أبحاث

الدعوة إلى الالتزام

العدد 16

كثير ممن ينتمون إلى الجماعات الإسلامية ومن الذين يقيمون دعاوى عريضة حول هويتهم الإسلامية وأنهم مسلمون متمسكون؛ يزعجهم كثيرا أن يذكروا بمغزى التزامهم الإسلامي. فكثيرا ما يبدر منهم ما يقارب

العداء تجاه أولئك الذين يقومون بواجب التذكر. وفي بعض الأحيان يلجأ أولئك النفر إلى ما يشابه التبرير لأن الذين يقومون بدعوتهم إلى الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم -ذلك الرسول الذي كان رحمة للبشرية- لا يبدو أنهم قد تشربوا في أنفسهم العطف والحرص اللذين كانا عادة وسجية لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولكن التقصير عند بعض الناس لا يصح أن يكون تبريرًا لتقصير الآخرين. فإن واجبات ذوي العلم والمعرفة أكبر من واجبات من هم دونهم في ذلك.

هناك سبب آخر لما يبدر منهم من ردود فعل عدائية، ذلك أن الإسلام ينطوي على دعوة متجددة إلى العمل على تبديل الوضع الراهن “Status Quo”، بل إن الإسلام لا يفتأ يحرض المؤمن إلى ترك ضمانات اللحظة الراهنة في سبيل السعي إلى تحصيل غد أفضل وأسعد، وإن كانت الوعود بهذا المستقبل الزاهر يكتنفها عدم اليقين، فإن التفكير في ركوب البحر بالمقارنة إلى سلامة البر يبدو دائمًا أمرًا مخيفًا.

غير أن هذا التردد وعدم الإقدام ليس له ما يبرره في الإسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في لهجة حاسمة لا لبس فيها ولا تردد أن يعلن على الملأ:
“قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره إن الله لا يهدي القوم الفاسقين”. (سورة 19 آية 24).
وفي واقع الأمر فإن لحظة تدبر واحدة لكفيلة بأن يدرك المرء أن الحاضر في حالة صيرورة إلى أن تصبح زمنًا غابرًا وأن المستقبل يدركنا في كل لحظة وعندما نمتنع من اتخاذ قرارات ومواقف فيما يتعلق بالمستقبل، فلا نملك أن نستديم الحاضر ولا أن نمنع المستقبل من أن يكون وأن يلحق بنا ويسيطر علينا، وكل ما في الأمر أننا لا نتعلم أن نشارك فيما سوف يقع فتكون النتيجة أننا نخسر كل شيء فيما هو آت وكائن ويؤخذ منا عنوة ما كان يمكن أن نأخذه اختبارا. إذن فليس هناك فكاك من المستقبل، وإن القرآن ليهدينا سبل الاختبار فيما هو آت من الأمور.
إن الحياة ذات المغزى إنما هي تعبير عن الإيمان وأثر من آثاره. وإن القرارات المصيرية كثيرا ما تتخذ لا بسبب معرفتنا الناقصة بالمستقبل ولكن بسبب الإيمان وإن العديد من التطورات والتفاعلات في داخل أنفسنا وفي خارجها كثيرا ما تتعاون لكي تؤدي إلى إنجاز ما نريد. وإن مظلة من الحماية الإلهية تحيط بنا من كل جانب. وهنالك عدد لا يحصى من الوظائف والتفاعلات التي تحدث في داخل الإنسان وفي خارجه -وبعضها تيسر لدينا وعي وإدراك به- وتقوم هذه العمليات والتفاعلات بمساعدتنا ليس فقط على البقاء والرفاهية ولكن أيضًا تساعدنا على التغلب على هفواتنا ونقائصنا، ولقد عبر القرآن عن هذا المعنى بالآية الكريمة:
(كتب على نفسه الرحمة) (السورة السادسة الآية رقم 12). فالطفل الذي لم يولد يتربى في رحم الأم لحين من الزمان يكون فيه تحت العناية والحماية الإلهية، وهو ينمو ويكبر حتى يحين زمن ميلاده وعندها يقذف به إلى الحياة حتى يبتدئ مرحلة جديدة من عمره. ومنذ طفولته إلى نضجه وإلى موته يمر الطفل بمراحل عديدة غير راغب في كثر من الأحيان أن يمر بها. وهو يشعر الأمن والرضا في أكنافها. والطفل الإنساني في هذا المسار التطوري يشارك أكثر وأكثر في رسم مستقبله القريب والبعيد. وهذه الظاهرة أمر حتمي ولا رجعة فيه.
وسواء أرغب أو كره فإنه يلقن أن يترك انحصاره الطفولي والتزامه بالبيئة الضيقة التي تحيط به وأن يتجاوز رغائبه الذاتية المباشرة وأن النضج ليتطلب أن تؤجل رغبتنا في إجابة مطالبنا العاجلة وفي نيل الرضا والإشباع المؤقت كما يتطلب النضج أن نتحمل الألم والمعاناة في سبيل تحقيق مكاسب لها معنى ومغزى أعمق.
وإن هذه القاعدة تسري في كل الأحوال، سواء أكانت هذه الأحوال تتعلق بالتجارة أو المهنة أو تنظيم وتخطيط حياتنا المعاشية. فإن الحياة ذات المعنى الإنساني تتطلب بالضرورة أن تكون لنا رؤية مثالية تتعلق بها كأفراد وجماعات. وإن الاشتراك في رؤية مثالية واحدة وأهداف عليا مشتركة تتجاوز مطامع الأفراد التافهة هو حجر الزاوية في تماسك حياة الجماعة في المجتمعات التي تشترك في مثل هذه الرؤية. فإن الاختلافات التافهة والمشاحنات الفردية تكاد تقضي بكل الصفات الكيفية لحياة الناس.
وعندئذ فإن مستوى الحياة ينحط إلى درك الحيوانية ويهبط إلى مستواها، وعليه فإن عدم الرغبة في الالتزام والتخلف عن الوفاء بمتطلبات هذا الالتزام (إذا ما قطع) يؤديان إلى نفس النتيجة (وهي انتشار الصراعات النفعية التافهة)؛ لأن عدم الالتزام أو عدم الوفاء به إنما يكون نتيجة لقرار يتخذه الإنسان بوعيه واختياره. يقول الله سبحانه وتعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (التوبة: 49).
وكل واحد من أنبياء الله قد فارق الأمر الواقع وتركه تحسبًا لمستقبل عظيم زاهر لا حق بنا لا محالة. فكلهم صلى الله وسلم عليهم قد اختاروا (الآخرة) ورضوا بها. وكان إبراهيم عليه السلام خير مثال لكل من يرفض العادة والمحسوس من الأشياء الظاهرية وينحو نحو الأشياء الغيبية مهاجرًا إليها:
(فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) (سورة العنكبوت: 29 آية 26).
والهجرة في الإسلام إنما هي الهجرة إلى الله وهي بهذا إنما هي عمل إيماني وهي فرار على أجنحة الأمل من المحسوس إلى عالم اللامحسوس وكل مسلم قطع على نفسه ميثاقا مع ربه فهو إنما قطع على نفسه عهدا بأن يكرر هذا الفرار في حياته المحدودة فيؤدي هذه الهجرة. والمسلم وهو يقوم بهذه الهجرة إنما يقوم بها بقلب يخفق بين الخوف من الفشل والأمل في
أن يتجاوز نفسه ويختار بحرية وحبور الآخرة على العاجلة التي يملكها الآن.
والمسلمون إنما يصبحون خير أمة أخرجت للناس عندما يبرمون هذا الميثاق ويعملون بموجبه، قال تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (سورة آل عمران: آية 110).
إن اقتراب نهاية القرن الرابع عشر الهجري لهو فرصة نادرة لنعيد تقييم أدائنا وأن نضع خططًا للمستقبل على أن نعمل ما ينبغي عمله، فإنه يتعين علينا أن نبتدئ في شق طريقنا إلى ما نريد. وعلينا أن نتحرك للعمل حالما نعقد العزم على الالتزام بالنهج الإسلامي -وليس هناك غير هذا الطريق- فإنه يتعين علينا أن نتحرك للعمل حتى تكون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معيارًا لحياتنا ولأدائنا وحتى يكون سلوكنا معيارًا لسلوك البشرية.
وعلينا أن ندرك أن الطريق شاق ومليء بالعقبات والمهاوي. والوعي الإسلامي الذي يتمثل الآن في قلة نادرة ينبغي أن تتسع دائرته حتى يشمل كل المجتمع ويصبح عامًّا، وأن قرونًا من التخلف والإهمال تحتاج إلى أن يسمح أثرها الحضاري الضار. وفي هذه العملية فإن كثيرًا من النزعات والالتزامات سوف تصل إلى قاع أشقيائنا، ومن أجل أن يصبح التوحيد هو الالتزام الأول في حياتنا فلابد أن تنهار أصنام كثيرة وتنفصم عرى صداقات قديمة. وكثير من أولئك الذين يؤمنون إيمانا أعمى لابد أن يعلموا ما يتطلبه ذلك الإيمان منهم لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
(والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا). (سورة الفرقان الآية 73).
أما أولئك الذين يعانون من تخبط وتذبذب فيما يتعلق بتصورهم بمكانة أنفسهم فإنه ينبغي أن نذكرهم بمكانة الإنسان ومركزه في الكون في التصور الإسلامي، وأما الشكوك الواهية التي عششت في أذهان وقلوب المسلمين حول صلاحية الإسلام لقيادة المجتمع الحديث -هذه الشكوك التي يثيرها الاستعماريون الجدد من دعاة المذهبين الرأسمالي والاشتراكي- فإنها تستوجب أن ندحضها دحضا ونزهقها زهقا. ويمكن أن يتم ذلك بالتصدي للمشكلات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والروحية التي تواجه المجتمع الإسلامي، بل إن واجبنا أعظم من ذلك بكثير إذ يجب علينا حيال أولئك الذين يتصدون لنا محاولين إضلالنا عن الصراط السوي أن نتوجه إليهم بالهداية والإرشاد، ذلك لأنهم إنما يخدعون أنفسهم بهذا السعي الخائب. إننا سوف نكون قد فشلنا في أداء مهمتنا كدعاة إذا لم نقدم إلى أولئك النفر نور الإسلام وهدايته.
الوضع الراهن:
ومع اقتراب القرن العشرين من نهايته، فإن الإنسانية تقف اليوم على مفترق الطرق تحت طلال داكنة تنذر بالدمار والخراب الشاملين من جراء أفعال الإنسان نفسه ومن جراء تصرفاته.
وقد جمعت الإنسانية اليوم -بمسارها التاريخي الطويل- كنوزا عظيمة من كنوز المعرفة والتقنية “Technology” وبسبب ذلك أخذها الزهو والعجب بقدرتها وإنجازاتها. ولقد أدى شعور الإنسان بسطوته وسيطرته على البيئة الطبيعية إلى شعور زائف بالأمان والطمأنينة وهو لذلك يتصور أنه قد يتصور أنه قد وصل إلى نهاية المطاف في مسعاه نحو أهدافه. ولكنه في الواقع أول الطريق، فهو الآن كثيرا ما يضيق ذرعا بالبعد الروحاني للحياة لكنه يجد الجانب المادي جذابا وممتعا. ولذلك فإن القيود والقيم الأخلاقية تغضبه لأنها تتطلب تغييرا في الوضع الراهن للمجتمع. ولنفس السبب فهو لا يرى في الأشياء مثالية أو روحانية لأن الإقرار بشيء من ذلك يستوجب أن يفارق ويترك ما هو غارق فيه من اللذات والمتع في حاضره المادي؛ ولكن لسوء حظ الرجل المادي فإن الحياة والسائر في شعابها مثله كمثل رجل يركب دراجة فهو لا يستطيع أن يحافظ على توازنه إلا إذا استمر في المسير وما يتطلبه من تبديل “Pedding” غير أنه لا يرغب في متابعة مسيرة التغيير هذه.
وسواء أرغب الرجل الحديث في التغيير أو لم يرض به فإن التغيير حادث لا محالة والحياة لا يمكن أن تقف جامدة لا تتحرك. ولكن الرجل الحديث قد ركن إلى حياته الراهنة وكره التحرك إلى الأمام وهكذا فقد الرجل الحديث توازنه وثقته في نفسه، ولكن مصيبته الكبرى -إلى جانب ذلك- هي أنه لا يدرك شيئا مما حل به من العيب ولا يستطيع هذا الإدراك إلا إذا تحرك من الحديث الضار واللاعقلاني وإلا إذا أسقط تلك الحجب التي بناها حول نفسه وأمام ناظره طيلة المائة والخمسين عاما الماضية.
******************ويبدو أن القوة العلمية المتعاظمة التي وصل إليها الإنسان الحديث أسيء استغلالها إلى أبعد الحدود بغرض استبقاء ألوان من الحرمان والظلم التي تسود عالمنا اليوم، ذلك أن الأخطاء والشرور لا يمكن إزالتها إلا بالخيال والقيم الخلقية ولكن الإنسان الحديث ليس على أدنى استعداد لأن يتلقى هذه القيم وهذه ا
لرؤية إلا من آرائه وأهوائه الذاتية. وغير خاف على أحد أن هذه الآراء والأهواء لا يمكن أن تنتج رؤية مثالية للأشياء، أو مقاييس وموازين أخلاقية يمكن أن يقاس بها. وبالنظر إلى الطريقة الخاطئة التي توصل بها إلى امتلاك قوة ونفوذ عظيمين في تصريف حياته فإنه قد قطع – عن قصد وإدراك – صلته بالوحي السماوي ظنا منه أنه يستطيع أن يدبر أموره بدون حاجة إليه. والسبب في كل ذلك هو أنه قد اعتقد بالنظرية النسبية فيما يتعلق بالعلم الطبيعي فظن أنه من الممكن انطباق هذه النسبية على العالم الإنساني أيضا وعلى الأخلاق بصفة خاصة. وتبع ذلك بالفعل اعتقاده بأنه لا توجد قيم ثابتة أو أطر دائمة للحياة.
وكما أنه وجد المنهاج التجريبي مفيدا في مجال العلوم الطبيعية فهو قد رأى أن يتخذ الواقعية المنطقية “Logical Positivion” كمنهاج له في العلوم الفلسفية والإنسانية وفي مجال الفكر والروحانيات. وبنفس الأسلوب فإن الإنسان الحديث قد قرر أن لا يعتمد أي وسيلة للمعرفة إلا وسيلة الحواس والمنهاج للعلوم الطبيعية. وهو بذلك قد قطع كل صلة بوسائل الدين العقلانية تلك الوسائل التي هي المصدر الرئيسي للقيم والإلهام وللراحة النفسية.
والإنسان في سعيه للتخلص من النزعة الإبهامية اللاعقلانية فقد قطع كل صلة له بالإيمان الذي يقوم على العقل؛ وانتهى بعد ذلك إلى محاولة قياس كل قيمة للحياة ولنوع الحياة بالمقياس الميزاني والمقياس المتري.
ولقد انتهت ثورة الإنسان ضد الاستغلال والظلم إلى أن يضع نفسه تحت رحى البيروقراطية التامة الشاملة. وكذلك انتهت ثورته ضد المسئولية الأخلاقية إلى أن يضع نفسه تحت تصرف سادة جدد قد سلبوه ليس فقط سمعته الأخلاقية ولكن شخصيته الإنسانية، متظاهرين بأنهم يحملون عنه مسؤوليته الأخلاقية.
وعبثا حاول الإنسان أن يتقمص الشخصية العلمية التي عينها ورسمها له هكسلي “Huxley” أو أن يتقمص الشخصية الجنسية التي حددها “فرويد” أو شخصية الرجل الاقتصادي الذي وصفه وحدده “ماركس”، حاول الإنسان الحديث ذلك في بحثه اليائس للوصول على السعادة والنجاح والاطمئنان وإلى ذلك الشعور الجميل بتحقيق الإنجازات.
وهكذا أصبحت الحيرة هي قدر الإنسان الحديث ومصيره، وعبثا يحاول الإنسان الهروب من مشكلاته، وعدم مواجهتها، وذلك بالانغماس في أوجه للنشاط مختلفة كأن يعشق الموسيقى الصاخبة التي يعزفها الشباب المراهق أو أن يقلد أشكالا من الثقافة المصطنعة المزيفة، أو أن يقذف بنفسه في مكافحة صراع طبقي حقيقي أو وهمي، أو يتلهى بالانغماس غير اللائق في اللذائذ والمتع الجنسية الجسدية.
ولكي تستمر هذه المهزلة وتجد التأييد والمناصرة، ولكي تستمر وتمتد الاحتكارات الاجتماعية والاقتصادية، ويتسمر الحرمان والاستغلال والظلم فلا بد من خلق الكثير من المغالطات والحائق المزيفة التي تلبس قناع الحقيقة، ولا بد من نشرها وتغذيتها وتقويتها. وربما أنه لم يمر عهد على الإنسان نقضت فيه وانتهكت قيم الحق والعدالة كما هو حاصل في هذا الزمان الحديث. فإن الباطل أو الظلم يجوب الشوارع اليوم مرتديا أثواب الحقيقة والعدالة وهو يطالب بالاعتراف والتقدير من كل منهما. وإن قدرا كبيرا من ميراث الإنسان وثروته وطاقاته ينفق اليوم إسرافا وبدارا حتى تنتج أسلحة للدمار والفتك تكون وظيفتها استبقاء المحرومين والمظلومين في حالهم وصدهم عن الثورة والانتفاض ضد ظالميهم. هذه الأسلحة التي تحرس مصالح الأغنياء ومكاسبهم. إن الأمور التي تنفق في إنتاج الأسلحة وصنعها أكثر بكثير من الأمور التي تنفق في تنمية موارد الطبيعة حتى تفي باحتياجات الفقراء للطعام وللكساء والدواء. وكان نتيجة كل ذلك هو الاتساع الرهيب الذي يقوم اليوم بين مستوى الأغنياء والفقراء، وإن الثقة اليوم التي بين الأغنياء والفقراء أكبر من أي يوم مضى ولم يسبق لها مثيل في التاريخ. هكذا الحال أيضا بين الأقوياء ذوى السلطة والنفوذ وبين الضعفاء. ولذلك كله فإن موارد الضعفاء وحقوقهم تستنزف اليوم وتبتلع بسرعة رهيبة بواسطة الأقوياء بصورة لم يحدث لها مثيل من ذي قبل لأن قوى الاستعمار الحديث قوى لإحياء لها في الكشف عن شخصيتها القهرية الظالمة.
إن الإنسان اليوم تقف على بركان من الظلم والاعتداء القلق تضطرم نيرانه تحت السطح وتوشك أن تنفجر، ولقد حدثت انفجارات بالفعل هنا وهنالك مما ينذر أن دمارا رهيبا يوشك أن يقع في أي لحظة وفي أي مكان:
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس…).
الإنقاذ:
إن إنقاذ الناس والعالم من هذا المصير هو واجبنا الرئيسي. وهنالك الكثيرون من سكان العالمين الرأسمالي والاشتراكي ممن يشاركوننا في تحليلنا للمرحلة الحاضرة التي يمر بها العالم اليوم ويدركون مدى استشراء الداء واشتداد وطأته..
< span style=”font-family: tahoma, arial, helvetica, sans-serif;”>”إن زماننا لهو زمان القلق وعدم الاهتمام واللامبالاة بصورة لا تسمح للعقل أن يفعل مفعوله الهادئ ولا تسمح للحياء أو الشعور الرقيق النبيل أن يفعل مثله” هكذا يقول (س. رايت ملس).
وهكذا يدرك الكتاب والمفكرون بأن فترة التغييرات الصغيرة والتحولات الجزئية قد انقضت وذهبت منذ فترة طويلة. ولم تعد مثل هذه التحولات الجزئية تجدي فتيلا.
وكذلك فإننا نجد مفكرا كالبروفسور ز. بومان يقول:
“مهما تختلف محاولات الإصلاح بين كونها جسورة أو خجولة، بعيدة المرمى أو حذرة، فإنها جميعا تتفق على أن الأفكار الموجهة للحضارة أو الثقافة الجديدة (المنشودة) يجب أن لا يبحث عنها في الأشكال العادية أو المألوفة، فإن المطلوب عمله ضرورة: لهو شيء أبعد مدى بكثير من مجرد إعادة تشكيل أو إعادة تنظيم للآراء السائدة.
وإذا انكب الإنسان الحديث على دأبه في تفتيش ما لديه من تشكيلات فكرية قد وضع عدم كفايتها فذلك لأنه لا يعرف جهة أخرى يتجه إليها بهذا الحديث:
“هل من الممكن إيقاف أو تغيير اتجاه الانحدارة السريعة نحو الأوتوقراطية السياسية من جانب ونحو التآكل والتماوت في النظام الاجتماعي من جانب آخر؟ وهل من الممكن الحد من البيروقراطية في الثقافة وفي العقل ولي الروح..؟ (هذه البيروقراطية التي تنزع نحو العسكرية) هل من الممكن الحد من هذه البيروقراطية إذا لجأت إلى تجديد الأنسجة والوشائج الاجتماعية في مجالاتها المختلفة التي تنزع فيها نحو القهرية والسيطرة أو تنجح نحو الحرية؟..”.
وعندما فرغ البروفسور ر. نشيبت من طرح السؤال بهذه الصورة التي ذكرناها في الاقتباس أعلاه أجانب على نفسه قائلا:
“لا يوجد شيء في محيطنا الآن مما يدعو إلى التشجيع”.
