينما تتوافق مقومات النسق المقترح فى أداء وظائفها كما يلى:

1- تحديد الغاية تحديدا جامعا دقيقا (توحيد الله وعبادته)

2- رسم الوجهة بشقيها:

أ- طريق إعمارى وإصلاحى مستقيم (الإعمار – الإصلاح).

ب- طريقة تكريم للإنسان وتمكينه (التزكية).

3- رصد المقاصد الخمسة الأكثر شهرة.

وهذا النسق الذى أعرضه على أهل الفقه والمقاصد قد يحقق:

1- ضبط المصطلح وعدم شتاته بين (مقاصد عامة / عليا / بالجملة / الأعظم لها / مقاصد مجتمع /مقاصد أمة).

2- وضع النقط على الحروف فيما بين القيم العليا للإسلام، وبين مقاصد الشريعة، ووضع “الحصان أمامالعربة” لتبدأ قافلة المقاصد تفاعلها. فهل اقتربنا بذلك الاقتراح من وضع الحصان أمام العربة؟

3- استيعاب المجالات الخمسة والمراتب الخمسة إذ أن الالتزام بالوجهة والغاية ينتج ويحتم تعاونالجميع (حكام / مؤسسات / شعوب / أسر / أفراد) كل فى تحمل مسؤلياته وهكذا تكون:

أ- المقاصد الخمسة قد احتفظت بمصطلحها الخاص بها.

ب- جاءت القيم العليا للإسلام فى مكانها الطبيعى أسبق من المقاصد وأعم وأشمل منها.

فالأكبر مطلقا هو الغاية العليا ثم يليها ماهو أدنى منها وأعم من المقاصد وهو “الوجهة”وهذا الذى أقدمه مجرد فكرة تشغلنى منذ زمن رأيت أن أكتب بها لمجلة المسلم المعاصر، فإنتكرمت وأتاحت لها مكانا فى صفحاتها تشرفت بمواصلة عرض ما يشغلنى حول “وظائف المقاصد”،وحول “منشأ المقاصد من القرآن”، ثم “من السنة النبوية” ثم أبسط بعد ذلك علم “غاية الشريعةووجهتها” كشقيق متمايز لشقيقه الآخر “مقاصد الشريعة”، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

* * *

الهوامش

(1) مجلة إسلامية المعرفة: مجلة فكرية فصلية محكمة يصدرها المعهد العالمى للفكر الإسلامى.

(2) مجلة المسلم المعاصر: مجلة فصلية فكرية ثقافية تعالج قضايا الاجتهاد المعاصر فى ضوء الأصالة الإسلامية – تصدر عن جمعية المسلم المعاصر.

(3) المعهد العالمى للفكر الإسلامى: مؤسسة فكرية إسلامية مستقلة أنشأت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى مطلع القرن الـ15 الهجرى 1401– 1981 – فرجينيا – أمريكا.

(4) مركز بحثى متخصص فى مقاصد الشريعة الإسلامية – يتبع مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامى –لندن.

(5) مؤسسة فكرية مستقلة – مقرها لندن- متخصصة فى رعاية ودعم مشروعات أحباء التراث الإسلامى.

(6) من قصيدة اللغة العربية تنعى حظها لشاعر النيل حافظ إبراهيم – ديوان حافظ إبراهيم.

(7) معهد الدراسات المصطلحية (بفاس – المغرب) د. الشاهد بوشيخى.

(8) مقاصد القرآن الكريم: كتاب تحت الطبع من تأليف الباحث.

(9) أخرجه أبو داود في «سننه» (4345)، الإمام أحمد في «المسند» (6987)، ابن أبي شيبة في «المصنف» (7/447)، جميعا عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر