(1)
تحديد وضبط:
الحكم الشرعي نوعان: تكليفي يرتبط به وصف الفعل الذي يدور- عند جمهور الأصوليين- بين الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وحكم وضعي يتعلق بوجود السبب، وتوافر الشرط، وتخلف الموانع، وكلها تتم في عالم الواقع إرادية أو غير إرادية. وفي منطقة الحكم الوضعي يأتي مبحث تحقيق المناط باعتباره اجتهادًا في التطبيق لا يقبل الانقطاع باتفاق العقلاء والفقهاء على السواء.
وتحقيق المناط يقوم بتجسير الفجوة بين خطاب النص الذي يتسم بالعمومية والتجريد شأنه شأن أي خطاب تشريعي، وحركية الوقائع التي تتفاعل وتتلاقى مع التعيين الزمني والمكاني، ومع التحديد الإنساني، فعالم النص يتميز بالإطلاق والثبات، وعالم الواقع يتسم بالنسبية والتغير، وتحقيق المناط هو في التحليل الأخير آلية أصولية لتنـزيل الأحكام الشرعية. وفكرة المآل ترتبط عضويًا بتنـزيل الحكم واقعيًا، يقول الشاطبي- تعبيرًا عن الصلة بين الحكم ونتائجه-: «فإن الأعمال- إذا تأملتها- مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هي مقصود للشارع، والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات»، وهذا ما دفعني إلى تعريف المآل- في كتابي «مآلات الأفعال في المصطلح المقاصدي»- بأنها «أصل شرعي يربط مشروعية الفعل وجودًا وعدمًا بنتائجه وفق مقاصد الشارع لا مقاصد المكلف»، فإذا كان الحكم يتجه نحو المصالح التي هي «المقاصد والغايات شرع الحكم بمقدار ما يناسب هذه المقاصد المقررة، أي على ضوء تلك النتيجة والمآل يطلبه الشارع أو يمنعه، ومن هنا كان تخصيص النص بالمصلحة، وتقييد مطلقه، واستثناء حكم الواقعة من أصل عام بالنظر إلى المآل».
وهذا الارتباط الحتمي بين المقصد والمآل، لا يعتبر في تقديري جزءًا من تحقيق المناط أو تطبيقًا له، إنه يمثل- في نظرتنا الأصولية- التجسيد الحي لارتباط الحكم التكليفي بالحكم الوضعي، طبقًا لقواعد السببية الشرعية، ولعل هذا التحليل يكشف عن جغرافيا تنـزيل الحكم الشرعي بين الخصوصية الواقعية التي يعتمد فيها أساسًا منهج تحقيق المناط باعتباره تنـزيلاً على واقعة محددة، وشخص معين، بما له من ظرفية زمانية ومكانية وشخصية، وبين العموم الذي يتحرك فيه اعتبار المآل ليشمل ظرفًا عامًا يغير من أوصاف الواقع الاجتماعي باعتباره المحل الذي تتنـزل عليه الأحكام الشرعية، وهنا تكمن أهمية المآل لأنه يفتح العقل الاجتهادي على دروب غير مألوفة، قلّ سالكها، لا تفضي فقط إلى استثناء من حكم بل تفضي في الأغلب الأعم الإلغاء والإرجاء وكلها مفردات لمبدأ التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية من منظور أصولي يسمح بالتطبيق الجزئي للأحكام الشرعية بهدف الوصول إلى التطبيق الكلي. فاعتبار المآل نظر في النتائج بالمفهوم المقاصدي، وتحقيق المناط نظر في العلل بالمفهوم القياسي، ومن هنا نعتمد تعريف الآمدي في «الإحكام» لتحقيق المناط بأنه «النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور، بعد معرفتها في نفسها، وسواء أكانت معروفة بنص، أم إجماع، أو استنباط»، أو هو بعبارة «الشاطبي» بحث في «تعيين المحل». والبحث في العلة دائمًا نسبي، والبحث في المآلات يعتبر قسيمًا للقطعي، إذا اعتبرنا القطعية في المقاصد التي هي جزء من أصول الفقه الذي اعتبره «الشاطبي» من القطعيات كما جاء في مقدمات «الموافقات»، وهي من المسائل الدقيقة التي أكثر ابن عاشور من الاعتراض عليها في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية»، في الوقت الذي أيد «الشاطبي» من المحدثين في القول بقطعية أصول الفقه «عبد الله دراز» و«محمد الخضر حسين» في تعليقاتهما على «الموافقات»، ويرى الدكتور «أحمد الرسيوني»: «أن الخلاف في هذه القضية يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النـزاع فقط، فالقائلون بأن أصول الفقه قطعية، لا تحتمل الظنيات- ومنهم الشاطبي- يقصدون (أصول الأدلة والقواعد الكلية للشريعة ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاجتهادات التطبيقية، ليس من (أصول الفقه) وإن بحث في علم أصول الفقه حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات، ودليل ظنيتها، كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى الشاطبي إلى إقصائه من (أصول الفقه)، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن أصول الفقه قطعية لا ظنية».
وتحقيق المناط هدفه وصف الوقائع وصفًا صحيحًا حتى يمكن قيدها تحت حكم شرعي تعتبر من مفرداته في منظور اجتهاد الواقع، وبالتالي لا أرى أهمية لقيد العلة المراد إدراكها في المحل بالخفاء كما يرى «الطوفي»، وبكونها محلاً للنـزاع كما يرى «الإسنوي» لأن الهدف في كل الأحوال تنـزيل الحكم على الواقعة بعد وصفها الذي قد يكون واضحًا، وقد يكون مبهمًا، فالجزئية الواضحة، والجزئية الخفية يحتاجان إلى وصف الفعل، قبل قيدهما تحت حكم وهذا جوهر تحقيق المناط، ومن هنا لا يرتبط تحقيق المناط- باعتباره ضرورة عقلية وشرعية- بالأعلمية فهو كما يقول الشاطبي: «لابد منه لكل ناظر أو حاكم أو مفت، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه» فتحقيق المناط يمر بمراحل ثلاث:
الأولى: النظر في المحل، وهو ضروري لفهم الخطاب.
الثانية: تعيين علة الفعل، وهو لازم لمعرفة حكم الواقعة.
الثالثة: لزوم الحكم بعد معرفة مناطه، وهو مرتبط بالامتثال لحكم الله.
وفي إطار منظومة المصطلحات التي أشار إليها العلامة «عبد الله بن بيه»، يمكن القول إن تحقيق المناط ينتمي إلى ما أسماه «فقه الوقائع»، وأن المآلات تنتمي إلى فقه الواقع وفقه التوقع، وأن القاسم المشترك بينهما هو فقه التنـزيل في خصوصه وعمومه بحيث يمكن القول إن فقه التنـزيل يتعلق بالمجالين الآتيين:
المجال الأول: فقه الوقائع:
وآلياته تحقيق المناط، وتخريج المناط. ومن قواعده «سد الذرائع وفتحها»، و«إعمال الحيل»، و«مراعاة الخلاف».
المجال الثاني: فقه الواقع والتوقع:
وآلياته اعتبار المآل، وتفعيل المقاصد الكلية. ومن قواعده «قاعدة الأمور بمقاصدها»، و«قاعدة لا ضرر»، و«قاعدة المشقة تجلب التيسير».
فالمجال الأول وهو فقه الوقائع هدفه الرئيسي توصيف الواقعات أي معرفة عناصرها.
والمجال الثاني وهو فقه الواقع والتوقع غايته الرئيسية تكييف الواقعات بعد معرفة نتائجها.
أما فقه التنـزيل: فغايته إصدار الحكم على الواقعات، فهو يضم التوصيف الذي مجاله فقه الوقائع، والتكييف الذي مجاله فقه التوقع والواقع، وميدانه الرئيسي وصف الواقعات وقيدها تحت حكمها اللازم دينيًا والذي يجب الإلزام به دنيويًا.
ومن خلال هذا الضبط والتحديد أتكلم عن أنواع التدرج تأجيلاً وتعليقًا كما يفرضه المآل وكما يوجبه تحقيق المناط.
(2)
قلنا إن التدرج هو التطبيق الجزئي للشريعة الإسلامية بهدف الوصول إلى التطبيق الكلي، وصلاحية التطبيق الكلي تستمد من شروط ينبغي أن تتحقق ومن موانع يجب أن تزول، والفرد والجماعة في ذلك سواء، والتدرج في حق الفرد تحكمه قواعد الضرورة، وهو ما أشار إليه الإمام «الجويني» في كتابه «غياث الأمم» بقوله: «إن الحرام إذا طبقَّ الزمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلا، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا يُشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس بل الحاجة في حق الناس كافة تنـزل منـزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة»(1).
أما التدرج في حق الجماعة فتحكمه قاعدة عموم البلوى وهي قاعدة غنية بالتطبيقات خاصة في مجال الفقه الحنفي.
ومناط التدرج هنا ليس هو عدم القدرة التي هي شرط التكليف- كما يظن البعض- بل هو الإخلال بمقاصد الشريعة الإسلامية وقواعدها الكلية إذا تم تطبيقها رغم عدم توافر الشروط، ووجود العوائق والموانع.
وأنواع التدرج ثلاثة هي:
1- الإنهـاء.
2- الاستثناء.
3- الإرجـاء.
النوع الأول: الإنهـاء:
كما يتأخر البيان إلى وقت الحاجة، فإنه يتقدم أيضًا لوجود الحاجة، وقد وُجدت أحكام في الشريعة الإسلامية يبدو خطابها عامًا، وتشريعها مستمرًا، إلا أنها عند التناول الدقيق تتعلق بعادات موجودة، وتشريعات محدودة يسعى الإسلام إلى التخلص منها؛ لأنها ليست على وفاق مع مبادئه، بل ربما كانت ضد قواعده الكلية التي تحكم الحياة الاجتماعية، ومثال ذلك نظام الرق في الإسلام، والرق نظام اجتماعي معترف به قديمًا فكريًا وتشريعيًا، تجد تنظيرًا له في كتابات «أفلاطون» خاصة في كتابه «القوانين»، وفي مؤلفات «أرسطو» وعلى الأخص كتاب «السياسة». ولم يكن ذلك النظام مما انفرد به اليونان بل وُجد عندهم وعند غيرهم من شعوب الشرق والغرب، فلم يكن هيّنًا إلغاؤه بجرة قلم، أو بنصوص تشريع، ولكن الإسلام تدرج في مراتب النهي عنه، وسلك مسالك عدة تصل به إلى عدم الوجود الواقعي، بما يؤدي إلى إنهاء الخطاب التشريعي المتعلق به.
إن الحرية أصل من أصول الإسلام، والإنسان يولد حرًا بفطرته، والإسلام دين الفطرة، والحرية ضد العبودية، ومن هنا عمل الإسلام بكل طريق من أجل إلغاء الرق عمليًا، فجعل تحرير الرقاب جزءًا من نظامه الأخلاقي، وقسمًا من أقسام نظامه الجنائي، بل ونظامه التشريعي بعامة، وحرَّم استرقاق المدين، وجعل قاعدة الغارمين النظرة إلى ميسرة، وقال بحرية الإنسان عند التخاصم عليه بين طرفين أحدهما مسلم يقول إنه عبدي، وثانيهما غير مسلم يقول إنه ابني، فيقضى ببنوته لغير المسلم إعلاءً لقيمة الحرية، وسدًّا لأبواب العبودية.
وفي يوم الناس هذا وقد أصبح تحريم الرق قانونًا عالميًا، المسلمون هم أول من يتوافق معه لأنه من أوامر شريعتهم، ومن غايات خطابهم الشرعي، وأية صورة من صور العبودية توجد اليوم- بالرضى أو بالإكراه- فإن الإسلام يحرمها معلنًا انتهاء أحكامه المتعلقة بمعاملة الرقيق ليصبح حكمه الدائم هو تحريم الرق. وقد يتساءل البعض حول إمكانية العودة إلى الرق ولو من باب المعاملة بالمثل، والرأي عندي أن الرق بكل أنواعه أصبح جزءًا من خطاب التحريم الديني، ومن خطاب التجريم التشريعي، ونظرتنا إلى ارتكابه عند غيرنا تستوجب المنع والردع باعتبار المعصية فيه، ولا تستدعي المعاملة بالمثل باعتبار الإباحة القديمة.
ويتعلق بإنهاء نظام الرق، كل أنظمة الجواري والإماء، وما أُطلق عليه ملك اليمين، لأن الأصل في الإنسان أنه معصوم، وهي عصمة تحول دون اتخاذه محلاً للبيع والشراء، وتمنع أن يكون عبدًا لغير الله.
وفي عبارة موجزة فإن التدرج في أحكام الرقيق يستهدف الإلغاء لا الإبقاء، والإنهاء لا الاستدامة، ومناط التدرج هنا مرتبط بغياب المحل، لأنه غياب- من منظور الشرع- دائم لا مؤقت.
النوع الثاني: الاستثناء:
وهو يعني مراعاة الأحوال والظروف عند تنـزيل الأحكام الشرعية، بما يقتضي تغيير هيئة الحكم، أو إحلال غيره مكانه.
فالأصل في الحدود أنها عقوبات مقدرة، لها هيئة ضبطتها السنة، ولها عدد حدده النص القرآني.
فالمائة جلدة في عقوبة الزنى الأصل فيها التفريق أداءً لتكون واحدة واحدة، والتفريق مكانًا لتشمل كل الجسد عدا ما يؤدي إلى هلاك النفس، أو تشويه الخلقْ.
روى الإمام «أحمد» في مسنده رواية قال «ابن حجر» إن إسنادها صحيح، روي عن «سعيد بن سعد ابن عبادة» -رضي الله عنهم- قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف فخبث بأمة من إمائنا فذكر ذلك سعيد لرسول الله r فقال: «اضربوه حده» فقالوا: يا رسول الله إنه أضعف من ذلك، فقال: خذوا عثكالاً- غصن صغير- فيه مائة شمراخ- أي فرع- ثم اضربوه به ضربة واحدة».
قال «ابن الأمير الصنعاني» في «سبل السلام»: «وفي الحديث دليل على أن من كان ضعيفًا لمرض ونحوه لا يطيق إقامة الحد عليه بالمعتاد، أقيم عليه بما يحتمل مجموعًا دفعة واحدة من غير تكرار للضرب» وإلى ذلك ذهب جمهور الفقهاء، فإلغاء التكرار هنا استثناء لظروف توافرت في الجاني؛ لأن الضرب هنا يُقصد به التأديب لا الهلاك.
والاستثناء هنا ليس خاصًا بفقه المعاملات بل يجري في العبادات أيضًا، فقد أفتى «ابن قيم الجوزية» في «إعلام الموقعين» باستثناء المرأة الحائض من شرط الطهارة للطواف حول البيت إذا خافت فوات الرفقة، مع أن الجمهور على منع طواف الحائض لقول رسول الله r لعائشة لما أصابها الحيض في حجها كما رواه البخاري في كتاب الحج: «افعلي كما يفعل الحاج غير أنه لا تطوفي بالبيت حتى تطهري».
وتعليل فتوى «ابن القيم» أن أمراء الحج كانوا ينتظرون الحيض حتى يطهرن، فلا يخشى عليهن من ترك الرفقة، وهو ما لم يتوافر في عصر «ابن القيم» فراعى حاجة المرأة إلى الأمن والحماية، فرخص لها بالطواف واستثناها من شرط الطهارة.
وقد اختار «ابن القيم» من بين البدائل التي عرض كاحتمالات عقلية ترد في هذه الحال، الاحتمال الثامن الذي يقول بل تفعل- أي المرأة الحائض- ما تقدر عليه من مناسك الحج، ويسقط عنها ما تعجز من الشروط والواجبات، كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص، وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو لمرض بها، وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي، إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه، وكما يسقط فرض القيام والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام، ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقًا».
فنحن هنا أمام استثناء عام تفرضه الظروف وتقبله مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، وله نظائر كثيرة في الأحكام الجزئية.
النوع الثالث: الإرجـاء:
الأصل في الأحكام الشرعية أن تطبق عند وجود أسبابها، وتوافر شروطها، وانعدام موانعها بغير إبطاء أو تأجيل، إلا أن الأحكام لا تطبق في الفضاء، أو معلقة في الهواء، وإنما تتنـزل على واقع فيه ما فيه من الأحوال والظروف والخصوصيات، بما يجعل التطبيق الفوري عبئًا على دعاة الإصلاح، وبعيدًا عن مقاصد الشريعة، ومصدرًا للحرج الخاص، والعنت العام، ومعه تختلف الأحكام وتتغير الفتاوى، فقد روى «أبو داود»: «أن النبي r نهى أن تقطع الأيدي في الغزو».
وغاية التأجيل هنا منع مفاسد اللحوق بالعدو، وجمهور فقهاء المذاهب الباقية والدارسة على أن الحد لا يقام على مسلم في أرض العدو، وهذا وقف للتطبيق في الزمان باعتبار الحرب، ووقف للتطبيق في المكان باعتباره أرض عدو أو أرض معركة.
وقد روى «سعيد بن منصور» في «سننه» عن «الأحوص ابن حكيم» عن أبيه أن «عمر بن الخطاب» كتب إلى الناس ألاَّ يُجلدَّن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحقه بالكفار.
وقد روي أن «الوليد بن عقبة» شرب الخمر وهو على رأس الجيش في أرض الروم، فأراد الجيش أن يحده فقال «حذيفة بن اليمان»- وكان معهم-: «أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟».
هكذا وازن الصحابة بين المفاسد والمصالح في إقامة الحدود، وتطبيق العقوبات، بين التعجيل الضار، وبين الإرجاء المفيد، فاختاروا ما تقتضيه المصلحة.
والإرجاء هنا يشمل العبادات والمعاملات، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففُتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها».
لقد تم إرجاء الصلاة- وهي ذات ميقات محدد- إلى غير وقتها حتى لا تشغلهم الصلاة عن دخول المدينة، وحتى لا يستثمر الأعداء انشغالهم بالصلاة فيهجموا عليهم، وهذه موازنة بين مصالح يفوت تداركها، وأخرى يمكن تداركها، فانشغلوا بالفتح والجهاد وهي مصالح يفوت تداركها، عن الصلاة في وقتها وهي مصالح يمكن تداركها بالقضاء بدلاً من الأداء.
وقد يقال- وهو ما ذهب إليه «ابن تيمية»- أن هذا من باب تزاحم الواجبات فيقدم الأوكد متى استحال الجمع، فكأن تأخير الواجب مناطه عدم الوجوب في الحال، فصورته التأجيل، وحقيقته التزاحم.
والرأي عندي أن التزاحم بين واجبين لا يمكن الجمع بينهما فرض تعجيل الأوكد وتأجيل الآخر، وهذا إرجاء حقيقي لا ظاهري.
وكما يحدث التزاحم في الواجبات ويترتب عليه التأجيل، فإن التزاحم يكون أيضًا في المحرمات ويترتب عليه الإرجاء.
فالتدرج في تطبيق الشريعة إذن مبدأ شرعي، وحاجة واقعية، يستوعبه في الجانبين سلطة السياسة الشرعية التي يملكها ولي الأمر، خاصة وأن القوانين تتأبى على التطبيق الفجائي، يقول أستاذنا الدكتور «عبد الحميد متولي» في كتابه «الشريعة الإسلامية كمصدر أساس للدستور»: «إذا نظرنا في تاريخ الأنظمة والمذاهب تبين لنا أن الكثير منها تأخذ بسنة التدرج، وأن مراعاة هذه السنة في مقدمة عوامل ما كُتب لها من نجاح، وأن عدم مراعاة البعض لتلك السنة يُعد في مقدمة عوامل ما كُتب على بعض الأنظمة من إخفاق وانهيار، وعلى بعض المذاهب من اندثار أو عدم انتشار،… إن الطفرة في ميدان المذاهب أو الأنظمة الاجتماعية أو السياسية تُعد طريقًا وعرًا لا تؤمن عواقبه، وتكثر شروره ومتاعبه».
وكما يقول العلامة «يوسف القرضاوي» وهو يتحدث عن التدرج في كتابه «فقه الأولويات»: «هذه السنة الإلهية في مراعاة التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس عندما يُراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة بعد العصر الفني والثقافي والتطبيعي والاجتماعي للحياة الإسلامية،… فإذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًا حقيقيًا، فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان، إنما يتحقق بالتدرج، أعني: بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية، والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة التي قامت عليها مؤسسات عدة لأزمنة طويلة».
ويقول الدكتور «عبد الرحمن حبنكة الميداني» في كتابه «الشريعة الإسلامية بين التدرج في التشريع، والتدرج في التطبيق»: «لم تتوقف سياسة التدرج في التطبيق، إذا كان حال الناس يقتضي ذلك، في اجتهاد أهل العقل والرشد والحكمة، فباستطاعة الحكماء الفقهاء، من ذوي السلطة الإسلامية، الأخذ بسياسة التغاضي عن تطبيق بعض الأحكام الشرعية، اتباعًا لسنة التدرج في التطبيق، ولا يعتبر تأجيل التطبيق بالنسبة لبعض الأحكام الشرعية، التي ترُج استقرار المجتمع، من خيانة الأمانة في الإمارة أو رقة الدين والاستهانة به… بشرط صحة العزم على التطبيق، بعد استيفاء الشروط المواتية له في المجتمع، مع العمل على اتخاذ الوسائل التمهيدية التي تحمل التطبيق أمرًا حكيمًا ميسورًا، … دون إحداث قلقلة واضطراب في المجتمع».
ويقول الدكتور «عجيل النشمي»- وهو فقيه أصولي كويتي-: «إن تقنين أحكام الشرع ليس بالأمر الصعب… ولكن القضية في إنـزال هذه الأحكام على الواقع.. وهذا يجعل قضية التدرج حتمية في هذا الشأن»، ويقول: «في الواقع إن التطبيق لنصوص الشرع دون تهيئة ولا تدرج هو في الحقيقة تعطيل للنص، لأنه إعمال له في غير محله مما يترك آثارًا سلبية ليست من غاية الشرع لا ريب، بل يعود على أحكام الشرع بالنقض»، ويقول أيضًا: «إن تطبيق التشريع الإسلامي يحتاج إلى وعاء إسلامي يزاول فيه أحكامه، بمعنى أنه يحتاج إلى أوضاع أسرية واجتماعية إسلامية يعالجها، ويضع الحلول لمشكلاتها».
ويقول «المودودي» في كتابه «القانون الإسلامي وطرق تنفيذه»: «إذا كنا نريد حقًا أن يحالفنا التوفيق في إلباس هذه الفكرة حلة العمل والتنفيذ، لا ينبغي أن نغفل عن قاعدة للفطرة لا تقبل التغيير، هي أنه لا يحدث الانقلاب في الحياة الاجتماعية- وفي مقدمتها الحياة التشريعية- إلا بالتدرج».
والرأي عندي أن التدرج في تطبيق الشريعة يبدأ بالتعليم والتفهيم قبل التشريعات والتنظيم، وقرار التطبيق الفوري يكون فيما يتعلق بالإفهام ثم يأتي بعد ذلك الإلزام، ولا يكون إلزامًا في كل الدوائر، وإنما ينطلق من دائرة إلى أخرى وفق نجاح التفهيم والتعليم، لأن النظم الإسلامية يساند بعضها بعضًا، ويهيئ بعضها لبعض، وفي تجربة النبوة إدعام لذلك.
روى «البخاري» و«مسلم» عن «ابن عباس» رضي الله عنهما: أن النبي r بعث معاذًا إلى أهل اليمن فقال: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم…».
إن التدرج للتهيئة منهج إسلامي عام له تطبيقاته في عصر الرسول r، وعصر الصحابة، وله كلمات مضيئة وردت في سيرة عمر بن عبد العزيز، وهو يحاور ابنه، يقول الابن: «يا أبت ما لك لا تنفذ الأمور؟ والله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق».
يقول عمر بن عبد العزيز: «لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعونه جملة، ويكون في ذلك فتنة».
هذا هو التدرج وهذه أهميته وشرعيته، وإن رفض فكرة التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية- كما يقول د. «محمد أبو الفتح البيانوني» في كتابه «معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية»-: «من العوائق الفكرية أمام تطبيق الشريعة الإسلامية، أن بعض المسلمين الحريصين على تطبيق الإسلام، والداعين إلى الأخذ به كاملاً غير منقوص، يرفضون عمليًا أسلوب التدرج في تطبيق تلك الأحكام الشرعية، ويطالبون بتطبيقها دفعة واحدة دون تدرج عملي، ويستعجلون الخطوات في سبيل ذلك، مما يجعل عملية التطبيق في بعض المجتمعات الإسلامية… صعبة وعسيرة عمليًا، أو مستحيلة غير ممكنة، ولو في تصور بعض القائمين عليها والمسئولين عنها، ولو تفكر هؤلاء في حقيقة الأمر، لعلموا أن التدرج من مناهج وأساليب هذا الدين وخصائصه من جهة، وأن موقفهم يُعد في نهاية الأمر معوقًا من تلك المعوقات وهم لا يشعرون، من جهة أخرى».
خلاصة القول أن تطبيق الشريعة الإسلامية مطلب عام لجماهير الأمة، لأنه من الواجبات الفردية والجماعية، والواجبات لا تسقط إلا بالأداء.
والتدرج في التطبيق يفرضه المآل المتعلق بالأحكام، فخلال أكثر من قرنين من الزمان أجبر التشريع الإسلامي على إخلاء حاكميته لصالح قوانين مستجلبة في ظل واقع يُنَظّر له تحت رايات فصل الدين عن الدولة، واستبعاد الشريعة وفقه الإسلام من الحياة القانونية، لم يكن ذلك لضمور الاجتهاد فحسب، بل إن العزل- بالدرجة الأولى- جاء بقرار سياسي ولأهداف استراتيجية، ولصالح قوى معادية تكره الإسلام والوطن، وتكرس التخلف والتبعية، لم يكن غياب الإسلام وتغييب شريعته لقصور فيه، وإن كان بتقصير من علمائه وغيبوبة أصابت أهله.
إن العقل الإسلامي الحديث- فقهًا وفكرًا- قد صيغ على نحو غير إسلامي، وهذه الصياغة بقدر ما هي انفصال عن الإسلام وانحياز إلى خصومه، فإنها في الوقت ذاته لا تمثل اتصالاً حقيقيًا بالغرب في جانبه الإيجابي، فنحن في الحساب الأخير ابتعدنا عن الإسلام وخسرنا الحضارة، وفي ظل هذه الظروف غير المواتية يُستدعى الإسلام إلى الساحة، ولن يكون ذلك بقرار يطبق بين يوم وليلة، لأن التحولات الاجتماعية تستدعي تخلية الأرض من عقبات ثقافية وتشريعية وسياسية، ويأتي التدرج ليمثل الصيغة المثلى للعودة إلى الشريعة باعتبارها واجبًا شرعيًا، وباعتبارها هدفًا وغاية للقوى الصاعدة على المسرح السياسي المعاصر، والتدرج الذي نعنيه هو التطبيق الجزئي من أجل التطبيق الكلي للشريعة، أي أنه خطة عمل تعتمد تحقيق المناط وأصل المآل في الوصول إلى الاكتمال التشريعي.
والتدرج يعني اعتماد فقه المرحلة في التطبيق الجماعي وفي التنـزيل الفردي، فحزمة التشريعات الإسلامية لا حرج من تأجيل بعضها رفعًا للحرج، ودفعًا لمفاسد الفجائية في الضبط الاجتماعي دون تهيئة الأسباب، وتوفير الشروط، والتدرج هنا يتعلق بالأمر والنهي في الإلزام القانوني، ويبقى تعميم الثقافة الشرعية لتؤكد أهمية الفروع للأصول، وعدم «التبعيض» بين العقيدة والشريعة، ولا الفصل بين الدين والدولة، تلك مهام حالة تفرضها السياسة الشرعية الرشيدة، أعلم أن الأمر دقيق وهو مزلة أفهام وأقدام، ولكن صنع الحياة التي نعيشها على ضوء الشريعة الإسلامية تتطلب عقلاً مجتهدًا، وقلبًا سليمًا(2)، ومجتمعًا تمت تهيئته لاستقبال القوانين الإسلامية.
والحمد لله
الذي بنعمته تتم الصالحات،،
* * *
الهوامش
(1) الجويني – إمام الحرمين-: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، قطر، ط1، 1400هـ، ص478-479.
(2) محمد كمال الدين إمام، مآلات الأفعال في المصطلح المقاصدي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ط1، 2012، ص78-79.