“على الرغم من أهمية مؤسسة الدولة في العالم العربي، فإن الاهتمام بدراستها -كقضية فكرية وسياسية- هو أمر حديث وغير مكتمل. فلدينا أكثر من 20 دولة عربية ذات سيادة، والكثيرون يأملون في دولة عربية موحَّدة، وهذه الدولة القُطرية ذات جهاز إداري ضخم ومتحكم بصورة طاغية على الاقتصاد القومي وعلى نظم التعليم والثقافة، ومع ذلك فإن التنظير للدولة -بتجذرها الاجتماعي، وإطارها القانوني وأخلاقياتها الفلسفية- ما يزال متخلفا بصفة عامة”.
هذه هي الأطروحة الرئيسية التي يُصدِّر بها الباحث الجادّ والأستاذ في العديد من الجامعات الأوربية، الراحل نزيه نصيف الأيوبي، كتابَه “العرب ومشكلة الدولة(1)“، والذي يسعى إلى تحليل الجذور المختلفة لفقر التنظير حول قضية “الدولة” في الفكر العربي حتى وقت قريب؛ ثم لتقديم عرض نقدي للكتابات الحديثة التي بدأت تظهر في هذا الخصوص منذ السبعينيات؛ مستهدفا من ذلك سبر غور موضوع العلاقة بين “الدولة” وبين مجتمعها المدني، وكشف طبيعة الواجهة الأيديولوجية التي تستخدمها “الدولة” لتبرير احتكارها لاستخدام القوة في المجتمع وسيطرتها على العمليات الاقتصادية والفكرية فيها.
* نظريات الدولة في الفكر العالمي:
وهو في سبيل تحقيق هذا الهدف، يخصص الفصل الأول منه لعرضٍ (يستغرق ما يقرب من نصف الكتاب) للآراء والنظريات التي طُرحت حول مفاهيم الدولة ونشأتها وتطورها في الفكر العالمي المقارن منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى القرن العشرين؛ على يد رواد من أمثال ميكافيللي وبودان وهوبز وهيجل وماركس، وما حدث لموضوع “الدولة” من تطور مع بداية السبعينيات حين أصبح موضوعًا محوريّا في الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، إلى أن يصل إلى أن “الدولة” -في الدراسات المقارنة- هي ظاهرة ومفهوم يمكن تحديد أصوله وجذوره.
ولكن التعدد والتنوع في طبيعة المؤثرات التي خضعت لها عملية تكوين “الدولة الحديثة” قد أدى -بدوره- إلى وجود مفاهيم مختلفة لاصطلاح “الدولة” في الأدبيات المختلفة، حددها الكتاب في: حكومة، نظام قانوني مؤسسي، طبقة حاكمة، نظام معياريٍّ متكامل للقيم العامة؛ إلا أن هذا الاختلاف هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تناقض.
وعلى أية حال فإنه لكي يصح استخدام مفهوم الدولة في الدراسات المقارنة، فهناك أسلوبان يمكن اللجوء إليهما في هذا السبيل:
الأول: هو تعريف الدولة تعريفا مبدئيّا مبسطا مستخلصا من الخبرة والملاحظة الشخصية، ثم القياس الكمي لدرجات أو مستويات مختلفة من الدولنة Stateness.
والثاني: هو النظر إلى الدولة باعتبارها – على الدوام- ظاهرة تاريخية وثقافية لا يمكن فهمها إلا في ارتباطها بمجتمع معين.
وفي غمار هذا العرض المقارن، يتوقف الكتاب عند النظريات التي طُرحت حول موضوع “الدولة” في العالم الثالث، ويستعرض تساؤلات مهمة عن أسباب عدم سعي التكوينات غير الأوروبية -التي لم تمر بتركيبة مماثلة من العوامل التاريخية- إلى خلق “الدولة الحديثة” بدلا من أن تبحث عن أنماط أخرى للدولة، ولماذا نجد أن المجتمعات التي تعارض الأيديولوجيةُ السائدةُ فيها (مثلا: الأصولية الإسلامية) فكرةَ “الدولة-الأمة”، عاجزة عن أن تتخطى مرحلة الرفض لكي تشكل نماذج سياسية بديلة للدولة؟.
وهكذا فإن المشكلة تزداد تعقيدا في بلدان العالم الثالث؛ لأن عملية محاولة بناء الدولة فيها تتطلب كذلك عملية بناء “أمة”، وبناء اقتصاد وطني في الوقت نفسه، وتؤدي هذه المحاولة -وخاصة في ظروف استمرار التبعية- إلى وقوع المجتمع في براثن التسلط والعنف.
وهذا – بدوره- يثير تساؤلا آخر حول كيفية إزالة التناقض بين المفهوم “القانوني” للدولة وبين المفهوم “الاجتماعي” لها.
لمعالجة هذه الإشكالية، يستعرض الكتاب طريقين مختلفين: طريقا تطرحه مدرسة التحديث أو المدرسة التنموية التي سادت الفكر الأمريكي (والغربي بصفة عامة)، وهو طريق نقل الخبرة الغربية إلى الدول غير الغربية بأسلوب “الحض” أو أسلوب “المحاكاة والتقليد”، وهي عمليات يعوّل فيها كثيرا على دور النخب ذات التعليم الغربي.
والطريق الثاني تطرحه مدرسة الاقتصاد السياسي اليسارية التي ترى أن المشكلة -في حقيقتها- راجعة إلى طبيعة الدولة التي أقامها الاستعماريون في البلدان التابعة للرأسمالية العالمية، تلك “الدولة المتضخمة” التي لم تتأسس عن طريق برجوازية وطنية، وإنما عن طريق برجوازية استعمارية أجنبية.
وكنوع من محاولة تفسير هذا التناقض، ينقل الكتاب عن “غرامشي” فكرة أنه في الغرب يتسيد المجتمع المدني على الدولة، وتتخذ سيطرة الطبقة الحاكمة صورة التراضي والهيمنة، على حين أنه في الشرق تتسيد الدولة على المجتمع المدني وتتخذ سيطرة الطبقة الحاكمة شكل التسلط والقهر؛ “فالدولة هي كل شيء”.
بعد ذلك يعرض الكتاب لما أسماه “الطريق غير الفرداني” إلى بناء الدولة، ويقصد به ذلك الاتجاه الذي ظهر على يد الرومانسيين الألمان، والذي ربط بين فكرة “الجماعة” وفكرة “الدولة”، ولم يتبنَّ الفلسفات الفردية التعاقدية التي قامت عليها الدول الأوربية الأخرى. وفي هذا يشار إلى أن هذا الطريق كانت له تأثيراته على كثير من المثقفين في العالم الثالث، وخاصة في الوطن العربي، ممن يورد الكتاب نماذج مهمة منهم فيما بعد.
وينهي المؤلف عرضَه للدراسات المقارنة هذه بالإشارة المهمة إلى “الطريق غير الأوربي” في بناء “الدولة”؛ باحثا عن “نموذج بديل.. لنمط دولة واقعية أخرى ذات مسار تطوري” مغاير لمسار الدولة الأوربية؛ ويقصد به التجربة اليابانية؛ حيث إن اليابان هي دولة واقعية فعالة و”ناجحة”، مع أنها قد سلكت في تطورها مسلكا مخالفا إلى حد بعيد للدول الغربية. ويورد آراء لبعض العلماء اليابانيين توضح أن تجربة اليابان السياسية والمؤسسية تدفع علماء السياسة فيها إلى أن يطرحوا أسئلة لا تتوارد على خاطر قرنائهم الغربيين، من قبيل: طبيعة دور الجماعات القروية والتشكيلات الأسرية في تشكيل بعض المؤسسات الحديثة في اليابان، الجذور التقليدية للدولة اليابانية؛ بما في ذلك مؤسسة “الدولة القديمة” المقتبسة عن الصين، ونظام “المعاني والأقانيم الكونية” الياباني cosmology الذي يحكم عمل المؤسسات السياسية والإدارية بما في ذلك المقتبس منها من الغرب، وكذلك مجموعة القيم اليابانية المتميزة.
وإذا كانت “المجتمعات التفرقية” (كالمجتمعات الغربية) -كما يطلق عليها اليابانيون- تتكون فيها الجماعات السياسية بناء على مبدأ التصارع على السلطة، فإن “المجتمعات التجمعية” (مثل المجتمع الياباني) تتكون فيها الجماعة السياسية بناء على مبدأ التشارك في السلطة Kikyo. ولذا يعتبر الكتاب أن التجربة اليابانية والتنظيم الياباني بخصوصها إنما يوضحان بجلاء أن هناك أكثر من طريق ممكن للتوصل إلى “الدولة”؛ ومن ثم فإن اهتمام بعض المثقفين العرب في الفترة الحالية “بإعادة اكتشاف اليابان” هو اهتمام يستحق التشجيع والمتابعة.
* الدولة في الفكر الإسلامي التقليدي:
ينتقل الكتاب -في الفصل الثاني- نقلة نوعية؛ إلى دراسة قضية “الدولة” في الفكر الإسلامي التقليدي؛ حيث ينطلق من القول بأن مفهوم الدولة الحديثة غير موجود أو غير وارد في الفكر السابق على العصر الحديث؛ وإن كانت ظاهرة “الدولة” معروفة في “البلدان المسلمة”، على الأقل بمعناها القانوني ومعناها الهيكلي. فالدولة هي “سلعة غربية مستوردة”، جاءت إلى العالم الإسلامي عنوة عن طريق المستعمِر في جانب منها، وتدعَّمت فيه عن طريق اقتباس الحكام ومحاكاتهم لأساليب “هذه السلعة” ومنظماتها من جانب آخر.
وفي هذا يؤكد الكتاب على أنه ليس في الفكر السياسي الإسلامي مفهوم محدد للدولة، وأن عشرات الكتب التي تتحدث عن مفهوم “الدولة في الإسلام” وتستمد مادتها من الأدبيات الإسلامية التقليدية إنما تتحدث عن “الحكم” أو عن “السياسة”، وليس عن “الدولة” بالمفهوم النوعيّ والمعنى المتكامل؛ ذلك أن تصنيف “الدولة” في الفكر السياسي التقليدي هو تصنيف لضروب الصَّنعة السياسية، وليس لأنواع “الدولة”.
ويعتبر المؤلف أن نظرية “الخلافة” تبلورت كبحث مثالي حول ما يجب أن يكون وليس كدراسة وصفية لما هو قائم بالفعل ، ممثلا لذلك بإسهامات الماوردي والغزالي وبدر الدين بن جماعة. أما ابن خلدون فإنه يعد -في نظر المؤلف- استثناء من هذه القاعدة؛ حيث يعتبر “أهم مفكر إسلامي تقليدي يضع الدولة في بؤرة اهتمامه الفكري؛ فهو يعالج قضايا تمس القارئ المعاصر وتذكره بمشكلات شبيهة يحياها بالفعل”. ولذلك يعود الكتاب إلى بعض القراءات المعاصرة لابن خلدون، وخاصة عابد الجابري الذي ركز في قراءته على إسهام ابن خلدون في ربط تطور الدولة بمفهوم “نمط الإنتاج”، وهي نقطة أهملها الكثيرون في تحليلهم لقضية الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية، على نحو ما يؤكد المؤلف.
يبرز الكتاب اختلافا مهما بين فكرة الدولة في أوربا عنه في الفكر السياسي الإسلامي، فإن كانت الدولة الأوربية قد تطورت من خلال “الفردانية” ومفهوم “الحرية” المرتبط بها، فإن الفكر السياسي الإسلامي قد ركز على “الجماعة”، ومن ثم أصرَّ على “العدل” كقيمة سياسية عليا، و”القيادة” باعتبارها أساس الحياة السياسية. فإذا وضعنا مقارنة أولية بين الفكر الإسلامي والفكر الأوربي في هذا الخصوص تكون نتيجتها كالتالي:
الفكر الأوربي: الفرد – الحرية – الدولة.
الفكر الإسلامي: الجماعة – العدل – القيادة.
فالقيادة تحتل إذن مكانة بالغة الأهمية في التراث السياسي الإسلامي، ومن المعروف طبقا لماكس فيبر وغيره، أن قوة القيادة تتحقق عادة على حساب صلابة المؤسسات، والعكس بالعكس. ولكن هذه الفكرة لم تحظَ بتشجيع كبير من رواد الفكر السياسي الإسلامي.
وانتقالاً إلى اللحظة الحديثة، يعرض الكتاب قصة تطور فكرة “الدولة”، في ارتباطها بالأوضاع السياسية للأمة الإسلامية كما يشرحها رضوان السيد، ويعتمد على حامد ربيع في تشخيص الوظيفة “الحضارية” للدولة الإسلامية، ويشيد بقيام هذين الباحثين العربيين المحدثين باستخدام المناهج العصرية لتحليل الأفكار والأوضاع التاريخية في التجربة الإسلامية.
يستغرق حامد ربيع وفكره المتعلق بالدولة بين التجربة الإسلامية والتجربة الأوربية مساحة غير ضئيلة من الكتاب؛ مبرزا عددا من أفكار ربيع، من قبيل: إشكالية العلاقة بين الفكر والحركة في التقاليد السياسية الإسلامية، وقيام النظام السياسي والإداري الإسلامي على مبدأ “التوازن”، وأن السلطة هي أداة تحقيق الوظائف العقيدية والحضارية والدعوية للأمة، وأن “الدين الإسلامي هو دين سياسي، والسياسة الإسلامية هي سياسة دينية” ،… ليخلص الكتاب إلى التأكيد على أن محاولة ربيع هي محاولة بالغة الأهمية؛ “لسعيها إلى استلهام التراث السياسي الإسلامي في ضوء الإطار المرجعي لهذا التراث نفسه”، الأمر الذي يتميز فيه ربيع عن عدد من النماذج الفكرية العربية التي يتعرض لها الكتاب لاحقًا.
يتفق الكتاب مع رأي حميد عنايات بأن نظرية الدولة الإسلامية قد ظهرت كرد فعل لزوال آخر خلافة إسلامية (العثمانية)، وأن سقوط هذه الخلافة هو أصل ظهور نظرية “الإسلام دين ودولة”؛ التي صارت أشبه بالبدهيات في الأدبيات الإسلامية المعاصرة.
ويلخص الكتاب وجهة نظر من أسماهم “المحدثين” حول “الدولة في الرؤية الإسلامية” برأيٍ لعابد الجابري مؤداه أن “الخطاب السلفي يتركز في الواقع حول “سياسة” الماضي؛ أي حول الخلافة والإمامة، و”أصول” الحكم في الإسلام، دون أن يتعدى ذلك إلى القضايا التفصيلية المتعلقة بالدولة والسلطة”.
أخيرًا، يشير الكتاب إلى تصنيف فهمي جدعان للاتجاهات الفكرية المطروحة حول الدولة (دعاة الفصل العلماني، دعاة الدولة الإسلامية، الوسيط بينهما بتياريه التشريعي والإنساني)؛ ليخلص إلى أن التيار الأخير يقدم بذور نظرية أولى بالقبول في ظل الدولة- القومية العربية القائمة؛ وليؤكد على جوهرية اقتراح جدعان التمييز بين ما قد نسميه “فكرة الحل الإسلامي” وبين “فكرة الدولة الإسلامية”؛ لفهم تيار “الإسلام السياسي” فهما صحيحا ودقيقا.
* الدولة العربية المعاصرة:
في الفصل الثالث يستكمل الكتاب استعراضه لأفكار “المحدثين” حول “الدولة”؛ منتقلاً من رؤاهم حول “الدولة الإسلامية التقليدية” إلى رؤاهم الخاصة بـ”الدولة العربية المعاصرة”. فبدءا مما أسماه “عصر النهضة”: مطلع القرن الميلادي الثامن عشر، لاحظ طابعا “توحيديّا” على الفكر العربي آنئذ، وإن اختلفت مادة هذا “التوحيد” بين: الدين، المجتمع العضوي، الأرض، اللغة، مشيرًا إلى أن هذا الفكر البكر لم يتناول ساعتئذٍ موضوع “الدولة” هكذا بصورة مباشرة، رغم تجربة “دولة الباشا العملاقة” وتجربة “التنظيمات”.
إن تفسير ذلك – فيما يتفق فيه الكتاب مع أومليل والجابري وابن دور- أن المفكرين العرب لم يتعرفوا في بادئ الأمر على “الدولة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة”، وأن العرب اهتموا – عند تحليلهم لتفوق الغرب وأزمة العرب- بالتطلع إلى ما يمكن تسميته بـ”مظاهر السلطة”، أكثر مما اهتموا بإدراك مرتكزاتها (أي جذورها الاجتماعية الاقتصادية، وصياغاتها الفلسفية والقانونية)، أو على نحو ما عبر البعض من أن العرب استوعبوا سريعا المظاهر الهيكلية وعمليات “التبرقط”، غير أن مفهوم “الدولة” نفسه ظل غائبًا عندهم.
يمضي الكتاب في ذات المسار النقدي؛ ليتبنى رؤية عبد الله العروي من أن “الدولة” لم تكن قضية مطروحة في الفكر السياسي العربي “التقليدي” إلا في صورة “طوبى”، فيما هي في العصر الحديث حقيقة هيكلية قارة في الواقع العربي: هيكلا أجوف بلا روح، “جهازا دون نظرية”.
وفيما وصفه بأهم محاولات معالجة قضية “الدولة” التي كتبت باللغة العربية، يؤكد الكتاب على نظرة وضاح شرارة لواقع “الأزمة” بين الدولة العربية ومجتمعها؛ والتي يرجعها شرارة – باختصار- إلى قيام الدولة -من ناحية- بالتعبير الأمين عن المصالح الضيقة المباشرة لفئة محدودة من المجتمع، وقيامها – من الناحية الأخرى- بخلق وهم سياسي بأنها تعبر عن مصلحة عامة وفكرة جامعة. والنتيجة -كما ألمح شرارة- هي أن قوى الاختلاف داخل الدولة العربية لم تجد أمامها إلا أن تصير قوى مصادمة ومقاومة، وأن الدولة لا تتحول إلى الانسلاخ فقط عن المجتمع، بل إلى عزله والتسلط عليه أيضا: دولة-ضد-مجتمعية، تفرغ المجتمع المدني من مضمونه الاجتماعي ثم تسيطر على كل ثناياه وأنحائه؛ لتعيد صياغته على النحو الذي يناسبها هي.
يشير الكتاب إلى أهمية الطرح الاقتصادي والاجتماعي لقضية “الدولة”، منوها باجتهادات البعض من قبيل سمير أمين؛ ذلك على أساس أن الوحدة العربية المنشودة لن تتحقق لمجرد وجاهتها المنطقية كفكرة ولا لسموها المعنوي، وإنما تتحقق بتجمع القوى الوطنية الفاعلة من حولها، وببناء دولة رشيدة وعصرية تحتويها، ولن تكون هذه الدولة عقلانية وحرة وقوية ما لم يسهم المثقفون العرب بدور قائد في مناقشة قضايا بنائها وتطورها.
بهذه الدعوة المفتوحة للنقاش الجاد والفاعل يختتم الأيوبي كتابه الماتع هذا على إيجاز عبارته وصغر حجمه؛ بعد أن رسم خريطة معرفية للأفكار والأطروحات التي تعرضت لموضوع الدولة، إلا أن هناك عددا من الملاحظات تجدر الإشارة إليها في هذا المقام:
أن الأستاذ نصيف لم يقدم مفهومًا محددًا للدولة، سواء من قبل أن يشرع في استعراض الرؤى والأفكار حوله، أو بعد أن فعل ذلك، واقتصر على اقتراح أسلوبين يصح بهما استخدام مفهوم الدولة في الدراسات المقارنة.
كما أنه قد ركز على بيان “مشكلة الدولة” أكثر من أن يقدم حلولا لها، وبدا أنه قصد فقط إلى الاكتفاء باستعراض تنوعات الرؤى التي تبين جوانب المشكلة كخطوة أولية في سبيل الوصول إلى حلول لها.
وقد كان استعراضه لمظاهر المشكلة التي تمر بها الدولة استعراضًا متوازنًا إلى حد كبير؛ فهو قد أوضح الأزمة التي تمر بها الدولة على المستويات الثلاثة التي ذكرها دون تفاوت كبير بينها، إلا أنه قد يؤخذ عليه في الجزء المتعلق بدعاة الدولة النابعة من الحضارة الإسلامية أنه اكتفى بنموذج حامد ربيع -كما أشرنا- دون غيره ممن أسماهم بدعاة “الإسلام السياسي”، وكذلك كتابات طارق البشري وعادل حسين وفهمي هويدي، على الرغم من أنه كان من الضروري عرض أطروحات هؤلاء على النحو الذي عرض به غيرها من الآراء بدلاً من الاكتفاء بالإشارة إليهم (مع ملاحظة أن الكاتب قد أشاد في كتابه “الدولة المركزية في مصر” بمحاولات ذلك الاتجاه في التنقيب عن روافد أخرى لمفهوم الدولة بالعودة إلى التراث الإسلامي، ودعا إلى تشجيعها والتعاطف معها).
المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الدولة في العالم العربي والإسلامي: أنها دولة “مستوردة” فُرضت عليه فرضاً من الإمبريالية الغربية وتضخمت جدا تحت رعايتها حتى تحقق مصالحها وهيمنتها.
ويتصل بما سبق ما يلاحظه القارئ من أن الأستاذ نصيف قد اكتفى بالعرض الوصفي والتصنيفي لنصوص وآراء الآخرين والتعليق الواصل بين هذه العروض النصية؛ وهو ما يثير التساؤل حول مدى دقة وصف هذا العرض بأنه “عرض نقدي”، ويعطي فكرة غير صحيحة عن أنه ليست له اجتهادات شخصية حول هذا الموضوع، إذ إن للكاتب دراسات جادة وأطروحات عميقة حول الموضوع نفسه أوردها في كتاباته الأخرى، خاصة في كتابه “الدولة المركزية في مصر” -الذي سلفت الإشارة إليه- وكتابه “تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط” (باللغة الإنجليزية).
إن الإضافة الأساسية لهذا الكتاب -في نظرنا- أن من يطِّلع عليه يخرج وهو يشعر بأنه قد وضع يده على المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الدولة في العالم العربي والإسلامي، وهي أنها دولة “مستوردة” على حد تعبير الكاتب، (وكذلك برتران بادي”) فُرضت عليه فرضًا من الإمبريالية الغربية، وتضخمت تضخمًا شديدًا تحت رعايتها حتى تحقق مصالحها وتحافظ على هيمنتها. وأن الوضع الصحيح لمعالجة هذه المشكلة هو البحث عن الكيفية التي يتم بها وقف تغول هذه الدولة، وإعادة استقلاليتها من جديد. ولن نجد هذا الحل في إضفاء مشروعية كاذبة على هذه الدولة، سواء كانت مشروعية إسلامية أو قومية أو وطنية؛ إذ إن ذلك يزيد من هيمنتها وسيطرتها وتسلطها، ولكن الحل هو في تقديم النموذج البديل المستمد من الموروث الثقافي للأمة دون مفاصلة مطلقة مع النماذج الحديثة الأخرى.
* * *