أبحاث

نحو منظور إنساني لعلم الإنسان

العدد 148

بمناسبة بحث الشيخ ليث عبد الحسين العقابي، نعيد هنا نشر مقالنا “نحو منظور إسلامي لعلم الإنسان” والذي سبق نشره ككلمة تحرير في العدد 64 من هذه المجلة (مايو 1992م) عسى أن تتواصل الجهود نحو الاهتمام بهذا العلم.

المحرر

 

(1) من الأمور التي انتهت إليها ندوة نحو فلسفة إسلامية معاصرة (المسلم المعاصر العدد 57، يوليو 1990، ص173) الاهتمام بتأسيس نظرية إسلامية للإنسان كأحد المحاور الرئيسية في الفلسفة الإسلامية المعاصرة.

(2) وعلم الإنسان بالمفهوم الغربي شأنه شأن باقي العلوم الإنسانية بحاجة إلى تأصيل إسلامي لبيان المنظور الإسلامي له.

(3) ومن المعروف للدارسين أن علم الإنسان بمفهومه الغربي في مرحلة إفلاس، بعد أن تنبهت الأجيال المعاصرة من علماء الغرب إلى سخافة الأغراض التي نشأ من أجلها، سواء علم الأنثروبولوجي للتعرف إلى عادات الشعوب المستعمرة، أو التي يراد استعمارها، أو علم الأثنولوجي لدراسة الإنسان البدائي سعيًا إلى سد الحلقة المفقودة في نظرية داروين عن التطور، مما نجد تفصيله تحت عنوان أزمة علم الإنسان في كثير من الكتابات المعاصرة.

(4) ومما يلفت الانتباه عدم تطابق اسم هذا العلم (أنثروبولوجي أي علم الإنسان) مع المضمون الذي يهتم بدراسته، وسنرى أن القضايا الرئيسية والكلية المتصلة بالإنسان، والتي نقترح اهتمام علم الإنسان الإسلامي بها لا تدخل ضمن اهتمام العلم الغربي الذي يحمل هذا الاسم، ومحاولة علاج هذا الوضع هو أحد المداخل الرئيسية لموضوعنا.

(5) إن العلوم الإنسانية والاجتماعية، وما يتولد عنها باستمرار من علوم بينية inter-disciplinary بحاجة إلى “علم أم” يجمعها، ويؤسس فلسفتها، ويكون منطلقًا لها بحيث تنبثق عنه كافة العلوم الإنسانية الحالية والمقبلة.

إن النـزعة التجزيئية للإنسان، واهتمام كل علم بناحية جزئية فيه يُفْقِدُ الإنسان معناه الكلي المتكامل الشامل، مما يؤكد الحاجة إلى قيام علم كلي تجميعي يجنبنا التكرار في مقدمات العلوم الجزئية، بما يربطها بحقيقة الإنسان الشاملة الكلية.

(6) لقد اهتم المسلمون الأوائل بمثل هذه الدراسات الكلية للإنسان، وفي كتابيّ “تفصيل النشأتين” و”الذريعة إلى مكارم الشريعة” للراغب الأصفهاني، وكتاب “المقصد الأسنى” للإمام الغزالي أمثلة معتبرة في هذا الموضوع، كما أن اهتمامهم قد تعدى الدراسة الكلية للإنسان إلى دراسة عادة الشعوب، وفي كتب صاعد الأندلسي والبيروني والهمداني وابن جبير وابن بطوطة وابن خلدون أمثلة للدراسات المبكرة لأحوال الشعوب، وتحليل الفروق بين الأجناس وآثار البيئة عليها، وغير ذلك مما لم يتناوله علماء الغرب إلا بعد عدة قرون.

كما أن الكتاب المسلمين المعاصرين قد اهتموا كذلك بإبراز منظور الإسلام في الإنسان، ولعل من أبرز هذه الإسهامات ما كتبه محمد إقبال، والعقاد، وعبد المنعم خلاف، وسيد قطب، ومحمد قطب، وعائشة عبد الرحمن، وآمنة نصير، وأبو الوفا التفتازاني، وأبو اليزيد العجمي، وزكي إسماعيل، وعيسى عبده، وأحمد إسماعيل يحيى، وأكبر أحمد، وعبد المجيد النجار.

ويتميز ما كتبه عبد المجيد النجار بوضوح فكرة إنشاء علم جديد اقترح دعاماته وعناصره العامة، واهتم بتحقيق وشرح أحد الكتب التراثية الرائدة في الموضوع وهو كتاب “تفصيل النشأتين” للأصفهاني. ونورد فيما يلي الخطوط العريضة لأسس هذا العلم وعناصره التي نقترحها لهذا العلم الجديد:

أول أسس هذا العلم أن يكون كليًا، يجمع في شمول وتكامل الجزئيات المفككة التي تناثرت في العلوم المختلفة، وضاع مع تناثرها وَحْدة الإنسان ككائن له ميزاته الخاصة، ويستدعي هذا الجمع صياغة منظومة مترابطة من هذه الجزئيات.

وثاني هذه الأسس ألا يقتصر هذا العلم على الجانب الوصفي، وإنما ينبغي أن ينحو المنحى التنظيري والتحليلي.

وثالث هذه الأسس أن يكون علمًا يخاطب الناس جميعًا لا المؤمنين فحسب، وهذا يستدعي أن يجمع بين الأسس العقيدية والأسس العقلية، وأن يمزج بين المسلمات العقيدية والنظريات العلمية الحديثة في نسق واحد.

ورابع هذه الأسس أن يكون علمًا فوقيًا تتفرع منه العلوم الإنسانية الجزئية فهو منها بمثابة الأم، ويناظره في هذه الفوقية ما نتصوره – في تصنيفنا للعلوم – من ضرورة وجود منظور إسلامي لعلم كوني يكون بمثابة الأم للعلوم الطبيعية.

وخامس هذه الأسس أن يكون العلم المقترح علمًا ضابطًا للعلوم الإنسانية الجزئية، أي أن يكون لها بمثابة المقدمة والإطار المرجعي، ويناظره في ذلك وضع علم الكلام قديمًا بالنسبة لباقي العلوم الشرعية، وعلم أصول الفقه بالنسبة للفقه.

– وفيما يلي بيان بالمباحث والمجالات التي نقترحها لهذا العلم الجديد:

1- نشأة الإنسان:

نريد بحث نشأة الإنسان وتطوره، حيث نبحث في بدء نشأته، فنعرض لنظرية الخلق كما تصورها الأديان وللنظرية التطورية كما يقدمها الغرب، وما تقتضيه هذه الدراسة من التعرض لعوامل الوراثة، وللافتراضات التي تبحثها علوم الوراثة، والعلوم الأخرى دنيوية كانت أو دينية، مثل وجود أوادم أخرى قبل آدم أبي البشر، ومثل وجود مخلوقات عاقلة بالكواكب الأخرى غير الأرض، ومثل الأطوار التي مر بها خلق الإنسان ابتداء، وغير ذلك من المباحث.

2- تركيب الإنسان:

ثم نريد أن نبحث تركيبة الإنسان، ومكوناته من جسم ونفس وروح وعقل وقلب ولب وفؤاد، والتي بها يصير إنسانًا يفترق عن الجماد والنبات والحيوان والجن والملائكة مع بيان هذه الفوارق، ومع بيان تكامل مكونات الإنسان ووحدته كمخلوق منفرد، وما يقتضيه ذلك من بحث فطرة الإنسان والتقويم الذي خلقه الله عليه، وما طرأ على هذه الفطرة وهذا التقويم من تغيير، وما يتصل بذلك من القيم الإنسانية المفطور عليها هذا الإنسان.

وهذا يقتضي دراسة لسنن النفس كما جاءت في القرآن والسنة.

كما يتطرق بنا البحث إلى قدرات الإنسان في شتى المجالات الجسمية والفكرية والروحية وغيرها، وحدود هذه القدرات وضوابط هذه القدرات كذلك.

3- تنوع بني الإنسان:

تنوعهم إلى ذكر وأنثى، وتنوعهم إلى أجناس مختلفة (شعوب، وقبائل)، وتنوع لغاتهم، وبيان الغرض من هذا التنوع، وأنه التعارف والتعاون، لا الاستغلال والتصارع، وبيان علاقة الإنسان بغيره من بني جلدته، وما يقتضيه ذلك من تعرض لمسألة حقوق الإنسان وواجباته، وللمسائل الخاصة بالمرأة الإنسان، وكذلك بحث ما إذا كان لبعض الأجناس ميزة على الأجناس الأخرى، والتعرض لموضوع العنصرية، وبيان سنن الاجتماع التي وردت في الكتاب والسنة.

4- الهدف من خلق الإنسان:

نريد أن نبحث عن الهدف من خلق الإنسان، والرسالة التي أُرسل بها إلى الأرض، وما يتصل بذلك من بحث معنى العبادة والخلافة والعمارة وغيرها.

ويتصل بذلك موضوع التكليف، وشروط هذا التكليف، والخصائص التي انفرد بها الإنسان عن باقي المخلوقات بسبب هذا التكليف، وتكريم الله للإنسان.

5- علاقة الإنسان بالكون:

حيث نبحث في تسخير الكون للإنسان، وهل بذلك يكون الإنسان مركز الكون، وبأي معنى تكون هذه المركزية، وما يتصل بذلك من حيث التناغم والتوافق والانسجام بين الإنسان والكون بمفرداته وما يتصل بذلك من علوم البيئة.

6- علاقة الإنسان بالخالق:

كما نريد أن نبحث علاقة الإنسان مع خالقه، وهل التدين فطري في الإنسان؟ وعن دور النبوات في سياق هذه العلاقة، وكذلك دور الكتب المنـزلة، ودور العبادة كصلة يومية بين الإنسان وخالقه.

7- تخطيط إنسان للمستقبل:

ثم نريد أن نعرض لما يتصل بتخطيط الإنسان لمستقبله كجنس فنعرض لمسائل التخصيب الصناعي، والهندسة الوراثية، والإنسان الآلي، وغير ذلك من المسائل.

8- الإنسان بعد الموت:

وأخيرًا أن نعرض لما ينتظر الإنسان بعد موته، وما يلزمه من إعداد خلال رحلة الحياة الدنيا للحياة الأخرى بعد الوفاة.

ولعلنا بذلك قد أوضحنا أننا نريد علمًا إسلاميًا أصيلاً متحررًا – من ناحية – من المضمون الغربي للأنثروبولوجيا، ومتحررًا – من ناحية أخرى – من ردود الأفعال لعلم الأنثروبولوجيا الغربية.

هذا مع التأكيد – من ناحية ثالثة – على أهمية إدراج موضوع الإنسان ضمن مباحث علم العقيدة، والفلسفة الإسلامية مع الاستفادة من تجربة جامعة الأمير عبد القادر في الجزائر، والكلية الزيتونية في تونس في هذا الصدد.

* * *

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر