تمهيد:
تبسط لنا اللحظة التاريخية للرعيل الإسلامي الأول دروسًا وعبر مفادها أن الإنسان، أيًّا يكن، لا يستطيع أن يتفوق على الآخرين بمعزل عن القيم. فبواسطة القيم يحقق الإنسان المسلم أهدافه ويستمر واثق الخطوات في أداء رسالته التاريخية والحضارية، لاسيما وأن المعرفة التي تتراحم مع القيم تمنح للإنسان هامشًا كبيرًا من الحرية المسؤولة عن إبداع مسؤول.
ما من شكٍّ في أن هناك قيمًا مفطورة على الحق والخير والإحسان والجمال لا زالت سجينة المشروعات الإنمائية الكبرى المعرَّضة -قصداً أو بغير قصد- للنسيان التاريخي والتهميش الحضاري، وتحتاج إلى من ينكش ماضيها ويجعلها معاصرة للواقع الحالي بنيِّة استثمارها في تحصيل الأداء العالي. لاسيما وأن وراء كل مشروع عظيم تقف القيم التي دفعت بالإنسان المسلم إلى المشاركة الفاعلة في التغيير الحضاري؛ هذا الإنسان الذي قدمته الحضارة الغالبة إلى الحضارات المغلوبة بوصفه عقلاً يتميَّز بآلياته الناقدة وبحضوره المقلِق لكل ذات فاسدة.
أيضًا، لا تكون القيم فاعلة ومثمرة إذا ما استنفد الإنسان المسلم القدرات المعرفية التي تنضج وعي الأمة، وحوَّل وجهته المعرفية والفلسفية نحو قدرات أكثر التصاقًا بإيديولوجيا تعمل على تشويه وعيه المعاصر، فيعتقد في منظومتها الفكرية والمعرفية والفلسفية، ويستمد منها الحلول لأزماته فينتهي فعله مأزومًا وعمله زؤومًا؛ لأن القيم هي الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان، وأي تقدم في حياة الإنسان المسلم هو استجابة لهذه الفطرة، وأي تراجع هو تمرد على هذه الفطرة نفسها.
لقد أسهمت هذه الإيديولوجيا التي تقف على تصورات غير ثابتة على شيء، في تعطيل عقل الإنسان المسلم بوصفها إيديولوجيا مخرِّبة للعقل وناخرة لآلياته وعابثة بمحتوياته، فقد كانت سببًا في موته الحضاري كونها إيديولوجيا تقف على النهاية المأسوية للإنسان المسلم وما وصل إليه من انهزامية دفعته إلى التخلي عن التفكير في قضايا أمته، فأضحى هذا الإنسان تابعًا للإيديولوجيا تبعية سلبية، مقلِّدًا لغيره غير آمن على قيمه؛ إذ وراء كل مشروع فاشل تنام الإيديولوجيا الفاشلة؛ فهي فاشلة مرتان: الأولى لأنها تبذر في غير بيئتها، والثانية لأن الإنسان المسلم المعاصر خان قيمه التاريخية والحضارية، فغدرت به قيم الآخرين؛ حيث الغدر لا يصنع تنمية.
طبعًا، إن نهوض الإنسان المسلم رهن بحضور قيمه الأصلية والأصيلة بوصفها حقائق، وهو في الوقت نفسه يمارس التغيير ويستفيد من أساليبه، وذلك بعرض القيم في شكل معطيات وفرضيات تبحث في الحقيقة التي تهذب الواقع، فتعمل على أن تُثبت فعلها، وتحقِّق مشروعها، وتصنع مستقبلها. فالقيم التي تهذِّب عقل الإنسان وتشحذه، تجعل الإنسان تابعًا لها تبعية لا نفهمها في إطارها الاقتصادي والمادي والشيئي، وإنما نستوعبها في إطارها التاريخي والحضاري الذي جعل من الرعيل الإسلامي الأول قادةً للعالم بتبعيتهم الذكية للقيم الذكية. ولهذا ظلَّت القيم لفترة طويلة من الزمن الحضاري -المفطور على الحق والخير والإحسان والجمال- تحافظ على جاذبيتها ومنطلقها ومستقبلها؛ أما الإيديولوجيا التي أعقبتها، فظلَّت حبيسة شكلها الدائري، المحكوم عليه بالانغلاق واللامعقولية؛ ولا غرابة، فهذه الإيديولوجيا التي تتبجَّح بعقلانيتها، هي قيم غير مفطورة على الحق والخير، ومتلبِّسة باللاعقلانية التي تخفيها وتحجبها، ريثما تتمُّ الدورة التاريخية المخصَّصة لها، ويُفتَضح أمرها داخل قيم دائرية أخرى تؤدي مهمتها غير الإنسانية؛ حيث نلفي الإنسان المعاصر يغيِّر قيمه مثلما يغيِّر الأفعوان جلده.
إن القيم المفطورة على الخير والحق والإحسان والجمال التي ترسم للعقل حدوده، هي القيم التي وضعها الله للإنسان، فصار هذا الإنسان تابعًا للقيم يهتدي بها إلى سواء السبيل؛ أما القيم التي أوجدها الإنسان لنفسه فصارت إيديولوجيا -أو تصورات- تابعة لأهوائه وأمزجته، تتغير كلما تغير الإنسان؛ فهي ليست ثابتة، قد يهتدي بها الإنسان في زمن معين ثم يتخلى عنها فاسحًا الطريق لقيم أخرى جديدة قابلة هي الأخرى للتبديل. يقول محمد قطب: “القيمة الخلقية لاصقة بأعمال الإنسان بحكم طبيعته.. وإنما تختلف القيم باختلاف واضعها: هل هو الله أم البشر. فإن كانت من عند الله فهذه هي القيم الحقيقية الصالحة، لأنها من عند خالق الإنسان العليم به وبما يصلح له وما يصلحه (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، وإن كانت من عند البشر فهي عرضة للأهواء وعرضة للاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار”(1).
ولنا أن نميز بين القيم، والمعايير التي هي نفسها الإيديولوجيا، من تمييز تالكوت بارسونـز ( T. Parsons) بين القيم والمعايير؛ إذ يرى أن: “المعايير هي تلك القواعد المقبولة اجتماعيًا التي يستخدمها البشر في تقرير أفعالهم؛ أما القيم فأفضل وصف لها هو أنها ما يعتقده البشر عما يجب أن تكون عليه الحياة، وهي أيضًا لها تأثير في تحديد أفعال البشر”(2)، هذه المعايير، هي أفكار البشر، وهي الإيديولوجيا نفسها التي تتراوح بين القبول والرفض، أو هي الثقافة السائدة التي تصنع قرارات البشر وتحولها على المدى الطويل إلى حقائق غير قابلة للمساومة، تتماهى معها الأجيال وتقاتل من أجلها. وهي ثقافة تسود بحكم القوة والمعرفة، وليس فيها ما يدعو إلى التعاطي مع الحق والخير والإحسان والجمال. إنها ثقافة جاهزة تجعل الإنسان المسلم يدور في دائرة الاستهلاك المفرغة، فلا تعينه على تغيير أوضاعه نحو الأحسن؛ بل تشوِّش عليه الرؤية، وتفسد عليه قناعاته المفطور عليها، وتجعله عاجزًا عن فعل شيء، بله فعل الخير؛ لأنها ثقافة إيديولوجية منبتة عن بيئته وعقيدته ومنظومته المعرفية والفلسفية. يقول علي جمعة: “إذا ضاعت الرؤية، وضاعت العقيدة وضاعت القضية، وبدأ الإنسان يتلقى ثقافة سائدة، فإنه لا يفكر إطلاقًا في تغييرها. وبذلك يكون ما زال في مرحلة الوحل، فإذا تخلص من ذلك وامتلك القدرة على هذه الرؤية الكلية وعلى هذا المفهوم للإنسان عنده وعلى هذه العقيدة الواضحة، فإنه لا يفعل شيئًا، وهذه مفارقة”(3).
تدفع بنا هذه المفارقة العجيبة إلى الإيمان بأن القيم هي أفق كل تنمية يترقَّبه الإنسان الناضج؛ إذ كلَّما أنتج هذا الإنسان وأنضج حقول التنمية، أسهمت قيمه في إبراز الفعل الحضاري في جهوده الإنمائية. إن هناك تواصلاً رحيمًا بين الإنسان والقيم في كل الأديان. ومن ثم فإن الإنسان، أيًا يكن، لا يستشعر حريته ووجوده وقيمته الإنسانية إلا في عالم يزخر بالقيم. إن الإنسان والقيم توأم؛ حيث ترتبط هذه القيم ارتباطًا وشيجًا بالإنسان. علاوة على أن توبة الإنسان عبر الهدي الرباني تنقل القيم من الأصالة إلى الفاعلية، فأوبة القيم تعين توبة الإنسان على صناعة الحدث الإنمائي، وترسم له معالم إنمائية في طريق المستقبل. قد يتوب الإنسان إلى ربه فيصلح حاله؛ ولكن إذا استحضر القيم في توبته وحدث الكمال بينهما – بين توبة الإنسان وأوبة القيم- لا يصلح الإنسان المسلم حاله وحسب، بل يصلح أمته كما حدث في حياة الرعيل الإسلامي الأول، ومن ثم يصلح العالم الذي يحيط به كما حصل في الحضارة الإسلامية التي سعدت بها الشعوب، وأفادت منها خيرًا إنسانيًا وإنمائيًا كبيرين. إن الإصلاح يكون عندما تكتمل المعرفة لدى الإنسان المسلم وتصير مفيدة له وللمحيطين به؛ أما العلم الناقص الذي يكون بإزاحة القيم من المنظومة المعرفية فإنه بلية على المسلمين، لاسيما إذا كان هذا العلم الناقص صفة تلازم أصحاب السلطة المعرفية في المجتمع، وعليه يذهب شكيب أرسلان إلى القول: “من أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص، الذي هو أشد خطرًا من الجهل البسيط”(4).
لقد أعملت فترة الجاهلية العربية قطيعة بين الإنسان والمعرفة والقيم، فلم نر إنسانًا في مستوى الاستخلاف، ولم نلمس قيمًا بها مسحة إنسانية إلا ما ندر. بعد فترة الجاهلية واستنساخها بمرحلة إسلامية جديدة، تحقق للهدي الرباني فعل التأثير في الإنسان الذي كان قد تغذى من القيم الجاهلية؛ هذا الإنسان اهتدى إلى ربه عبر الرسول صلى الله عليه وسلم. لم يشعر هذا الإنسان الجاهلي الانتقالي بأنه يمر بفترة التوبة إلا بامتلاكه الشعور بأنه يكتسب قيمًا جديدة تختلف اختلافًا جذريًا عن القيم التي رسمت مسار حياته في الجاهلية، فانحرفت به عن الفطرة السليمة. وهنا باتت القيم هي مستقبل الإنسان؛ فصار هذا الإنسان المسلم مؤثرًا وفاعلاً ومسؤولاً في ظل امتثاله بهذه القيم الجديدة.
لا زالت هذه القيم الفاعلة تبشِّر باستعادة الشيء الذي حصل للرعيل الإسلامي الأول أو بعضًا منه. طبعًا لا ينبغي أن نُفهَم على أننا نريد استحضار مقولة الإمام مالك “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”(5)؛ إذ الاستنارة بهذا القول الحسن ليس عيبًا أو نقيصة؛ ما يعنينا من استلهام نموذج الرعيل الإسلامي الأول، أن نضع العقل في مكانته الطبيعية، بحيث تعمل القيم بموازاة هذا العقل، ويتكاتفا لاستئناف المسيرة بقدمين سريعتين، فعسى أن يسهما في تسريع عملية التنمية كما حدث في اليابان، لاسيما وأن اليابان لم تقم لها قائمة إلا بعد أن سارت بقدمين اثنين، فانتقلت من العزلة العرجاء إلى الانفتاح السريع على الخارج والاغتراف العميق من الداخل؛ فلا سرعة من غير عمق.
إن انتصارنا للقيم له ما يبرِّره في ظل تخلف العالم العربي والإسلامي، وتوجسنا من العقل الأحمق الذي يتحالف مع الإيديولوجيا له ما يبرِّره أيضًا في ظل الانـزياح القيمي الحاصل في المشهد العربي والإسلامي. إن ما نخشاه ليس العلمانية الجزئية التي باتت أمرًا محسومًا، والتي علقت بمدرسة ابن رشد وأغلقت عقول مريديها؛ وإنما الذي يقلق إلى حد تدمير ذواتنا، هو العلمانية الشاملة التي تديرها منظومة معرفية كونية تخفي عقلانيتها داخل الأشياء التي تسعد الإنسان، بينما تحبسه داخل أفكار تشكِّك في هويته وقيمه(6)، القيم ليست محصورة في العبادة وحسب كما يفهمها الذي انخرط في العلمانية الشاملة من غير وعي، ففصَل قيمه عن الحياة التي يعيشها، ومن ثم اكتسب وعيًا طائشًا وسلك اتجاهًا خاطئًا؛ إنما القيم في حياة الإنسان المسلم هي أسلوب في فهم ألاعيب الأفكار والأشياء التي تضع الإنسان الكوني في قالب مادي لا يرى فيه إلا ذاته أو الأشياء التي تشبع لَذَّاته، بحيث لا تمنعه هذه القوالب المادية من التعامل مع بعض القيم المتبقية في حياته بطريقة روتينية مستفرغة من كل معنى وقدسية، ومن ثم نتساءل مع عبد الوهاب المسيري: “ألن يتحول مثل هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا توجَد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر من غير أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟! قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقتيها، ولكن كل ما حوله خلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها!”(7).
لقد تتلمذ هذا العقل الأحمق على العقل المتمرد على القيم المفطورة، فلازمته هذه الحماقة بعد مرحلة الانحطاط، وهو حاليًا يتمرد على القيم الإسلامية نفسها. فلولا القيم المفطورة على الاستباق في الخيرات، ما كان للإنسان المسلم أن يعقل حياته ويوجهها الوجهة السليمة التي تخاطب الفطرة فيستجيب لها العقل، ومن ثم يتسنى له تغيير الواقع نحو الأحسن كما حدث مع الرعيل الإسلامي الأول؛ إذ حدثت نقلة نوعية عبر القيم، أخرجت هذا الإنسان من الجاهلية العاطلة إلى فاعلية الإسلام، فكان هذا الإنسان الفاعل بقيمه على موعد مع تغيير معالم التاريخ والجغرافيا، ومن ثم إبقاء الحضارة الإسلامية شاهدة على ما فعلت الإيديولوجيا من حماقة في الحضارات الباقية والفانية. فلا أمل يرتجى من نهضة تاريخية وحضارية للعرب والمسلمين إلا بولادة إنسان مسلم جديد – بجدية القول والفعل- يكون في مستوى القيم التي تنتظر أوبته، فتعيد للمعرفة وهجها الحضاري.
أولاً- عن ولادة الإنسان المسلم
لا خلاف في أن إطلالة الإنسان المسلم على عصر قيمي جديد عاصر النبوة ونـزول القرآن، كان شبيهًا إلى حدٍّ ما بالنبت الطيِّب الطالع من أرض طيِّبة. ولنا أن نتصوَّر تلك المرحلة الناضجة ثمارها، لأن أصحابها كانوا بقيمهم سببًا في نضوج تلك الثمار، ومن ثم ولادة إنسان جديد قابل للتغيير نحو الأفضل بقيم ثابتة تتجاوز التغيير وغير قابلة للتبديل؛ إذ تظل هذه القيم الفاعلة مستمرة تتجدد داخل الإنسان كلما امتد به الزمن وتغيرت أحواله.
لقد أسهمت القيم الجديدة -والمختلفة تمامًا عن قيم سبقتها أو تلتها- في ولادة “إنسان” كان العالم الفوضوي بجاهليته، في أمسِّ الحاجة إلى أخلاقه وأفكاره ونمط حياته المستمدَّة من هذه القيم الجديدة. فالقيِّم في العصر الجاهلي كانت منهارة تمامًا، على المستويين الديني والسياسي، والفراغ الروحي ألقى بكلكله على جسد ذلك العالم الفوضوي. إن الهزيمة الروحية والإنسانية جرَّت إليها الهزيمة الجسدية والعسكرية، وما يؤكِّد فعل الهزيمة هو الانتصار الروحي والإنساني والعسكري للجماعة التاريخية التي كانت مهيَّئة اجتماعيًا لقيادة العالم، وتوجيهه توجيهًا قيميًا؛ حيث تزامن ظهورها مع الظروف التي كانت تمرُّ بها المجتمعات القبلية والعشائرية (=الجاهلية)، والدول الاستبدادية والتوسُّعية (=الحربية).
ما من شكٍّ في أن هذا الإنسان عرف صراعًا داخليًا، ابتدأ أول مرَّة مع نفسه الموزَّعة على البعدين الجاهلي والحربي؛ إلاَّ إن سنن الحياة، تفرض أن يتجدَّد التاريخ بتجدُّد الإنسان (=ميلاد إنسان جديد)، وقبل أن يصبح الإنسان جديدًا كانت القيم قد تبدَّلت. فالجاهلية بدأت تتراجع بإنسانها الهامشي الذي تغيَّرت نظرته للعالم. لقد كانت المعركة مع “الذات” الجاهلية بمثابة نقطة عبور إلى التاريخ. فالصراع الداخلي أو الصراع مع الذات بسط قيمًا جديدةً، أثَّرت في النظام الاجتماعي القديم وخلخلت البنية العشائرية والقبلية والأسرية.
كانت القيم الجديدة عالمية لأنها أسهمت بفاعلية منقطعة النظير في تغيير المجتمع الجاهلي وتصحيح مساره الحربي، كما خاطبت القيم التاريخية الجديدة “ذات” الإنسان، ولامست متطلَّباتها الاجتماعية وتحوُّلاتها النفسية، ولهذا لما عُرِضت القيم على هذا الإنسان -في شكل دعوة سرية ثم جهرية- لم يبحثها بحثًا مليًا ولم يتلكأ؛ وإنما كان ضميره الجديد مقياس هذه القيم، فاستسلم لها وأسلم وآمن. فالقيم الجديدة انتصرت على واقع يرفض أن يتجدَّد، والقيم التي فرضت نفسها على هذا الواقع كانت أقوى من أيِّ اعتبار شخصي أو أسري.
لقد اصطدمت الجماعات التاريخية بنمط جديد على المستويين الجاهلي والحربي؛ حيث فرض البديل التاريخي ثقله الموضوعي على واقع كان يفتقر إلى النـزعة الإنسانية والرابطة الاجتماعية والراحة النفسية؛ لأن البديل التاريخي كان بمثابة الجسر الرابط بين ذات الإنسان الجديد، وواقع الإنسان الجاهلي. وهكذا فإن الواقع الجاهلي المنهار قد مهَّد لولادة الإنسان الجديد. إن الواقع يُعَدُّ مسؤولاً عن انطلاق القيم التاريخية وإبداعها، وليس الإنسان نفسه. بهذه الطريقة كان يفكِّر إنسان تلك المرحلة، أقصد الذي عايش الواقع وخبره، هو الذي كان سبَّاقًا لاحتضان تلك القيم الجديدة، وأكثر استيعابًا لمحتواها الروحي. فمن غير قيم جديدة وواقع منهار لا يمكن تغيير الإنسان، وإيجاد الأرضية الجديدة المناسبة له. فقيم الواقع الجديد في منظومته القرآنية والنبوية قد سبقت واقع الإنسان الجديد، وهي التي أمدته بالأدوات الحضارية الفاعلة، فجعلت هذا الإنسان فاعلاً مسلمًا، بعد أن كان عاطلاً جاهلاً داخل قيم عاطلة هي الأخرى.
لقد أدرك الإنسان هذا الواقع المنهار؛ واقع الجاهلية والأطماع التوسُّعية، فاكتشف واقعه الجديد بقيمه الجديدة. فهو بات يختلف عن غيره؛ لأن محتوياته الجديدة تخطَّت مرحلة الجاهلية التي يخمد نشاطها عند النهاية من القيام بفعل الثأر إلى مرحلة الفاعلية المولعة باللامحدود واللانهائي؛ “فالزمن زمن بالنسبة لكلِّ إنسان، ولكن بالنسبة للإنسان الفعَّال زمن تتولَّد فيه حقيقة من حقائق الحياة، ولحظات تنبض بالحيوية”(8).
وهكذا تحوَّل واقع الإنسان العاطل إلى واقع الإنسان الفاعل. إن الذي تغيَّر هو شيء سيء في الإنسان؛ هذا الشيء السيء هو القيم الجاهلية؛ حيث القيم القرآنية -التي هي محور التغيير السنني- أوقفت نفسها قانونًا لنظام اجتماعي يُوزِّع المراتب والوظائف والثروة بالتساوي؛ ولأن الإنسان المسلم أصبح خاضعًا للواقع الجديد، فقد سلَّمه نظامه الاجتماعي القديم غير مأسوف عليه، وتخلص منه إلى الأبد. فالواقع الجاهلي، في هذه الحالة، ساعد على البناء الجديد بالإنسان الجاهلي نفسه، ولكن وفق قيم جديدة نسخت قيمًا قديمة، وأسهمت في الحفاظ على وحدة البناء وتماسكه. وعلى هذا المنوال استمرَّ التاريخ ينسج أحداثه طوال أجيال، إلى أن فقد الإنسان المسلم فاعليته التي استمدَّها من واقعه التاريخي. فالواقع ينهار إذا تبدَّلت شروطه التي وضعتها القيم الجديدة.
لقد غيَّرت القيم الجديدة القانونَ الاجتماعي الجاهلي، فأسهمت في خلق واقع اجتماعي متراص، وهذا ما لم يستوعبه الإنسان المسلم المعاصر الذي يطالب بالعودة إلى الماضي (=التاريخ). فبدلاً من أن يطالب بالماضي كان من الضروري، وقبل أية خطوة يخطوها، أن يطالب بالقيم. فالإنسان العاطل (=المسلم بعد الانحطاط) قد دفع بواقعه الفطري -الذي يستجيب للسنن الكونية- إلى الإنسان الفاعل (=الأوربي بعد عصر التنوير)، وكلٌ حسب منـزلة قيمه، فبقدر منـزلة القيم تكون قيمة الواقع. ويبدو السؤال الآتي مشروعًا في مثل هذا النقاش الذي يدور حول دور القيم في حياة الإنسان: متى ينتهى الماضي (=أو بقايا مهمة من التاريخ)؟ هل نهاية التاريخ مرتبطة بانهيار القيم؟
إن نـزول آدم عليه السلام من الجنة جاء نتيجة لتفسُّخ العهد الذي لم يعد يتَّسع لهذه القيم المتفسِّخة؛ أما الواقع اليهودي فقد انهار، لأن القيم التي جاء بها النبي موسى عليه السلام قد تبدَّلت، ومن ثم فإن هذا الواقع قد ضاق بهذا التحوُّل، فانتقل إلى واقع ديني آخر بقيم جديدة بشَّر بها النبي عيسى عليه السلام؛ ولكن لما طُمرت هذه القيم تحلَّل الواقع، إلى أن جاء نبي الرحمة محمد r (=الواقع الإسلامي الجديد)، فبدأت مرحلة جديدة في تاريخ القيم. فالواقع قد تغيَّر وتاب إنسانه؛ لأن القيم قد آبت إلى الواقع الذي غيَّر فيه الإنسان ما بنفسه فتماهت معه؛ إلا أن فاعلية الإنسان التي كانت تستمد عنفوانها من هذه الشروط، انهارت هي الأخرى ففقدت حيويتها. إن الإرادة التي تمثلت في توبة الإنسان قد خارت قواها، والواجب الذي تمثل في أوبة القيم قد قلَّت ثماره. إن الواجب هو الذي تراجع، فغيَّر من الواقع وحوَّله إلى واقع إنسان عاطل؛ لأن القيم هي التي تريد فتعمل وتتقن، والإنسان هو الذي يقوم بالواجب فيخلص في عمله. لقد أصاب هذا التبديل الإنسان المسلم المعاصر بعد أن كان سلفه فاعلاً بفعل القيم الجديدة التي هيَّئته لقيادة العالم وتغيير مسار التاريخ، وبعد أن حوَّل الجاهلية إلى فاعلية، وقرَّب فكرة الحرب والتناوش من فكرة السلام والتعايش.
ثانيًا- الإنسان المسلم من منظور القيم والإيديولوجيا:
عندما يتغيَّر الإنسان المسلم -لأسباب قهرية وإيديولوجية- ويتخذ مساره في اتجاه التخلف، وهو يسلك مسلكًا إيديولوجيًا قد يؤثر في رسالته وعقيدته، مثل: مسالك الإيديولوجية الماركسية والليبرالية والقومية المتطرفة، نلفي القيم تقف موقف المنافح عن المكتسبات الحضارية والتاريخية لهذا الإنسان، فهي ماضيه وحاضره ومستقبله، كونها تتحرك في كل الأزمنة؛ أولها (=الرعيل الإسلامي الأول)، وأوسطها (=اللحظة الإسلامية الراهنة)، وآخرها (=إلى قيام الساعة). إن هذا النشاط الحيوي ممثَّلاً بنسقية القيِّم هو الذي يدفع الإنسان المسلم إلى صوغ الاستراتيجية الإنمائية الملائمة للواقع الإيديولوجي الذي يحاصره من كلِّ جانب؛ فمن خلال هذه القيم والاستمساك بها يستشعر الإنسان المسلم أنه يمتلك قدرة خلاَّقة على الارتقاء بمعاييره الجمالية والعملية والأخلاقية إلى مستوى الأمل الإنمائي المنشود. صحيح أن الماركسية وغيرها نجحت إلى حد ما في معاقل الإنسان المسلم؛ ولكن قيم الحق والخير والإحسان والجمال ظلت ثابتة تتطلع إلى الأفضل.
إن المسألة إذاً، مسألة إنسان؛ وذلك بيت القصيد. فحينما ينطلق هذا الإنسان من مبادئه الأخلاقية ومعاييره الجمالية، يتجاوز عناء الشروط الاستيعابية لمقوِّمات المجتمعات الإنسانية الأخرى. فللضرورة الفكرية والأخلاقية والفلسفية مبرِّراتها؛ إذ إن حضورها الفاعل كافٍ لأن يجعل الإنسان المسلم يستثمر ماضيه ويؤسِّس لحاضره، الذي هو في الأخير، القاعدة التي منها تبدأ رحلة البحث عن الذات. فمن غير استيعاب هذه الرحلة الميدانية يصعب إدراك آليات العقل، الذي يمكِّنه لا محالة من فهم القواعد العامة التي استطاعت المجتمعات المتقدمة تحصيلها تحصيلاً سليمًا.
ولكن بالمقابل نلفي تراجع قيم تاريخية ذات ثقل حضاري كبير تمثلت بالقيم الإسلامية الأكثر إنسانية، هذا التراجع هو محصلة انبثاق إيديولوجيا بديلة فرضت وجودها بسلطة المعرفة بعدما استغلت تراجع الإنسان المسلم عن قيمه الفاعلة، لاسيما وأن الذات المسلمة باتت لا تقرأ “الآخر” ولا تفضحه، وإنما تقرأ الذات المسلمة “ذاتها” وتجتر تخلفها بتبعيتها الإيديولوجية للآخر؛ مما يشكِّل تداخلاً هجينًا بين الإيديولوجية الغيرية التي تعطل عقل المسلم، والقيم التاريخية التي تفعِّله. إن قراءة الآخر وفضح آلياته وأساليبه بات أمرًا صعبًا على الذات المسلمة، ولهذا يلتفُّ الإنسان المسلم على ذاته، ولا يقدِّم إلاَّ شيئًا هزيلاً استكشفته ذاته المحبطة بشعور التخلف. إن الذات التاريخية، في الأخير، هي التي تبدع القيم، وتتحدَّد قيمة هذه “الذات” بنوعية هذه القيم. فالإنسان المسلم المعاصر بات لا يفرق بين القيم والإيديولوجيا، لاسيما وإن الغلبة صارت للإيديولوجيا المحاطة بترسانة هائلة من العلم والمعرفة والفلسفة والقرارات الاستراتيجية التي تحدد مستقبل الإنسان أيًّا يكن.
تُبدِع القيم الإنسانية المضافة والمساندة عندما يكون الإنسان المسلم تابعًا لقيمه التاريخية، فإذا أضاف المسلم قيمًا جديدة مقبولة معرفيًا، فيكون ذلك بهدف استمرارية القيم التاريخية في ظل إنسان يعرف تغييرًا مستمراً؛ فالإبداع والتغيير يكونا في خدمة الاستمرار بغية تحقيق إنجازات تزيد من رصيد القيم التاريخية ولا تنسفها؛ وإلا بات الإنسان المسلم تابعًا لقيم غريبة عن عقيدته وبيئته ومنظومته المعرفية؛ إنسان مسلم وقيم لا هي بالإسلامية ولا هي بالإنسانية؛ مما يسهم هذا التحول اللاإنساني واللافطري في توريط الإنسان المسلم، وتأزيم قيمه التاريخية والحضارية، وإيلاجه دائرة التخلف الضيقة التي تخنق تنفسه، فتخنق وعيه وأفكاره وقيمه.
1. الإنسان المسلم بين القيم والإيديولوجيا: الغزالي وابن رشد
تأسيسًا على ما سبق، نلفي فئة من المثقفين العرب والمسلمين قد أعملت قطيعة إبستمولوجية مع القيم، وأبرمت مصالحة إيديولوجية مع المعرفة. والأسباب ترجع إلى خلل في منظومة القيم المكتسبة من معايير السلوك وأنماط الحياة المتبعة سلفًا. ويمكن رسم هذه المرحلة انطلاقًا من تصادم القيم الإسلامية في فلسفتها بالفلسفة اليونانية. لقد حدث تداخل في المفاهيم الفلسفية، تجلَّى في اختراق الفكر اليوناني للقيم الإسلامية والتشكيك في فاعليتها واستدامتها، وفي مدى قدرتها على توليد معرفة إنسانية ذات أبعاد عالمية. لاسيما وأن ابن رشد كان يعتقد أن المعرفة تكون بالعقل الذي هو أصل المعرفة الإنسانية، يعززه الشرع إنْ وافق العقل، يقول: “أما الفلاسفة فإنهم طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا مستندين إلى قول من يدعوهم إلى قبول قوله من غير برهان”(9)، بينما يقول الغزالي إن: “العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفًا للغطاء عند جميع المعضلات”(10).
إن سوء استخدام هذه الإيديولوجيا – قيم الآخر البيئية والمعرفية- في البناء الفلسفي الإسلامي وتغليب العقل على الشرع، هيَّأ لولادة مدرسة الغزالي التي تحوَّلت إلى مشروع ضخم للدفاع عن القيم، وذلك بنقدها للفلسفة على المستوى (العقدي- المعرفي) الذي يمنح الأولوية للعقيدة وما تطرحه من قيم تسائل المعرفة لا سيما إذا كانت مستهلكة؛ أما مدرسة ابن رشد، لاسيما لدى أتباعها، فقد سلكت طريق استيعاب الفلسفة على المستوى (المعرفي- العقدي) الذي يضع المعرفة المستهلَكة في وضع يسبق القيم كونها غير منتجة. ومن ثم وقفت مدرسة الغزالي في موقع الدفاع عن منظومة القيم الحضارية، أما مدرسة ابن رشد فانحبست في موقع الدفاع عن الفلسفة بالعقل الإسلامي، وذلك من غير أن تهمل القيم الإسلامية؛ ولكن كانت تفتح أمام الإيديولوجيا كوة للتنفس من داخل البيت الإسلامي. كان يحدو الرشدية الإيمان بأن المشتغل بالفلسفة هو إنسان ينتمي إلى هذه المنظومة الإنسانية والقيمية الكبرى، بينما كانت مدرسة الغزالي تؤمن بالقيم الموظَّفة في أثناء النقد، وأن -في نظرها- هذا هو الابتغاء المطلوب؛ في حين كانت مدرسة ابن رشد ترى في أن الانتماء الإسلامي فيه كفاية لازمة، وإنْ لم يقم النقَّاد بتوظيف هذه القيم في أثناء العملية النقدية.
لقد وقفت هاتان المدرستان على اهتمامات المسلم المعاصر، وأخذت ترسم له معالم في الطريق مختلفة ومتباينة وأحيانًا متناقضة؛ فمدرسة الغزالي تجسِّد بالضرورة هذه القيم إنْ على مستوى النقد وإنْ على مستوى الإبداع، ومدرسة ابن رشد تنهل بالضرورة من المعارف الإنسانية، حيث إسلاميتها هي ترجمة صريحة لقيمها الحريصة عليها. إن هذه الترجمة التي أساء لها “النص الفلسفي اليوناني” المستهلَك، وشكَّك فيها “المؤلف الفيلسوف اليوناني” القدوة والمنتِج، عجَّلت في انهيار القيم الحضارية؛ إذ بدأت الرشدية في بلوغ مرحلة الإشباع التي ترجمها الاتِّباع للآخر، فلم يكلِّف أتباع هذه المدرسة جهدًا مضنيًا، وهم القائلون ليس هناك ما يمنع في الأخذ من الآخر ما دام الآخِذ مسلمًا، وإن كان هناك من يعتقد “أن عزوف ابن رشد عن الاهتمام العميق بالعقل العملي راجع أولاً وأساسًا إلى وجود الشريعة الإسلامية وحضورها القوي في زمان ابن رشد”(11).
إن معنى أسلمة الفلسفة اليونانية قد فقدَ مدلوله لما انهارت القيم؛ مما فتح بابًا جديدًا أمام الإيديولوجيا بوصفها منافسًا جديدًا وخطيرًا. لقد انتصرت مدرسة الغزالي لإنسان القيم المكتفية بنفسها التي تبحث في التأثير في الآخرين، بينما شرَّعت مدرسة ابن رشد الباب للإيديولوجيا. فالأولى -أي مدرسة الغزالي- كانت مدركة لطبائع النفس الإنسانية، وما يمكن أن يعتريها من تغيُّرات على مستوى المبادىء والأفكار، إنْ هي حادت عن القيم، فاقتضت الضرورة منها أن ترى في القيم الثابتة الموجِّه الرئيس للإنسان المسلم الذي يعتريه التغيير. إن الإنطلاق من القيم في أثناء الإبداع والنقد، يمنع من أن يكون الإنسان لا منتميًا لمنظومة القيم؛ إذ الأهم في الاتِّباع لهذه القيم وليس الإبداع من غير قيم؛ لاسيما وأن أصحاب المنطق يُخضعون حتى المعارف العالقة بالقيم إلى المنطق، في حين ذلك يدفع إلى فصل القيم عن المعرفة، يقول الغزالي: “أما الرياضيات التي هي نظر في الكم المنفصل- وهو الحساب- فلا تعلق للإلهيات بها، وقول القائل: إن فهم الإلهيات يحتاج إليها خُرق-كقول القائل: إن الطب والنحو واللغة يحتاج إليها، أو الحساب يحتاج إلى الطب”(12)، أما الثانية -مدرسة ابن رشد- فترى أن الإنسان ثابت بقيمه، ولا مانع في أن يضيف إلى رصيده إيديولوجيا أخرى لاصقة بالمعرفة المضافة، فلم يهتم ابن رشد بالقيم (=العقل العملي) مثلما اهتم بالمعرفة والعلوم (=العقل النظري)، ولهذا “نلفي ابن رشد لا تفوته أية فرصة لينوه بأسبقية العقل النظري والعلوم والفضائل المتصلة به على العقل العملي وما يتصل به من صناعات وفضائل”(13).
وبالفعل، أثبتت مدرسة الغزالي التي تنتصر للقيم صحَّة مفاهيمها وقلقها على المصير الذي ينتهي إليه الإنسان المسلم المثقَّف في ظلِّ إهمال القيم الإسلامية أو التشكيك في فاعليتها، وذلك على الرغم من ازدهار المعرفة الإنسانية وقتذاك. إن التداخل بين القيم الإسلامية والفلسفة اليونانية منح نفَسًا جديدًا للتيار الإيديولوجي فرسم مساره المعرفي المختلَف، وكأنه استكشاف علمي غير قابل للنقد، وذلك بتقديمه على أنه يعكس عمق العقل المسلم وروح القيم الإسلامية، بحجة أن الإسلام يدعو إلى الغوص في بحر العلم فضلاً عن التفقُّه فيه؛ إلاَّ أن هذا الخلط المنهجي قد أدَّى إلى إحداث قطيعة بين العقل والقيم الإسلاميين، فقد قرأ الإنسان المسلم الإيديولوجي القيمَ الإسلامية بعقل يوناني، بعد أن تشبَّع عقله – أي الإنسان الإيديولوجي- بالقيم نفسها. إن الإشباع الإيديولوجي الذي يعبِّر عن إنسانية المعرفة غلب على الإشباع القيمي الذي يعبِّر عن إنسانية الذات. فإنسانية المعرفة (=الإيديولوجيا) اصطدمت بإنسانية الذات (=القيم)؛ وكانت نتيجة ذلك ولادة مشوَّهة للمعرفة والقيم في العالم الإسلامي (=التخلف). إذاً، الفلسفة المتدثرة بثوب الإسلام كانت مسؤولة عن ولادة التيار الإيديولوجي؛ فهو إيديولوجي، ليس لأنه استعمل العقل، وإنما لأنه وظَّف العقل في غياب القيم؛ حتى أن هناك من استنكر دور القيم، وعدَّها عائقاً أمام تقدُّم العقل المسلم! في حين “أن القيم عنصر أساسي في توليد المعرفة، وتطورها مقيد بهذه المعرفة. وعلمًا أن لا توجد معرفة واحدة محايدة تمامًا؛ فإن القيم تساعد على فهم منابعها وقالبها، وخاصة هدفها”(14).
في ظلِّ هذا الخضم وُلدت عناصر مناصرة للعقل وهدَّامة للقيم، لاسيما بعد الفترة العباسية، وبداية الانحطاط المظلم الذي تزامن مع عصر الأنوار في أوربا، وقد صاحب ذلك توقُّف العقل المسلم عن النشاط الإبداعي والنقد كما يفسِّر البعض؛ ولكن لم يكن العقل هو سبب هذا التراجع، وإنما القيم قد زال مفعولها. فقبل أن يتغيَّر الإنسان المسلم تغييرًا سلبيًا، تغيَّرت القيم وانكفأت إلى الوراء. وهذا ما أشارت إليه مدرسة الغزالي التي كانت أهدافها واضحة في قول الغزالي نفسه: “وأنا أبغي أن أصلح نفسي، وغيري”(15)، وعلى الرغم من الطابع الصوفي الذي شاب هذا الشعار القيمي؛ إلا أن أتباع الرشدية لم يستفيدوا منه بل نعتقد أنهم كالوا له العداء، بينما القيم التي تحدِّد نوعية المعرفة وتدفع بالإنسان نحو الارتقاء العقلي، تعد ضرورة للإنسان الذي يستهلك المعرفة ولا يحدِّدها كونه غير منتج لها.
عندما نتَّخذ مدرسة ابن رشد بوصفها مثالاً على اهتزاز القيم أمام تغيُّرات الواقع، فليس معنى ذلك جحد فضل ابن رشد على الثقافة الإسلامية، فابن رشد قدَّم مشروعًا إسلاميًا أكثر تحضُّرًا من العصر الذي عرفه، وأكثر إنسانية من العصر الأوروبي الذي تبنَّاه في أثناء نهضته. إن ما يؤسف له أن الغرب لما تبنَّى فلسفة ابن رشد وجعلها نصًّا مقرَّرًا في جامعاته عمل على محاربة القيم الإسلامية بالعقلانية الرشدية، لاسيما عبر الرشديين اللاتين الذين أسسوا لعصر التنوير، وغزوا به العالم العربي والإسلامي؛ فحاربوا قيمه، وسعوا لاستئصالها عبر تلاميذ ابن الرشد المتأخرين الذين قرأوا فلسفة ابن رشد بآليات معرفية غربية خالصة. صحيح أن الغرب أدرك خطورة هذه العقلانية لما تحمله من قيم إسلامية، بإمكانها أن تفسد وجدان المثقَّف الغربي؛ إذ “يشهد على ذلك، أيضاً، نوعية ما اختروه من الغزالي – وهو (الظاهرة المتنوعة) بحكم تطوره الفكري وغنى تجربته العلمية- فلقد أخذوا منه ما رأوه معينًا لهم على التصدي للخطر الأعظم الذي اقتحم عليهم دوائر الفكر: العقلانية الإسلامية، كما تمثلت في إبداع وإضافات أبي الوليد!”(16).
هذا صحيح على نحو ما بسطه محمد عمارة؛ ولكن هذه العقلانية في إطارها الفلسفي هي الابن الشرعي للعقلانية اليونانية، فهي عقلانية يونانية حوَّلتها الإيديولوجيا إلى عقلانية إسلامية، وعلى مدى الزمن باتت عقلانية ناسفة للقيم. عقلانية تناقضت مع القيم بعدما حوَّلها الغرب إلى حضيرته الفكرية، وحوَّلها المثقف المسلم العقلاني إلى دين علماني جديد منافس للدين الذي يخاطب الإنسانية ويطلب ودها، وحرصت مدرسة الغزالي على الاعتصام به. نعم، إنها حقيقة يقرُّ بها حتى مَن منهم أكثر عقلانية في إنجازاتهم؛ فهذا الجابري الذي يعدُّ من أنصار العقلانية يشير إلى ذلك في أطروحته الجامعية، وذلك قبل أن يؤسِّس لمشروعه: نقد العقل العربي، وقبل أن يتَّخذ من ابن رشد العلامة المميِّزة للعقلانية الإسلامية، قائلاً: “وإذا كانت العلوم العقلية، علومًا (دخيلة) حقاً، فإن الدافع إليها كان الدفاع عن عقائد السلف بسلاح الخصم نفسه. وعندما تغلغل هذا السلاح، وأصبح يفرض نفسه كغاية، لا كوسيلة فقط، أصبح طرفًا في النـزاع، وكان الطرف الآخر هو (المنقول) عن السلف”(17)، هكذا نرى أن الرشدية تمكَّنت – ليس في شخص ابن رشد ولكن بأعمال المتشيعين لها- من أن تكون إيديولوجية منافية للقيم، وفي صراع دائم معها. وذلك تحت غطاء العقلانية غير القيمية التي من مآسيها أنها تُنفي النظر العلمي الذي اتَّصف به ابن تيمية في الردِّ على المنطق اليوناني. فهذه العقلانية لا تعترف بالقيم بل تشكِّك في صلاحيتها.
إن الفضيلة هي أساس المعرفة مما يجعل المعرفة تعزز من دور القيم؛ أما أن تكون المعرفة هي أساس الفضيلة فإن المعرفة ستعزز من دور الإيديولوجيا التي تنتصر لأية معرفة بقطع النظر عن خصوصيتها وأسرارها. وعمومًا لا نتفق مع قول الجابري: “إذا كان لنا أن نوجز مقومات شخصية ابن رشد في كلمات فقد يجب القول إنه جمع بين العلم والفضيلة. كان يجسد بحق الفكرة التي قال بها سقراط، وهي أن المعرفة أساس الفضيلة”(18)، نتفق معه في أن ابن رشد جمع بين المعرفة والفضيلة؛ لكن أن تكون المعرفة أساس الفضيلة فيعني ذلك أن المعرفة هي التي تصنع القيم التي تشاء؛ حيث العولمة حققت نبوءة سقراط فصارت المعرفة هي أساس الفضيلة؛ ولكن معرفة تفتقر إلى الفضيلة تعني أنها معرفة تفتقر إلى القيم التي هي أم الفضيلة. إن القيم أو إن شئت الدين “دعامة لا غنى عنها لتثبيت الإنسان على الفضيلة (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) [إبراهيم: 27]”(19).
وللتأكيد فإن القيم ينبغي أن تكون منفتحة على العالم بإنسانها، أي أن تفرض بنيتها ونظامها، فإما أن تتخلف وإما أن تتقدم؛ ولكن التخلف في العالم الإسلامي المعاصر جاء نتيجة انفتاحه على إيديولوجيا الغرب وليس على الشيء المضيء من عقلانيته، أي انفتاح بإنسان يفتقر إلى قيم خاصة بتاريخه وحضارته وشخصيته وبيئته. فلو انهارت هذه الإيديولوجية العالمية المعاصرة، فسينهار معها الإنسان المسلم؛ لأنّه “مشترك قيمي عولمي”، فهو سيشارك في الانهيار، لأنه ينتمي إلى قيم الانهيار أو الإيديولوجيا المنهارة إن عاجلاً أو آجلاً. إن الإنسان المسلم بتسليمه الأعمى بهذه الإيديولوجيا يكون قد اختار لنفسه الاتجاه الخطأ، وهو يرفض أن تكون القيم شرطًا معرفيًا للتعاطي مع العولمة. يقول فريتس فالنر: “إذا ما استقصيت وجود قاعدة تمييز العلم الصالح عن العلم الطالح، سأقول في هذه الحالة بأن العلم الصالح يظل موجودًا طالما لزمنا التكافؤ بين التغيير والمحافظة. إذا لم نلتزم بهذا التكافؤ، سيتجه العلم في الاتجاه الخاطئ”(20).
إن اليابان على سبيل المثال لا الحصر عرفت كيف تواجه الغرب بقيمها، فالقيم التي يشترك فيها المجتمع الياباني هي نفسها التي كانت تعكس روحها على المثقف الياباني. فكانت هذه الفئة المثقَّفة حاملة لقيم المجتمع وحريصة عليها، فلم يكن هناك تعارض بين القيم بوصفها مبدأ ملزمًا، والإيديولوجيا باعتبارها معرفة غير ملزمة. فالمبدأ ثابت بثبات القيم، والمعرفة تتبدل مع تغيُّر الإنسان والحياة. وهذا ما أدركته اليابان بالعودة إلى الأصالة، والأخذ بالمعرفة في حدود القيم الأصيلة، لاسيما وأن “الحضارة تنهار انهيار قصور الرمال، عندما يكون النسق الاجتماعي مضاداً للنسق الثقافي، أو العكس”(21)، فالمجتمع يتغيَّر نحو الأسوأ لما تتراجع القيم في عملية التنمية، وتغيِّر مسار تاريخها مستشرفة التخلف.
المدرسة الرشدية مهما أبدعت في مجال العقل الفلسفي، فإن إبداعها غير الخالص تركيب على إبداع خالص، الذي هو الإبداع اليوناني، لقد “أقام ابن رشد مشروعه الفكري بالإحالة إلى كبار فلاسفة اليونان والمسلمين، سواء بالتبني والاقتباس أحيانًا، أو بالمعارضة والنقد أحيانًا أخرى”(22)، لقد أضفى ابن رشد بعض القيم على هذه الفلسفة اليونانية؛ ولكن العقل الأرسطي تغلَّب على هذه القيم، وتمكَّن في بعض الحالات من إزاحتها. ويذهب محمد المصباحي إلى أن ابن رشد عاد إلى اليونان، أو إلى الفلسفة في مواطنها الأصلية لفهم دور العقل النظري، بينما الغزالي اعتنى بالعقل العملي من منظور صوفي يتناسب مع طبيعة المرحلة، لاسيما وأن العقل العملي بالنسبة إلى ابن رشد كما بسطته الفلسفة اليونانية كان في رحم الغيب اليوناني ينتظر من يستكشفه، يقول المصباحي حول قلة اهتمام الفلاسفة المسلمين بأمور العقل العملي: “إذ يبدو أن غياب ترجمة متداولة لكتاب السياسة لأرسطو، وندرة ترجمة كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس للفيلسوف نفسه، كان من جملة الأسباب التي كانت وراء ندرة الاهتمام بالعقل العملي. ولا ينبغي أن نستغرب من ضمور الاهتمام بقضايا العقل العملي، لأنه كان على تاريخ الفلسفة أن ينتظر ظهور الفيلسوف الألماني كانط للاعتراف بعجز العقل عن الحسم في قضايا الميتافيزيقا، وتحويل اهتمامه إلى النظر في العقل العملي”(23)، إن الغرب هو الذي قرأ لنا ابن رشد، بينما المسلم المعاصر ينطلق من هذه القراءات على أساس أنها دفاع عن العقلانية الإسلامية. فالغرب بقدر ما ينتصر لمدرسة ابن رشد بقدر ما يستهدف التشكيك في فاعلية القيم الإسلامية، وما اصطلاح “العقلانية” إلاَّ منهجية قد قامت لخدمة هذا الغرض اللاعقلاني.
هذا الخلط المنهجي المقصود هو المسؤول عن هذا التناقض الحاصل بين العقلانية والإسلام؛ العقلانية التي رسمها ابن رشد باعتباره مسلمًا وصاحب عقيدة لا تتزحزح، والإسلام الذي حُشر في الغيبيات على الرغم من عقيدته التي تعلو فوق كل الشبهات؛ لأن العقل لا يدركها، وهذا هو سر الغضب الذي يطالها منه ولا يبلغها بقامته التي تثير الشفقة والرحمة لكون هذا العقل الجريء لا يعقل، ولو كان على غير ما ألفيناه، لكان التزم حدوده ومنطقه! إن العقيدة -كما يذهب إلى ذلك سيد قطب في كتابه خصائص التصوُّر الإسلامي- التي لا غيب فيها ولا مجهول ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة(24)، مع العلم أن الغيبيات – وليس المعميات- تعبِّر عن قمَّة العقلانية. فالغيب ليس السحر أو الشعوذة أو الطلاسم؛ هذه روائع شيطانية! فالميتافيزيقا ليست التشبُّث بالمبادئ والقيم؛ لأن القيم لا تتنافى مع العقل الفوق الميتافيزيقا، بل توجِّهه وترشده. وما يحدث في العالم من فوضى يعد نتيجة إهمال متعسِّف للقيم؛ ولا عجب، أن يقف جان جاك روسو- الذي يصف المسلمين بالدجالين- عاجزًا أمام هذا الغيب الذي يعده أقرب إلى العبقرية العظيمة. طبعًا لا يهمنا الوصف الجاهل بالشيء من قِبل روسو، ولكن يعنينا العصف الذهني الذي توصل إلى هذه النتيجة: “شريعة ابن إسماعيل (محمد صلى الله عليه وسلم) التي تحكم العالم منذ عشرة قرون، ما برحت تنبئ حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها؛ وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فإن السياسة تعجب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تشرف على منشآتهم الدائمة”(25).
2. القيم من منظور إيديولوجي:
برزت الإيديولوجيا بوجهها القبيح في عصر المأمون، مستغلة النهضة المعرفية والانفتاح العلمي والفلسفي على الآخر المختلف، وفيه نرى أن الفلاسفة قد خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا . لقد استخدم المأمون الفلسفة اليونانية في إزاحة الباطنية التي كانت تعمل على كسر شوكة الخلافة الإسلامية، فاتخذت هذه السياسة صورة أخرى للعقلانية المتطرفة المحاربة للقيم. فهو وإن بدا فعله جميلاً، فقد حارب الباطنية سياسيًا وليس اجتماعيًا وثقافيًا، ومن ثم انتهى عقل السلطة متطرفًا. إن “ما أضر بالحركة العقلانية باختصار هو فشل عناصرها المتطرفة في تقدير حدود العقل، وعدم تسامح خصومها، واستخدامهم سلطة الدولة القسرية لفرض أرائهم على معظم الناس، وهذا ما أدى إلى تسييس جدل فكري من نوع آخر، أثار الأمزجة، وصلَّب المواقف. وما كان عدوانيًا أن الآراء المفروضة كانت متضاربة مع بعض المعتقدات الإسلامية والرائجة والقابلة للدفاع عنها عقلانيًا”(26)، علاوة على أن السلطة استخدمت المعرفة لتثبيت سلطتها المعرفية على النخبة المثقفة، وليس بهدف تعزيز دور المعرفة في عالم القيم. وفي الحالة هذه، نلفي ذلك العصر السياسي المتحالف مع الفلسفة، يدور في فلك “سلطة المعرفة” بتعبير ميشال فوكو الذي يعالج المسألة السياسية والمعرفية من منظور غربي؛ حيث إن هذه المعرفة التي تبحث عن إرضاء السلطة لا يهمُّها إلاَّ تثبيت أركان السلطة، وليس تفعيل قيم المجتمع. فالعقل الفلسفي حارب خرافات الباطنية، ثم امتدَّ كالطوفان ليجرف مجتمع القيم؛ لأن هذه السلطة المعرفية أعلنت بأن العقل، لا غيره، هو طريق الخلاص؛ مما جعل العقل يأخذ مكان القيم. فالقضاء على الباطنية أغرى العقل على التشكيك في القيم، وأضفى سلطة معرفية قائمة على اللاتكافؤ بين القيم والعقل. إن “السلطة ليست شيئًا يحصل عليه وينتزع أو يقتسم، شيئًا نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا، إنها تمارس انطلاقًا من نقط لا حصر لها، وفي خضم علاقات متحركة لا متكافئة”(27).
تقلَّصت القيم على مستوى النخبة المثقَّفة في ظل العلاقة المتحركة غير المتكافئة بين النخبة والسلطة، وتقلَّصت أكثر بوصفها دعوة صريحة للتخلف بمنطق المعاصرة. ومن ثم تطوَّرت الفلسفة الإسلامية المترجمة، وأصبح قسم يلعنها بالإلحاد، وصار القسم الآخر الفاقد للقيم يحتمي بعقلانيتها النسبية. هكذا بدأت العقلانية، ليس كما رسمها ابن رشد؛ وإنما كما ترجمها الغرب وروَّج لها أتباعها من المسلمين العقلانيين. هذه العقلانية التي رسمت للمجتمع أفكاره وأنماط حياته فتحوَّلت إلى إيديولوجيا هدفها، ليس إثبات فعل القيم، ولكن العمل على إزاحة هذه القيم من المشهد العقلي. وهذا حال العقل الكوني الذي يهتدي به المسلمون المعاصرون بينما يتجه بهم إلى الهاوية. يقول صلاح إسماعيل عبد الحق: “نحن لا ندعي أن التصور الغربي للمعرفة تصور خاطئ برمته، وأننا لا نستطيع من خلاله الوصول إلى أية حقيقة، كلا إنما نـزعم أنه تصور يختلط فيه صواب بخطأ بحيث نستطيع أن نقول: إنه تصور غامت رؤيته، كما أنه تصور ناقص ومحدود؛ وإذا كان هناك تصور هذا شأنه، فمن الضلال والتضليل تقديمه للناس على أساس أنه النموذج المعرفي الذي يجب أن نتبعه حذو النعل بالنعل، أو نقدم عليه عنوة كل التصورات المعرفية الأخرى”(28).
إن لهذه العقلانية دورًا خطيرًا في تأزيم قيم الإنسان المسلم، كونها عقلانية فيها شيء من اللاعقلانية التي تلغي القيم، ومن ثم هي أقرب إلى العبث الفكري، أو الوعي الخاطئ، لاسيما وأن “الإيديولوجيا هي التعبير -أو إذا شئنا التبلور النظري- عن الوعي الخاطئ”(29)، وهذه حقيقة أثبتتها عقلانية العرب والمسلمين اللامنطقية الموغلة في الوعي الخاطئ، التي هي سبب في تخلفهم العلمي والثقافي. كما أن “هذه حقيقة في منتهى الوضوح: إن كان مجتمع يضع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الاجتماعي (أفكارًا ميتة) تمثل خطرًا أشد عليه من خطر (الأفكار القاتلة)”(30)، فالأفكار القاتلة هي إيديولوجيات الغرب ولا عقلانيته التي تستتر وراء العقل؛ حيث “إن العقل يتضمن في باطنه نفسه لا عقلانية مخيفة. يصبح العقل أحمق عندما تنطلق من عقالها هذه اللاعقلانية المتسترة، وعندما تصبح سيدة العقل وموجهته، أي عندما يتحول تطور العقل إلى انفلات لما ليس معقولاً وعندما تتم في هذا التحول العملية التي يطلق عليها هوركهايمر وأدورنو التحطم الذاتي للعقل. وفعلاً عندما تختفي النـزعة الإنسانية وتطمر فضيلة النقد، فإن قوى رهيبة من التنظيم والمجانسة تنطلق من عقالها”(31). إن التحطم الذاتي للعقل هو نفسه تحطيم العقل للقيم؛ أما الأفكار الميتة فهي التي بنى عليها فرانسيس فوكوياما نظريته: نهاية التاريخ!! إذ نلاحظ أن فكرة نهاية التاريخ قد انتهت وماتت ولم تعد فاعلة، بينما نلفي المثقف في العالم الإسلامي يعتقد في حياتها، وهو يرى أن الخلاص يكمن في السوق والقيم الليبرالية، حتى عاجلته الأزمات المالية وهو في غفلة من أمره؛ لأنه ما زال يتعاطى مع أفكار ميتة حول إيديولوجيا السوق والقيم الليبرالية، فأماتت فيه العقل والقيم، النظر والعمل.
طبعًا، ليس كل من يتشبَّث بالقيم في أثناء الإبداع هو غير عاقل، فابن تيمية كان أكثر تعقلاً للأفكار والأشياء، إنه مثال الجمع بين القيم والعقل؛ ولكن تخلف إيديولوجيا العقلانية تشتغل في اتجاه غير اتجاه تنمية العقل القيمي. لقد “كان عمل ابن تيمية ساعيًا إلى نقل العقل الإنساني من العلم المعياري اللاتاريخي – المنطق الأرسطي بما هو المنهج العلمي المزعوم وليس بما هو شكل استدلال- إلى العلم التاريخي المستند إلى الصورة الرياضية الخاصة والمنهج التجريبي المطبِّق إياها على الطبيعة”(32). وعليه لم يذهب ابن تيمية إلى (نفي العقل باسم الدين) -كما يرى المرزوقي- وإنما نعتقد أن ابن تيمية أدى إلى تثبيت العقل بالقيم؛ فهل يثبت السقف من غير عمود؟ من كان ينتج لابن تيمية؟ هل العقل القيمي المسؤول أم العقل المتمرد الأحمق؟ إن ما يعنينا في هذا السياق هو ابن تيمية في إشراقه العقلي، وليس بعض أتباعه أو تلاميذه من الذين ألقى العقل الأحمق على كاهلهم مسؤولية ضبابية العقل المسلم. نتساءل ماذا كان سيحصل لو اعتقد المثقفون في العالم العربي والإسلامي بالمعرفة المفصولة عن القيم؟ ومع أنهم لم يعتقدوا بذلك إلا أنه ما زال العالم العربي متخلفًا لأسباب بنيوية. ولو اعتقدوا بعملية الانفصال واعتمدوها وطبقوها لكانوا في مرتبة أقل من التخلف؛ لكانوا قد ذابوا في غيرهم المختلف، ولم يعودوا صالحين لإعادة البناء؛ لأن التخلف ليس أمامهم حتى يقاتلوه، ولكن سيكون أمامهم التقدم الجاهز الذي يسلبهم هويتهم ورسالتهم؛ بينما عقولهم هواء، وأفكارهم ميتة لا تحي الموات من الأشياء.
لقد ترعرع هذا المثقف الذي يعتقد في الأفكار الميتة في بيئة إيديولوجية تتعامل بالقيم على أنها أشياء تفنى وتزول. هذه الأفكار الميتة رسخها نيتشه صاحب إيديولوجيا (موت الإله)، فقد “رفض أيضًا الأخلاق التقليدية، فهي على حد قوله أشد أنواع الجهالة ضررًا وأذى، ورأى أن الإنسان السوبرمان الذي تحتاج إليه المدينة المنحلة لإنقاذها، يجب أن يكون فوق الأخلاق؛ إذ يجب أن لا يخالجه أي شعور بالرحمة إزاء المنحل… ولا شك أن أشهر ما نادى به هو إلحاده الكاذب: إن الله قد مات فقد قتله الإنسان الأوروبي”(33)، أما وأن المثقَّف المسلم يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن الله حيٌّ لا يموت، فقد استفاد من هذه الإيديولوجية النتشوية من زاوية (موت القيم)، فجاءت أفكاره منذ ذلك الحين أفكارًا بلا قيم، ولولا التحديات الاستعمارية الخارجية التي حرَّكت في المجتمع روح القِِيَم لكان الواقع على غير ما هو عليه الآن؛ لأنه في أثناء الاستعمار يصبح المجتمع هو المبدع المفضَّل، وتبقى إبداعات النخبة تتراوح مكانها، فمعظمها يضيع في زحمة هذا العطاء الاجتماعي القيمي. ففي هذه المرحلة المتأزِّمة تتحرَّك القيم، مهما كان مستواها؛ المهم أن القيم هي التي توحِّد مستويات هذا الإنسان، فهي التي تتحرَّك بالمجتمع. إن “ماهية الأخلاق هي توحيد الأفعال، وتخليص الفاعلية من لا اتساقيتها ونقيضاتها”(34).
هذا بالنسبة إلى تحدي القيم الإسلامية للإيديولوجية الاستعمارية؛ أما بالنسبة إلى القابلية للاستعمار فإن الإيديولوجيا – القيم الملَقَّنة غير المفطورة- هي التي تصنع أحداثها وأساليبها، فيشعر الإنسان المسلم المستعمَر بأن الاستعمار يسعى لتشويه هُويِّته وشخصيته، فيدرك خطورة هذا الوضع، ويتصدَّى له بسلاح القيم؛ أما تدمير القيم في حالة ما بعد الاستعمار، فيعاملها المستعمر التاريخي-أو غيره- بثقافة التدمير؛ تدمير الهُويِّة والشخصية. ولأن هذه الثقافة تتمُّ على مستوى النخب المتعلِّمة، فإن الفئة الشعبية -دون مستوى التعليم- الغالبة تبقى بعيدة عن هذا الصراع؛ أما سلطة المعرفة فتحوِّل هذا التدمير بقيمها الملقَّنة إلى وعي حضاري وتحجب الأهداف الاستعمارية وتزوِّر حقائق التاريخ، ولهذا “لا يجوز لنا أن نتساءل: لماذا توجد عناصر فكرية قاتلة في الثقافة الغربية؟ بل فليكن سؤالنا في صورة أخرى: لماذا تمتص بالضبط طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلامية هذه العناصر القاتلة؟”(35).
يسعى المفكِّر المسلم الذي يشتغل في حقل يرفض القيم إلى إسقاط المناهج (القاتلة) على نصوص اجتماعية، ولحظة ما ينتهي من صياغة مادَّته الفكرية يعرض هذه التداخلات النصية على المجتمع، وغالبًا ما تضيع هذه المادة في زحمة المشاكل الاجتماعية؛ وربما تجد مكانها خارج المجتمع! في هذه الحالة يُلقي المثقف لائمته على المجتمع، مشيرًا إليه باللاوعي والتخلف، من غير أن يطرح على نفسه مشكل غياب ما أثاره نصه اجتماعيًا – وليس ثقافيًا- أي دون أن يضع منهجه تحت مجهر النقد الاجتماعي، وإن نال إعجاب سلطة النقد المعرفي. هذا هو السبب الذي جعل الأفكار-أفكار الأزمة أو الأفكار الميتة- على الرغم من ضخامتها لا تجد اهتمامًا بالغًا في الأوساط الاجتماعية، بل وإنها لم تُحدِث هزَّة نفسية بإمكانها أن تعين عقلية الإنسان المسلم المعاصر على الفعل والبناء من داخل القيم. فالمجتمع بكلِّ مستوياته الاجتماعية غير قادر على إعادة توطين القيم، لأن قدرته على التوطين تكون بتوعيته وتربيته بمناهج تنهل من التاريخ الفاعل، وإلاَّ فلن يحدث التغيير أبداً. فإنْ لم تصلح ثقافة المجتمع لن تصلح ثقافة المؤسَّسة، وإنْ لم تتحرَّك القيم لن تتغيَّر العقليات، باعتبار أن العقليات تختلف باختلاف البيئات(36)، وكذلك المناهج تختلف باختلاف النصوص، والنصوص تختلف باختلاف الإنسان؛ والإنسان بقيمه وأفكاره.
يبدو أن الإيديولوجيا التي غذَّتها الصراعات الفلسفية، قد همَّشت المجتمع ولم تحرِّضه على الفعل الإنمائي، وأبقته بعيدًا عن الاهتمام بالقضايا الاجتماعية. وهذا هو الذي جعل فلسفة ابن رشد تتوه في زحمة هذا الضياع، حتي تلقَّفها الغرب واحتضنها وتبنَّاها، فإذا “كان يمكن القول بأن تبني ابن رشد للنـزعة العقلية، والتزامه بهذه النـزعة في مختلف نواحي تفكيره، يعتبر من العوائق التي وقفت حجر عثرة في سبيل انتشار مذهب ابن رشد الفلسفي في العالم الإسلامي”(37)، بينما يذكر التاريخ أن المجتمع الأوروبي هو الذي رسم منعرج النهضة في حياة أوربا، فهو مهندس النهضة التي قوامها العلمانية، وما عرضته من حلول على المجتمع الأوربي. ولا أظنُّ بأن العقل الفرنسي- وحده- قد خطَّط للثورة الفرنسية، وإن كان كذلك، فإن الذي نفَّذ هذه المهمَّة الثورية هو مجتمع الثورة. ومن ثم فإن المجتمع كان في خدمة المعرفة. لقد التحمت الثقافتان معا، فكانت النتيجة هي الاحترام المتبادل، والمشاركة والحرية وإبداء الرأي بصراحة. لقد كان العقل الفرنسي في خدمة مجتمع القيم الغربية. ولا عجب، فالعقل السليم في المجتمع السليم. أوَ ليس من المفترَض أن يكون العقل المسلم السليم في خدمة القيم الإسلامية السليمة بوصفها طريقًا لتنمية المجتمع؟
لقد تمكَّن الغرب بإيديولوجيته من تصدير العقلانية إلى الثقافة الإسلامية، وهو مدرك كل الإدراك بأن العقلانية هي من نتائج التقدُّم العلمي؛ حيث يحتاج العرب إلى علم يفجِّر هذه العقلانية في مجتمعاتهم، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ ببخس القيم، وكل المخلَّفات غير العلمية المسمَّاة بالفكر الغيبي!! فالعقلانية الغربية ستظلُّ تحارب أية عقلانية تكون من نتائج القيم، وليس من العلم وحده. لأنه لا يمكن بأيِّة حال أن يصل العالم الإسلامي إلى العالمية أو يختصر قرونًا، إن لم يأت بعقلانية نابعة من القيم يواجه بها الغرب. إن القيم بوصفها نظرية الحياة تعد ضرورية للتحكم في أهواء نظرية المعرفة وما يستتبعها من ترف فكري وفلسفي وإيديولوجي مدمر. إن “نظرية الحياة التي لا يصحبها نقد للمعرفة لمضطرة إلى قبول المعاني الكلية التي يقدمها لها العقل كما هي فلا تستطيع سوى أن تحصر الظواهر، إن طوعًا أو كرهًا، داخل حدود موجودة من قبل تعدها نهائية”(38).
صحيح أن الاختراع الذرِّي يعبِّر عن العقلانية؛ ولكن اتخاذ اليابان مختبرًا له يعبِّر عن قمَّة الوحشية- المعقلنة سياسياً- فما الفائدة إذاً، من هذه العقلانية بينما اليابان قد تصدَّت لهذه الوحشية بعقلانية نابعة من القيم؟ فكانت فائدة هذه العقلانية القيمية أنها انتهت إلى منظومة علمية باهرة. فالياباني لم يمتص الثقافة القاتلة من الغرب، وإنما كيَّفها بقيمه المتمثِّلة بإنسانه الذي اتخذ من الإمبراطور قِبلته العلمية ووجهته العملية، فضلا عن قيم الساموراي والكونفوشيوسية الصينية. بمعنى أن القيم اليابانية كانت في خدمة العلم الياباني. فلا علم بدون قيم، ولاعقلانية خالصة بدون إنسان مخلص لقيمه؛ ففي الغرب “العقل أخذ يتدهور إلى نوع من الذكاء الشرير، كما تدهورت الروح الفردية إلى الأنانية”(39).
3. إحياء القيم يفرض إعادة نظر في رموز العقلانية:
فضلاً عن مأساة الفلسفة الإسلامية المتزامنة مع تمزُّق النسيج الاجتماعي للخلافة العباسية، فإن مأساة الفلسفة القومية قد أسهمت في زحزحة البنى النفسية والفكرية للإنسان المسلم بعد تحلُّل الخلافة العثمانية، وذلك بدءًا من رجال النهضة العربية المتميزين الذين بهرتهم العقلانية الغربية، فامتصُّوا أفكارها القاتلة، وزعموا بأنها طريق صالح للإصلاح؛ بينما “العودة إلى النبع.. ذلك هو المطلوب، دون إنكار -بطبيعة الحال- للخبرات (التاريخية) العقدية والفقهية الأصيلة التي تشرح وتوضح وتلاحق المتغيرات […] والمهم أن العودة إلى النبع هي القاعدة والمنطلق، فهناك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يمكن أن نجد الإجابة عن كل سؤال والتخطيط لكل ما هو كائن وما يمكن أن يكون، على مستوى الروح أو المادة، السماء والأرض، الدين والسياسة معًا”(40).
يستدعي الأمر من الجيل القادم إعادة النظر في رموز الفكر الإسلامي الحديث؛ إذ لا بدَّ من تقليص الاهتمام المبالغ فيه – أثناء الإنتاج الفكري الذي يستهدف نهضة المجتمع الإسلامي- لكلِّ من رموز العقلانية الذين تركوا بصماتهم في التنمية الثقافية والسياسية من غير تحصيل النافع منها. فهؤلاء انتهوا في آخر حياتهم إلى التوفيقية المتنازلة عن القيم التاريخية، وانتصروا للعقل جملة وتفصيلاً؛ ولكن نظرًا إلى مكانتهم الإسلامية التي أوجدتها ظروف الاستعمار، ستجعل الأجيال- كما هو الآن- أفكارهم في حجم مكانتهم. إن مثل هذه المكانة هيَّئتها التحدِّيات السياسية؛ أما الأفكار التي تخلقها الكيفية من الخروج من الأزمة سرعان ما بدأت تفقد بريقها الاجتماعي، وتتنازل عن تحدِّياتها المطلوبة، فانتهت في الأخير إلى توفيقيِّة ليست في مصلحة التنمية، كما ألقت بالأمة في مستنقع فكري تجسَّد في أفكار تلاميذ العقلانيين، وهكذا فإن الإنسان المسلم الذي لا يصمد أمام القوَّة الإيديولوجية (=الأفكار)، لا يستطيع أن يصمد أمام القوَّة المادية (=الأشياء). فأفكار العقلانية المستهلَكة لم تكن منتجة محليًا ومن ثم لم تصمد أمام أفكار الغرب، فأنجبت جيلاً لا يمكن أن يصمد أمام أشياء الغرب، وهذا راجع إلى أن غاية العقل العملي “حددها ابن رشد في ضمان الوجود الضروري للإنسان، في مقابل العقل النظري الذي يكفل الوجود الأفضل”(41)، ولكن لا فائدة ترجى من تحصيل وجود أفضل في ظل العقل النظري، بينما المسلم المعاصر يفتقد إلى الوجود الضروري بعدما صار يتأفف من العقل العملي؟ إن الرشديين الذين يرفضون إعادة قراءة ابن رشد في ضوء التغريب الذي يعيشه الإنسان المسلم، ينكرون على العقل العملي إمكانية أن يكفل الوجود الأفضل ويفسح الطريق للعقل النظري ليشق طريقه الأفضل من داخل الوجود الأفضل الذي لا يسعى للبحث عن التقدم وحسب، بل إلى إبقاء الإنسانية على نقائها. يقول إدغار موران: “إن التخلي عن التقدم الحتمي حسب ما تمليه (قوانين التاريخ)، لا يعني التخلي عن التقدم ككل، بقدر ما يعني الاعتراف بطابعه اللايقيني والهش. فالتخلي عن التطلع نحو أفضل العوالم، ليس هو على الإطلاق التخلي عن الأمل في عالم أفضل”(42).
إن إيديولوجية المثقف في العالم العربي والإسلامي التي تشتغل خارج روح القيم (=الأفكار) هي نفسها الإيديولوجية التي تشتغل خارج مادة العلم (=الأشياء). فإذا كانت تشتغل خارج القيم فأين موقفها؟ وإذا كانت تشتغل خارج العلم فأين موقعها؟
من لا قيم له لا موقف له، ومن لا علم له لا موقع له. فأنْ تختار الموقف لا بدَّ أنْ تختار الموقع. وضياع الموقف وعدم الاتفاق عليه يعدُّ من أهم أسباب تشريد الإنسان المسلم وتوزيعه في مناطق العالم. فاختلاف الموقف هو الذي جعل الأرض العربية والإسلامية منقسمة؛ لأن الإنسان/الموقف فضَّل أن يختار موقعه في غير هذه الأرض التي تفتقد إلى الحرية ووسائل التعبير المخلص… ولأنه صار يشتغل داخل الموقف صار في الوقت نفسه يشتغل داخل العلم. فمعظم المنفيين والمضطهدين والمهجَّرين مبدعين وعلماء وعقلانيين “مخلصين”. ولأن إيديولوجية العقلانية هي في خدمة السلطة وليس في خدمة المجتمع، فإن السلطة لا موقف لها والمجتمع لا موقع له. هذه الإيديولوجية هي الأكذوبة التي استهلكت فكر الإنسان المسلم، فبدَّلت أفكاره وعقليته، وصارت ترسم له نمط حياته، وتنشد له معايير السلوك.
إن المرحلة الجاهلية – التي تمثَّلت في الذوق الجمالي للإنسان العربي الشاعري الذي يهتزُّ للبيان والجمال- والتي تزامنت مع نـزول معجز البيان “القرآن”، قد تأثَّرت بالعلم (=الشعر يمثِّل علمًا عربيًا بمفهوم ذلك العصر) في غياب القيم. فالقيم غير منافية للعلم، ولكن الإيديولوجية العقلانية لا تنظر إلى العلم في حدِّ ذاته؛ وإنّما إلى القيم المنتجة للعلم. فبدَّلت الإيديولوجيا بالقيم. وهذا ما أدركه اليابانيون الذين وظفوا القيم الكونفوشيوسية وهم في الوقت نفسه يعقلون الأشياء والأفكار؛ بينما ذلك الوعي الجامع بين القيم والعلم، لم يدركه العقلانيون ولا أتباعهم الذين وظفوا القيم الإسلامية وهم في الوقت نفسه غافلون عن الخبث الإيديولوجي في الأفكار والأشياء المستوردة؛ فانتهوا بتوفيقيتهم إلى استشراء التخلف في جسد الأمة العربية والإسلامية.
إن القيم، دون غيرها، هي التي تتذوَّق الخير والحق والجمال، وتنفر من الشرور والآفات التي أصبحت غريزة في الإنسان المعاصر؛ حيث “إن القيم الروحية تمثل مرحلة ضرورية لا مناص منها من أجل اتساق غرائزنا على الأقل”(43)، وما عقلانية الغرب التي فيها شيء كثير من اللاعقلانية، إلاَّ علامة على انهيار مبدأ الحياة. وعليه فإن هذه القيم المعاصرة التي مزَّقت المسلم المعاصر ما هي إلاَّ قيم اللاعقلانية؛ وهي ما أشرنا إليه بـ: الإيديولوجيا. إنّ التركيز على عقلانية من غير قيم هو مجرَّد إيهام لتدعيم مراكز السلطة المعرفية على جميع المستويات. فالآخر المختلف عندما يصدِّر العقلانية يجهِّزها بقيمها، مما يجعل الإنسان المسلم (المثقَّف) وليد الشر الذي ينبع من الإيديولوجيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العبثية، بعد أن كان وليد الخير النابع من القلب العاقل. إن “المنهج الحقيقي (الصالح) هو الذي يحتوي الفكر من غير أن يخنقه”(44)، وهذا هو حال القيم الإسلامية التي احتضنت أفكار الأمم المغلوبة في زمن الحضارة الإسلامية الغالبة، ومع ذلك لم تخنقها.
إذًا، هناك مطلب ضروري لإعادة النظر في اللسان والقلب ومن ثمَّ العقل، إذ لا بدَّ من تطعيم الناشئة بلغة القيم والبيان والشعر الذي يفتح القلب لقراءة المعجز البياني بذوق جمالي ومبدأ أخلاقي، فيجعل الضمير في خدمة العقل، والقيم في خدمة النهضة؛ حتى يعي الإنسان المسلم المعاصر متطلبات وظيفته الحضارية ويتعاطى معها، فيبدأ بتنظيف ذوقه وإخلائه من الجراثيم القاتلة. يفترَض مراعاة هذه المرحلة بالبحث عمَّا يمكن أن يكون بديلاً لهذه الإيديولوجيات، كدراسة التاريخ جيدًا والتفقه في أحداثه، والبدء من العدد الصفر أفضل من الاحتفاظ بالعدد السالب. فالإنسان المسلم يعَدُّ طفلاً أمام العقلانية الغربية لأنه يجهل أسرارها، وهذا ما يكشف عن مشروعاته الفكرية التي سرعان ما تنتهي-في ظلِّ هذه العقلانية- إلى الفشل. تماماً مثل ذلك الطفل الذي حين يتعب من تسلُّق الأشياء العالية يخلد إلى ألعابه وأشيائه حتى ينسى-أو يتناسى- بأنه أخفق وفشل؛ ولكن ليس الإخفاق النهائي؛ لأن الطفل مجبول على اللعب، فباللعب يتَّسع عقله وبالأشياء الكبيرة عليه يضيق قلبه. وعندما يضيق القلب لا أمل في العقل. وعندما تتقلَّص القيم يتملَّص العقل. لاسيما و”إن العقل لا يرشد إلى النافع والضار من الأعمال والأقوال والأخلاق والعقائد، ولا يفرق بين المشقي والمسعد”(45)، فالعقلانية فيها شيء كبير من الفشل الذي يصيب العقل نفسه.
لا غرو أن الغزالي كان يعرف حدود العقل، لاسيما وأنه اتصف بعقل كبير، ومثله كان يعي ما يقول، علاوة على أنه كان يستشرف المستقبل العربي والإسلامي إذا ما هو حاد عن القيم وأسند أموره إلى العقل الأحمق. إن القلق على مصير العلم في ظل طغيان الإيديولوجيا يستشعره كل إنسان عاقل؛ وهذا يوسف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد يقول: “من أهم الفوارق بين الإيديولوجيا والعلم أن العلم يعترف بحدود ما نعرف”(46). إذًا، لم يلق الغزالي هذا القول جزافًا، وإنما جاء قوله بعد خبرة وعزلة عميقين. وعليه يذهب الغزالي إلى القول أن العقل الذي يشتغل بمعزل عن القيم لا يميز الخبيث من الطيب بمقياس الآخرة التي الدنيا مزرعتها. لو اشتغل هذا العقل بمعزل عن القيم هل كان له أن يفهم الشرع ومقاصد الشارع؟ فماذا فعل العقل العلماني مع الشرع؟ وكيف فهم مقاصد الشارع؟ طبعًا خلو هذا العقل العلماني من القيم سيكون تفكيره في أمور تسعده آنيًا؛ ولكن لا محالة سيشقي الذي يتمسك بالقيم إن هو ألقى السمع لهذا العقل الشقي. ألم يكن العصر الجاهلي يعقل بالشعر، ولكن كان يشقى في غياب القيم؟ أوَ ليس الحضارة الغربية عاقلة ولكن لا تسعد غيرها في ظل مصادرة القيم؟ إن العقل مصباح نوره القيم، فكلما كانت القيم متوهجة ومثيرة كان العقل أكثر إضاءة ووضاءة. ما من شك في أن الغزالي كان يقصد العقل الأحمق وليس العقل الواعي. إن “العقل يصبح أحمق عندما يصبح في الوقت نفسه أداة خاصة للسيطرة ولمظاهر القوى، وللنظام، وعندما يصبح غاية للسلطة وللقوى الرهيبة. أي عندما يصبح التبرير العقلي لا فقط أداة للعمليات الهمجية للسيطرة، بل أيضًا عندما ينذر نفسه لإقامة نظام معقلِن، نظام يصبح فيه كل من يشوش على النظام كذابًا ومجرمًا”(47).
هذا هو العقل الأحمق الذي يتحكم في حاضر الإنسان المسلم ومستقبله منذ أن حرَّرته الإيديولوجية من القيم! لأن الذي يغيِّر المبدأ الأخلاقي أو العقل المخلص هو الذوق الجمالي الذي قد يكون مشوَّهًا في أغلب الحالات، وقد يكون مطهِّرًا ومغيِّرًا، كما طهَّرت وغيَّرت جاذبية القرآن حياة الجاهلية.. وفي هذا الاتجاه يشرق الأمل الإنمائي المرتقب. إن “الاغتراف من الماضي هو الذي يجعل جماعة بشرية تمتلك القدرة على مواجهة حاضرها، وعلى التحضير لمستقبلها. فالبحث عن مستقبل أفضل يجب أن يكون شيئًا مكملاً، لا متعارضًا، مع الاغتراف من الماضي. على كل كائن إنساني، وعلى كل جماعة أن تجعل حياتها ترتوي من هذا التنقل المستديم بين ماضيها التي تُمنح منه هويتها، عبر تشبثها بأصولها، وبين حاضرها الذي تؤكد فيه على حاجياتها، وبين مستقبل تسقط عليه تطلعاتها ومجهوداتها”(48).
إن اللاعقل هو أن يتقدم الإنسان المسلم إلى الأمام من غير قيم، واللاقيم هو أن يعيش في الماضي من غير عقل؛ مما يتوجب توظيف العقل والقيم في الحاضر لتحرير الماضي من ذلك الشيء الذي مضى دوره المعرفي وانقضى، وتعزيز المستقبل بشيء يحيله إلى ارتقاب محتمل وفعل مشتمل. ومن ثم لا نعتقد أن التنمية تحصل إلا بالمعرفة العاقلة، والإنسان لا يستقيم إلا بالقيم الفاعلة؛ حيث تكون المعرفة والقيم في خدمة التنمية والإنسان. فالمعرفة هي التي تقترح وسائل التنمية، والقيم هي التي تجترح غايات الإنسان؛ فلا تنمية متقدمة من غير معرفة مضيئة، ولا إنسان متميِّز من غير قيم وضيئة. إن الإضاءة والوضاءة فعلان مهمان للتقدم والتميز.. والمستفيد الأكبر هو الإنسان المسلم المعاصر.
خاتمة:
لقد حاولت هذه المقاربة أن تبرز أهمية القيم في النظر والعمل، وتعزز القول أن الإنسان هو بداية الأشياء ونهايتها، بحيث تكون بداية مليئة بالعطاءات وزاخرة بالإمكانات فتنتج نهاية منتجة ومستديمة إلى أن يشاء الله. ونرى أن ذلك الحلم الإنمائي لن يحصل له القبول الحسن في واقع العالم العربي والإسلامي؛ إلا إذا كانت القيم هي المحرِّض الفعلي على الإبداع والإضافة والبناء. فمن عمق جوهر القيم يُسبَر معدن الإنسان، ومن داخل نبض القيم يتجلَّى فعل الإنسان، وتتفتَّق ثماره فيكون في مستوى ذروتها عطاءً وسخاءً.
وإلى جانب ذلك، لا يكون الإنسان مبتغيًا إلاَّ إذا كان يحمل جنسية القيم؛ جنسية مشروطة بالفعل والبناء، محرِّضة على التغيير المبدع للثوابت، والمهذِّب للمتغيرات. تمامًا كما هو الشأن مع التنمية. إن التنمية – في ظلِّ القيم- أشياء يبدعها الإنسان ويمتلكها، وليس أشياء تمتلكه وتفكِّر له. فهي أفكار أصيلة تهذِّبها القيم ذات المعاني الرفيعة؛ أما في غياب القيم وحضور الإيديولوجيا تكون الأفكار قد هجَّنت الإنسان وهدَّمت قيمه. فالإبداع الأصيل يشترط الإنسان المحلِّي، والتفعيل يشترط حصول القيم.
الإنسان فكرٌ والتنمية فعلٌ والقيّم معنى، ولن يتحوَّل الفكر (=الإنسان) إلى فعل (=التنمية) إلا بوضوح المعنى (=القيم)، وهذا الأخير لن يجلِّي لنا معناه ولن يبوح لنا بسرِّه إلاَّ بمعرفة الهدف والرسالة معاً. فبتحديد الهدف تتحقَّق التنمية، وبسموِّ الرسالة يسمو الإنسان.. وتنقلب المعادلة من الإيديولوجية المستوردة التي تحرِّض على التخلف إلى القيم الأصيلة التي تتماهى مع الفعل الإنمائي وتعزز دوره الحضاري؛ ولا عجب، فالقيم هي مستقبل الإنسان، والإنسان هو منطلق القيم.
وعمومًا، عندما يتوب الإنسان إلى ربه تؤوب القيم إلى الإنسان فتغير ما بنفسه، فتبدأ في ممارسة وظيفتها الحضارية، كما يستعيد العقل مهمته الرشيدة. فمشكلة المسلم المعاصر ليس مع العقل، فالحكمة ضالة الإنسان أينما وجدها فهو أحق بها، وإنما مشكلته مع الشيء الذي يفتقده بعدما كان يمتلكه، وأقصد القيم. إن المسلم المعاصر لم يكن يمتلك العقل حتى يفتقده، فهو محصلة لشيء ملكه ويخشى أن يفتقده؛ فالعقل هو محصلة القيم.
يندب الإنسان الكوني بعامة والمسلم المعاصر بخاصة حظه السيء من طغيان العقل النظري على العقل العملي، أو طغيان العقل الأحمق بتعبير إدغار موران، وقبله قال المفكر الألماني رونالد سترومبرج وهو يتطرق إلى البحث عن القيم: “يعاني الإنسان المعاصر أزمة رئيسية أخرى تتمثل في شعوره بالحاجة الماسة إلى قيم تعطي حياته مفهومًا ومعنى. ومما لا شك فيه أن المنبع الوحيد الذي يستطيع أن يستمد منه قيمه إنما هو الإيمان الديني بأوسع معانيه”(49)، ثم يختم كتابه الموسوعي حول عصر التنوير بالقول: “إن المهمة الأساسية اللحوح التي تجابه الإنسان المعاصر تتمثل في تنظيم نظرياته وأفكاره بغية استخدامها استخدامًا مبدعًا، وذلك إذا كانت تلك النظريات هي حقًا القوى غير المنظورة التي تحكم البشر. ومن ثم يتوجب على إنسان هذا العصر أن يدرس النظريات والأفكار دراسة منهاجية، ولاسيما من حيث علاقتها بالحياة، وعلى أضواء التاريخ والاجتماع. وعلى كل حال فلا يزال أمامنا الكثير والكثير من العمل والإنجاز”(50).
* * *
الهوامش
1. قطب، محمد. مذاهب فكرية معاصرة، القاهرة: دار الشروق، ط8، 1414هـ/1993م، ص485-486.
2. انظر: كريب، إيان. النظرية الاجتماعية من بارسونـز إلى هابرمانس، ترجمة: محمد حسين غلوم، عالم المعرفة؛ 244، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1999م، ص67.
3. علي، جمعة. “متطلبات العصر ومواجهة تحديات الأمة”، في: الأمة وأزمة الثقافة والتنمية، القاهرة: دار السلام، ط1، 1428هـ/2007م، مج1، ص26-27.
4. أرسلان، شكيب. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ مراجعة: الشيخ حسن تميم، بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، طبعة جديدة ومنقحة، د.ت، ص75.
5. لمزيد التفصيل، انظر: الجابري، محمد عابد. في نقد الحاجة إلى الإصلاح، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005م، ص26.
6. لمزيد التفصيل، انظر، يوسف، ناصر: “عولمة التنمية أم تنمية التخلف؟ لعبة الأشياء والأفكار في العالم العربي”، مجلة التنوير (الخرطوم: مركز التنوير المعرفي)، ع11، يوليو 2011م.
7. المسيري، عبد الوهاب. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1423هـ/2002م، مج1، ص27.
8. سعيد، جودت. الإنسان كَلاًّ وعدلاً، بيروت: دار الفكر المعاصر، 1998م، ص 19.
9. ابن رشد الأندلسي، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد. تهافت التهافت، تقديم وتعليق: صلاح الدين الهواري، صيدا: مكتبة صيدا العصرية، ط1، 1422هـ/2001م، ص159.
10. الغزالي، أبو حامد. المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال، تحقيق ودراسة: سمير دغيم، بيروت: دار الفكر اللبناني، ط1، 1993م، ص73.
11. المصباحي، محمد. “منـزلة العقل العملي في فلسفة ابن رشد”، في: ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب: في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، راجعه وأعدده للنشر: مقداد عرفة منسية، أبو ظبي: المجمع الثقافي، ط1، 1999م، ص266.
12. الغزالي، أبو حامد. تهافت الفلاسفة، مع محاضرة مهمة للأستاذ عباس محمود العقاد، قرأه وعلق عليه: محمود بيجو، دمشق: دار التقوى للطباعة والنشر والتوزيع، د.ط، د.ت، ص17.
13. المصباحي، محمد. “منـزلة العقل العملي في فلسفة ابن رشد”، ص267.
14. المنجرة، المهدي. قيمة القيم، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، ط3، 2008م، ص94-95.
15. الغزالي. المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال، ص94.
16. عمارة، محمد. الغزو الفكري: وهم أم حقيقة، طرابلس-ليبيا: منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ط3، 1990م، ص 263- 264.
17. الجابري، محمد عابد. فكر ابن خلدون- العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، بيروت: دار الطليعة، ط3، 1982م، ص 130.
18. الجابري، محمد عابد. ابن رشد سيرة وفكر: دراسة ونصوص، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1998م، ص21.
19. صبحي، أحمد محمود. هاؤم اقرأوا كتابيه: محاولة لتجديد الفكر الإسلامي، بيروت: دار النهضة العربية، ط1، 1996م، ص215.
20. فالنر، فريتس. العلم وسؤال الثقافة: مقاربة بنائية جديدة لفلسفة العلم، ترجمة: عز العرب لحكيم بناني، فاس: مطبعة آنفو برانت، ط1، 2002م، ص127.
21. النابلسي، شاكر. الثقافة الثالثة: أوراق في التجربة اليابانية المعاصرة وموقف المتفرج العربي منها، بيروت: العصر الحديث للنشر والتوزيع، 1988م، ص 37.
22. المصباحي، محمد. الوجه الآخر لحداثة ابن رشد، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1998م، ص56.
23. لمزيد التفصيل انظر: فازيو، نبيل، “في الشرط الفلسفي للراهن العربي: حوار مع د. محمد المصباحي”، مجلة المستقبل العربي، س36، ع414، آب/أغسطس 2013م، ص139-140.
24. انظر: العمري، نادية شريف. أضواء على الثقافة الإسلامية، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط9، 2001م، ص 32.
25. روسو، جان جاك. في العقد الاجتماعي، ترجمة: ذوقان قرقوط، بيروت: دار القلم، د.ط، د.ت، ص86.
26. شابرا، محمد عمر. مستقبل علم الاقتصاد من منظور إسلامي، ترجمة: رفيق يونس المصري، دمشق: دار الفكر، ط2، 1426هـ/2005م، ص145.
27. فوكو، ميشيل. جنيالوجيا المعرفة، ترجمة: أحمد السلطاتي، وعبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 1988م، ص79.
28. عبد الحق، صلاح إسماعيل. “مفهوم المعرفة”، في: بناء المفاهيم: دراسات معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة: دار السلام، ط1، 1429هـ/2008م، ج1، ص223.
29. غابيل، ج. “الإيديولوجيا”، في: مجموعة من المفكرين. تساؤلات الفكر المعاصر، ترجمة: محمد سبيلا، الرباط: دار الأمان، ط1، 1407هـ/1987م، ص98.
30. بن نبي، مالك. في مهب المعركة، دمشق: دار الفكر، ط4، 1991م، ص 146.
31. موران، إدغار. “من أجل عقل متفتح”. في: مجموعة من المفكرين. تساؤلات الفكر المعاصر، ترجمة: محمد سبيلا، الرباط: دار الأمان، ط1، 1407هـ/1987م، ص13.
32. المرزوقي، أبو يعرب. إصلاح العقل في الفلسفة العربية: من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1994م، ص393-394.
33. سترومبرج، رونالد. تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: 1601-1977م، ترجمة: أحمد الشيباني، القاهرة: دار القارئ العربي، ط3، 1415هـ/1994م، ص495.
34. غريغوار، فرنسوا. المذاهب الأخلاقية الكبرى، ترجمة: قتيبة المعروفي؛ سلسة زدني علمًا: 39، بيروت-باريس: منشورات عويدات، ط2، 1977م، ص132.
35. بن نبي. في مهب المعركة، ص 148.
36. انظر: إبراهيم، إبراهيم مصطفى. مفهوم العقل في الفكر الفلسفي، بيروت: دار النهضة العربية، 1993م، ص8.
37. تركي، إبراهيم. أزمة الرشدية العربية، الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، ط1، 2004م، ص80.
38. برجسون، هنري. التطور الخالق، ترجمة: محمد محمود قاسم، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م، ص8.
39. فروم، إريك. الإنسان بين الجوهر والمظهر: نتملك أو نكون، ترجمة سعد زهران؛ عالم المعرفة: 140، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1409هـ/1989م، ص150.
40. خليل، عماد الدين. نظرة الغرب إلى حاضر الإسلام ومستقبله، بيروت: دار النفائس، ط1، 1420هـ/1999م، ص107.
41. المصباحي. “منـزلة العقل العملي في فلسفة ابن رشد”، ص269.
42. موران، إدغار. تربية المستقبل: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة: عزيز لزرق، ومنير الحجوجي، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2002م، ص85.
43. العوا، عادل. القيمة الأخلاقية، د.م: الشركة العربية للصحافة والطباعة والنشر، 1385هـ/1965م، ص72.
44. لالند، أندريه. العقل والمعايير، ترجمة: نظمى لوقا، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص110.
45. الغزالي، أبو حامد. الاقتصاد في الاعتقاد، بيروت: دار الكتب العلمية، 1983م، ص80.
46. ستيغليتز، جوزيف إ. خيبات العولمة، ترجمة: ميشال كرم، بيروت: دار الفارابي، ط1، 2003م، ص319.
47. موران. “من أجل عقل متفتح”، ص13.
48. موران. تربية المستقبل: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ص70.
49. سترومبرج. تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: 1601-1977م، ص652.
50. المرجع السابق، ص666.