مقدمة:
إن الأمة الإسلامية – وهي في منسلخ ثلث قرنها الخامس عشر للهجرة وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين للميلاد- تحمل مسئولية القيم والرحمة إلى الأمم، وهي أمة شهدت وتشهد على أرضها أحداثاً جسيمة ليست باعتبار تأثيرها عليها بل على العالم أجمعه.
فهي من الناحية الجغرافية تمثل المنطقة الوسطى في الكرة الأرضية؛ مما منحها فرصة التواصل مع الثلث الغربي والثلث الشرقي، ولكنه فرض عليها أن تصطدم وأن تمتص الصدمات تاريخياً وحاضرا؛ وهي صدمات وهزات عنيفة مباشرة أو ارتدادية، ولكنها تصمد ثقافياً وخصوصية، إذا قسنا الوجود بالمعيار الثقافي، وهي خزان مخزون الطاقة الأثرى في العالم.
وبالإضافة إلى البعدين الجغرافي والاقتصادي، فهي مهد الرسالات السماوية الثلاث، ومهاد البقاع المقدسة.
كل ذلك أغرى أتباع الديانات وغيرها بخوض نزاع مرير في أرضها على مر التاريخ الذي لا يزال ماثلا، وحرك موجات الاستعمار القديم والحديث.
لكنها في الوقت نفسه تعيش أزمة حضارية وفكرية جعلتها في خصومة مع التاريخ ومع العصر على حساب التنمية الروحية والنفسية والإنسانية والاقتصادية؛ مما أفقدها الانسجام الضروري بين الضمير الديني والأخلاقي والواقع الإنساني المعاصر، فلم تستطع المواءمة بين كلي الزمان وكلي الشرائع والإيمان.
إن كلي الزمان يتمثل في الحريات بأنواعها وأصنافها – حرية اللسان وحرية الأركان والمساواة بين الإناث والذكران ومتطلبات حقوق الإنسان..
أما كلي الشرائع والإيمان، فإنه يلتزم بالمحافظة على الأديان والأبدان والمال والنسل والعقل؛ بتفاريع وترتيبات، سنرى بعضها في هذه الورقة.
إنَّ هذه الأمة بحاجة ماسة بل في ضرورة حاقة لمراجعة مضامين شريعتها في كليها وجزئيها؛ لتعيش زمانها في يسر من أمرها، وسلاسة في سيرها، في مزاوجة بين مراعاة المصالح الحقة ونصوص الوحي الأزلية.
إنَّ المراجعة ليست مرادفة للتراجع، وإن التسهيل ليس مرادفاً للتساهل، وإن التنـزيل ليس مرادفاً للتنازل.
إنه ترتيب للأحكام على أحوال المحكوم عليهم؛ وهم المكلفون الذين خاطبهم الشارع خطاباً كلياً مبشرا وميسرا ومنبها ومنوهاً بأن الشريعة الخاتمة لا تريد إعناتهم، وأن تلك إحدى ميزاتها البارزة، وصفاتها الباهرة: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
فبنص الوحي رفع الحرج، وبنص الوحي يتوقف التكليف عند حدود الضرورات، وبنص الوحي من لا يتمتع بحرية الإرادة لا تكليف عليه.
لكن كيف توزن الضرورات؟ إنها أحوال، وموازين الأحوال ليست كموازين الأشياء المادية والأثقال.
كيف نقيس الحرج؟ لتعطيل وليس لتبديل حكم، لتنـزيل على واقعة وليس لتنازل عن قيمة، بتأويل وليس بتحويل ولا تحايل، وبتعليل وليس بتعلل ولا تعالل.
التأصيل: إن مقاربة الاجتهاد بتحقيق المناط: “فقه الواقع والتوقع” ترمي إلى هذه الغاية. فما هي مرجعية هذا النوع من الاجتهاد؟ إنها الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة.
ففي القرآن الكريم: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)، (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا).
كلها تأصيل لتحقيق المناط؛ لأنها تشير إلى المآلات إلى جانب عشرات الآيات. وفي الأحاديث النبوية الكثير من ذلك، كمسألة بيع الرطب بالتمر، قال: “أينقص إذا يبس؟ قيل: نعم قال: إذًا فلا”. وفي حديث: “هل لا سألوا إذا جهلوا إنما دواء العي السؤال”. – في قضية من أفتى بالاغتسال فهلك- وحديث: “لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم”.
وفي عمل الخلفاء الراشدين؛ ككتابة الصديق المصحف وجمعه، وقتال مانعي الزكاة.
وكذا صنيع عمر في الخراج، ومنعه سهم المؤلفة قلوبهم، وإيقاف حد السرقة.
وعثمان إذْ أتم الصلاة في الحج، وأحدث الأذان الأول، إلى آخره.
وسيدنا عليّ بتضمينه الصناع قائلا: لا يصلح الناس إلا ذاك، وقتال الخوارج.
وكل عمل الصحابة المشتهر الذي يخالف نصاً أو ظاهراً مراعاة لمصلحة أو مجافاة لمفسدة يمكن اعتباره داخلا في وعاء تحقيق المناط، سواء سميناه استحساناً أو استصلاحاً أو سياسة شرعية، قد يرجع اختلافهم أحياناً إلى الاختلاف في شهادة أو الاختلاف في حال. وكل ما تقدم من الألقاب يعبر عن تحقيق المناط في بعض أشكاله وصوره.
وقد أعمل الفقهاء تحقيق المناط وخاصة مالكا درءًا لمفسدة في الذرائع، وجلباً للمصلحة في المصالح، حتى ادعى ابن العربي أنه انفرد بهذين الأصلين قائلاً: وهو في ذلك أهدى وأقوم قيلا.
أما علماؤنا في المغرب الإسلامي فقد وضعوا قاعدة “إجراء العمل”؛ ليجددوا المذهب من خلال مصالح تجددت، وأعراف تغيرت، وضرورات وحاجات طرأت في مئات المسائل.
ففي الأندلس كان إنشاء الكنائس، وغرس الحدائق في المساجد تحقيقا لمناط المكان.
ونحن في بلد إجراء العمل ورواج العمليات، فما من منطقة في هذه المملكة المحروسة إلا وقد سجل علماؤها ترجيحاً لقول كان مرجوحاً بناء على نظر معتبر في المصالح.
لماذا تحقيق المناط في القضايا الفقهية؟
الجواب: إن القضايا الفقهية – التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة- يجب أنْ تواكب مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة، وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، من أخمص قدم الأمة إلى مفرق رأسها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والعلاقات الدولية؛ للتمازج بين الأمم، والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات، والتطاول إلى فضاء المعتقدات.
وقد أصبحت الأنظمة الدولية، والمواثيق العالمية، ونظم المبادلات والمعاملات جزءا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه اسم العولمة والعالمية، في الوقت الذي تراجع فيه الاجتهاد، وتواضع فيه الاستنباط، وضاقت فيه مساحة الإبداع، وساد ضمور في الفهم، مما أخل بالتوازن وانعكس على تماسك المجتمعات بين فريقين: أيس أحدهما من المنظومة الفقهية فأشاح بوجهه عنها، وخُطف بصره بالتنوير والتحديث الغربي؛ ذلك التنوير الذي عرّفه “كانت” بأنه تفكير بلا سقف، لا يهديه كتاب، ولا يرشده قسيس، ولا توصف له وجبة غذاء.
وذلك التحديث الذي يشير -عند ماكس فيبر- إلى جملة من سيرورات تراكمية يشد بعضها بعضاً، فهو يعني تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال، ونمو القوى الإنتاجية، وزيادة إنتاجية العمل، كما يشير أيضا إلى إنشاء سلطات السياسة المركزية، وتشكل هويات قومية، ويشير أيضا إلى نشر حقوق المشاركة السياسية، وأشكال العيش المدني، والتعليم العام، وأخيراً يشير إلى علمنة القيم والمعايير، إلخ”(1).
وتقابلها مجموعة أخرى لم تفهم من النصوص إلا بعض الظواهر، تحاول أن تعيش في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، فقلّ علمها، وضاق فهمها، وخمدت لديها ملكة الاجتهاد.
وفي تقديرنا أن منهجًا فريدًا جامعا بين إرشاد الوحي وسداد العقل، أصيلا في منطلقاته، حديثاً في تناولاته، مستوعباً أصول التعاطي مع الكتاب والسنة في منطوقهما ومفهومهما، في معانيهما ومعقولهما.
إن هذا المنهج يوسع دوائر الاجتهاد بأنواعه الثلاثة وبخاصة بتحقيق المناط؛ ليرشح الكليات ويرجحها على النظر الجزئي الذي جعل الأمة تعيش مبارزة ومنابزة حول كل فرعية في شتى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والمؤسساتية والسياسية والتعايشية.
فكل مجال يمكن سرد عشرات القضايا التي لو درست بنظر كلي لأمكن أن تجد حلولا تخفف من غلواء الاختلاف. إنها كليات ذات جذور ثلاثة: الشريعة نصوصاً ومقاصدَ، ومصالح العباد، وموازين الزمان والمكان.
بذلك تصاغ تلك الكليات، وتطوع الجزئيات؛ تصديقاً لمقولة الشاطبي: إن اختلال الكلي يؤدي إلى انخرام نظام العالم.
وإذا كانت النتائج – كما نشاهد في المجامع الفقهية – تشير إلى عجز في التواصل بين الواقع وبين الأحكام، وأحيانا إلى عدم الانضباط في الاستنتاج والاستنباط، فإن ذلك سيكون مدعاة لمراجعة أدوات توليد الأحكام والاجتهاد المعطلة، وتجديد دارسها ونفض الغبار عن طامسها؛ لأن إغفال الواقع يؤدي إلى وضع الأحكام الشرعية في غير موضعها، والغفلة في إطلاقها عن تقييدها مما يفوت المصالح المرجوة من ورائها، ويفضى إلى مفاسد هي منـزهة عنها.
وذلك أن إنزال الأوامر والنواهي من غير نظر في صورة الموضوع وحالة المحكوم عليه يفضى إلى عكس المقصود.
ونحن اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائماً أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور.
وإن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يظلان النبراس الدائم، والينبوع الدافق، بهما يستضاء في ظلمة الدياجير، ومنهما يستقى في ظمإ الهواجر، بأدوات أصولية مجربة، وعيون معاصرة مستبصرة.
فالاستنباطات الفقهية القديمة كانت في زمانها مصيبة، ولا يزال بعضها كذلك، والاستنباطات الجديدة المبنية على أساس سليم من تحقيق المناط هي صواب؛ فهي إلى حد ما كالرياضيات القديمة التي كانت تقدم حلولا صحيحة، والرياضيات الحديثة الآن التي تقدم حلولا سليمة ومناسبة للعصر.
هل من سبيل إلى تنـزيل الشرائع والإيمان على كلي العصر والزمان، وإيجاد مشتركات ومعايير تخفف من غلواء الاختلاف، وتسهل الائتلاف، من خلال تحقيق مناط كلي العدل والإحسان.
تعريف تحقيق المناط:
التحقيق: من حقّ الشيء يحِقّ إذا ثبت، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيّر، ومن أسماء الله الحسنى (الحق).
والمناط: هو العلة من النوط أي التعليق، فالحكم معلق بها، تقول: ناط به نوطاً أي علقه.
وتحقيق المناط له صورتان:
الصورة الأولى: “تطبيق القاعدة العامّة في آحاد صورها” وحينئذ يكون تحقيق المناط بعيدا عن القياس، وهذا التعريف هو الذي مال إليه الغزالي في كتابه “المستصفى”.
مثال ذلك: قاعدة العدل في قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِـﭑلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ) فتعيين ولي الأمر العدل يعتبر تحقيقاً للمناط؛ لأنّك طبّقت القاعدة العامّة وهي “العدل” في آحاد صُورها وجزئيّاتها وهو: تعيين أولياء الأمور، ونصب القضاة.
وكذلك في قوله تعالى: (فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ) فلو قتل شخصٌ حماراً وحشياً فعليه بقرة لأنّها تشبه الحمار الوحشي.
فهذا تطبيق للقاعدة العامة في مسألة معيّنة.
الصورة الثانية: إثبات علّة متّفق عليها في الأصل في الفرع لإلحاق الفرع بالأصل، وهذا ما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله :
تَحقِيقُ عِلَّةٍ عَلَيْها ائْتـُلِفا
في الْفَرْعِ تَحْقيقُ مَناطٍ اُلِفا
وهذا التعريف أدقّ من التعريف الأوّل، فالعلّة المتفق عليها في الأصل إذا أثبتناها في الفرع فهذا هو تحقيق المناط. مثال ذلك:
علّة الربا في المطعومات عند مالك هي “الاقتيات والادّخار” وكان الإمام مالك رحمه الله بالحجاز، وكان التين عندهم غير مقتاتٍ مدّخرِ؛ فلذلك لا يجري فيه الربا. فلمّا ذهب تلاميذ الإمام مالك إلى الأندلس وجدوا أنّ التين يُقتات ويدّخر، فأثبتوا العلّة التي هي الاقتيات والادّخار في الفرع الذي هو التين من باب تحقيق المناط، وقد أثبتوا رواية عن مالك في ربويته.
وقد ذهب خليل في مختصره إلى أن التين غير ربوي؛ ولعله لم يكن مدخرا في مصر في ذلك الأوان، ونصه: “لا خردل وزعفران وخضر ودواء وتين وموز وفاكهة ولو ادخرت بقطر”.
كذلك لو جزمنا أنّ العلّة في الذهب والفضة هي الثمنية ثمّ وجدنا أنّ النقود الورقية أصبحت ثمنا للأشياء، فحينئذ نقوم بتحقيق المناط ونثبت العلّة الثابتة في الأصل في الفرع الذي تنطبق عليه.
فعملية تحقيق المناط عبارة عن البحث عن الواقع وملاحظة هذا الواقع حتى نطبّق عليه حكم الأصل.
والفرق بينها وبين القياس: أنك لا تلحق فيها بأصل معين، بل تنـزل الحكم بناء على العلة التي أصبحت بمنـزلة الكلي.
وقال الشاطبي: الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف وذلك عند قيام الساعة، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.
فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف بين الأمّة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله(2).
فإذا كان الشاطبي أبرز تحقيق المناط في الأنواع والأشخاص باعتباره إضافة أصولية مشيراً إلى أن ما سواه قد تكفل به الأصوليون، فإن الشيخ عبدالوهاب الشعراني رحمه الله تعالى قد أقام على هذا النوع ميزانه في الفقه المقارن؛ حيث اعتبر أن اختلاف الأئمة يرجع إلى هذا الميزان المتمثل في حالة المكلفين من قدرة وقوة تتحمل عزائم التكليف وشدائده، ومن ضعف أو فقر تستدعي حالة الترخيص والسهولة، بل علل بها أحكام الشارع ضارباً صفحاً عن دعوى النسخ كما في مس الذكر في حديث طلق بن علي: “إن هو إلا بضعة منك”. مع حديث: “من مس ذكره فليتوضأ”، باعتبار أنَّ الأولَ أعرابيُّ، والثاني صحابي راسخ.
ومن ذلك حديث عدي بن حاتم في الصيد عندما أجابه عليه الصلاة والسلام بقوله: “كل ما أصميت ولا تأكل ما أنصيت”، فمنعه من أكل الصيد إذا غاب وفيه السهم ولم يمت فورًا، مع حديث أبي ثعلبة الخشني الذي قال: “كُل ولو بات ثلاثاً ما لم ينتن”.
ووجهه أبو حامد في الإحياء بأن حالة الأول اقتضت التشديد، وحالة الثاني وهو فقير يحتاج إلى الطعام اقتضت الترخيص.
وأشار القرطبي إلى هذا الجمع في تفسيره، فقال: ولما تعارضت الروايتان رامَ بعضُ أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنـزيه والورع، وحديث الإباحة على الجواز، وقالوا: إن عدياً كان موسَّعاً عليه فأفتاه النبي r بالكف ورعاً، وأبا ثعلبة كان محتاجاً فأفتاه بالجواز، والله أعلم(3).
وبالغ إمام الحرمين فجعل أفكار العلماء في الواقع بمنـزلة النسخ على ألسنة الأنبياء.
إن الاختلاف في التعريف هو اختلاف عبارة وإشارة وليس اختلاف دلالة وإيالة، والقول الفصل فيه أنه القنطرة الواصلة بين حكم معروف العلة، وبين مناط موصوف، وبين محل مشخص معين لتحقيقها؛ لجعلها حاقة أي ثابتة تترتب عليها الأحكام المنوطة بتلك العلة، والمحل قد يكون ذاتاً حسية فيعمل الحس فيها؛ لإصدار حكم بتحقيق مناط الحكم ثم ترتيب الأحكام عليها.
ولهذا افتقر الأمر إلى مقدمتين، ككون الماء مطلقاً أو متغيرًا لترتيب الأحكام المنوطة بعلة الطهارة.
وهذا من باب تحقيق المناط في الأعيان كما سماه ابن تيمية في قوله: كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان، كأمره باستقبال الكعبة، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء، وكتحريمه الخمر”(4).
والمطلوب الآن – بالإضافة إلى الأنواع والأشخاص والأعيان- أن نحقق المناط في أوضاع الأمم، ومقتضيات الزمان والمكان.
وقد يكون مناط الحكم صفة معنوية كالعدالة لتحقيقها في شخص معين لترتب أحكام الشهادة والولاية.
إلا أن تحقيق المناط هو تنـزيل الحكم، ويمكن اعتبارهما متباينتين، فيكون تنـزيل الحكم مرحلة لاحقة، فيتحقق المناط بالمقدمة الأولى عند الشاطبي أي التأكيد على أن الماء مطلق، وينـزل الحكم بأن التطهر به جائز.
فتحقيق المناط هو: تشخيصُ القضية مِنْ حيثُ الواقع، فإذا كانتْ عَقْداً يكون ذلك بالتعرّف على مكوناته وعناصره وشروطه.
وإذا كان الأمر يتعلّق بذاتٍ معيّنة لإصدار حكم عليها كالنقود الورقية، فإنَّ الباحثَ يجب أن يتعرَّض إلى تاريخ العملات، ووظيفتِها في التداول والتعامل والتبادل، وما اعتراها على مرّ التاريخ من تطور يتعلّق بذات النقد، كمَعْدِنٍ نفيس إلى فلوسٍ، أو يتعلّق بعلاقته بالسلطة وهي جهةُ الإصدار أو بالسّلَع والخدمات، وهذه هي مرحلة التكييف والتوصيف التي يعبر عنها بتحقيق المناط عند الأصوليين؛ لأنه تطبيق قاعدةٍ متفقٍ عليها على واقعٍ معيّنٍ أو في جزئيةٍ من آحادِ صورِها.
وهذه المرحلة لا غنى عنها للفقيه، فإنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وبدون هذا التصور والتصوير يمكن أَنْ يكونَ الحكمُ غيرَ صائبٍ؛ لأنه لم يصادف محلاً.
وتزدادُ أهمية هذه المرحلة عندما ندرك تعقُّد العقود المعاصرة، وانبناءها على عناصر لم تكن موجودةً في العقود المعروفة لدى الفقهاء مِنْ بيعٍ وسلَم وإجارة وكراءٍ وقِراض وقَرْض ومساقاةٍ ومزارعةٍ وكفالةٍ ووكالةٍ إلى آخرها.
فهنا يتوقف الفقيهُ برهةً من الزمن للتعرف على مكونات العقد، وردّه إلى عناصرِه الأولى لتقرير طبيعته، وهل هو مشتملُ على شرطٍ ينافي سَنَن العقود المجمع عليها والمختلف فيها.
ومن الواضح أن عملية التشخيص في معظمها تستدعي من الفقيه رجوعاً إلى بيئات هذه العقود، وأصول التعامل عند أهلها قبل أَنْ يزنَها بميزانِ الشرع.
وأعتقدُ أنَّ الخلاف بين أعضاء المجامع الفقهية في جملةٍ من المسائل يرجعُ إلى تفاوتُ بين الباحثين في قضية التصوُر والتشخيص أكثرَ مما يرجع إلى اختلافٍ في فهم النُّصوص الفقهية. إذاً فالخلاف هو خلافٌ في علاقة المسألة بتلك النصوص تبعاً للزاوية التي ينظر إليها الفقيه مِنْ خلالها؛ أو اختلاف شهادة وهو: أن يكون موضوع الحكم يحتمل حالين، فيفتي المفتي بناء على أحد الحالين مستبعدا الوصف الآخر، كما يقول البناني.
ولهذا فمن الأهمية بمكانٍ أَنْ يبذُلَ الاقتصاديون الوَضْعيون، والأطباء، وغيرهم من أصحاب الصنائع والتخصصات جهداً لإيصال كل العناصر التي يتوفّرون عليها إلى زملائهم الشرعيين ليحقق هؤلاء المناط لتنـزيل الحكم على واقع العقد وعلى حقيقة الذات.
كيف تحكمون(5)؟
وباختصار فإن تحقيق المناط هو وسيلة: تنـزيل الأحكام الشرعية على الوقائع، باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو وجود الواقع، أو الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة.
هذا الوجود الخارجي مركب تركيب الكينونة البشرية في سعتها وضيقها ورخائها وقترها وضروراتها وحاجاتها وتطورات سيرورتها.
فإطلاق الأحكام مقيد بقيودها وعمومها، مخصوص بخصائصها، ولذلك كان خطاب الوضع شروطاً وأسباباً وموانع، رخصا وعزائم، ناظماً للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه: طلب إيقاع، وطلب امتناع، وإباحة، وبين الواقع بسلاسته ورخائه وإكراهاته.
إن التنـزيل والتطبيق هو عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد، في جدلية بين الواقع وبين الدليل الشرعي، تدقق في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده.
وهكذا فإن التحقق من مناط حكم الشرع موزوناً بميزان المصالح والمفاسد معتبرة بمعيار الشرع الكلي والجزئي ومعيار العقل الفاحص في كل قضية، هو موضوعنا هنا.
للفت الانتباه إلى أهميته والإمكان المتاح من خلاله لمراجعة كثير من الأحكام التي لو تركت فيها عمومات النصوص على عمومها، ومطلقاتها على إطلاقها، دون تخصيص في الأولى وتقييد في الثانية، دون مراعاة للواقع، لذهبت مصالح معتبرة بكلي الشرع مقدمة على الجزئي في الرتبة والوضع؛ وبهذا ندرك قول القرافي: “الجمود على النصوص أبداً ضلال وإضلال”.
وقول ابن القيم: إن المفتي الذي يطلق حكمًا واحدًا في كل حالة هو مثل طبيب له دواء واحد كلما جاء مريض أعطاه إياه، بل هذا المفتي أضر.
من يحقق المناط؟
فإذا كان تحقيق المناط لا يختص بالمجتهد المطلق، وليس كأخويه: تخريج المناط وتنقيح المناط لارتباطهما بتصور العلة ثبوتاً في الأصل وإثباتا في الفرع، وأما هو فعلاقته بالتصديق وهو بالضرورة النظر في تعيين المحل -حسب عبارة الشاطبي- لتنـزيل الحكم عليه.
فالعلة قائمة، والحكم جاهز، لكنه معلق حتى يتعين محل قابل.
ولهذا كان خطاب الوضع بالمرصاد لخطاب التكليف ليقيد إطلاقه ويخصص عمومه.
فقيام الأسباب لا يكفي دون انتفاء الموانع، والمعادلة هي وجود السبب وعدم المانع، ولن تنتج صحة أو إجزاءً دون توفير شروط، سواء كانت للوجوب مراعية للأسباب إيجاباً وللموانع سلباً أو شروط أداء وصحة، فالعلاقة بين العلة والمعلولات في الشرعية غير ثابتة التلازم إلا بمقدار، فاللزوم الشرعي ليس كاللزوم العقلي فقد يبطل الأصل ويثبت الفرع؛ كثبوت الإرث دون ثبوت النسب.
والرخصــة بمعناها الاصطلاحي تثبت تجاوزا عن النهي وإعفاءًا من الطلب، وعلة التحريم قائمة ومقتضى الوجوب ماثل، فلولا ذلك ما صح صوم المريض ولا المسافر.
والرخصة حكم غيـِّر إلى سهولة لقيام عذر مع بقاء العلة الأصلية.
ولكن الأسباب والموانع منها الخفي، ومنها الجلي، ومنها الظاهر، ومنها الغائر.
أجاب الشاطبي عن ذلك بأن من يحقق المناط هو العالم الرباني العاقل الحكيم الذي ينظر في كل حالة.
ولكن هذا الجواب ليس على إطلاقه.
وللخطاب الشرعي مستويات ومراتب، فمنه ما هو موجه إلى الفرد في خاصة نفسه “استفت قلبك ولو أفتوك”؛ كما شرح الشاطبي في “الاعتصــام”: (ذَلِك لِمَنْ خَشـيَ الْعَنَت مِنكُمْ)، من خاف المشقة أو الوقوع في الفاحشة إذا لم يتزوج، فهذا خطاب موجه إلى صاحب القضية، فهو الذي يحقق المناط بتقدير حالته التي هو أعلم بها.
لكن هناك خطاب موجه إلى الجماعة، لكنه يقصد به الفرد: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة) فمن يحقق المناط هو الذي يريد أن يتزوج أكثر من واحدة. كما أنه بإمكان الجماعة ممثلة في الجهات الولائية إذا لاحظت حيفاً أو تحققت من مفسدة غير مرجوحة أن تحقق المناط.
لكن الخطاب قد يكون موجهاً إلى الجهة الولائية ممثلة في القضاة: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)، فبعث الحكمين يرجع إلى الجهة الولائية، فالجهة الولائية هي التي تحقق المناط دون غيرها؛ لأن الأمر معقد، وقد تكون فيه أسباب خفية تفتقر إلى تدقيق لتنـزيل حكم الفراق أو ترتيب شمل الوفاق.
إلا أن الخطاب قد يكون موجهاً للسلطان الأكبر: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) فالذي ينبذ العهود ويعلن الحروب ويوقع الهدنة والسلام ويصدر حكماً بناء على التوقع المشار إليه بـــ “تخافن”؛ لأن الخوف هو توقع مكروه في المستقبل، فالذي يحقق المناط للأمة هنا هو الجهة السلطانية التي تستوعب الأسباب والدوافع الخفية والموانع والشروط الغامضة، فتحقيق المناط لا يتعلق بالأفراد؛ ولهذا طلب بنو إسرائيل من نبيهم – عندما كتب عليهم القتال- أن يعين ملكاً لأنه بدون سلطان الملك تكون الحروب فوضى: (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّه)،ِ لأن نبيهم لم يكن يمارس وظائف الملك.
وهنا أيضا توجد مشكلة قيام بعض الطوائف بإعلان جهاد عالمي تضررت منه الأمة الإسلامية والإنسانية، غير ملتزمة بالضوابط الشرعية ولا بتحقيق المناط.
وهكذا فإن جهة تحقيق المناط تختلف باختلاف الجهات المقصودة بالخطاب، فيقول إمام الحرمين في “الغياثي” – وهو يتحدث عن الحدود- أنها لا يتولاها إلا الخليفة أو نائبه.
وأما التعازير فإنها كما يقول الشافعي طبقاً لإمام الحرمين- موكولة إلى تقدير الإمام أو نائبه، فلو شاء أنزلها ولو شاء رفعها بناء على المصلحة.
فمن يحقق المناط هنا بالتأكيد هو السلطان الذي يمكن أن يكون لديه من الأسباب الخفية ما ليس عند غيره.
ومعنى الخفاء هنا أن العامة قد لا يتوقعون النتائج التي تتوقعها الجهة السلطانية بما لديها من معلومات وتقارير، فعمر عليه رضوان الله عندما أوقف حد السرقة عام الرمادة كان يرى أن الشدة التي فيها الناس لا تتناسب مع العقوبة، فدرأ الحدود بالشبهات، وكذلك عندما أوقف نفي مرتكب الفاحشة كان يتوقع خروج المنفي عن الإسلام بالكلية لمشاهدته حالة من هذا النوع، ولما نمى لعلمه من ذلك. وهذا ما أسميه بالموانع الخفية.
فتحقيق المناط في قيام الأسباب وانتفاء هذه الموانع لا يمارسه شرعاً ولا عقلا إلا الجهة السلطانية، لكن الحرام يبقى حراماً والحلال يبقى حلالاً، فأخذ أموال الناس يظل حراماً، وارتكاب الفاحشة وشرب المسكرات سيظل حراماً إلى يوم القيامة، لا تبديل للشرع، فهي بمنـزلة القيم الكبرى للمسلمين ولكل الديانات في المحافظة على الكليات “الدين والنفس والمال والعقل والنسب”.
وتبقى العقوبة معلقة في المجال الزجري على تحقيق المناط من الجهة المختصة لتنـزيل الحكم على المحل، ولهذا يقول القرطبي: “إنهم اتفقوا على أن للإمام أن يؤخر القصاص إذا خاف فتنة”، ويقول إمام الحرمين في “الغياثي”: وكان المنافقون المقطوع بنفاقهم بالوحي ولم يتعرض لهم عليه الصلاة والسلام.
وعلى الجهات الولائية أن تبذل أقصى جهدها، وهذا معنى الاجتهاد بتحقيق المناط فيما يتعلق بالأحكام الشرعية التي وضعها الشارع للمحافظة على هذه الكليات دون أن تخل بمصلحة معتبرة شرعية أو تؤدي إلى مفسدة أعظم مطلوبة الدرء شرعاً؛ لأن تحقيق المناط الناشئ عن التوقع أو النظر في المآلات والذرائع، دائر مع المصالح والمفاسد، فتارة يمنع من حلال بناء على مآل، وتارة يتجاوز عن نهي بناء على مئال، وهذا نوع من الاستحسان؛ لأنه عدول في هذه المسألة عن أصلها أو قياسها بناء على مصلحة.
ونختم هنا بمثال للخطإ في تحقيق المناط جر على الأمة بلية التكفير إذ يحمل التكفيريون قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون) على مجرد عدم إيقاع الحكم.
ولعل هذا أخطر مثال في قضية الفكر التكفيري تعلق على مشجبها دعوى التكفير لحكام الزمان؛ وهي مسألة تحتاج إلى ضبط، وذلك الضبط يتمثل في فصلين:
أولا: تأويل الآية الكريمة من سورة المائدة: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون)، كما أولها ابن عباس بقوله: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. هذا من حيث دلالة اللفظ.
وقد أطبق علماء السلف على أن هذه الآية مؤولة، وأنه ليس كفرا مخرجاً عن الملة.
ثانيا: من حيث إنَّ عدم التطبيق يمكن أن يقابل بوجود ضرورات معينة تدخل في صلاحيات الإمام المسلم – القائم على الشرع الساهر على البيضة- انطلاقاً من الهدي النبوي في ترك المنافقين المعروفين قطعاً حسب عبارة إمام الحرمين التالية: “وكان r يداري المنافقين مع القطع وتواتر الوحي بنفاقهم وشقاقهم وهو القدوة والأسوة”(6).
وهذا من حيث تحقيق المناط الذي لا يحق لهؤلاء أن يحققوه بل تحققه الجهة الولائية كما فعل عمر حين علق بعض الأحكام تصرفاً بالإمامة لا نسخاً لنص ولا إنكارا لثابت عُلم من الدين بالضرورة، ولكنه تدبير في ميدان التنزيل، وهو ضبط العلاقة بين النص والواقع بناء على ضرورات وإكراهات من شأنها أن تمس مصالح الدين أو الدنيا، ملائمة للمصالح المعتبرة شرعاً، بعيدة عن التشهي ومراغمة الشريعة.
هنا يجب أن نفتح قوساً حول العلاقة والمقارنة بين القيم والأحكام الجزئية، فنقول:
الأحكام هي ثمرة قيم وفضائل: هذه القيم لا تحتاج إلى تحقيق مناط، أما الأحكام الناشئة عنها فتحتاج إلى تحقيق المناط لأنها محفوفة بخطاب الوضع.
إن الشريعة قبل أن تتحول إلى إجراءات قانونية يطبقها السلطان وما يتفرع عن ولايته، فإنها تغرس شجرة القيم التي تثمر الحكم على الأشياء وعلى الأعمال والتصرفات بالحسن والقبح، وبأنها حق أو باطل، أو أنها صحيحة أو باطلة، مقبولة أو مردودة؛ لتنشئ النظم والأحكام الجزئية التي تحميها وتحوطها، ترتب أسبابها وموانعها وشروطها، وبعبارة أخرى تهيئ مجال تطبيق الأحكام الجزئية.
فالفرق كبير بين القيم وما تثمره من قيام الفضائل في نفوس المؤمنين والحرص على تمثلها في حياتهم الفردية والجماعية، والأحكام التنظيمية التي تتعامل مع الانحراف عنها سواء تعلق الأمر بالتشريع المدني أو الجزائي.
فالقيم والفضائل ثابتة لا تحتاج إلى بيئة تطبيق، ولا تفتقر إلى تبوئة؛ لأن خطاب الوضع لا يتعلق بها إلا عندما تكون أحكاماً تفصيلية سواء كانت سلطانية كنظم الولايات والتشريعات الزجرية، أو غير سلطانية؛ كعقود المعاملات والأنكحة سوى ما علق منها بالسلطان كتزويج اليتيمات.
ولهذا فإن طريقة القرآن الكريم هي كالتالي:
في المعاملات مثلاً أقام القرآن الكريم قيمة حفظ المال وحرمة الاعتداء على الملكية: (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ)، ذلك قبل أن ينهى عن الربا: (لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً)، وقبل أن يفصل النبي r ذلك ويضيف النهي عن الغرر والنجش وينـزله على الواقع كبيع الحصاة، وحبل الحبلة، والمضامين والملاقح، وكلها لها شروط وأسباب.
فيثبت أولا المقصد العام الذي لا يتعرض له أي تخصيص.
وكذلك في التشريعات الزجرية، فالقرآن الكريم يؤكد حرمة النفس البشرية: (وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ)، (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)، (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً)، قبل أن يقرر: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ) وهو حكم سلطاني له شروطه.
وكذلك في المحافظة على النسل وهو مظهر لكرامة الإنسان أن يكون معروف الأصل محفوظ الأرومة؛ ولهذا لم تختلف الشرائع ويكاد يكون الأمر مركوزا في الفطرة والجبلة الإنسانية، والتعبير القرآني يشير إلى ذلك بالمحافظة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) فهذا لا يفتقر إلى سلطان.
أما الأحكام التفصيلية فجاءت في آية النور، وكذلك بالنسبة للخمر فقد جاء في القرآن الكريم بأهمية العقل: (أَفَلا تَعْقِلُونَ).
يميز الأصل الكلي أنه عزيمة لا تسقط أبدًا، أي أن المؤمن على أي مستوى كان يجب عليه أن يكون شاعرا بتلك القيمة، ومستشعرا أهمية الفضيلة بقلبه وهو معنى قائم بالنفس.
أما بالنسبة للأحكام الجزائية كإيقاع العقوبة الشرعية – وهي سلطانية- فلها شروطها وضوابطها وموانعها، فالصلاحية فيها للجهة السلطانية وحدها، فلا تسلط للأفراد عليها؛ لأنهم فاقدو الشرط الأول وهو شرط الصلاحية، فلو ارتكب ذلك لكان مخطئا وخاطئا ومتجاوزا للحدود.
وهنا تكمن أهمية تحقيق المناط.
وبالنسبة للسلطان فهو يراعي الشروط والأسباب والموانع الجلية والخفية، فإن عمر لما علق عقوبة النفي بالنسبة للبكر فلا شك أنه قد نمى إلى علمه بأن من تطاولهم العقوبة قد يتركون الملة الإسلامية سخطا، فرأى مظنة المفسدة؛ لأنها لو تحققت في فرد فقد لا تتحقق في غيره. لكن المظنة جعلت عمر يرى أن المفسدة المترتبة على ذلك أعظم، فأوقف ذلك.
وعلق حد السرقة عام الرمادة – وهذا ما أسميه بالمانع الخفي؛ لأنه أمر لا يتعلق بشخص فيعرفه القاضي أو المفتي، ولكنه يتعلق بمجتمع فيحقق المناط فيه السلطان مما يجتمع لديه من العلم بأحوال الرعية، فهو لا يريد أن يحملهم على ما يسخطهم.
لكن الفرق كبير بين القيم والفضائل التي هي: حلال وحرام، قبل أن ننتقل إلى الإجراء الزجري أو الحكم القضائي – فالحدود من اختصاص السلطان أو نوابه والتعزيرات من صلاحياته، “وعزر الإمام لمعصية ولحق آدمي حبساً ولوماً”. -كما يقول خليل-.
وكذلك المحافظة على العقول، توجه القرآن بالخطاب للمؤمنين بالتوقف عن ما كانوا يتعاطون من القمار والميسر: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ).
وبيَّن وجه قبح ذلك ولم يذكر عقوبة معينة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك يعاقب مرتكب تلك المخالفة – الجريمة دون تحديد –على خلاف- ثم اجتهد الصحابة في أيام عمر فحددوا لها ثمانين جلدة تنزيلا على واقع اتساع الدولة واختلاط المسلمين بغيرهم من أهل الديانات الأخرى التي احترم الإسلام خصوصياتها فتشاوروا فيها.
والفرق بين قيم التحريم والتحليل والأحكام التطبيقية من أربعة وجوه:
أولا: أن القيم ثابتة من كل وجه من حيث القطعية، أما الأحكام فبعضها قطعي وبعضها اجتهادي.
ثانياً: أن القيم من باب الكلي وليست من باب الجزئي.
ثالثاً: أن الخروج عليها هو الخروج على النظام العام للأمة.
رابعاً: أنها عزائم لا تعتريها الرخص وعمومات لا تعروها مخصصات خطاب الوضع وحدوده التي تحيط الخطاب الجزئي.
فاحتاج الخطاب الجزئي إلى تحقيق مناط؛ لتنـزيله على محالات معينة مشخصة، طبقاً لاختلاف المحال وتقلبات الأحوال.
الواقع والتوقع:
يراد من هذا العنوان: تقديم مقاربة لتنـزيل أحكام الشريعة في شمولها وعمومها وإطلاقها على بيئة معينة وفي ظرف زماني ومكاني معين، أو ما سماه البعض تعريفاً للواقع بأنه: التقاء بين الزمان وبين المكان والحدث في لحظة محددة، مع ملاحظة أن تلك اللحظة هي الزمان المقصود، وأن المكان مقيد بذلك الزمان باعتبار خصوصهما وتقييدهما والذي من شأنه أن يؤثر في عموم النصوص وإطلاقها، وأن يعيد مراجعة لحظة النـزول وبيئة الوحي لاستحضار أسباب النزول الظاهرة والخفية.
إلا أن الواقع قد يعني حقائق الأشياء أو الوجود الحقيقي في مقابل الوهم والخيال.
والواقع اليوم أصبح يحمل قيماً تلد أحكاماً ونظماً.
فما هي قيم الواقع اليوم؟
الحقوق الإنسانية والحريات الفردية والجماعية، كحرية التعبير والضمير وتقديس حقوق للمرأة إلى حد منح الحصص في المجالس.
حقوق الأقليات التي أصبحت لا تحتاج دعوى اهتضام الحريات والحقوق إلى بيئات، فالأقلية مصدقة ولو كانت غير محقة.
وأصبحت الدساتير تطرز بهذه الحقوق وتعزز بهذه القيم؛ وذلك هو معيار الدستور العصري وعنوان الديمقراطية وبرهان الحداثة والمساواة في الحقوق أحيانا على حساب الواجبات.
واقع التكنولوجيا التي غيرت أسلوب وأدوات التواصل والاتصال – فالفيسبوك وتويتر ويوتيوب- أعانت الفرد على الإفلات من رقابة المجتمع، والتماهي مع قيم أخرى بحيث تصبح الوسائل الزجرية أمام الوضع لا تخلص منه.
وتقنيات الجينوم البشري وما اقترح من معضلات أخلاقية، إذ أتاح العلم، لنفوس عطشى إلى الاكتشاف، التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مآلات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من يعلم الخبء في السموات والأرض.
فالمجامع الفقهية أمام التلقيح الصناعي والتهجين وشهادة الجينات في تناكر الأزواج في حيرة. والقائمة طويلة والأفهام حسيرة في التوقعات.
أما التوقع فهو مصطلح جديد وإن كان حديثا بالنوع قديما بالجنس، فالمجال الذي يغطيه فقه التوقع هو مجال تغطيه الذرائع والمآلات وتغطيه أيضا المترقبات، وهو المصطلح الذي استعمله المقري واستعمله الزقاق في قوله: “وهل يراعى مترقب وقع يومئذ أم قهقرى إذا رجع وتبنى عليه قاعدة الانعطاف وقاعدة الانكشاف”.
إن فقه التوقع يعني استناد الأحكام إلى المستقبل، قد يكون الحكم عدولا عن إذن إلى حظر، وعن حظر إلى إذن، ورفع حرج بسبب أمر يمكن أن يترتب على ممارسة الفعل المأذون فيه، أو الامتناع عن الفعل المنهي عنه.
فمحقق المناط يجب أن يكون يقظا، وعلى علم أولا بأنه ليس كل فعل مطلوب بأصله أو بطبيعته مطلوبا دائما في مآلاته، وبالتالي عليه أن يوازن دائما بين المصلحة المتأدية من هذا الفعل وبين المفسدة التي قد تترتب عليه.
هذا هو فقه المآلات، وهو عبارة عن “موازنة بين مصلحتين إحداهما أرجح، إحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، موازنة بين مفسدتين إحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة”، ففقه المآل هو عبارة عن توازن لكنه توازن بين حاضر وبين مستقبل، هذا الذي نسميه فقه المآل، والفقيه عليه أن يعتمد على الأدوات التي بإمكانها أن تكتشف هذا المستقبل.
عليه أن يعرف هذا الواقع حتى يعرف المتوقع؛ لأن المتوقع هو في حقيقته مآل للواقع في أحد توجهاته؛ لأن الذريعة عبارة عن وسيلة يتوسل بها إلى شيء، أو يتوصل بها إلى شيء.
وأهم ما في الذرائع هو عنصر الإفضاء، فإذا أفضت الوسيلة قطعا، فلا يختلف الفقهاء في اعتبارها إذا كانت الوسيلة غالباً تؤدي إلى المتوسل إليه، فهنا يختلف الشافعي وهو الذي لا يقول بالذرائع مع مالك وأحمد وهما يقولان بها، وإذا كان ذلك أكثريا فمالك يقول بالذرائع في الأكثرية وبنى عليه – كما يقول القرافي- ألف مسألة في بيوع الآجال، “ومنع للتهمة ما كثر قصده”.-خليل-
ولكن القضية هي قضية ضبط، أن نضبط النصوص الجزئية والقواعد الكلية وأن نعرف الواقع بكل تضاريسه ومتوقعاته حتى نطبق عليه حكما متوازنا لا هو بالمتحلل ولا هو أيضا بالمتشدد المتزمت المتقوقع، وكان بين ذلك قواما.
والتوقعات ليست أوهاماً ولا افتراضات بعيدة الوقوع، ولكنها مستندة إلى معطيات أو احتمالات راجحة.
فالتوقع قد يكون بعيدا وقد يكون قريبا، وبالتالي فإن التوقع لا يعني البتة التوهم والاستباقanticipation ، مع أن الاستباق أيضا كالتوقع ليسا دائما رجما بالغيب؛ وإنما تعني أن نحصل من خلال معطيات الحاضر على معرفة توجه للمستقبل، قد يكون سلوكاً اقتصاديا ومالياً هو حركة السوق، قد يكون سلوك الفاعلين التجاريين نعرفه من خلال ما يسمى بنظرية الاحتمال probability أو من خلال العينات المختلفة التي نطلع عليها ومن خلال الاستقراء، والاستقراء مؤصل في الفقه، فالتوقع له أدوات، هذه الأدوات قد تكون بديهية، حدس المفتي قد يعرف هذه الأدوات، وقد تكون نظرية.
وسائل تحقيق المناط:
وسائل تحقيق المناط التي من خلالها نتعرف على الواقع لتنـزيل الأحكام عليه، وهي في حقيقتها شارحة للواقع، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق، وقد أسماها أبو حامد الغزالي الموازين الخمسة وهي: اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية.
وإذا اعتبرنا المصالح والمفاسد من حيث إدراكها بالعقل داخلة في العقلية، واعتبرنا الاكتشافات العلمية راجعة إلى الطبيعية وهي علوم الطبيعة أو طبيعة الأشياء، كان هذا الميزان حاوياً بل حاصراً لأدوات تحقيق المناط.
فالمثال بالربويات في المطعومات جنساً ونوعاً، إنما كان طعاماً لغة تحقق فيه مناط الربا عند المعلل بالطعمية -كما يقول الغزالي- وما كان تمرا لغة يكون نوعاً واحدا لا يجوز بيعه في مثله تفاضلا.- كما يقول ابن قدامة-
بالحس والطبيعة معا كمشاهدة العلامات البيولوجية الفاصلة بين الصغر المانع للزوم أوامر الشرع والتي أشار إليها الشارع بقوله: والصغير حتى يحتلم، والبلوغ المشار إليه بالحديث السابق، وبقوله تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ).
والعرف محقق للمناط في حالة سيولة اللفظ لعدم وجود حد من الوضع وتحديد من الشرع، وهذا في ألفاظ الشارع التي تركت مبهمة كالإنفاق على الزوجات والأقارب ذوي الإملاق، وكوصف الفقر الموجب للزكاة.
وكذلك فإن العرف اللغوي في بيئة نزول الوحي قد يكون تحقيقاً للمناط في حالة وضوح المعنى وذلك لقصر اللفظ على بعض أفراده،كما يراه أبو حنيفة في حمل حديث “الطعام بالطعام” على البر خاصة؛ لأن ذلك الاستعمال العرفي لقريش.
إن هذه الوسائل ليست على وزان واحد، ولا حد متحد في مرونة التناول ودرجة المعلومة وحصول العلم وسهولة الإدراك، فمنها: ما تسميته تحقيقاً للمناط فيه نوع من التجاوز لأن التحقيق ضرب من المعاناة، ولا عنت في إدراك المحسوسات، فما كان مسلكه الحس ووسيلته الذوق أو اللمس كتغير الماء، وكمسألة النبيذ الذي ذهب ثلثاه بالطبخ لا يحتاج إلى تعمل. ومنها: ما يحتاج معرفة اللغة كمدلولات الألفاظ، ومنها ما يحتاج إلى تجربة وخبرة كما في قضايا الأعراف والعوائد بين أن تكون عامة أو خاصة، أو العرف القولي في كنايات الطلاق والأيمان، والعرف العملي في المعاطاة في التجارة.
أما المسالك العقلية في قياس درجات المصالح والمفاسد المؤثرة في العقود الجلية، وقياس الحاجات المنـزلة منـزلة الضرورات لإباحة المحظورات، فهذا النوع من مسالك تحقيق المناط مسلكه عسير، ومسربه دقيق في الفهم لا يدركه كل متعاط ولو كان فقيهاً في الأحكام الشرعية ما لم يكن كأبي حنيفة ممارساً.
وفي الجملة فإن الأجناس المشككة، والأوصاف المعنوية عند ما تكون محققة للمناط يدق فهمها ويصعب نظمها ويصبح غالب الظن أغلب مناطها ويعسر على المستنبط الاستقاء من نباطها، وذلك كالمصلحة، والحاجة، والمشقة، والغرر، والجهالة، والذريعة، والمآل، فيكون الأمر فيها بين حد أعلى معتبر وحد أسفل عديم الأثر ووسط محل تجاذب، والآراء فيه موضع تضارب؛ فيختلف الفقهاء ويُفتقر إلى الخبراء.
وقد قال أبو حامد إنه ما من لفظ إلا وفيه تقابل بين طرفين وثالث: ما ليس داخلا فيه قطعاً، وما هو داخل فيه قطعاً، وما يتمارى في دخوله وخروجه، وضرب مثلا بالطعام في الربويات.
ولهذا فإن تحقيق المناط في معظم القضايا -سواء كان في الأحكام السلطانية أم في القضايا الاجتماعية أو المشكلات الاقتصادية أو الطبية- جدير بأن يكون ناشئاً عن جهد جماعي ومنبثقاً عن اجتهاد مجمعي.
ما هي المجالات المرشحة؟
مجال الأحكام السلطانية أو السياسية:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
كيف يقوم الناس بالقسط ؟
إن ضرورة سلطان يتولى القيام على مهمات ووظائف لا يمكن للأفراد أن يتعاطوها أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومسلَّم من العقلاء في كل الملل والنحل، سوى ما ذهب إليه ابن كيسان الأصم والقلة من المعتزلة.
لكن أهم مشكلة في الفكر المعاصر هي مسألة الدولة الدينية أو الإسلامية على وجه الخصوص.
قد أجمل إمام الحرمين معنى الإمامة ووجوب نصب الأئمة وقادة الأمة:
الإمامةُ رياسةٌ تامة، وزعامةٌ عامّة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظُ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامةُ الدعوة بالحجة والسيف، وكفُّ الخيف والحيف، والانتصافُ للمظلومين من الظالمين، واستيفاءُ الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين.
وفصل إمامة الاختيار والسعة وإمامة الضرورة والغلبة في كتابه “الغياثي”، إلا أن إمام الحرمين يرى أن معظم ما يتعلق بالإمامة يقبل الاجتهاد لأنه عار من القطع واليقين.
وهنا أشير إلى أن الواقع المعاصر في جيراننا الغربيين هو عزل الدين عن الشأن العام السياسي رسمياً، ومع ذلك فهناك بعض الدول كالاتحاد السويسري الذي ينص دستورها على أنها دولة دينية وكنيستها هي كنيسة دولة مع ما يترتب على ذلك من إلتزامات الدولة تجاه المؤسسة الدينية.
وفي محاضرة في جامعة لوزان في 2 فبراير 2005م ألقى مستشار فدرالي سويسري محاضرة بعنوان “هل الإله ضرورة للدولة”؟
فمسألة الدين وعلاقته بالدولة، ومسألة القيم الدينية، ومسألة القوانين الدينية، ليست متلازمة تلازم الترادف في حياة الناس طبقاً لإكراهات الزمان والمكان وأحوال المجتمعات.
فما هو مفهوم الدولة الدينية؟
يمكن أن نتصور ذلك في أربعة مستويات:
المستوى الأول: اندماجٌ كاملٌ بمعنى أنَّ نظامَ الدولة يعتمد على النصوص الدينية، وتمارسه سلطةٌ مفوضة من الإله، معصومة، هذا هو مفهوم الثيوقراسية.
هذا أصل المفهوم الغربي، وهذا لا يتصور في الإسلام إلا بوجود نبي معصوم أو على الأقل بالنسبة لأهل السنة.
المستوى الثاني: نظامٌ يقوم على نصوص دينية يمارسُ السلطةَ فيه علماءُ دينٍ لكنهم ليس لهم تفويض إلهي، فهم لا يمارسون أعمالهم باسم الإله ولا نيابة عنه، ولكنهم يسعون ليكونوا أقرب ما يمكن لروح التعليمات الإلهية، يمثل حالهم قول عمر: هذا ما رأى عمر نافيا أن ينسب رأيه للباري جل وعلا.
المستوى الثالث: أنْ يكون التشريعُ مستمداً من النصوص الدينية، ولكن الذين يمارسون السلطةَ فيه ليسوا علماء دين، ولا رجال دين، بل مدنيون ملوك أو رؤساء، مع اختلاف في مرجعية الوصول إلى الحكم.
المستوى الرابع: نظام لا يكون التشريع فيه مستمداً من نصوص الدين؛ لكنه يعترف بمرجعية دينية للشعب أو للدولة، قد يستمد بعض قوانينه من الشريعة (كالأحوال الشخصية مثلاً)، أو من روح الشريعة ومقاصدها، وفي نفس الوقت يقوم برعاية للمؤسسات الدينية كالمدارس الدينية ودور العبادة، وفي مقابل ذلك فإنه يتحمل التكاليف المادية اللازمة لتشغيل المؤسسات.
خلاصة القول: إنَّ الدولةَ في الإسلام هي آلة من آليات العدل وإقامة الدين، وليست دولة ثيوقراسية بل مدنية بمعنى من المعاني، لكنها بالتأكيد ليست دولة علمانية، إنها دولة يكون للدين فيها مكانه ومكانته في مزاوجة مع المصالح واتساع من التأويل لا يقوم عليها رجال دين ولكن رجال مدنيون بمختلف الطرق التي يصل بها الحكام إلى الحكم، قد تكون بعض الطرق مفضلة بقدر ما تحقق من المصلحة والسلم الاجتماعي والاقتراب من روح الشرع ونصوصه.
إنَّ الأصلَ في النظام الإسلامي أنه يقوم على البيعة والشورى، وبتفسير هذين المفهومين نجد أنهما لا يبتعدان في نتائجهما كثيراً عما وصلت إليه الأنظمة العقلانية مع التحفظ على بعض الممارسات التي تتم باسم الدين أو باسم الديمقراطية.
فإنَّ الديمقراطيةَ التي يرى البعضُ أنها نهاية المطاف أو نهاية التاريخ، قد تمارس بطريقة غير ديمقراطية حتى ولو احترمت الشكلَ فإنَّ المضمونَ قد يكون مُختلاً، وفي بعض الأحيان مأساوياً، فإنَّ “أدولف هتلر” وصل إلى الحكم بطرق ديمقراطية والنتائج معروفة.
إن ديمقراطية نصف المصوتين زائد واحد لا تكفي بل تحتاج إلى مقاربة أخرى لضمان السلم والوئام والاستقرار، وهما الشرطان الضروريان للاستثمار والازدهار لصالح الدين والدنيا.
إن أكثر علماء المسلمين يتفقون على أنه لا تلازم بين الحاكم والفقيه، وإن كان يوجد نظرياً من يُلزم الحاكم بأن يكون مجتهداً، ولكن سرعان ما وقع فصل تام بين الاثنين منذ الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة، فانفصلت طبقة الفقهاء عن طبقة الحكام؛ إلا أنَّ الفقهاء ظلوا يمارسون السلطة القضائية وسلطة الإفتاء والتعليم.
والإشكال في العلاقة بين الدين والدولة ظل قائماً ليمنح شرعية لقول “هيجل”: لا يكفي أنْ يقول لنا الدين: “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. لأنه يبقى علينا بعد ذلك أنْ نعلم على وجه الدقة ما هي الأشياء التي لقيصر.
وإذا كان هناك إشكال لعصر العولمة بالنسبة للعلاقة بين الدين والدولة، فإنَّ الإشكال لن يكون حله – حسب رأينا- بالدفع إلى القطيعة والحلول الحادة والرؤية الآحادية، وإنما بالبحث عن إبداع الحلول الذكية التي تحافظ على الصلات النافعة، وتقيم الموازنة السعيدة بين مستلزمات المعاصرة ومنتجاتها الفكرية والمادية، وبين القيم الروحية وميراث النبوات والأخلاق الفاضلة التوفيق البارع بين المتناقضات التي تتجاذب حياتنا.
ذلك ما نسعى إليه من خلال تحقيق المناط.
في المجال الاجتماعي:
إن قضية الأسرة قضية كبرى بالنسبة للديانات السماوية، فليست فقط قيمة ولكنها ناموس من النواميس الكونية، وسنة من سنن الباري جل وعلا التي لا تبديل لها: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) فهي آية من آيات الله ونعمة من نعمه: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).
فالأسرة ذكرًا وأنثى مصنع الحياة ومتعة الدنيا إذا أشيعت فيها روح المودة والرحمة والعطف والحنان؛ تلك هي المقاصد الكبرى والقيم العليا.
وقد جاءت الشريعة تفصيلاً للقوانين التي تحوط هذا البناء – في العلاقة بين الشريكين، وكيف تبدأ وكيف تنتهي، كيف تكون الأرباح وتقل الخسائر، كيف تتحقق المصالح وتدرأ المفاسد مع مراعاة الطرف الثالث وهو الولد، والعلاقة مع المجتمع- بنظام يراعي أبعاد هذه القيمة المركزية.
إن أهم قضية يطرحها العصر مما يمكن الحوار فيه بين النصوص وبين العصر هي مشكلة المساواة؛ للوصول إلى تقارب في بعض جوانبها انطلاقا من آيات حاكمة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ).
مع الاهتمام بكلمة المعروف المشار إليها في الآية الكريمة، قال الشاطبي: “فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة، ومفترقان بالتكليف اللائق بكل واحد منهما… والاختصاصُ في مثل هذا لا إشكال فيه”.
الواقع المعاصر فيه ما لا يتماشى مع قيم أي دين في مسألة تكوين الأسرة، وفيه ما يمكن أن يتحاور معه.
فماذا عن ولاية المرأة على نفسها في النكاح؟ كما يرى الأحناف؛ هل تعتبر كل امرأة برزة لتزكي الشهود، كمذهب الأحناف. والقائمة طويلة. هل يمكن أن نصل إلى كلي في هذا انطلاقاً من قاعدتي الاستقراء والعرف الزمني، ذلك هو تحقيق المناط.
في المجال الاقتصادي:
في هذا المجال سأنقل حرفياً ما كتبته عن الأزمة المالية في كتابي “مقاصد المعاملات”:
إن التعامل في الذمم وبيع المعدوم والمضاربة على التوقعات والرهون غير المقبوضة لتملك العقارات وخلق أدوات تمويل لا تمثل مالاً حقيقياً كالسندات وبطاقات الائتمان بل حتى النقود الورقية بعد فك ارتباطها بالذهب والتي لا ترتبط بإحلال نقود أو ودائع أخرى أو ثروة حقيقية، فكان تسليعاً للنقود، وتسييلاً مبالغاً فيه للأصول، وفوائد مركبة في جدولة الديون، هو الذي أوجد هذه الأزمة، وكانت العجلة تدور بهذا الشكل، وارتبط الاقتصاد الحقيقي من عمارة ومصانع وزراعة في تمويله بهذه الثروة؛ بل ارتبطت بها حياة الناس، وفي كل هزة يفزع المودِع – المضارب إلي جيبه لتخرج يده فارغة، وليرى ثروته الربوية تتبدد حينما يعجــز المقترضـون عن أداء ديونهم، فيصادر البنك عقاراتهم القليلة وسياراتهم، وينسحب المضاربون بخفي حنين حين يفقد البنك سيولته.
وتساءلوا من المسئول عن الأزمة؟ فأجاب البعض بأنه البنك المركزي الأمريكي الذي ترك رئيسه السابق “الان جرينسبان” الفقاعات العقارية والمالية تتكون بلا ضوابط.
لقد كان يهدف إلى النمو السريع بأي ثمن باستدراج الناس للقروض، فادّان الناس فوق طاقتهم، ولم تعد لهم مدخرات، كان هذا الرجل يؤمن بسياسة الانفلات المطلق التي تعني عدم التدخل مطلقاً، فضعفت الرقابة انطلاقاً من مبدأ أن السوق ستكون عقلانية في سلوكها في أغلب الأحيان، وبالتالي ستعدل نفسها بنفسها تلقائيا من خلال اليد الخفية.
فنمت طبقة السماسرة الذين نبتوا كالفطر، فكونوا مؤسسات الإقراض الذي لم يعد حكرا على البنوك كما في أوروبا، وهؤلاء السماسرة لا يهتمون إلا بالفائدة التي يرفعونها على القروض دون النظر إلى قدرة المقترض المالية(7)، فنشأت المنتجات المالية المشتقة غير المنضبطة، فبعضها يعتمد على أصول قليلة، وبعضها إنما يعتمد على ديون، وأحيانا لا يعتمد إلا على فوارق أرباح وخيارات لا تمثل أي أصل حقيقي، فأصبح الاقتصاد الحقيقي من سلع وخدمات لا يمثل إلا خمسة في المائة من الأموال. وقامت البنوك والسماسرة بخلق منتجات مالية متفجرة لتبيعها للعالم لاصطياد الربح، فالبنك يجمع الودائع للأمد القصير ليقرضها للشركات والوسطاء للمدى المتوسط أو الطويل، ولكن عليه أن يحتفظ بصندوق فيه موارد تتناسب والالتزامات الجارية تجاه الزبائن ولتغطية الخسارة المحتملة، وذلك ما لم يقع بسبب استرخاء الرقابة من جهة والرغبة الجامحة في الأرباح السهلة من جهة أخرى، فشحت السيولة لعدم تحوط البنوك لمواجهة الالتزامات وطلبات الزبائن، ولتغطية هذا الوضع بدأت البنوك في البورصة تتقارض فيما بينها، فبعضها مقرض، والبعض مقترض، وهكذا دواليك فارتفعت خسائر بعضها فأفلس، فبدأت الثقة تنهار، فامتنع بنك “أ” من الإقراض لبنك “ب” خوفاً من أن يفلس، فلم تعد البنوك تقرض خوفاً من أن لا تقضى أو تقرض بفائدة مرتفعة لترغيب المودعين فيحجم المقترضون فيكون المأزق بين طرفين تتجاذب مصالحهما الفوائد إن انخفضت خسر المودع وإن ارتفعت خسر المقترض.
وهكذا تبدأ لعبة الدومينو: بنك في أمريكا يسقط فيؤدي إلى سقوط بنك في بريطانيا، وشركة تنهار في نيويورك فتنهار أخرى في اليابان، وأسواق إمعة في دول نامية تابعة لما يجري دون سياسة متماسكة تميس مع رياح الإفلاس تارة والأرباح تارة أخرى.
بالإضافة إلى رهون لا تتناسب في قيمتها مع الديون الموثقة بها بل أحياناً تصبح إسمية لعدم انضباط العلاقة بين الراهن والمرتهن وتعدد المرتهنين وتحويل الرهن إلى منتجات مالية متداولة.
وكتبت في ذلك تعليقاً طويلاً، هو موقف الإسلام من بيع الديون ومن الغرر والربا.
وفي هذا البحث المختصر الخاص بتحقيق المناط سأشير إلى مذهب مالك في الغرر.
وهل بيع الدين في الذمة كبيع المسلم فيه غرر شديد لاحتمال التفليس أو الموت؟
قال مالك: هو غرر مقبول بشروط خمسة تخفف الغرر وتنفي غائلة الربا، وخالفه غيره.
وهكذا أجاز بيع غير الطعام قبل قبضه.
فتحقيق المناط يكون بمعيار تقدير أهل السوق وخبراء المال ومراصد المؤشرات.
فالحاصل أن تحقيق المناط يتعلق بإبراز الصفة الخفية التي لا يكون ظهورها بدهياً للسامع من النص المراد تطبيقه على القضية.
وقد يكون الخفاء ناشئاً من العلاقة اللغوية أو لضرورة وجود إضافة لتحقيق معنى العلة فيه، فالنهي عن بيع الغرر مدرك لغة، والغرر جنس مشكك أشد في بعض مجاله من بعض.
فبيع السمك في الماء غير المحصور في بركة هو غرر بالتأكيد فلا يختلف العلماء في تحريمه.
أما بيع الحيوان الغائب الموصوف فهو غرر لكنه ليس شديدا فقد يستغنى بالخبر عن المشاهدة بالنظر؛ ولهذا قال به مالك خلافاً لغيره.
فلا بد لتشخيص وتحقيق المناط من الرجوع إلى أصل هذه العقود التي ولدت وترعرعت في الغرب.
ولهذا فإن النظام الرأسمالي كانت له بصماته في الإيجار الساتر للبيع، حيث رجح النظام غالبا المالك وهو الطرف الأقوى على المؤجر المشتري وهو الطرف الأضعف المستهلك.
فكيف نحقق المناط في العقود الجديدة ؟
لقد عانت المجامع الفقهية فكانت اختلافاتها ناشئة في أحيان كثيرة عن عدم فهم طبيعة العقد ووصفه حتى إن بعض فقهاء المجمع ذهبوا إلى ديار الغرب حيث نشأت هذه العقود لتحقيق المناط ومحاولة فهم علاقة الأطراف في بطاقة الإئتمان.
وربما كان مذهب مالك الذي خفف من ضوابط معلومية البيع ليجعل الخبر يقوم مقام النظر في بيع الغائب، والوجود في الذمم والضمان كالوجود في العيان. ولم يجعل القبض داخلا في ماهية البيع -كما يقول المازري وغيره- مع الإبقاء على العناصر الأساسية كوصف المبيع بالنسبة للأول، والقدرة على التسليم بالنسبة للثاني، وأن تأجيل البدلين ليس على الدوام محظورا في مسألة الاشتراء من دائم العمل والاستصناع والسلم ثلاثا بالشرط وإلى أجل التسليم بلا شرط.
كل هذه الخصائص في مذهب مالك يمكن أن تسعف في تنظيم البورصات والنظر في المستقبليات.
وتلك دعوى عريضة ولكنها تستحق أن تجرب -وبخاصة- في بحوثنا الكلية لتحقيق المناط في مجال الاقتصاد الذي تحكمه بالجملة نظريتا “آدم سميث” و”جون كينـز”، تضيق إحداهما لتتسع الأخرى طبقًا للنتائج العملية؛ لتشكلا نوعا من التجاذب بين الإيجاب والسلب، حتى كاد أن يصبح قانوناً ثالثاً وميزاناً عملياً، لولا شره الرأسمالية الذي يريد استكشاف كل السبل.
وربما ندرك -في يوم من الأيام- إن نحن أحسنا تحقيق المناط، أن القانون الإسلامي- الذي يمنع الربا بمعنى: نقود تلد نقودًا، الثمن مقابل الزمن، وبيع المعدوم، والتعامل في الذمم، والغرر الفاحش، مع ما يوفره مذهب مالك من المرونة- يمكن أن يسهم في حل الأزمات كما شرحنا طرفاً منه في كتابنا “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات”(8).
وهناك قضايا تحتاج إلى تحقيق مناط مثل:
1- مسألة “الضمان بجعل” التي حكوا الإجماع على منعها، هل الضمان بجعل في المؤسسات المالية هو نفس الضمان بجعل في الماضي؟
2- قضاء ما ترتب في الذمة في حالة التضخم بزيادة؛ هل هو من باب الزيادة في الدين؟ عندما كانت النقود ذهبا وفضة.. إلى آخر قائمة العقود الباحثة عن تحقيق مناط، وما زالت المجامع الفقهية فيها باقية على أصل المنع.
مجال الأقليات المسلمة في دول غير إسلامية:
إنه موضوع ينبغي أن يحقق فيه المناط لإيجاد فضاء من السعة، ومناخ من التيسير، قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية “إثنية” ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي؛ لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية، وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مآسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية، ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات قد عاشها العالم وما زال يعيشها في القرن الواحد والعشرين.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم، حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان، وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر (14) قرناً محمية بحماية الإسلام، كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتم كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات، كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
إن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص، ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته: الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة، والتي تمثل ثراء وسعة.
فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع، وهي بحاجة إلى تحقيق مناط بناء على المكان والزمان وتغيرات الأحوال.
فالمرأة تسلم وزوجها غير مسلم هل تنفصل عنه بناء على مذهب الجمهور، أم تبقى بناء على ما روي بأسانيد صحيحة عن بعض الصحابة.
ومسألة شراء البيوت بالقروض الربوية في الغرب.
ومسألة الدار.
ومسألة المواطنة.
وغيرها من القضايا التي تفتقر إلى تحقيق المناط.
وفي الختام:
لقد حاولنا أثناء كلمتنا هذه أن نتحقق بمقامات تحقيق المناط، وأن نتدرج في مدارج الاستنباط وأن نتجول معكم في مجالات التطبيق للمطابقة بين نصوص الشريعة ومقاصدها – وهي نصوص أزلية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها- مع واقع متقلب، ومتوقع مترقب، في قيمه ومجالاته ومراداته، وواقعٌ كل أمره عجب، متسع الأرجاء، مترامي الأطراف، تجوهرت فيه الأعراض، واستحال فيه إلى الحقيقة كل افتراض، فصدق فيه :
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
حاولنا أن نقدم مقاربة ترجح الكلي على الجزئي بمسالك الاجتهاد بكل أنواعه، وإن كانت قد اصطفت تحقيق المناط إلا أنها لم تغفل أخويه.
مقاربة حاولنا من خلالها أن نرجع الجزئيات على ضوء الكليات باعتبار الكلي يقارع الأزمات.
وهكذا فقد توقفنا في مجال التطبيق:
1- ميدان السياسة: على مجالات الحكم والرياسة مع إمام الحرمين، وأشرنا إلى تصورات العلاقة بين الدولة والدين.
2- المجال الاجتماعي: نبهنا على أهمية خلية الأسرة، ونوهنا لما تواجهه في العصر الحاضر.
3- المجال الاقتصادي: أبرزنا جذور الأزمة المالية، وأوعزنا بسلوك الطريقة المالكية في التعامل مع الديون وبيع الغائب وتأجيل الثمن قبل قبض المثمون.
4- فقه الأقليات: عرضنا مواطن الضرورات والحاجات حيث تمسك الأكثرية بزمام الحكم وتضيق بخصوصيات الأقليات ذرعًا.
وحاولنا أن نتحدث عن الواقع وجودا حقيقياً كما هو ماثل للعيان، فيتفق أو يختلف معه المتعاطي.
ليس خيالياً ولكنه قيم ونظم وأحداث ومعاملات أصبحت الأمة جزءًا منها.
ونحاول أن يكون فقهنا حلا لمشكلاته بدلا من أن يكون أحد إشكالاته.
اعتبرنا أن ذلك لن يكون متاحاً إلا عن طريق إحياء الاجتهاد والتجديد في حياة الأمة وسبر أنواع الاجتهاد وطرق الاستنباط.
فوجدنا أقربها موردًا وأهداها وسيلة ومقصدا هو النوع الثالث من أنواع الاجتهاد الذي لا يختص بالمجتهد دون المقلد، ولا يستبعد نوعي الاجتهاد الآخرين: الاجتهاد في دلالات الألفاظ، والاجتهاد في معقول النصوص بأنواع العلل ومسالك التعليل؛ بل إن تحقيق المناط يشتبك مع نوعي الاجتهـاد، وقـد
اعتبره بعض الأصوليين للوشائج الحميمية والعلاقة الصميمة نوعًاً من قياس العلة.
فنحن نحاول من خلال هذا العمل أن نراجع الجزئيات على ضوء الكليات، باعتبار الكلي وحده كفيلاً بمقارعة الأزمات.
***
الهوامش
(1) هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص9.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/ 89، 90.
(3) القرطبي، الجامع، 5/ 70.
(4) ابن تيمية، الفتاوى، 19/ 16.
(5) ويسأل بكيف بعد ثبوت نسبة مبهمة فتكون سؤالاً عن الخبر والحال؟
قال ابن بونه:
وغالبا ما استفهموا عن الخبر بكيف والحال وربما يجر
نحو على كيف يجئ المصطفى وفاؤها بقلة قد حذفـا
وللنحاة في ظرفيتها عند سيبويه وخبريتها عند الأخفش فيما لا يستغني وحاليتها في المستغني ومفعوليتها بالإطلاق في سورة “الفيل” ما لا محل له هنا.
(6) الغياثي، ص 231.
(7) يقول أفهيلد: يعتقد منظرو هذا التوجه أن تعزيز الأرباح يؤدي إلى تعزيز الاستثمار وأن تعزيز الاستثمار يعزز النمو الاقتصادي، وأن النمو الاقتصادي كفيل بتحقيق الرفاهية للجميع. وليس ثمة شك في أننا هاهنا إزاء اعتقاد زائف. (اقتصاد يغدق فقراً، ص334).
(8) من مطبوعات مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، ط2، 2010م.