أما البروفسور ديفيد بيل فهو يحلل الوضع الراهن فيما يتعلق بمصير الإنسان الحديث على النحو التالي:
“أعتقد أننا في الطريق إلى نقطة حرجة أو منعرج خطير في المجتمع الغربي فنحن نشاهد هذه الأيام نهاية الفكرة البرجوازية تلك الفكرة التي تصف الإنسان وسلوكه وأفعاله وعلاقاته بالذات العلاقات الاقتصادية التي صاغت العالم في العصر الحديث طيلة المائتي عام الماضية، وأعتقد أننا وصلنا إلى نهاية الدافع الإبداعي ونهاية الجاذبية الفكرية “أيديولوجية التحديث” تلك الأيديولوجية التي بوصفها حركة ثقافية قد سيطرت على كل الفنون وكان لها اليد الطولي في تكييف لغاتنا الرمزية على مدى المائة والخمسة والثلاثين عاما الماضية. وكذلك فهناك فريق آخر من المفكرين الذين ينعون إنهاء العقلية اليوتبية المثالية “Utopian” ويتجهون باللائمة على الماركسية متهمين إياها بأنها هي السبب الرئيسي الذي أدى إلى فنائها والقضاء عليها.
في أثناء المائتي سنة الماضية قد استطاع الإنسان الحديث أن يصنع لنفسه حجبا وأشياء كثيرة متنوعة. وهو في هذه العملية قد ساوى بين المحسوس وبين الحقيقة (وهكذا ادعى بأن الأشياء الحقيقية هي الأشياء المحسوسة بعينها) كما ساوى بين الأشياء العملية التي تتعلق بالأمور المعاشية وبين الأشياء ذات القيمة (وادعى بأن الأشياء القيمة هي الأشياء التي تتعلق بالأمور اليومية بذاتها) وهكذا فقد الإنسان الشيء الكثير عندما بحث عن الحقيقة في نفس ذات المجال الذي حدده هو نفسه للبحث عنها.
ويتضح من كل ما تقدم أن ما يحتاج إليه الرجل الحديث إنما هو الإيمان أولا، وقبل كل شيء هو يحتاج إلى الإيمان بنفسه أولا وبالعالم حوله ثانيا ذلك أن العزلة التي خلقها الإنسان حول نفسه جعلته بصدد الإطباق عليه وخنقه والذهاب برؤيته وببصره ثم القضاء عليه نهائيا. ولهذا السبب فإن الإنسان الحديث يحتاج إلى نقطة يرتكز عليها وحقيقة ثابتة يقيس الأشياء إليها.
ويكون هذا المرتكز بمثابة نور يضيء له ويفصح عن معنى الأشياء حوله بل الأشياء التي تدور في خلده وروعه. ولقد كان دور العلوم الطبيعية هو أن تعلم الإنسان كيفية الأشياء، ولكن بحث الروح وتساؤلها هو بالضرورة عن سببية الأشياء الموجودة وعلتها الأخيرة.
وليس أقل أهمية من هذا المرتكز أن يجد الإنسان أيديولوجية كاملة تتميز بالقوة والمتانة وتستطيع أن تفتح أمام ناظريه رؤى جديدة للحياة والخيال الإنساني القادر على أن يعطي تصورات أخلاقية كاملة لها.
كما ينبغي أن تتميز هذه الأيديولوجية بخلق إمكانات مفتوحة لكل الناس وللبشرية عامة لا فرق بين المتعلمين أو الأخلاقيين أو السياسيين وعامة الشعب كذلك فإن الإنسان الحديث في حاجة إلى
شريعة وإلى قانون لا تستبد فيه أسبقية بعينها على كافة الأسبقيات حسب نزعات وخيالات أولئك الذين يتمتعون بالسلطات والقوة السياسية، شريعة إذا كانت تهتم بالمساواة بين الناس فهي أيضا تهتم بحرياتهم، وهي إن سمحت بتفاوت بين الناس في المراتب والدرجات فهي لا تسمح بوجود مثل هذه البيروقراطية البغيضة التي أصبحت طاعونا مسلطا فوق رقاب البشر.
كذلك فإن الإنسانية في حاجة إلى نظام اجتماعي قانوني يحقق الحماية الكافية للخصوصية الفردية وللحياة الخاصة. هذا النظام الذي يعطي مجالا كافيا للعمل الاختياري الحر.
وهكذا فإن الإنسان الحديث يحتاج على مجتمع يكفل حق المعارضة لمواطنيه ولا يسمح بحال لبعض الناس أن يكونوا سادة وأربابا فوق بعضهم البعض، وأنه لقي حاجة إلى مجتمع يحمل أفراده في صدورهم مشاعر التقوى والطهر.
وفوق كل ذلك فإن الإنسان اليوم تحتاج إلى كتاب يحتوي على العقوبات النهائية والحاسمة، وبذلك يمكن أن يحال غليه كل خلاف يشجر حول الخير والشر، ويكون قادرا على إعطاء حلول شافية لتلك الاختلافات. هذا الكتاب الذي يستطيع أن يحسم الخلافات التي تقوم بين العروض المثالية اليوتوبائية التي يقدمها أصحابها وكل يدعي أنها تمثل الجمال والكمال للمعاني الإنسانية.
ما هو هدفنا:
إن هدفنا هو أن نزيل غشاوة الشك والنسيان التي تقوم حاجزا بين الإنسان وبين رؤية الأشياء على حقيقتها، هذه الغشاوة وهذا الحاجز الذي أقامه الإنسان عن عمد وطواعية حول نفسه. وهدفنا أيضا هو أن يرى الإنسان الحديث أن الإسلام وحده من بين كل نظم الحياة هو الذي يملك أن يكون السلوى والبلسم الشافي للصرخة المفزعة التي تصدر من تلك الأرواح الحزينة التي تبحث عن بصيص نور يضيء لها الحياة ويضفي عليها معنى، هذا الأرواح التي تبحث عن إجابة للأسئلة المصيرية.
– “إذا كنت موجودا من أجل نفسي فلماذا؟…”.
– “وإذا كنت موجودا من أجل الآخرين فمن هم هؤلاء الآخرين؟”
فالإسلام يحاول أن يعطي الإنسان حياة روحية لا تستوجب عليه الهروب إلى صومعة الرهبنة.
ولا تؤدي به إلى حياة الجشع التي يتميز بها الماديون. إنها حياة تتيح للجميع أن يرتقوا إلى مصدر النور الذي يمكن أن يرتقى إليه كل من يريد ذلك. ذلك النور الذي هو “نور السموات والأرض”.
وبالنسبة لنا، فإن الإيمان هو الذي يعطينا الحياة والحركة الدافقة فيها: فالإنسان لا استغناء له عن الإيمان فكل حركة وخطوة يخطوها فوق الأرض لابد لها من إيمان، إن الأرض سوف تظل ثابتة تحت وطأة قدميه، وإن أي قرار تتخذه مهما يكن وقتيا فلا بد له من الإيمان لأننا نتخذ هذا القرار في جهل عن الإحاطة بكل نتائجه مقدما. وهكذا الحال في كل علائقنا الإنسانية مثل علاقة الابن بالأب، والزوج والزوجة، فإن ما تنتهي إليه هذه العلائق أمر من أمور الغيب. ولذلك فنحن نؤمن بأن الذي أخرجنا إلى هذا الوجود وجعلنا أحياء فيه، قائم بأمرنا: رعاية وحفظا واهتماما. وكل الذي نحتاجه هو أن نستسلم لإرادته.
إن هذا الاستسلام هو جوهر الإسلام الذي تشير إليه نفس كلمة الإسلام التي هي الاسم العلم لهذا الدليل.
إن اهتمام الإسلام بالإنسان نابع في الأساس من المكانة السابقة التي يحتلها هذا الإنسان في التصور الإسلامي بالنسبة لسائر الخلائق – يقول الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم..) ولقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل مسلم إنما هو أكرم عند الله من الكعبة المشرفة، ولكن هذه هي نقطة البداية. وبعد ذلك يتفرق الناس فمنهم من يصل إلى آفاق عالية ومنهم من ينحط إلى أسفل السافلين. فإن الله قد سخر كل شيء للإنسان، فهو الوريث الشرعي لعلم زاخر، علم يفوق علم الملائكة؛ كما أنه أيضا هو الوريث لقوة وسلطان ضار بين وفوق كل ذلك فقد كرم بإعطائه الحرية لتحديد مصيره وهو حرفي أن يتجه في حياته إلى حفظ الأمانة التي حملها الله له. ويتحرك في طريقه إلى المرحلة الأخيرة من مراحل وجوده ألا وهي الآخرة. ولكنه إذا أخلد إلى الأرض وإلى طعام الدنيا فهو لا يفقد فرصة عظيمة فحسب ولكنه أيضا عليه أن يتحمل تبعات هذا الاختيار الخاطئ، ولكي ينجو الإنسان في الآخرة ويكون من الرابحين فعليه أن ينشئ علاقة صحيحة من الله عز وجل، خالق هذا العالم وسيده، الله الذي أحاط بكل شيء علما والذي لا مفر من لقائه وحسابه لان الإنسان قد عقد ميثاقا مع الله سبحانه وتعالى فإذا أو في به فإن الله قد وعده حياة عظيمة وجميلة في الدار الآخرة إذا اتبع هذا الإنسان هدى الله وإرشاداته.
وعندما يدخل الإنسان في دين الإسلام فهو يقطع على نفسه عهدا وميثاقا – بوعي وإ
دراك – أنه قد قبل أن يتحمل ثقل الأمانة في هذه الحياة.
الرقي الروحي:
إن القوانين التي ترقى الروح تتناقض في طبيعتها مع القوانين التي تنمي الجسم. لأن الجانب الحيواني في الإنسان إنما يتغذى بما يأخذه إلى الداخل وما يستهلكه، بينما الجانب الروحي فينا إنما يقوى بالعطاء والبذل، وإنما يكون جزاء الله الوافر لأولئك الذين يبذلون مما يحبون ومن أنفس الأشياء التي يمتلكونها. ولهذا السبب نفسه فإن حسن الجوائز إنما يختص بها الشهداء يوم القيامة لأنهم إنما بذلوا أرواحهم ذاتها سبيل الله.
ومن أجل أن يفسح المجال كاملا (أولا) لتحقيق الرغبات الإنسانية و (ثانيا) للتأكيد من الالتزام والوفاء بأهداف الوحي السماوي في عالم ينفعل بمكارم الأخلاق فإن الله عز وجل قد جعل لنا مجالين للعمل والفعل للعمل والفعل الصالح:
( أ ) فهناك مجال العمل لتحقيق وإشاعة العدالة في الأرض ومنع أي إنسان من الاعتداء عليها أو التغول على حدودها، وإن حدود الشريعة الإسلامية لهي الحدود التي تحقق العدالة.
(ب) فهناك مجال البر والإحسان. وفي هذا الأخير مجال واسع لتلك النفوس الطموحة إلى نيل نصيب وافر من أعمال البر والإحسان وأصحاب هذه النفوس يستطيعون أن يبرزوا على المجتمع بفعل أكبر قدر من أعمال البر والإحسان.
إن الحدود التي تضعها الشريعة ترمي إلى حماية الحياة والحرية والشرف الإنساني. والشريعة تمنع الاعتداء والظلم. ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وظلم الحاكم للمحكومين، ولذلك فإن الشريعة تضع واجبات الناس فوق حقوقهم فهي أولا: تضع حدا لحقوق أي إنسان وسلطته ونفوذه وسلطانه.
ثانيا: تضع مبدأ المحاسبة العامة مبدأ عاما يخضع له كل الناس مهما تتفاوت مراتبهم، هذه المحاسبة التي تضع الشريعة نفسها قيمتها وموازينها.
ثالثا: تضع مسئولية حماية الشريعة وحراستها فوق أكتاف كل المسلمين بدون تمييز، ولذلك فإنه من حسن حظ المسلمين أنهم يملكون كتابا سماويا لا اختلاف فيه ولا تناقض. والقرآن الكريم ليس فقط هو الذي يضع حدودا معلومة لسلطة كل واحد من الناس وإنما هو أيضا المعيار الصادق والأخير الذي يقيم أداء كل إنسان.
لكل ما تقدم فإن الوفاء بعهد الله وميثاقه يتطلب الأشياء الآتية:
1 – أن تعيد تقييم ودراسة تراثنا الفكري على ضوء القرآن لكي نقرر أنه يتحتم على المسلمين أن يقبلوا التاريخ لا على اعتبار أنه جزء لا يتجزأ من الدين السماوي. إن عدم مقدرتنا في الماضي على أن نميز بين الدين والواقع التاريخي قد أوقعت الكثيرين من المسلمين ذوى النية الطيبة في الفهم الخاطئ في أن الواقع التاريخي يمثل جزءا لا يتجزأ من الدين. مما أوقع المسلمين المتدينين في الحرج كما أوقع غير المتدينين في اللامبالاة.
2 – إنه من واجب دعاة الإسلام أن يعطوا الناس نماذج اجتماعية واقتصادية وقانونية لما ينبغي أن تكون عليه حياتهم ومجتمعهم، هذه النماذج التي يمكن لهم أن يستخدموها في واقع الحياة، وهي تمكنهم من أن يحبوا حياة طبيعية سعيدة كمسلمين في المجال الأول والآخر.
3 – كما أنه يتوجب علينا أن نحلل التحديات الفكرية والحضارية التي تواجه المسلمين وأن نضع حلولا وردودا شافية وكاملة لتلك التحديات والمشكلات الحضارية.
4 – كما أنه يستوجب علينا أن نقوم بتوعية المسلمين وغيرهم لما يمكن أن يقدمه الإسلام بالنسبة لهم وكيف له أن يغير وجه الحياة نحو الأفضل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر