جرت العادة في مصر عند الحديث عند أي تعديل للدستور أو عند وضع دستور جديد، أن يكون التركيز منصبًا على قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو أمر وإن كان يعتبر مؤشرًا إيجابيًا على تمسك المصريين بشريعة دينهم، وعدم استطاعة أحد نزع حُب هذه الشريعة من قلوبهم، إلا أنه يكشف كذلك دائمًا عن العديد من الجوانب السلبية الخطيرة والمتجددة في منهج التعامل مع هذه القضية الأساسية، والتي تحتاج إلى ثورة فكرية تجديدية للخلاص من هذه السلبيات، وهي:
1) عدم وضوح المقصود بمفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية عند الكثيرين؛ فمنهم من يضيق به حتى يحصره في “الحدود” و”فرض الحجاب على المرأة” و”إطلاق اللحية بالنسبة للرجال” (وهذا أمر يتساوى فيه بعض الذين يسمون بـ “السلفيين”، وكذلك بعض “العلمانيين”)، ومنهم من يتوسع فيه إلى درجة المساواة بينه وبين مفهوم “الحل الإسلامي” الشامل والذي يتعدى الجانب القانوني إلى ما عداه من جوانب الشريعة الأخرى.
2) تصوُر أن الشريعة الإسلامية هي كيان تشريعي جاهز تمامًا للتطبيق، ولا تحتاج لاجتهاد جديد، أو حتى تدرج لفرضها على الناس، باعتبار أنها اكتملت باكتمال رسالة النبي r، مصداقًا لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (سورة المائدة: 3).
3) تصوُر أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يتم إلا عبر نص دستوري واضح ومحدد ينص على مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع، مما يجعل كل مساس بالدستور ينتج عنه معركة شرسة بين المؤيدين لتطبيق الشريعة والمعارضين له، تؤدي دائمًا إلى غفلة عن نصوص دستورية أخرى هي ذاتها قد تحول دون التطبيق الصحيح للشريعة بل ودون النهوض بالوطن نفسه، مثل تلك النصوص التي من شأنها ترسيخ الاستبداد والحكم الفردي، وتقنين الاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم.
4) عدم الإدراك الصحيح للبيئة السياسية والتشريعية والقضائية التي يراد تطبيق الشريعة الإسلامية فيها؛ فقد يتصور البعض – على سبيل المثال – أن المشكلة الأساسية والعائق الأكبر الذي حال دون تطبيق الشريعة هو أن نص المادة الثانية من الدستور يتحدث عن “مبادئ الشريعة” كمصدر رئيسي للتشريع، وليس عن “أحكام الشريعة” أو عن “الشريعة الإسلامية” بدون إضافة مبادئ أو أحكام، غافلين عن أن المشكلة الحقيقية لم تكن في النص الدستوري نفسه بل كانت تتمثل في انعدام الإرادة السياسية لتطبيق الشريعة، ووجود حاكم فرعوني استخف بالمحكومين فأطاعوه، وأن هذا الأمر – لا غيره – هو الذي دفع بالمحكمة الدستورية العليا إلى تحجيم النطاق الزمني والنطاق الموضوعي لنص المادة الثانية من الدستور، فجعلتها لا تسري على القوانين السابقة على نفاذ هذا النص بعد تعديله سنة 1980، وضيقت من مفهوم مبادئ الشريعة الإسلامية فحصرته في الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة وحدها، وجعلت الخطاب في النص موجهًا للمشرع وحده وليس للقاضي كذلك، وبما أن المشرع – أي مجلس الشعب – كان تحت الهيمنة الكاملة لرئيس الدولة الذي هو نفسه رئيس السلطة التنفيذية، فإن المشرع لم يتحرك قيد أنملة نحو تفعيل هذا النص، فبقي شبه منعدم الأثر يستدعى فقط عند أي تعديل دستوري لإلهاء المواطنين عن إصدار المزيد من النصوص السالبة لحرياتهم وكرامتهم!
وإذا كانت هذه هي السلبيات – باختصار – فما هو السبيل إلى المنهج الصحيح في النظر إلى قضية تطبيق الشريعة الإسلامية؟
يحتاج الأمر إلى ثورة حقيقية للتخلص من تلك السلبيات والتوصل إلى التطبيق الصحيح المنشود للشريعة الإسلامية، ويمكن تلخيص معالم هذه الثورة في النقاط الآتية:
1) الوعي بأن الشريعة الإسلامية وإن كانت قد اكتملت قبيل وفاة النبي r إلا أن تطبيقها على الواقع يحتاج إلى وعي واجتهاد وتدرج في التنـزيل حتى لا يساء تطبيقها فيردها الناس جملة واحدة.
2) أن ندرك أن العبرة في الإلزام بتطبيق الشريعة الإسلامية ليست بالضرورة في وجود نص دستوري حاسم وجازم يضمن هذا التطبيق، بل إن العبرة تتمثل في وجود رأي عام قوي وواعي يؤمن بالهوية الحضارية الإسلامية للوطن، ويضمن هذا التطبيق ويحميه حتى لو كان النص الدستوري يكتفي بأن “الإسلام دين الدولة” فهذا وحده كافٍ للاستناد إلى مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع باعتبار أن الدين الإسلامي لا يمكن فصل الشريعة فيه عن العقيدة، فضلاً عن أن الوضع في مصر قد تغير الآن وأصبحت هناك إرادة سياسية معلنة بتبني تطبيق الشريعة في ظل وجود رئيس للدولة ينتمي إلى جماعة إسلامية كبيرة، واحتمالية وجود أغلبية برلمانية إسلامية في مجلس الشعب المقبل من السهل عليها – حينئذ – سن قوانين تستمد من الشريعة الإسلامية أيا كانت صيغة نص المادة الثانية من الدستور.
3) أن ندرك أن الشريعة الإسلامية ليست حدودًا وحجابًا للمرأة فقط، فهي عقائد وأخلاق ومعاملات، ولن يفلح أي تطبيق يتغاضى عن أي من هذه المكونات الثلاثة، ولاسيما العقيدة التي تحرم الشرك بالله سبحانه، ومن ثم تستلزم القضاء على “الشرك” الذي حال دون التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية، وهو “الاستبداد” الذي يمثل منازعة لله في حكمه، ويجعل من حاكم البلاد وكأنه يقول للشيء كن فيكون، مما جلب التبعية والفساد للبلاد، فأذل وأفقر العباد.
4) إدراك أن فشل جميع تجارب تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحديث كان ناتجًا – في الأساس – عن التركيز المبالغ فيه على الحدود الشرعية التي تمثل الجانب العقابي في التشريع الإسلامي وعلى الاهتمام ببعض الجوانب الفرعية والشكلية الأخرى، غافلة عن أن الأولى كان البدء بتحرير الإنسان أولاً من “شرك” الاستبداد، وإقامة الدولة العادلة الحرة المستقلة، والتي تحفظ للإنسان كرامته وحريته، وتضمن له عيشة هنية سوية، وبعد ذلك وليس قبله تطبق الحدود التي تبقى سياجًا منيعًا تحول دون تضييع مكتسبات تطبيق الشريعة الإسلامية وتحقيق مقاصدها.
5) ويبقى بعد ذلك الإيمان بحقيقة أن تطبيق الشريعة الإسلامية في النهاية هو تطبيق “بشري” لنصوص إلهية، ومن ثم فهو سيكون دائمًا عاجزًا عن تحقيق الفردوس الأرضي لأن هذا سينافي سنة إلهية قضت بأن الإنسان خُلق في “كَبَد” ومشقة، وأن كل بني آدم خطاء، وأن واجبنا فقط أن نسعى غاية وسعنا إلى التخفيف على الناس والتيسير عليهم في إطار الالتزام بمرجعية الشريعة الإسلامية وبما يحقق مقاصدها ومكارمها.
والله أعلى وأعلم.