كلمة التحرير

التاريخ الإسلامي في معامل النجارين!!

Islamic History in the Carpenter's Workshops - العدد 108

(1)

لحسن حظ البحث التاريخي موضوعاً ومنهجاً وعلماً أن تنحسر وتتعرى يوماً بعد يوم تلك النماذج السيئة من المعنيين بالتاريخ الإسلامي من داخل الأكاديمية وخارجها، والتي طفت على س طح البحث التاريخي والتدريس الجامعي في الربع الثالث من القرن العشرين على وجه التقريب.

وكانت هذه النماذج تندفع بعنف الإلصاق هذه الخصيصة أو الظاهرة أو تلك في جانب من جوانب تاريخ الإسلام، محمولة على جناحي التعميم والمسلمات التي قد تتهاوى لدى أي جدل أو تمحيص.

وعندما كنت طالبا في قسم التاريخ بكلية التربية في جامعة بغداد في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات التقيت بالعديد من هذه النماذج: أساتذة وأنصاف أساتذة ومعيدين جدا بالأحرى، صدمت وعدد من زملائي بهم، وهم يؤكدون المرة تلو المرة ما يعتقدونه هم صواباً مطلقاً رغم أنه قد يتناقض منذ اللحظات الأولى مع حشود الوقائع والحقائق الكثيفة المزدحمة التي يصطخب بها بمجرى التاريخ.

وكان بعضهم يتقبل الجدل، وينحني أمام الحقائق على قلة حيلتنا يومها كطلاب جدد على حقل التاريخ، ولكن أغلبهم كان ينفعل ويتشنج ويثور، وقد يدفعه ما يعتبره كرامة التخصص أو الأستاذية إلى أن يلف ويدور حول الحقائق وعلى حسابها من أجل أن يضيع المناقشين.

وبموازاة التدريس كانت الساحة التاريخية تشهد تياراً لا يقل عطاء وصخبا… إنه التأليف… حيث شهدت تلك الفترة سيلا مزدحما من المؤلفات التي نحت المنحى نفسه فوقعت في خطيئتي التعميم لما يتأبًي علي التعميم، والتسليم بقناعات قد تصدق حينا وتكذب في معظم الأحيان.

والدوافع عديدة ومكشوفة منها التأثر بمدارس الاستشراق والتغريب ومنها الضغط المذهبي أو الطائفي أو الحزبي، ومنها الظن والهوى الذي يشبع حاجة ما في بعض النفوس الملتوية…. ومنها… ومنها… وهي في كل الأحوال يمكن أن تتمحور عند كراهية الإسلام وتاريخه والسعي للتعبير عن هذه الكراهية المغطاة برداء العلم إلى طمس وكل ما هو أبيض في نسيج التاريخ الإسلامي، وتسليط الضوء على البقع السوداء وحدها لكي تبدو كما لو كانت هي وحدها سدي نسيج هذا التاريخ ولحمته.

وأسارع إلى القول بأن متابعة الغناء الذي أفرزته، ولا تزال، هذه الموجة تدريساً وتأليفاً، ومناقشته وتفنيد مقولاته، يكاد يكون جهدا في غير محله حيث مضى زمن الدفاع عن الإسلام عقيدة وشريعة وحضارة وتاريخا ضد هجمات الخصوم، فيما استنزف الكثير من الطاقات الفكرية الإسلامية حيث كان يمكن بدلا من ذلك، إعادة دراسة وتركيب الحقائق التاريخية لكي تتولى بنفسها إسقاط الدعاوى الباطلة، وحيث أن الدفاع وضع في دائرة الضوء العديد من الباحثين المغمورين الذين ما كانوا يملكون القدرة التخصصية على العمل الجاد الرصين في حقل التاريخ هذا، إلى أن منطوق الدفاع نفسه يضع المدافع في كثير من الأحيان في دائرة التهمة التي يحاول جاهدا تبرئة نفسه منها، فيبدو كما لو أنه يستعطف القضاة والحكام والشهود والمتفرجين على حد سواء لإعلان براءته!

ومع ذلك كله، فإن ثمة مقولات وأطروحات، قد تغري بالرد، ربما بسبب كثرة تردادها في ساحات التدريس والتأليف، ليس لأنها غدت في نظر قائلها حقائق مسلما بها، بل لأن حشود الطلبة والدارسين والقراء، أخذت تتعرض لما يمكن اعتباره عملية غسيل للمخ وفق المبدأ اللينيني الإعلامي المعروف : ” أكذب وأكذب وأكذب حتى يصدقك الناس! “.

ومن ثم فإن الصفحات التالية ” ستقف قليلا عند نموذج فحسب لأستاذ في التاريخ الإسلامي، كان يتدثر بالرداء الماركسي يوم كان هذا الرداء يحمي صاحبه من ضربات البرد، قبل أن يسقط الخياط نفسه وتصبح تصاميمه موديلاً متهرئاً عتيقاً منبوذاً.

وليس ثمة مبرر لذكر الأسماء، فهي ليست معركة شخصية للتشهير، كما أن من الخطأ – مرة أخرى – منح الخصم فرصة للظهور والتباهي عن طريق إتاحة المجال أمامه للدخول إلى حلبة الملاكمة وتسليط الأضواء عليه، والمهم هي المقولة نفسها التي تمثل بحد ذاتها مسلمة نمطية قالها وبشر بها عدد كبير من المعنيين بالتاريخ قبل هذا (الأستاذ) وبعده!

(2)

يقول الباحث في مقال له لمحلة (الثقافة الجديدة) بعنوان “نحو تاريخ جديد”([1]). وهو عنوان يحمل بحد ذاته خطأ موضوعيا وآخر منهجياً:

“يجب علينا أن نشير إلى صعوبة كبيرة تقوم في وجه الباحث في التاريخ الإسلامي هي أن الشخصيات الإسلامية أحيطت بقدسية وبخاصة الخلفاء؛ ذلك أن خصيصة هامة من خصائص المجتمع الإسلامي طبعت تاريخه بطابع لا محيد عنه هي أن الدين لم ينفصل عن السياسة طوال العصور الوسطي، ومن ثم يصعب أن نميز ما هو ديني عما هو دنيوي. لقد كان خليفة رسول الله (ص) ما يجمع في يديه السلطتين الدينية والزمنية، ومن هنا أحيط بهالة من القدسية لدى عامة المسلمين، وحتى الخلفاء الذين بلغوا أقصى حد من الانهيار والانحراف، ظلوا محاطين بالتقديس ما داموا يستمدون سلطتهم من الدين باعتبارهم منفذين للشريعة ومفسرين لكلمة الله، أما في الغرب فقد فصل الدين عن السياسة منذ البداية فكان ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وهكذا استقلت سلطات الأباطرة عن سلطات البابوات – بعد جدل طويل- منذ العصور الوسطى، إن دارس التاريخ الإسلامي من أجل ذلك لا يستطيع أن يتناسى هذه القدسية التي أضفيت على الخلفاء وغير الخلفاء، ولا يستطيع أن يجردهم من الهالة الدينية التي زادها مرور الزمن شدة وقوة. ومن ثم فنحن لا نستطيع أن ندرس الخلفاء الراشدين على غرار ما يدرس الأوربيون ملوكهم وأباطرتهم…”.

والقاري لهذا النص يجد خلطاً فجاً للأوراق لا يعقل أن يصدر عن دارس مبتدئ للتاريخ، فكيف بأستاذ جامعي، ولكنه إذا عرف أن هذا الأستاذ ليس (مسلماً) من ناحيتي الانتماء الفكري والديني على السواء، فإنه قد يدرك أن هذا الخلط ربما يكون متعمدا ويصير متعمدا معه قياس التجربة الإسلامية على التجربة النصرانية في العصور الوسطى، ومحاولة الكيل بمكيال واحد.. بل أكثر من هذا محاولة تغليب التجربة الأوربية، على ما فيها من أخطاء وردود فعل وطغيان وانحراف وفساد، واعتبارها معيارا يتحتم أن تقاس عليه الحياة الإسلامية بكل ما فيها من استقامة وتحرر وعدل وصلاح.

ومن حق الرجل أن يمارس لعبته تنفيسا عن حقد طائفي، أو تأكيدا القناعة فكرية قد تصدق وقد لا تصدق… من حقه أن يعتمد معايير الماركسية البائدة في البحث التاريخي، ويردد ما تقوله الموسوعات المدرسية أو الرسمية التي دأبت الأجهزة السوفيتية في بدايات تشكلها على إصدارها بصدد التاريخ والحضارة الإسلامية وهي تخاطب مستعبديها من الشعوب الإسلامية التي وضعت تحت قبضتها عبر انتقال الميراث القيصري إلى الشيوعية) في واحدة من أكثر عمليات غسيل المخ في التاريخ حدة وإلحاحا وتزييفا للبداهات…

من حق الرجل أن يمارس هذا كله، ولكن ليس من حقه أن يمرر محاولته هذه على العقل المسلم، فإن تكرارها – علي فجاجته – قد يرسب هناك شيئا من كدرها وطينها.

(3)

إن مفردة “القدسية” التي يقول الرجل أن الشخصيات الإسلامية، وبخاصة الخلفاء قد أحيطت بها، قد لا تعني شيئا على الإطلاق إن لم تضبط وتحدد تحديدا دقيقا، ومن ثم فإن إطلاقها على عواهنها قد يكون نوعا من التعميم الذي هو نقيض البحث العلمي الجاد… ابتداء.

فإذا أريد بالقدسية : العصمة أو التنزيه عن الخطأ والنقد والاعتراض، وهذا هو الراجح، فإن الشخصيات الإسلامية، بما فيها الخلفاء، كانت تحتها رأيها فتصيب وتخطئ، وكلنا يذكر عبارة مالك بن أنس كه “كل بني آدم يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر ” ويعني النبي المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، بل إن الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) قالوها مرارا وأعلنوها تكرارا : إنهم جاءوا لكي ينفذوا أمر الله، ويلتزموا شريعته المتضمنة في كتاب الله وسنة رسوله، فإن أصابوا فيها، وإن أخطأوا فإن من حق الأمة التي ارتضتهم أن تقومهم وتردهم إلى الطريق.

وكلنا يذكر خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي استهل بها خلافته ” أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني…، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم!! ” ويذكر خطبة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : ” ولست أدع أحدا يظلم أحدا حتى أضع خده على الأرض ثم أضع قدمي على الحد الآخر، ثم إني أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف”.

ويذكر غير هذا وذاك الكثير من الوقائع في هذا الاتجاه. قال حذيفة بن اليمان، دخلت على عمر بن الخطاب -يوما- فرأيته مهموما حزينا، فقلت له : ما يهمك يا أمير المؤمنين قال : إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيما، فقلت : والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك!! ففرح عمر وقال : الحمد لله الذي جعل لي أصحابا يقوموني إذا اعوججت!

ويوما صعد على المنبر وقال : يا معشر المسلمين ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا، فقام إليه رجل فقال : أجل كنا نقول بالسيف كذا وأشار بالقطع) فقال عمر : إياي تعني بقولك؟ أجاب الرجل: نعم، إياك أعني بقولي! فقال عمر : رحمك الله، الحمد الله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني!

وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل : اتق الله، فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ قال عمر : دعه، فليقلها لي، نعم ما قال، لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها!

ويوما نادي : الصلاة جامعة.. فلما اجتمع المسلمون صعد المنبر وقال : أيها المسلمون لقد تذكرتي وأنا أرعي الحالات لي من بني مخزوم فيقبضني القبضة من التمر أو الزبيب، ثم نزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف : ماذا أردت بهذا يا أمير المؤمنين ؛ فأجاب : ويحك يا ابن عوف، لقد خلوت إلى نفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين وليس بينك وبين الله أحد، فأنت أعلى الناس، فأردت أن أعرفها قدرها!

وعثمان بن عفان به، وقف فيما يحدثنا الطبري يدافع عن نفسه أمام جماهير الثائرين ويدلي بحججه واحدة تلو أخرى، وأبي أن تسفك من أجله قطرة دم واحدة، فضلا عن أن يحتمي – وحاشاه – بقدسية مزعومة تضع بين خلفاء رسول الله وبين جماهير أمتهم سدا وتدمر حقهم في الاعتراض.

وعلي بن أبي طالب ته وقف متهما جنبا إلى جنب مع المدعي عليه، وهو أمير المؤمنين، والمدعي يهودي من غير أبناء الأمة المتفوقة يقف قبالة القاضي لكي يدفع عن نفسه التهمة([2]).

وعمر بن عبد العزيز رحمه الله يعلن عن جائزة قدرها ثلاثمائة دينار لكل من يقطع الطريق الطويل ويجيء إلى دمشق لكي يقول هناك كلمة (الحق) في مواجهة أمير المؤمنين([3]). وهذا يكفي.

والراشدون ها هنا يتجاوزون ما يسمي بالديمقراطية التي عرفها الغرب والتي كانت في كثير من الأحيان لا تعبر سوى عن مصالح شرائح محددة من المجتمع، يتجاوزونها إلى نوع مركب من الديمقراطية، إذا استخدمنا تعبير مالك بن نبي رحمه الله، فيطلبون من جماهير أمتهم أن تنقدهم وتقومهم، ويحضونها على ذلك ويربونها عليه، بل إن الراشدين يمضون إلى ما هو أبعد من هذا فيقاتلون شبح الافتتان في أنفسهم وعند الآخرين، والافتتان وجه من وجوه القداسة، ومقاتلته تعني إشهار الحرب ضد القداسة الموهومة التي لا تقوم على أساس، والتي تقترب بالناس أحيانا من حافات الصنمية التي جاء الإسلام ثورة حاسمة لاستئصالها من الضمائر والنفوس.

لقد عزل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قائده الفذ خالد بن الوليد خشية افتتان الناس به بسبب انتصاراته العجيبة فيما تذهب إليه أرجح الروايات([4])، وهو يلاحق جذور الافتتان في أعماق نفسه من أجل أن يستأصلها، وهو من أجل ذلك يمارس نوعا من تعرية الذات في مواجهة الآخر كي يحقق هدفه بأكبر قدر من الدفع والتكشف، فيما مر بنا قبل لحظات.

والمواقف كثيرة مزدحمة، والراشدون يمنحون تاريخ البشرية غنى عجيبا في دائرة حرية التعبير والنقد والمعارضة، وغير الراشدين، مثمن ساروا على هديهم واقتفوا خطواتهم، حكاما وخلفاء، وأمراء قدموا مثلا عمليا على إسقاط مفهوم القداسة بمعنى التنزه عن النقد والمعارضة والإدانة، ومعنى الافتتان بالذات، والارتفاع فوق رؤوس الناس وتدمير تحررهم الوجداني الذي هو قاعدة شهادة (لا إله إلا الله) كما يفهمها المسلمون بعفوية وصدق بالغين!

وإننا لنذكرها هنا ما فعله السلطان المجاهد نور الدين محمود (541 – 569هـ) في أعقاب واحد من انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين عند قلعة حارم في شمالي الشام عام 559هـ، إذ يتقدم منه قاضي قضاته الشيخ النيسابوري ويقول اله: لولا بلاؤك ما تحقق لنا النصر! فماذا يكون الجواب؟ “من نور الدين محمود الكلب حتى تقول له هذا، إنه الله الذي لا إله الا هو”([5]).

وفي فترات زمنية سابقة كان الخليفة العباسي قد اعتقل مالك بن أنس وأبا حنيفة النعمان (رحمهما الله)، وضرب خليفة عباسي آخر: أحمد بن حنبل (رحمه الله) بالسياط وهم فقهاء الأمة وممثلوها أمام الله والسلطان والحق، فلو كان الخليفة العباسي (مقدسا) أو (محاطا بهالة من القدسية) كما يروي الباحث الأستاذ فكيف يبيح هؤلاء الفقهاء لأنفسهم خرق قدسية تستمد مقوماتها من الدين الذي يعبرون عنه ويذودون؟

وليس مهما أن يدعي بعض خلفاء بني العباس قدسية ما أنزل الله بها من سلطان، يذودون بها عن سلطتهم وليس مهما أيضا ادعاؤهم حق التفويض الإلهي لهم بحكم المسلمين حكما مطلقا، ولكن المهم هو موقف الخلفاء الأكثر تمثيلا لحقيقة هذا الدين إزاء هذه القضية، وقد أشرنا على نماذج منه، كما أن من المهم موقف جماهير الأمة وقادتها من المسألة نفسها، وقد عرضنا لشاهد منه.

والباحث المذكور يخلط بين هذه الأطراف جميعا بعبارة ملفوفة : ” إن والشخصيات الإسلامية أحيطت بقدسية وبخاصة الخلفاء ” فهو باستخدامه كلمة ” أحيطت ” يبني للمجهول هذا الفعل أو الممارسة تجاه القداسة المزعومة، والمجهول قد يتضمن كل الأطراف : الإسلامية : الجماهير والفقهاء والزعماء والعلماء والمؤرخين على السواء.

(4)

وهنا بصدد المؤرخ المسلم، ومع اعترافنا المحتوم، بحشود الأخطاء التي وقع فيها معظمهم، مبالغة أو تحزبا أو تحريفا أو قبولا للأكاذيب، فيما دفع مؤرخا كابن خلدون إلى وضع (مقدمته) المعروفة لصياغة معايير منهجية من أجل حصر وتجاوز هذه الأخطاء في التعامل مع الروايات التاريخية… رغم هذا فإن معظم هؤلاء المؤرخين حكوا عن الأسود والأبيض في سير الخلفاء وغير الخلفاء، والتقديس الذي أحاط به بعض الخلفاء أنفسهم، لم يمنع العديد من المؤرخين من سرد الحقائق كما هي حتى وإن كشفت عن عيب أو نقيصة في هذا الخليفة أو ذاك، بل إن مؤرخا كبيرا كالطبري رفض قبول أية هدية من السلطة من أجل ألا يكون ذلك على حساب تحرره من أي ضغط، وقدرته على سرد الحقيقة كما هي دونما زيادة أو نقصان.

وفرق كبير بين اعتبار الخليفة محورا أساسيا تتمحور عنده الرواية التاريخية بسبب من دوره الأساسي في أحداث التاريخ، وبين إحاطته بالقدسية التي تخرجه بالكلية عن دائرة النقد والتقويم، وتحيطه بالهالة التي يخدع بها عامة المسلمين والتي تجعل المؤرخ أو “دارس التاريخ الإسلامي” كما يقول الباحث: “لا يستطيع أن يتناسى هذه القدسية التي أضفيت على الخلفاء وغير الخلفاء ولا يستطيع أن يجردهم من الهالة الدينية التي زادها مرور الزمن شدة وقوة”.

وبمقدور أي قارئ عادي، فضلاً عن الدارس المتخصص، أن يرجع إلى أي من مصادرنا التاريخية : (المسعودي في مروج الذهب، أو الطبري في تاريخ الرسل والملوك، أو اليعقوبي في تاريخه، أو الدينوري في الأخبار الطوال، أو ابن الأثير في الكامل وغيرهم) لكي يرى بأم عينيه حشودا من الروايات التي تمدح هذا الخليفة أو ذلك، وحشودا أخرى تقدح فيه وتنشر مساوئه أمام الأجيال، وهو أمر قد لا يحتاج لأكثر من إلقاء  نظرة عجلي علي معطيات تلك المصادر.

وثمة ما يجب أن نقف عنده لحظات هاهنا، ذلك أن تراث المسلمين في ميدان البحث التاريخي لا يقتصر على نمط واحد فحسب : هو التاريخ السياسي العام كالذي أنجزه الطبري أو المسعودي أو اليعقوبي أو ابن الأثير أو ابن كثير أو أبو الفدا إلى آخره… لكي نبني عليه حكماً عاما ينطوي على كونه تاريخا للفئة الحاكمة أولا، وعملا يتجاوز النقد ويتحاشى الكشف عن العيوب والأخطاء بسبب من إحاطة أفرادها بالقدسية، ثانيا، فنحن – حتى على فرض التسليم بهاتين المقولتين اللتين ويسعي الباحث، وغيره كثيرون، إلى استمدادهما من نسيج المؤلفات المعنية بالتاريخ السياسي العام – فإن علينا أن انتبه إلى الأصناف الأخرى من التأليف في حقل التاريخ والحضارة الإسلامية، وأول ما يلفت النظر في هذا السياق ذلك الصنف المعروف بكتب التراجم والتي تمثل الصنف الأكثر كثافة وازدحاما في المكتبة التاريخية الإسلامية، حيث تكاد تغطي بنسبة سبعين إلى ثمانين بالمائة من رفوف هذه المكتبة.

وكتب التراجم هذه، بمساحتها الواسعة تلك، لا تتعامل، إلا في حالات محدودة، مع الفئة الحاكمة، وتقف عندها، ولكنها تمضي إلى قلب المجتمع، إلى كل أولئك الذين أغنوا الحياة الفكرية والثقافية في تاريخ الأمة المسلمة علماء وفقهاء ونحاة وأطباء وقضاة ونحويين ولغويين وشعراء ومعماريين ومهندسين وفلاسفة وفلكيين ومفسرين ومحدثين وجغرافيين ومؤرخين إلى آخره، بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن السلطة، وبالتالي بصرف النظر عن كل محاولات القداسة التي يدعي الباحثون إياهم أن رجالات السلطة قد أحاطوا أنفسهم بها فصدوا البحث التاريخي بالتالي عن أن يمضي قدماً للكشف عن الحقائق بشكل موضوعي غير متحيز.

إننا، في دائرة كتب التراجم هذه، نلتقي بمئات، بل بألوف الناس الذين جاءوا من قاع المجتمع حينا، ومن طبقاته الوسطى حينا آخر، والذين ما كانت لهم أيما علاقة مباشرة، أو غير مباشرة بمراكز الحكم والسلطان، ومن ثم فإن بمقدور الباحث في القرن الواحد والعشرين أن يجد أمامه واحدة من أوسع الشرائح في مجموعة المصادر التاريخية بعيدا عن ادعاءات التأثيرات  الخاصة بقدسية الحكام.

فإذا أضفنا إلى كتب التراجم الأنماط الأخرى التي تغذي البحث التاريخي والتي لا ترتبط هي الأخرى بمراكز الحكم والسلطان، من مثل كتب الجغرافيا والرحلات، والتاريخ المحلي، وتواريخ المدن والأقاليم وكتب الخطط، ومصادر التاريخ الأدبي والمؤلفات الموسوعية إلى آخره.. أدركنا كم أن القياس على مصادر التاريخ السياسي العام وحدها يتضمن قدرا من التعميم الخاطئ الذي هو نقيض المطالب المنهجية، هذا رغم أنه، مما يتناقض مع هذه المطالب كذلك، اعتبار مصادر التاريخ السياسي العام انعكاسا لحالة التقديس – المبالغ فيها – والتي أحاط بها الخلفاء والحكام أنفسهم، فصدوا المؤرخين عن إنجاز أعمال تتسم بالدقة والموضوعية كما يخيل للباحث المذكور.

(5)

فكيف يتأتى هذا الباحث أن يعبر هذه الحقائق وتلك الوقائع، ويتجاوزها، لكي يمارس جريرة وضع البيض كله في سلة واحدة فيخلط بين الراشدين ومن تبعهم بإحسان وبين غيرهم من سلاطين المسلمين وخلفائهم وحكامهم، ثم هو يخلط هؤلاء جميعا بأباطرة النصرانية وملوكها وبابا واتها في القرون الوسطي حيث لا اعتراض ولا نقد ؛ لأن الاعتراض يعني الكفر والنقد يعني الهرطقة وصكوك الغفران تمضي بهؤلاء وهؤلاء إلى حافات الذل والعذاب في الحياة الدنيا، وتدمغهم بالطرد من الجنة في الآخرة، ثم إن الباحث يمضي خطوة أخرى فيعلن أن أوربا قدرت على فصل الدين عن السياسة في نهاية الأمر فحررت السلطة هناك من القداسة، ومكنت المؤرخين – بالتالي – من أن يكتبوا تاريخا أشد دقة وإحكاماً، بينما عجز الشرق الإسلامي عن تحقيق هذا الفصل فامتلأ تاريخه بالتزوير والتحوير فأصبح – من ثم – بحاجة، بعد إذ تحقق الفصل الموعود إلى أن يكتب من جديد!

لقد كان اقتران الديني بالدنيوي في أوربا – ولأسباب تاريخية ليس هذا مجالها – نقيضا لحرية التعبير الفكري أو المذهبي أو الذاتي، بل نقيضا حتى لحرية التعبير العلمي، ومن ثم جاءت خطوة فك الارتباط بين الحلقتين، وبعد صراع مرير، لصالح الحرية الإنسانية في مجالاتها كافة، بما فيها البحث العلمي والتاريخي على وجه الخصوص، حيث لم يعد ثمة ما يصد الباحث عن المضي قدما في التحقق بأكبر قدر من الموضوعية.

وعلى العكس تماما فإن اقتران الدين بالدنيوي في عالم الإسلام كان تأسيساً للحرية وتأكيدا لها في سائر السياقات الفكرية والمذهبية والذاتية، ودفعة قوية في مجال حرية التفكير وإنشاء مؤسسات وتقاليد ومناهج البحث العلمي الذي يؤكد الغربيون اليوم كم أنهم في حضارتهم المتفوقة الراهنة مدينون بصدده لعالم الإسلام وحضارته وتقاليده([6]).

والباحث يتوهم، أو يتعمد بأن هناك توازيا بين التجربتين النصرانية والإسلامية، وهو يصر على عبارة “العصور الوسطى ” كإطار زمن للتجربتين من أجل تأكيد وهمه هذا، وهو أسلوب في التعميم لا يستند إلى أساس سليم، فليس المهم أن تحدث التجارب في زمن واحد، وإنما المهم هو طبيعة التجربة ومكوناتها الأساسية وتوجهاتها الرئيسة، فها هنا بصدد الطبيعة والمكونات والتوجهات نجد التجربتين تفترقان ابتداء، وعلى زاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، فتذهب إحداهما في اتجاه، وتمضي الأخرى في اتجاه معاكس تماما؛ ومن ثم فإن أية مقارنة بين التجربتين تحترم العلم أو المنهج، يجب أن تلحظ هذا، وإلا فإنه التعصب الأعمى، أو الجهل، ما يجعل باحثا أستاذا كصاحبنا يخلط بين التجربتين، ويضع البيض كله في سلة واحدة.

لقد كانت إحدى أهم نقاط الارتكاز في العقيدة والتصور الإسلاميين – كما مر بنا وكما نود تأكيده مرة أخرى بسبب من أهميته البالغة فيما نحن بصدده – هو التحرر العقلي والسلوكي والوجداني من أية شبهة قد تقود إلى القداسة والصنمية والافتتان، وإقامة الأسلاك الشائكة ضد النقد والتقويم ولقد كان هذا أمرا طبيعيا لأنه ينبثق عن قاعدة الإسلام الأساسية : التوحيد المطلق لله سبحانه، وضرب كل صور الشرك والعبودية لغيره، حتى إننا لنجد رسول الله وقد يبذل جهدا صعبا مع أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فيربي فيهم هذا الحس بدا من التعامل معه كنبي، وأن عليهم أن يفرقوا بشكل حاسم بينه كرسول ينقل إليهم وبواسطتهم تعاليم السماء إلى الأرض، ويفسرها ويوضحها، وبينه كإنسان (بشر عليهم ألا يرتجفوا وهم يتحدثون إليه، وألا يقوموا له وهو يتقدم إليهم كما تقوم الأعاجم لملوكها! لقد رأي يوما رجلا من أصحابه يرتجف لرؤياه فقاله له : هون عليك، فلست ملكا، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق، ولشد ما أكدت آيات القرآن الكريم على بشرية الرسول ا هذه : ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد))([7]). ((قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً))([8]). وغيرها كثير، بينما في التجربة النصرانية المحرفة تصير القاعدة هي الشرك والتثليث، وتصبح قداسة الأشخاص وصنميات التسلسل الكهنوتي، حاجراً عالياً، صعباً، يصد أبناء هذا الدين عن أية محاولة للتجاوز بالنقد والتقويم والاحتجاج؛ لأنهم – ابتداء- انكسروا من الداخل واعتادوا الانحناء للرموز النصرانية وعدم مواجهتها باستقامة وجها لوجه، بسبب من أنهم مررت عليهم أسطورة التثليث والتقديس فتكيفوا عقلا وسلوكيا ووجدانيا وفق مطالبها الموهومة.

ولقد انعكست كل من التجربتين الإسلامية والنصرانية على التاريخ، على معادلات الزمان والمكان، فتشكلت أولاهما وفق مبادئ ومنطلقات تختلف، ابتداء – عما تشكلت به الأخرى.

أفمن أجل ادعاء موهوم فيما يسمي بموضوعية البحث التاريخي، يجيء الباحث فيخلط بين التجربتين ويدعو إلى أن تتنازل الأمة الإسلامية عن مقوماتها التي تشرف الإنسان وتضعه في مكانه الحق، أتراها الرغبة – الحادة – : في أن يكون البحث التاريخي أكثر موضوعية أم أن الرجل الذي لا ينتمي لهذا الدين وجدها فرصة مناسبة للطعن عليه باسم موضوعية البحث التاريخي كما فعلها، ولا يزال الكثيرون غيره في الشرق والغرب.

وأغلب الظن أن الباحث لا يقصد في مقولته تلك (التاريخ الإسلامي) على امتداده – رغم تأكيده عليه المرة تلو المرة – وإنما يقصد عصر الخلافة الراشدة بسبب حساسيتها الدينية الخاصة، من أجل تحريد رجالاتها، وهم جيل الصحابة وأبناء عصر النبوة، من ميزاتهم التي تميزوا بها على سائر الأجيال، فيما أكده كتاب الله وسنة رسوله (ص) في أكثر من موضع، وأنه -أي الباحث – لغرض مذهبي أو فكري، يريد أن يكسر حاجز التميز هذا ويفتح باب النقد الاعتباطي الذي لا يرى البحث التاريخي بدونه بحثا علميا، وهو لا يستطيع إلا أن يكشف عن أوراقه – أخيرا- بعبارة واضحة لا لبس فيها: “فنحن لا نستطيع أن ندرس الخلفاء الراشدين على غرار ما يدرس الأوربيون ملوكهم وأباطرتهم”.

فكأنه والحالة هذه يريد أن يكسر كل مقاييس التفوق التي عرف بها جيل الصحابة الرواد (رضي الله عنهم) بسبب من إسلاميتهم وحدها، وهم يحققون بتفوقهم حالة تاريخية فريدة لم يسبقها أو يعقبها ش بيه في التاريخ البشري بكثافة معطياتها وتألقها وامتدادها في النوع والكم، أن يكسر هذا كله وأن يضع الصديق والفاروق وابن عفان وابن أبي طالب جنبا إلى جنب مع إدوارد السادس أو فرديناند السابع أو لويس الرابع عشر؛ لكي يتحقق المنهج العلمي في كتابة التاريخ!

ويتساءل المرء: ألم يأن الأوان – بعد – لكي يتوقف أصحاب القوالب الجاهزة من المؤرخين، وأنصافهم، عن العبث معطيات التاريخ الإسلامي، وأن يدركوا أن البحث التاريخي الجاد لا يتم في ورشات النجارين، ألم يأن الأوان التجاوز معضلة التسطيح والرؤية الواحدية، والأخذ بمنهج في البحث أكثر شمولية وموضوعية وعمقا؟

ومن عجب أن الذين يأخذون على مؤرخينا القدماء تعاملهم مع السلطة والأستاذ واحد منهم، هم أول من يستخدمهم السلطان، في القرن العشرين، ويسخرهم لكي يلووا عنق التاريخ… ولحسن الحظ فإن عنق التاريخ يشبه إلى حد ما قطعة الإسفنج ذات الضغط العالي، ترمي بثقلك عليها فترتد وتنكمش حتى يخيل إليك أنها ستغدو نسيج قماش رقيق، لكنها مجرد أن يكف عنها عبث الأيدي، تعود إلى ما كانت عليه.

ولن يكون بمقدور أحد أن يضيع، وبشكل نهائي، الأبعاد الحقيقية للوقائع التاريخية مهما مارس إزاءها من ضغوط.

—————————————————————————————

([1]) العددان 1-2، 1973م.

([2])  للاطلاع على المزيد من الشواها، بخصوص سلوك الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) فيما نحن بصدده، ينظر : محمد بن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1961-1962م، 3/223-224، 225، 226، 227، 430، 342، 433، 4/201، 202، 306-208، 210-211، 214-215، 216، 243، 422، 436، 5/156-157.

([3])  انظر : عماد الدين خليل: ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز، الدار العلمية بيروت – ۱۹۷۱ م، الطبعة الثانية، ص 61 – ۷۹.

([4])  صادق إبراهيم عرجون : خالد بن الوليد.

([5])  أبو شامة المقدسي : كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق محمد حلمي محمد أحمد، المؤسسة المصرية العامة، القاهرة، 1962م، 1/342-343.

([6])  ينظر علي سيل المثال : الدومبيلي : العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي، ترجمة د. محمد يوسف موسي ود. عبد الحليم النجار، دار القلم، القاهرة – ۱۹6۲، ص ۲۰6 – ۲۰۷، إرنست بانرث : تأثير الفلسفة الإسلامية في تطور الفكر الأوربي، محاضرة ألقيت في الموصل عام ۱۹55م، منشورات جمعية المعلمين، الموصل – ۱۹55، ص ۸ – ۹، ۱۰- ۱۱، فرانز روزنثال: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، ترجمة: د. أنيس فريحة، دار الثقافة، بيروت – ۱۹6۱ م، ص 15، لويس سيديو، تاريخ العرب العام، ترجمة: عادل زعيتر، دار احياء الكتب العربية، القاهرة – ۱۹4۸ م ص ۳۹۲، لورا فيشيا فاكليري : دفاع عن الإسلام، ترجمة: مثير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت – ۱۹۷۹ م، الطبعة الثالثة، ص ۱۳۰ – ۱۳۱.

([7]) سورة الكهف، الآية 110.

([8]) سورة الإسراء، الآية 93.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر