أبحاث

أصول الفقه .. ومسألة المنهج

العدد 145- 146

ـ 1 ـ

أصول الفقه والمنهج.. التصور والتطبيق

يعد علم أصول الفقه من أكثر العلوم الإسلامية علاقة بمسألة المنهج، بل ومن أكثر العلوم صورة وتعبيراً عن مسألة المنهج في العلوم الإسلامية، وهو العلم الذي كشف عن وجود المنهج، وعن ابتكار هذا المنهج عند المسلمين، وذلك باعتبار أن أصول الفقه في نظر الدارسين المسلمين قديماً وحديثاً، هو من ثمرة العقل الإسلامي الخالص، وأن المسلمين هم أول من ابتكروا هذا العلم (الذي لا نجد له نظيراً لا عند اليونان والرومان في الغرب، ولا عند البابليين والصين والهند وإيران ومصر في الشرق، ولا في أي مكان آخر)(1).

الأمر الذي يعني أن الحديث عن أصول الفقه، هو من وجه آخر حديث عن المنهج في المجال الإسلامي، وعن تاريخ وتطور هذا المنهج في ساحة الفكر الإسلامي.

ومن أكثر النصوص القديمة أهمية ودلالة في هذا الشأن، النص الذي يقارن فيه فخر الدين الرازي (544-604هـ)، بين الشافعي وأرسطو والخليل بن أحمد الفراهيدي، فيقول في كتابه (مناقب الشافعي)، (واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، ذلك أن الناس كانوا قبل أرسطاطاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن ما كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي قلما أفلح، فلما رأى أرسطاطاليس ذلك.. استخرج علم المنطق..

وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارا وكان اعتمادهم على مجرد الطبع، فاستخرج الخليل علم العروض، فكان ذلك قانونا كليا في معرفة مصالح الشعر ومفاسده. فكذلك هاهنا، الناس كانوا قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه، يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، لكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمة الله عليه، أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع، كنسبة أرسطو إلى علم العقل)(2).

هذا النص ليس عادياً على الإطلاق، ولا يمكن المرور عليه بطريقة عادية أو عابرة، من دون التوقف عنده، والكشف عن أبعاده ودلالاته، ومدى بُعد النظر فيه، وليس من الصواب وضعه في منـزلة الهامش، كما تعامل معه الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي).

وتكمن أهمية هذا النص، في أنه يضع الشافعي عند المسلمين، في منـزلة أرسطو عند اليونانيين، ويضع أصول الفقه عند المسلمين، في منـزلة المنطق عند اليونانيين.

وكان يفترض من هذا النص، أن يلفت النظر بشدة إلى أهمية وقيمة أصول الفقه بوصفه علماً تشريعياً من جهة، وبوصفه علماً منهجياً من جهة أخرى، وأن يلفت النظر بشدة أيضًا إلى العلاقة بين أصول الفقه والمنطق، وهي العلاقة التي تبرز الجانب المنهجي لأصول الفقه بوصفه علمًا منهجيًّا.

وفي دراسات المسلمين المعاصرين شرعيين واجتماعيين، تكررت وتواترت أقوالهم في إعطاء أصول الفقه صفة العلم المنهجي.

ومن هذه الأقوال، ما أشار إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي ظل في كتابه (الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي)، يصف باستمرار أصول الفقه بعلم المنهج، فحين توقف عند تعريف الأصوليين على اختلاف أذواقهم ومشاربهم لعلم الأصول، والذي يتحدد عندهم بقولهم إنه (علم يبحث فيه عن القواعد التي يقوم عليها استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية)، أو إنه (علم يبحث فيه عن القواعد التي تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي)، أو غير ذلك من التعابير التي يرى الشيخ شمس الدين أنها تتصل بالمنهج، وتُبين أن علم الأصول هو علم المنهج(3).

ومن هذه الأقوال أيضاً، ما أشار إليه الدكتور حسن حنفي في كتابه (من النص إلى الواقع)، الذي يرى أن من السمات التي تميز الفكر الأصولي عن الفكر الكلامي، والفكر الفلسفي، والفكر الصوفي، هي سمة المنهجية، والتي تعني –حسب قوله- البحث عن نقطة بداية يقينية يبدأ بها العلم، ثم تتوالى الخطوات بعد ذلك على نحو منهجي، من دون قفز على الخطوات المتوسطة، منذ تلقي الوحي كمعطى حتى تحقيقه كنظام مثالي للعالم. فبعد أن يتم التلقي يبدأ الفهم عن طريق الألفاظ إلى المعاني، ثم من المعاني إلى الأشياء، ثم من الأشياء إلى أفعال البشر وعللها، وبعد أن يتم الفهم يأتي التحقق، تحقق مقاصد الوحي الكلية والفردية، ثم الأحكام الوضعية والتكليفية.

هذه الخطوات المنهجية، يرى فيها الدكتور حسن حنفي أنها تجعل علم أصول الفقه أحد أشكال مناهج البحث في العلوم الإنسانية(4).

وفي قول ثالث، يرى الدكتور عبد الحميد أبو سليمان أن علم أصول الفقه يمثل المنهجية الأساسية في دائرة الدراسات الإسلامية(5).

هذه بعض الأقوال التي تعطي أصول الفقه صفة المنهجية والعلم المنهجي، وهناك أقوال وتصورات أخرى، سنأتي على ذكرها تباعاً وتفصيلاً.

ـ 2 ـ

أصول الفقه.. واكتشاف المنهج

لعل من أسبق الدراسات الفكرية الحديثة، التي لفتت الانتباه إلى العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج، هو كتاب (مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي)، للدكتور على سامي النشار (1917-1980م)، وهو في الأصل رسالته للماجستير التي كتبها في سني شبابه الباكر مع مطلع أربعينيات القرن العشرين، وناقشها في مايو 1942م، وأصدرها في كتاب كما هي من دون تغيير أو تبديل سنة 1947م.

ويعد هذا الكتاب أحد أهم المؤلفات التي أصدرها الدكتور النشار، ومن أكثرها شهرة واهتماماً، وهي الصفات والأوصاف التي أطلقها معظم الذين توقفوا عند هذا الكتاب، وأشاروا إليه بصورة من الصور.

وأوضح من أشار إلى أهمية هذا الكتاب، هو تلميذ الدكتور النشار، أستاذ العلوم اللغوية في جامعة الإسكندرية الدكتور عبده الراجحي، الذي اعتبر في تصدير الطبعة الثالثة من الكتاب الصادرة سنة 1984م، أن هذا الكتاب ظل واحداً من أهم أعمال الدكتور النشار الكثيرة، وترجع أهميته في أنه استطاع أن يوجه تفكير عدد من الباحثين في جيله، إلى دراسة الفكر الإسلامي في إطار المنهج العام لأصحاب الأصول ولعلماء الكلام، وظهر في هذا النطاق عدد لا بأس به من الدراسات في اللغة والأدب والبلاغة والفلسفة التي تحمل هذا الطابع(6).

وكون هذا الكتاب هو أول مؤلفات الدكتور النشار، فهذا يعني أن أول كتاب للدكتور النشار هو كتاب في المنهج، وهذا بدوره يكشف عن وعي واهتمام مبكر بمسألة المنهج، المسألة التي سيطرت على تفكيره، ورسمت له مساراته المعرفية، وتلونت بها تجربته الفكرية على طول الخط.

ويكفي للدلالة على ذلك، ما أشار إليه الدكتور عبده الراجحي، وهو يتحدث عن أستاذه الدكتور النشار بقوله: (وقد ظل يسعى جاهدا ونحن نتتلمذ له أوائل الخمسينيات، أن يغرس فينا الوعي بالمنهج، فقد كانت هذه القضية شغله الشاغل، بل لعلها كانت هدفه الوحيد)(7).

في هذا الكتاب حاول الدكتور النشار، وبطريقة جازمة وصارمة، البرهنة على أمرين متلازمين، هما:

الأمر الأول: البرهنة على أن المسلمين لم يعالجوا مشكلة المنهج في ساحة الفكر الإسلامي عن طريق تبني المنطق اليوناني، بوصفه قانون العقل الذي لا يرد، والمنهج العلمي الثابت، وباعتبار أن تعاريفه وحدوده ثابتة، وأحكامه وقضاياه مسلمة، وأقيسته منتجة لليقين وموصلة للعلم.

الأمر الثاني: البرهنة على أن المسلمين قد عالجوا مشكلة المنهج عن طريق الفكر الإسلامي، وتوصلوا إلى وضع منهج إسلامي يختلف كليا عن المنطق اليوناني في روحه العامة، وفي قواعده الاستدلالية، وأصوله الفكرية، وفي نظرته إلى الكون والعالم.

وحسب رأي الدكتور النشار، فإن المنطق اليوناني الأرسطي هو منهج البحث في علوم اليونان، وفي معارفه الفكرية والفلسفية منها على الخصوص، ويتصل بها أوثق اتصال، كما أن هذا المنهج يمثل أدق تعبير عن الروح اليونانية في نظرتها إلى الكون، وفي محاولة إقامة مذاهبها في الوجود.

ومن جانب آخر، يرى الدكتور النشار أن المسلمين في عصرهم الأول، لم يقبلوا أبدا المنطق اليوناني الأرسطي، بل هاجموه ونقدوه أشد الهجوم، وأعنف النقد، وذلك على خلفية أن الروح الإسلامية إنما تستمد مقوماتها من بيئة مخالفة، وجنس مخالف، ومن تصور حضاري جديد، وتنأى أشد النأي عن النظر في العوالم اليونانية الفكرية من ميتافيزيقا وفيزيقا وغيرهما.

وما يريد الدكتور النشار أن ينتصر له، أن المنهج الإسلامي لا يستمد مِن مَن يسموا فلاسفة الإسلام، رغم أنهم دوائر منفصلة ومنعزلة عن تيار الفكر الإسلامي العام، وإنما يستمد هذا المنهج، مِن مَن يسميهم ممثلي الإسلام الحقيقيين من فقهاء وأصوليين ومتكلمين وغيرهم من مفكرين مسلمين.

ومن هذا المدخل، ولج الدكتور النشار إلى علم أصول الفقه، وقد وجد أن منهج البحث الإسلامي نتج وتولد عند علماء أصول الفقه قبل علماء أصول الدين، لأن المسلمين حسب رأيه بدؤوا البحث في المسائل العملية قبل البحث في المسائل الاعتقادية، ومعتبرا أن التراث المنطقي الأصولي يمثل النموذج الأعلى للفكر الإسلامي وللحضارة الإسلامية، وقد انتقل هذا النموذج الفكري إلى دوائر العلماء فأخذوا به، وطبقوه، فوصل العلم الإسلامي إلى أوجه وبنى الحضارة الإسلامية(8).

وفي هذا النطاق، فإن أكثر ما لفت نظر الدكتور النشار هو التأكد لو كان أصول الفقه قد تأثر من المنطق الأرسطي أم لا.

والذي دفع الدكتور النشار إلى طرح هذه المسألة، هو المقولة المتداولة عند قدماء المسلمين في اعتبار علم الأصول بالنسبة إلى الفقه، كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسفة، وتدل هذه المقولة في نظر الدكتور النشار دلالة واضحة على أن من الأصوليين من كان يأخذ بها.

ومن جهته يرى الدكتور النشار، أن اعتبار الأصول بالنسبة إلى الفقه كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسفة، يبدو واضحا تماما إذا ما بحث في علم الأصول نفسه، علاوة على أن التعاريف الكثيرة التي وضعها الأصوليون تبين ذلك وتوضحه.

ومن هنا تساءل الدكتور النشار: إذا كان الأصول منطقا فقهيا فهل تأثر بالمنطق الفلسفي؟

وفي رأيه لا يمكن الإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب أو السلب إلا على ضوء دراسة تحليلية لتاريخ المنهج الأصولي، ومعرفة أي المؤثرات التي أثرت فيه، وإلى أي الاتجاهات تشعب.

وما يخلص إليه الدكتور النشار في نهاية حديثه عن تاريخ تطور المنهج الأصولي، أن هذا المنهج قد تكوّن (منذ العصر الأول، واستمر الأصوليون يكملون فيه، ويضيفون إلى عناصره جدة في التفكير، حتى وصل إلى أيدي الشافعي، فأقامه علما متفق الأجزاء، متناسق الأطراف، وفي كل هذا لم يتأثر على الإطلاق بمناهج البحث اليونانية، ثم انقسم إلى قسمين بعد الشافعي: علم الأصول الفقهي، وعلم الأصول الكلامي، وفي كلا القسمين لم يتأثر أيضا بمنطق أرسطو، حتى أتى القرن الخامس فمزج المسلمون المنطق الأرسطاطاليسي بالأصول، وبهذا انتهى أو كاد ينتهي تفكير المسلمين المبدع في المنطق)(9).

وفي تصور الدكتور النشار، أن الغزالي هو (المازج الحقيقي للمنطق الأرسطاطاليسي بعلوم المسلمين، لا لما وضع من كتب منطقية سهلة العبارة، بل لتلك المقدمة المنطقية التي وضعها في أول كتابه المستصفى، والتي ذكر فيها أن من لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه قطعا، وعلى هذا الأساس اعتبر منطق أرسطو، شرطا من شروط الاجتهاد، وفرض كفاية على المسلمين، ووجهت إلى الغزالي بسبب هذا اعتراضات شديدة من الفقهاء المسلمين)(10).

ولهذا اعتبر الدكتور النشار أن أواسط القرن الخامس من تاريخ الفكر الإسلامي، يمثل فاصلا بين عهدين دقيقين: عهدٍ لم يلجأ المسلمون فيه إلى مزج علومهم بالمنطق اليوناني والفلسفة اليونانية، وعهدٍ بدأ فيه المسلمون عملية المزج هذه، وخاصة في نطاق المنطق.

هذه هي خلاصة رؤية الدكتور النشار في علاقة علم أصول الفقه بتطور المنهج في ساحة الفكر الإسلامي.

ـ 3 ـ

أصول الفقه.. وقواعد المنهج

من الذين تحدثوا عن العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج، الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي) الصادر سنة 1984م، ومع أن الدكتور الجابري لم يكن بصدد البحث أو الكشف عن هذه العلاقة، مع ذلك فقد وصف أصول الفقه بالعلم المنهجي، الوصف الذي تكرر مرات عدة، في إشارة منه على تأكيد هذه الصفة، وما لها من دلالة على قيمة هذا العلم، الذي لا نجد له -حسب قوله- مثيلاً في الثقافات السابقة، ومذكراً بقول محمد حميد الله الذي يرى أن (علم أصول الفقه هو أول محاولة في العالم، استهدفت إنشاء علم للقانون متميز عن القوانين التفصيلية الخاصة بهذا السلوك أو ذاك، علم يمكن تطبيقه في دراسة قانون أي بلد، وفي أي عصر)(11).

ولكي يقدر الجابري أهمية هذا العلم، يكفي حسب قوله، الإشارة إلى طابعه المنهجي الإيبستيمولوجي، إذ هو (القواعد التي يتوسل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، وهو بالنسبة للفقه كالمنطق بالنسبة للفلسفة)(12).

ولعل أهم نص أشار إليه الدكتور الجابري في العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج، النص الذي يقول فيه: (ودون التقليل من أهمية مساهمة الأصوليين الذين جاؤوا بعد الشافعي، في إخصاب هذا العلم وتنظيمه، فإن القواعد التي وضعها صاحب الرسالة، تظل مع ذلك بمثابة الأساس والهيكل العام لهذا العلم المنهجي، إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي، عن قواعد المنهج التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة، والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة)(13).

هذا النص، هو الآخر، لا يمكن المرور عليه من دون التوقف عنده، والنظر فيه، وأساساً ليس من السهولة التصريح بهذا القول، كما ليس من السهولة أخذ مثل هذا القول من أي كان، والدكتور الجابري الذي أطلق هذا القول هو في تمام الوعي به، ويدرك أبعاده وخلفياته الفكرية والفلسفية.

وتكمن أهمية هذا النص، في أنه يضع أصول الفقه أمام أفق جديد من المقارنات، مقارنات بين الشافعي وديكارت (1596-1650م) من جهة، ومقارنات بين كتابيّ (الرسالة) و(مقالة في المنهج) من جهة أخرى.

وليس خافيا ما يمثله ديكارت من منـزلة وتأثير في تاريخ تطور الفكر الفلسفي الفرنسي من جهة، وتاريخ تطور الفكر الأوروبي بصورة عامة من جهة أخرى، وليس هناك ما هو أبلغ من الإشارة إلى هذه المنـزلة والتأثير بإعطاء ديكارت صفة “أبو” الفلسفة الحديثة، وهذا أكبر وصف يمكن إطلاقه على أحد الفلاسفة في عصره.

ويراد من هذا الوصف، أن الأزمنة الفكرية الحديثة في أوروبا بدأت مع ديكارت، الذي وضع حدا لنهاية عصر الفلسفة اليونانية القديمة الممتدة عبر العصور ولزمن طويل، ومع نهاية هذا العصر، دخلت الفلسفة في أوروبا عصرا جديدا، عرف بعصر الفلسفة الحديثة هناك.

وهذه المقارنة التي أشار إليها الدكتور الجابري، لعلها هي أول مقارنة بين الشافعي وديكارت في المجال العربي الحديث والمعاصر، ولا أدري إن كان هناك أحد غير الجابري قد تحدث عنها أم لا! والمعروف في الكتابات العربية هو المقارنات بين الغزالي وديكارت، وصول الفقه هو أول محجاولةخخاحححخحخح0ح–  غ

ليس بين الشافعي وديكارت.

مع ذلك فإن هذه المقارنة وما تتسم به من عنصر الدهشة، الدهشة التي طالما حفزت ودفعت ووقفت وراء الكثير من الكتابات والمؤلفات والأعمال في الأزمنة القديمة والحديثة والمعاصرة، وعلى مستوى الثقافات والمجتمعات والمدنيات كافة، لكنها على ما يبدو الدهشة التي ما زالت غائبة أو منطفئة في المجال العربي المعاصر، الذي لم تظهر فيه كتابات ومؤلفات اتخذت من هذه الدهشة، توقدا وسبيلا لإجراء مقارنات بين الشافعي وكتابه (الرسالة)، وبين ديكارت وكتابه (مقالة في المنهج).

ـ 4 ـ

أصول الفقه.. المنهج والمنهجية

في سنة 1989م قدم أستاذ الفلسفة بكلية دار العلوم في القاهرة، الدكتور عبد الحميد مدكور دراسة حول (المنهجية في علم أصول الفقه)، لندوة نظمتها جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بالجزائر، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

في هذه الدراسة حاول الدكتور مدكور التعريف بمنهجية أصول الفقه، والحاجة لتبيان هذه المنهجية في نظره، كون أن أصول الفقه يعد من أهم المناهج التي توصل إليها المسلمون قديماً.

والطريقة التي اختارها الدكتور مدكور لدراسة هذا المنهج الأصولي، أراد منها-حسب قوله- أن تكون تحديداً أو وصفاً للمنهج على النحو الذي يقوم به علماء المناهج في دراستهم للمناهج المختلفة، كالمنهج التاريخي، أو المنهج الاستقرائي المستخدم في العلوم الطبيعية، أو المنهج الرياضي المستخدم في العلوم الرياضية.

ولا شك في نظر الدكتور مدكور (أن تحديد هذه المناهج، ووصف مراحلها، وبيان مقتضياتها، يؤدي إلى تصور دقيق للعلم الذي يراد دراسته، وللمشكلات التي يمكن أن تواجه الدارس فيه، كما أن العلم بقواعد هذه المناهج يؤدي إلى ضبط المعرفة، وتسديد الاتجاه، واختصار المجهود، وحسن الفهم لجهود الآخرين، وإتاحة الفرصة للتعاون بين العاملين في مجال العلوم المشتركة أو المتقاربة، كما يؤدي إلى دقة النتائج، وتقدم العلم)(14).

ويأمل الدكتور مدكور من اختيار هذه الطريقة في وصف منهج أصول الفقه، أن يسهم في تقريب هذا العلم إلى الدارسين، وأن يقلل من الإحساس القوي بصعوبته وتعقيده، والإحساس الذي يدفع الكثيرين إلى الانصراف عنه، والإعراض عن دراسته، على الرغم من أهميته ودقته، ومكانته بين العلوم الإسلامية.

وفي نطاق هذه الرؤية، حدد الدكتور مدكور ثلاثة عناصر أساسية، لا بد منها في دراسة المناهج، ومنها منهج أصول الفقه، وهذه العناصر هي:

أولاً: بيان الأسس والقواعد والمبادئ التي يقوم عليها هذا المنهج الأصولي، وهي التي تقوم مقام المسلمات في بعض العلوم، ومن أهم هذه الأسس والقواعد التي يقوم عليها المنهج الأصولي، هي:

1- الإيمان بكمال الشريعة وشمولها وعمومها، بما يعني أن الإسلام يتضمن من التشريعات ما يفي بحاجات الناس، أفراداً وجماعات، وبما يشمل أمور الدين والدنيا.

2- يترتب على الإيمان بكمال الشريعة وعمومها، أن كل فعل من أفعال المكلفين، وكل واقعة نازلة تقع لهم، لا تخلو من حكم شرعي فيها، بالوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهية أو الإباحة.

3- إن الأحكام الواردة على أفعال المكلفين لا بد أن تكون مستندة إلى الدليل الشرعي، وهذا من لوازم الإسلام، فالمسلم بمقتضى الإسلام مطالب بإتباع أحكام الله تعالى، وإخضاع نفسه لها، لأن الإسلام عهد وعقد وميثاق.

4- إذا كانت الأحكام لا تثبت إلا بدليل فإن مستند الأدلة ومصدرها ومنتهاها، إنما هو النصوص الشرعية الثابتة في القرآن والسنة، وهما المصدران الأصليان، وما سواهما يكون راجعاً إليهما، ومستمداً منهما.

5- إذا كانت الأحكام لا تثبت إلا بالنصوص أو ما يرجع إليها، فإن وسيلة استخراج الأحكام واستنباطها منها، هي وسيلة الاجتهاد، والاجتهاد هو بذل الوسع، واستفراغ الجهد في طلب الحكم الشرعي.

ثانياً: بيان مراحل المنهج الأصولي وخطواته، ومن هذه الجهة يرى الدكتور مدكور أن المنهج المطبق في علم أصول الفقه، يتكون بصفة عامة من مراحل وخطوات شأنه في ذلك شأن غيره من المناهج، وأهم هذه المراحل والخطوات في نظر الدكتور مدكور، هي:

1- تحديد الأصول والأدلة التي يجعلها الأصولي أساساً للاستنباط والاستدلال.

2- يتفق الأصوليون على ما للكتاب والسنة من مكانة عظمى، فإليهما ترجع الأصول، وعليهما مدار الاستنباط، ولهذا اهتم الأصوليون بدراستهما دراسة تتسم بالاستيعاب والدقة والتعمق.

3- إذا حصل تعارض في الأدلة هناك طرق للمعالجة، وقد قام الأصوليون بجهد كبير في هذا الشأن، يمكن اعتباره من أهم ما قدموه، وعرف عنهم أنهم قد استعانوا بكل ما يمكن أن يعينهم عليه من نتائج العلوم الإسلامية الأخرى، كعلم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل ونحوهما.

ثالثاً: بيان الشروط اللازمة أو التي ينبغي تحقيقها ليمكن الوفاء بمقتضيات هذا المنهج ومتطلباته، ولم يقدم الدكتور مدكور شرحاً وتوضيحاً لهذا الجانب.

وآخر ما ختم به الدكتور مدكور قوله: إنه لمن حق المسلمين أن يفخروا بهذا العلم، وما فيه من دقة وكمال، وإنه ليعد كما قال ابن خلدون من أعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدراً، وأكثرها فائدة)(15).

ـ 5 ـ

أصول الفقه والعلوم الاجتماعية والمنهج

من التطورات الحديثة التي حصلت في حقل الدراسات الأصولية والمتصلة بمسألة المنهج، ذلك التطور الذي فتح مجال العلاقة بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، من جهة تقريب منهج أصول الفقه إلى ساحة العلوم الاجتماعية، وتقريب منهج العلوم الاجتماعية إلى ساحة أصول الفقه.

وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى رأيين متقاربين في الوجهة العامة من الناحيتين المنهجية والمعرفية، وهذان الرأيان هما:

الرأي الأول: أشار إليه الدكتور طه جابر العلواني، وتطرق له في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (أصول الفقه الإسلامي.. منهج بحث ومعرفة)، التي حاول فيها أن يلفت النظر إلى أمرين هما:

الأمر الأول: له علاقة بمسألة المنهج، ومن هذه الجهة يرى الدكتور العلواني أن هذا الكتاب حين أعد كان يمثل مقدمة لبحث موسع، أو لعدة بحوث ودراسات تعالج أزمة أو إشكالية المنهج الراهنة، أو تقدم منهجاً بديلاً عن مناهج البحث المأزومة، توظف فيها الخبرة الفكرية الإسلامية، والتراث الإسلامي بشكل مناسب، خاصة وأن أصول الفقه باعتباره منهج بحث ومعرفة مختص بالظاهرة الفقهية، وهي إنسانية أو اجتماعية على أية حال، ولكنها تحمل خصوصية لا يمكن تجاهلها من حيث إنه يتناول هذه الظاهرة في إطار البحث عن حكم فقهي لها مستمد من الأدلة الشرعية التفصيلية، فهو منهج استنباطي يعتمد على بعض المناهج الوسيطة، كالمنهج اللغوي، والتاريخي بشكل ما.

ومن هنا يرى الدكتور العلواني، أن أصول الفقه بقراءة إسلامية واعية، مستلهمة توجهات منهجية القرآن المعرفية، يستطيع أن يقدم مؤشرات هامة على طريق معالجة إشكالية المنهج.

الأمر الثاني: له علاقة بمسألة طبيعة العلاقة بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، ومن هذه الجهة يرى الدكتور العلواني أن دراسة أصول الفقه، وتحليل جوانبه المختلفة، وعناصره الأساسية التي يتألف منها، مفيدة جداً لمناهج دراسة الظواهر الاجتماعية، والكشف عن العلاقة بين الاثنين هام ومفيد جدا، وأن موضوع العلاقة بين أصول الفقه وبين العلوم الاجتماعية أمر لم يكتب فيه، ولم يميز إلا مؤخراً، وجاء في إطار محاولات بعض المعرفيين المسلمين إيجاد بدائل إسلامية، خاصة في إطار العلوم والمناهج التي تعاني من إشكاليات كبرى، لطالما تنادى العلماء والمتخصصون إلى البحث فيها، دون أن يأتوا بحلول لتلك الإشكاليات(16).

الرأي الثاني: أشار إليه الدكتور جمال الدين عطية الذي قدم سيمنارا حول علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، في كلية الشريعة جامعة قطر في 17 / 11 / 1988م، ونقل ملخصاً له الشيخ علي جمعة في دراسة له حول ( قضية تجديد أصول الفقه)(*).

وعند النظر في ما طرحه الدكتور عطية، يمكن ضبطه وتحديده في النقاط الآتية:

أولاً: تساءل الدكتور عطية عن: ماذا يمكن أن يقدم علم أصول الفقه إلى مناهج العلوم الاجتماعية؟

أمام هذا التساؤل، وجد الدكتور عطية أن هناك مواقف وصفها بالمتطرفة، بين من يرفض تماماً منهج أصول الفقه، وبين من يطالب بضرورة تطبيقه في ساحة العلوم الاجتماعية.

الموقف الأول عبر عنه بعض من ينتمون إلى حقل العلوم الاجتماعية، الذين يرون أن ازدهار العلوم الاجتماعية لا يمكن أن يستمر إذا قيدناه بالضوابط الحديدية لعلم أصول الفقه، وذلك لأن هناك في نظر هؤلاء اختلافا في الطبيعة بين المجالين، فعلم أصول الفقه وضع لغرض معين جعله يختلف في طبيعته عن العلوم الاجتماعية التي جاءت لغرض آخر، الأمر الذي يعني أن أصول الفقه لا يمكن أن يكون حاكماً على مناهج العلوم الاجتماعية.

والموقف الثاني عبر عنه بعض من ينتمون إلى حقل العلوم الشرعية، الذين يرون في هذه العلوم الاجتماعية الحديثة فروعاً جديدة من الفقه، الأمر الذي يتوجب عليه أن تنضبط بمقاييس وضوابط علم أصول الفقه، وعلى هذا الأساس يعتبر الاقتصاد الإسلامي هو باب المعاملات من الفقه، وعلم النفس هو باب الاجتماع الإسلامي، وهكذا الحال مع باقي العلوم الأخرى.

ثانياً: ميز الدكتور عطية بين الجانب الموضوعي والجانب القيمي أو المعياري في العلوم الاجتماعية، في الجانب الموضوعي يرى الدكتور عطية ضرورة اعتماد الوحي مصدراً للمعرفة، وذلك على خلفية أنه قد وردت إشارات واضحة وحاسمة في القرآن والسنة، تتضمن إقرار حقائق علمية هي في منـزلة السنن، سنن الكون والمجتمع والنفس، لكن مع شرط وضع هذه الحقائق في موضوعها من المناهج، التي توصل بدورها إلى القوانين العلمية.

أما في الجانب القيمي أو المعياري، فيرى الدكتور عطية أنه لا بد من اعتبار الوحي مصدراً للتوجيه، بل مصدر تأسيسي، لأن ما فيه من قيم وأحكام تكليفية هي الضابط لهذا الجانب من العلوم، وتطبيق منهج علم أصول الفقه في هذا المجال يعد أمراً وارداً، ولا يظن الدكتور عطية أن هناك إشكالاً له قيمته في هذا الشأن.

ثالثاً: بعد أن تحددت صورة العلاقة بين منهج أصول الفقه وبين الجانب القيمي أو المعياري في العلوم الاجتماعية، تساءل الدكتور عطية: هل يبقى بعد ذلك من فائدة لعلم أصول الفقه في الجانب الموضوعي من العلوم المختلفة؟

مع تسليم الدكتور عطية بأن علم أصول الفقه قد وضع أصلا لضبط التكاليف على قاعدة افعل ولا تفعل، ولاستنباط الأحكام المتعلقة بهذه التكاليف من النصوص، الأمر الذي يعني أنه لم يوضع أصلاً لتفسير الظواهر الاجتماعية وبيان العلاقة السببية بينها، أو التوصل إلى القوانين التي تحكمها، وهذا ما يبرر تخوف علماء الاجتماعيات من فرض أصول الفقه على العلوم الاجتماعية، وما يمكن أن يؤدي إليه من تجميد وتقييد لهذه العلوم.

مع ذلك يرى الدكتور عطية أن في علم الأصول مباحث تصلح أن تكون نبراساً ومعياراً للعلوم الاجتماعية ومناهجها، وبالتحديد في تحليل الظواهر الاجتماعية، وبيان علاقات السببية بينها.

من هذه المباحث التي يراها الدكتور عطية، مبحث العلة، وذلك بالإشارة إلى المراحل التي يمر بها الأصولي حتى يصل إلى تحديدها، إلى جانب ما أوضحه الدكتور علي سامي النشار، وقبله الشيخ مصطفى عبدالرازق، من أن موضوع العلة مثَّل بداية الوصول عند المسلمين إلى العلم التجريبي.

ومن هذه المباحث أيضاً التي يراها الدكتور عطية، مبحث ما يسمى بالأحكام الوضعية في علم الأصول، كموضوعات الركن والسبب والعلة والأمارة والمانع وغيرها، ففيها ضبط للمسائل التي تحتاجها العلوم الاجتماعية، ولو عكف علماء الاجتماعيات على هذه المباحث، لوجدوا فيها كنوزاً تعينهم في ضبط علومهم.

وهناك كذلك مباحث القواعد اللغوية، التي تستخدم في أصول الفقه لضبط تفسير النصوص والمفاهيم والمعطيات، وهذه القواعد اللغوية نادراً ما نجدها في العلوم العصرية(17).

هذان رأيان متقاربان في شأن العلاقة المنهجية بين أصول الفقه وبين العلوم الاجتماعية، وإمكانية التقريب بينهما.

ـ 6 ـ

ملاحظات ونقد

هذه كانت بعض المواقف والتصورات، التي كشفت من أبعاد وخبرات مختلفة، علاقة أصول الفقه بمسألة المنهج، وبعد هذه الجولة الكشفية بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات الناقدة، ومن هذه الملاحظات:

أولاً: لا شك في أهمية وقيمة البحث عن هذه العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج، لكن هذا البحث ما زال ضئيلا ومحدوداً من الناحيتين المنهجية والمعرفية، وبحاجة إلى مزيد من التراكم والتجدد الكمي والكيفي، وبالشكل الذي يخرج هذه العلاقة من دائرة الرغبة إلى دائرة الحاجة، ومن دائرة الغموض إلى دائرة الوضوح، ومن دائرة الشك إلى دائرة اليقين، وضرورة إعطاء هذه العلاقة صفة الجدية، والارتقاء بها إلى درجة الضبط المنهجي، لمعرفة ماذا يراد منها على صعيد أصول الفقه أخذا وعطاء، وماذا يراد منها على صعيد مسألة المنهج أخذا وعطاء.

ولن تعطي هذه العلاقة أكلها، إلا بهذا التراكم والتجدد في البحث والنظر، ومن دونهما ستظل هذه العلاقة على حالها، تدور في نطاق التعبير عن رغبة لا غير.

ثانياً: إذا اعتبرنا أن البحث عن هذه العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج، الذي يرجع إلى أربعينيات القرن العشرين مع محاولات الشيخ مصطفى عبدالرازق والدكتور علي سامي النشار وآخرين، ومع ذلك لم نجد أثراً واضحاً وكبيراً لهذه العلاقة على حركة أصول الفقه من جهة، وعلى حركة المنهج من جهة أخرى.

فعلى صعيد أصول الفقه، لم نلمس تطوراً كبيراً فيه من ناحية المنهج، في ظل ما حصل ووصف بثورة المنهجيات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، كما لم نلمس أيضاً على صعيد المنهج أثراً واضحاً لأصول الفقه في تطوره وتقدمه من هذه الناحية.

ومن جهة أصول الفقه، ما كان من الممكن أن يحصل مثل هذا التطور الواضح والكبير، إلا في ظل حركة تدفع بأصول الفقه نحو التجديد والتطوير والتحديث، وهذا ما لم يحصل بالمستوى المنتظر.

ومن جهة المنهج، ما كان من الممكن أيضاً أن يحصل الاقتراب من أصول الفقه، والاستفادة من خبرته المنهجية، ما لم يشهد أصول الفقه نفسه تقدماً وتجديداً يبرز فاعليته، ويكشف عن تفوقه المنهجي، ويلفت النظر إلى ما تتسم به منهجيته من فاعلية وقيمة وتأثير.

ثالثاً: ما لم تبرز بعض النماذج الفعلية واللامعة في نطاق العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج، فإن هذه القضية ستظل تراوح مكانها، ولن تبلغ مداها في التطور، لا على صعيد أصول الفقه، ولا على صعيد المنهج.

والسبب في ذلك يكاد يكون واضحاً، لأن من السهولة وضع الأدلة، وجمع البراهين الكاشفة والدالة على أهمية هذه القضية من الناحية النظرية، لكن هذا القدر لن يكون كافياً لتحريك هذه القضية، ما لم تكن هناك تطبيقات وتجريبات فعلية.

ومعظم الذين تحدثوا عن هذه القضية، أشاروا إليها من الجهة النظرية، ولم يتطرقوا إلى نماذج تطبيقية، لا على صعيد أصول الفقه والاستفادة من المنهجيات الحديثة، ولا على صعيد المنهج والاستفادة من أصول الفقه(*).

ومن النماذج المهمة والجادة في هذا الجانب، النموذج الذي أنجزه السيد محمد باقر الصدر في كتابه (دروس في علم الأصول) الصادر سنة 1978م، في هذا الكتاب حاول السيد الصدر الاستفادة من المنهجيات الحديثة في كتابة دورة متكاملة في أصول الفقه، تتكون من ثلاث حلقات، وتستجيب لثلاث مراحل متعاقبة ومتصاعدة، تجعل من أصول الفقه مادة حديثة، وبمنهجية حديثة، مناسبة للتدريس والتعليم الحديث.

هذا النموذج على أهميته وجديته لم يلتفت إليه، ولم يقدم كنموذج يصور أحد جهات العلاقة بين أصول الفقه ومسألة المنهج.

مع ذلك تبرز الحاجة إلى نماذج أخرى، خاصة في جانب استفادة المنهجيات الحديثة من أصول الفقه كعلم أو كمنهج.

رابعاً: إن ما طرحه الدكتور علي سامي النشار على أهميته وقيمته، والذي أشار إليه في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام)، إلا أنه يتسم ببعض التشدد غير الحميد، وقد ينـزع نحو القطيعة والانغلاق، ويقطع على الفكر الإسلامي إمكانية التواصل والانفتاح مع الفكر الإنساني، والتجربة الإنسانية.

وقد تجلى هذا الموقف في التحسس الشديد عند الدكتور النشار، من كل ما له علاقة بخارج إطار الفكر الإسلامي من أفكار ومعارف ومناهج وغيرها، وكأن الإسلام يمنع على المسلمين اكتساب العلوم والمعارف من غيرهم، أو يحظر عليهم التواصل والانفتاح على التجربة الإنسانية، في حين أن الحكمة هي ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وهو أحق بها حتى لو وجدها عند غير المسلمين.

وفي هذا النطاق، اصطف الدكتور النشار إلى جانب أولئك الذين تعاقبوا على تحريم وتكفير المنطق اليوناني، وعلى الهجوم والسخرية منه، وهو الذي منه ابتدأت تأسيسات وتطورات علم المنطق، ووصل اليوم إلى ما وصل إليه من تطور وتقدم، نقله في مرحلة إلى المنطق الرياضي، وفي مرحلة أخرى إلى المنطق الرمزي.

ولم يعترف الدكتور النشار، وقبله أولئك الذين حرموا وكفروا المنطق، بأي فضيلة لهذا العلم، ولم يكن النشار أكثر دراية وتبصرا من الغزالي الذي اقترب من المنطق، بعد أن فتح أشرس وأخطر معركة مع الفلاسفة، حتى قيل أنه أطاح بالفلسفة، وأعاق تقدمها في العالم الإسلامي، لكنه أعاد الاعتبار إلى المنطق.

وما يعرفه الدكتور النشار قبل غيره، أن المنطق الذي تواصل معه المسلمون هو المنطق الصوري، القائم على الأسس والبديهيات العقلية، والذي لا خشية مفترضة منه، فهو الجانب المفرغ من التأثيرات العقائدية والميتافيزيقية.

كما أن هذا التواصل حصل في زمن كان المسلمون في عزة وقوة، ولم يكونوا في خشية من التأثيرات الفكرية والعقائدية الأجنبية.

وإذا كان الدكتور النشار قد وجد أن علماء المسلمين، فقهاء وأصوليين ومتكلمين، قد أبدعوا لأنفسهم منطقا إسلاميا مغايرا للمنطق اليوناني وبديلا عنه، سيظل السؤال: هل كان بإمكان المسلمين التوصل إلى إبداع هذا المنطق، من دون التعرف والتواصل مع المنطق اليوناني؟

ومن جانب آخر، إن أصول الفقه هو من أكثر العلوم الإسلامية ضبطاً وإحكاماً وتماسكاً وأصالة، إلى غير ذلك من أوصاف ظلت وما زالت تذكر لهذا العلم من الأزمنة القديمة حتى اليوم، الأمر الذي يعني أن لا خشية على هذا العلم تحديداً من التأثيرات الأجنبية الفكرية والعقائدية، التي يمكن أن تعبث بقواعده وضوابطه وأصوله، وتحرفه عن مساره وغايته.

يضاف إلى ذلك أن المسلمين حين تعرفوا على المنطق اليوناني، كانوا آنذاك في مرحلة بناء الحضارة، ومواصلة التطور الحضاري، وجميع الحضارات في مثل هذه المرحلة عادة ما تندفع نحو الانفتاح والتواصل مع باقي الحضارات الأخرى تثاقفا وتفاعلا واقتباسا، ولا خشية من ذلك أبدا، فليس هناك حضارة في التاريخ الإنساني نشأت وبقيت واستمرت من ذاتها، وظلت منقطعة ومنفصلة عن باقي الحضارات الأخرى، وعن الإرث الحضاري الذي يعطى له صفة المشترك الإنساني، والمتعاقب دائما بين الحضارات.

ثم هل المنهج لا يكون إسلاميا إلا إذا كان منقطعا كليا، ومنفصلا بصورة تامة عن المعارف والتجارب الإنسانية، ويكون صادا ومخاصما لها، ومتأثما منها، في الوقت الذي يدعونا القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى السير في الأرض بمنطق فانظروا، كما في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(18).

وقوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(19).

وقوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ)(20).

إلى جانب آيات أخرى عديدة. والسير في الأرض في منطق هذه الآيات الكريمة قطعا ليس بمعنى السياحة والتنـزه والترفيه عن النفس، وإنما هو بمعنى تكوين المعرفة بالأقوام والأمم والمجتمعات الإنسانية كافة، الممتدة والمنتشرة على مساحة الأرض الواسعة، والنظر هو بقصد الاتعاظ والاعتبار من تجارب هذه الأقوام والأمم والمجتمعات، تقدمها وتراجعها، نجاحها وفشلها، ويدخل في مفهوم النظر الاستفادة والاقتباس من علوم ومعارف وخبرات هذه الأقوام والأمم والمجتمعات، والذي يعطي معنى التواصل والانفتاح على التجربة الإنسانية الثرية، وليس الانقطاع والانغلاق عنها.

أقول هذا الكلام ولست متحمسا على الإطلاق للمنطق اليوناني، ولست بصدد الدفاع عنه، خاصة أنه لم يعد له وجود يذكر، وقد تجاوزه المنطق الحديث وجعله من تراث الماضي، وإنما كنت بصدد الدفاع عن مبدأ التواصل والانفتاح على التجربة الإنسانية، والتي مُثِّل فيها المنطق قديما صورة من الصور.

خامساً: أما بشأن العلاقة المنهجية بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية والإنسانية، فلا شك في أهمية وحيوية هذه القضية، إلا أن موضع النظر والنقد هو أن هذه القضية لم تشهد تطورا كبيرا، ولم يحصل فيها تقدم واضح، وظلت كما هي على حالها، ويكاد الحديث عنها اليوم يتوقف أو يتقطع أو يتراجع، ولم يعد على كل حال بذلك الحماس والاندفاع الذي كان عليه من قبل.

وما كان ينبغي أن يتوقف أو يتراجع الحديث عن هذه القضية، قبل الوصول بها إلى مرحلة النضج، والبلوغ بها درجة الاكتمال، أو لا أقل الانتهاء بها إلى حد التماسك، وإخراجها من دائرة القلق والاضطراب، أو من دائرة النـزاع والخلاف، أو من دائرة النقص والضعف المنهجي والمعرفي.

ومن الأسباب التي أعاقت تطور وتقدم هذه القضية، هو أن الاقتراب منها، والحديث عنها، والنظر فيها، حصل من طرف واحد تقريبا، هو طرف الذين ينتسبون إلى حقل الدراسات الإسلامية، فهؤلاء هم الذين أدلوا بدلوهم في هذه القضية، وجاء دلوهم وفق منظوراتهم وتفسيراتهم التي ينسجمون ويتوافقون معها.

وغاب في المقابل الطرف الثاني، وهم الذين ينتسبون إلى حقل الدراسات الاجتماعية والإنسانية، ولم يعرف على وجه التحديد طبيعة رؤية هؤلاء، وما هي منظوراتهم وتفسيراتهم لهذه القضية، والتي لا يكتمل الحديث من دونها.

ولعل الذي جعل هؤلاء أو الكثير منهم على هذا الموقف، هو غربتهم الطويلة عن علم أصول الفقه، الغربة التي جعلتهم بعيدين عن الدراية بهذا العلم، وما فيه من معارف وخبرات وقواعد ومنهجيات، كما أن أصول الفقه بوضعيته التقليدية القديمة لا يشجع هؤلاء، أو لا يشجع الكثيرين منهم على الاقتراب منه، والتواصل معه، وذلك بسبب أدبه القديم، وصعوبة عبارته، وشدة تخصصه.

ومن الأسباب الأخرى التي أعاقت تطور وتقدم هذه القضية، هو أنها لم تعط ما تستحق من الأهمية والاهتمام من جهة النظر والبحث والنقاش، ويكفي للدلالة على ذلك أننا حتى هذه اللحظة، لم نسمع عن ندوة واحدة، أو حلقة دراسية متخصصة جمعت وضمت باحثين ومتخصصين في علم أصول الفقه، إلى جانب باحثين ومتخصصين في علوم الاجتماعيات والإنسانيات للنظر والبحث والنقاش في هذه القضية، بقصد التوصل إلى رؤية مشتركة، أو إلى رؤية تعبد طريق التوصل إلى رؤية مشتركة في هذا الشأن.

وما زالت هناك حاجة وحاجة ملحة لبلورة وصياغة مثل هذه الرؤية المشتركة في تطوير وبناء العلاقة المنهجية بين علم أصول الفقه وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية.

***

الهوامش

(1) محمد عابد الجابري. تكوين العقل العربي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص95.

نقلا عن: محمد حميد الله، في المقدمة التي كتبها لكتاب: المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري المعتزلي، ج2، ص7. (المقدمة مكتوبة بالفرنسية في آخر الجزء).

(2) فخر الدين الرازي. مناقب الشافعي، ص100.

(3) محمد مهدي شمس الدين. الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999م، ص14، 16، 19، 30، 31.

(4) حسن حنفي. من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2005م، ج1، ص26.

(5) عبدالحميد أبو سليمان. قضية المنهجية في الفكر الإسلامي، الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، 1995م، ص5.

(6) علي سامي النشار. مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، بيروت: دار النهضة العربية، 1984م، ص6.

(7) علي سامي النشار. المصدر نفسه، ص5.

(8) علي سامي النشار. المصدر نفسه، ص8.

(9) علي سامي النشار. المصدر نفسه، ص91.

(10) علي سامي النشار. المصدر نفسه، ص90.

(11) محمد عابد الجابري. تكوين العقل العربي، مصدر سابق، ص95.

(12) محمد عابد الجابري. المصدر نفسه، ص95.

(13) محمد عابد الجابري. المصدر نفسه، ص96.

(14) نصر محمد عارف وآخرون. قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م، ص396.

(15) نصر محمد عارف وآخرون. المصدر نفسه، ص423.

(16) طه جابر العلواني. أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م، ص7-8.

(17) نصر محمد عارف وآخرون. قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، مصدر سابق، ص369-371.

(18) سورة العنكبوت: 20.

(19) سورة الروم: 9.

(20) سورة آل عمران: 137.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر